روايات

رواية حصب جهنم الفصل الثاني 2 بقلم نرمينا راضي

رواية حصب جهنم الفصل الثاني 2 بقلم نرمينا راضي

رواية حصب جهنم البارت الثاني

رواية حصب جهنم الجزء الثاني

حصب جهنم
حصب جهنم

رواية حصب جهنم الحلقة الثانية

«‏الغرق أن تسقط في مكان ليس لك.»

~~~~~~~~~~~~~.

أحيانًا تُجبرك المواقف على الخوض فيها باستماتة حتى ولو كانت أقوى منك، حتى ولو أظهرت ضعف قدراتك و رجفة شفتيك، و تحرُك بؤبؤ العين السريع في توتر و خوف.. لا يمكنك التراجع و الاستسلام، لا يمكنك رفع راية السلام، في تلك المواقف أنت مُجبر على التصدي لها، مُجبر على خوضها، مُجبر على الوقوف الاضطراري في وجهها.. في مثل تلك المواقف العسيرة، أنت تفعل ما تكرهه على كُرْهٍ.

زيف المشاعر هُنا و في تلك اللحظة التي يقف أمامها الخمسة شباب كالحصن المنيع يمنع تحركها و يعيق طريقها؛ هو الحل الأمثل.

لم تكن « هِداية» من الفتيات الضَعِيفات اللواتي يظهر الخوف عَليهُنَّ في أي موقفٍ مماثل لهذا، لم تكن صاحبة العشرون عامًا ذات شخصية هشة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، بل هي في شدة خوفها تُظهر شجاعة و لا مبالاةٍ حتى ولو كانت مزيفة، لا تدع أحدًا يقول عنها
« تلك الفتاة سهلة الهزيمة».
أكثر ما يُميز « هِداية» عوضًا عن طباعها المرحة، أنها ذات سرعة بديهة.. لديها سرعة استجابة سريعة و تصور و فهم لأي موقف، ماهرة في الرد و الارتجال بطريقة بارعة، و عند المفاجأة في أي موقف تستطيع السداد في الرد بطريقة تُبهر الواقف أمامها.

في تلك اللحظة، الخوف يختبئ في القلب دون أن يظهر على الملامح، و ها هو بدأ الكلام يأتِ
على السليقة بدون تفكير، فتحدثت بنبرة ثابتة تُخفي خلفها ارتباكها:

” الحمدلله يارب، أخيرًا لقيت حد في الشارع اللي مش معروف له ملامح ده ! أنتم شكلكم ولاد حلال والله و ربنا وقعكم في طريقي عشان تعرفوني أنهي طريق صح أمشي منه.. أصل بصراحة أنا مش من هنا، و كُنت جاية زيارة لبابا، فمفيش توك توك رضى يدخل بينا الشارع ده، عشان يعني الشتا و الطريق مش كويس أصلًا.. الله يسامحه بقى نزلنا هنا و مشى.. أنا كُنت عاوزه أروح شارع الوحدة و اظاهر كده توهت في الطريق، فممكن يعني بعد اذنكم تقولولي أروحه منين ؟ و متشكرة جدًا والله لحضراتكم “

أختها الصغيرة « جنى» تدفن وجهها الجميل في مَنْكِب « هِداية»، و تغمض عينيها خوفًا من صوت الهواء الذي ثار فأطلق زئيرًا كالأسد جعلها ترتجف رُعبًا.. فلو وصفنا الطفلة «جنى» صاحبة السبع أعوام باختصار، سنقول أنها تكره فصل الشتاء بسبب قسوة الرياح و هطول المطر على مسامعها، عكس الكثير منا.
ربتت « هِداية» على ظهرها برفقٍ تحاول جعلها تكف عن خنقها باحتوائها لرقبتها بقوةٍ دون إدراكٍ منها، في حينٍ أن « مُهددين الطُرق الخمسة» ظلوا واقفون أمامها دون التفوه بأي كلمة، فقط نظراتهم قالت كُل شيء !
فهذا « باشا» يختلس النظرات عليهما بلا مبالاةٍ دون التدقيق في الملامح، و هذا أخيه
« قابيل» الذي اقترب منهما بضع خطواتٍ و قال جملته لإخوانه باستهزاءٍ:

” بويضة ناضجة “

قصد بها المزاح مع اخوانه و إثارة الرعب للأختين، و لم يدرِ أن تلك الفتاة « هِداية» على قدر عالٍ من الذكاء و سرعة التصرف، و لكن
« هِداية» لا تعرف أن « قابيل» قارئ ممتاز للغة الجسد، و عندما تحدثت هي كان من الممكن تصديقها، و لكن بينما هي تتحدث.. انتبه هوَ لنظرات عينيها جهة اليسار عدة مرات، فعلم أنها ترتجل في الكلام فقط لتهرب منهم، مما أثار ذلك حاسة السخرية عنده، و استدار لإخوانه يقول:

” كُنت بدأت أصدقها لحد ما قالت أنتم شكلكم ولاد حلال “

ضحك ثلاثتهم عدا « باشا» الذي زفر بمللٍ، فهو لا يُحب ضياع وقته على شيءٍ لن يستفيد منه.. قال بصوته العميق:

” مشيها “

بينما « كرم» شعر للحظة بالتعاطف معها، و لكن سريعًا نفض ذلك الشعور عنه، و هتف ساخرًا:

” بويضة آند ميني بويضة “

علت أصوات الضحك الساخر، و أردف
« وسيم» مُتفحصًا إياها بنظرات سريعة:

” شكلها فعلًا مش من هنا، مشوفتش أنا السِحنة دي قبل كده “

و بالطبع لن يختتم المشهد إلا بقول « سُلطان» السكير:

” ما تيجي في التابوت و نجيب حتشبسوت “

ظلت « هِداية» واقفة أمامهم بكل شجاعةٍ لا تُبالي بتعليقاتهم السخيفة، و تصنعت أنها لم تسمع شيء، و عندما وقعت عينيها على بعض المارة قادمين من نفس الطريق؛ رفعت صوتها بجرأة قائلة:

” الجو صعب و في طفلة صغيرة على دراعي، بعد إذنكم عرفوني بس أمشي لشارع الوحدة منين قبل ما السماء تمطر “

كاد أن يتحدث « قابيل» و لكن « باشا» هتف مُقاطعًا حديثه:

” قُلت مشيها “

أومأ « قابيل» رغمًا عنه، و أردف يوصف لها الطريق، ثم أفسح لها لتختفي من أمامهم في خطواتٍ مسرعة، بينما « باشا» وزع نظراته الغاضبة عليهم قائلًا:

” الأطفال برا اللعبة “

و استدار لقابيل الذي بدت عليه علامات الاستياء، فكان يرى في هداية أنها الفريسة الجديدة لهم.. تابع « باشا» بنبرة يشوبها الأمر:

” اللي حصل ده ميتكررش تاني، الأطفال لأ “

” بس هي تنفع “

قالها باصرارٍ، فأردف الآخر يلومه:

” طالما معاها طفلة ده يشفع لها، و يلا أنت وهو.. وقت الشغل مفيش هزار “

” أنت بتتكلم صح يا باشا والله.. أصل لسه هنخطط نخطف ولو فكرت تهرب هنضطر نضربها و الضرب بيجيب تلوث، عشان ممكن تنزف فالنزيف أكيد فيه جراثيم، و الجراثيم يع يع حاسس إني عايز استفرغ.. المهم إننا نفضل نُضاف و نبعد عن التلوث خالص، إلا بقى للضرورة.. كده هضطر أقعد في جهاز تعقيم، بس افرض جهاز التعقيم طلع ملوث ! “

قال « وسيم» تلك الكلمات و بعد آخر جملة.. اتخذ وضعية التفكير بوضع اصبعه على خده، و استطرد حديثه بشهقةٍ و عينين توسعت بحسرةٍ بعدما تذكر أنه نسي أهم شيء لديه:

” ازاي ! ازاي نسيت أجيب ازازة الكحول ! ازاي نسيت أجيب المعقم بتاعي ! ده أنا عمري ما خرجت من غيره.. أنا حطيته على التسريحة و أنا بسرح و نسيت أخده معايا.. لا مش قادر، أنا هرجع اجيبه.. روحوا أنتم و أنا هجيبه و أحصلكم بالعربية “

نظرات « باشا» المستشيطة غضبًا و برودًا تجاهه، جعلته يلزم الصمت لثوانٍ، و قبل التحدث ثانيةً، جذبه « باشا» من الهودي خاصته يدفع بجسده أمامه قائلًا باستياء منه:

” امشي قدامي “

” طب و الكحول ؟ “

رد « كرم» ضاحكًا منه:

” اشتري يا عم واحدة جديدة مش هتغلب يعني “

لقد اختاروا الخمسة المشي بدلًا من استعمال السيارة لتوصيلهم لفيلا المعلم « عوض»، فهم في العادة يفضلون المشي عندما يكون المكان المُراد قريب منهم.. في قانون « زينات» المصلحة و المنفعة أهم من أي روح حتى لو روح طفل، العاطفة لا وجود لها عندها، أما في قانون « باشا الباشوات» الأطفال ممنوع الاقتراب منهم، ليس لأنه يُحب الأطفال، هو مثله مثل زينات العاطفة عنده لا وجود لها، و لكنه أصدر هذا القانون و أصر على اخوانه تطبيقه بالأخص رغمًا عن « قابيل» الذي يضعف أمام الدم و لديه شغف كبير بالقتل دون وجهة حق؛ لأنه يرى من وجهة نظره أن الأطفال لا منفعة لهم إلا عند تُجار الأعضاء وهم لا يتجارون بالأعضاء، بل تجارتهم الأساسية بجانب أعمالهم الغير مشروعة.. هي التجارة ببويضات الفتيات الناضجة.

اكتسبت تجارة البويضات طابعًا عالميًا بفضل تطوير تقنية “التزجيج” للتجميد فائق السرعة، ما يتيح تجميد البويضات في قارة، ثم تلقيحها وزرعها في قارة أخرى.. ومع ذلك، فإن تجارة البويضات العابرة للحدود تفتقر إلى الرقابة الحكومية الكافية في معظم أنحاء العالم.
و في الحقيقة يصل سعر البويضة الواحدة إلى
30,000 دولار أمريكي.

و ما تفعله « زينات» و شبابها الخمسة بالإضافة لتعاون رجل الأعمال « شُكري المنزلاوي» و ابن عمته « جعفر المصري» معها في سرية تامة، و أيضًا بقية رجالها اللذين يساعدونها في ذلك الأمر.. أنهم يقومون باستدراج الفتيات كما فعل « كرم» عن طريق الذكاء الاصطناعي و ما يفعله من مخاطر و كوارث أصبحت عدوًا للعالم البشري، ثم يقوم المعني بالأمر بوهم الضحية بعدة أشياء مثل:
( كثرة المال التي ستحصل عليها من خلال التبرع ببويضة واحدة فقط) و تكتشف الضحية فيما بعد، أنه تم سحب كامل البويضات، أو يتم وهمها بأنها ستخرج في رحلة عمل تابعة للشركة المزيفة الوهمية، و هناك يقومون بأخذ البويضات بواسطة أجهزة ذات تقنية عالية رغمًا عنها، و يحدث الاستدراج كله عن طريق استغلال الضعف المادي لدى الضحايا و حاجتهم للمال و العمل.
فيتم يتم إجراء الإخصاب في المختبر (IVF) عن طريق تلقي البويضة من متبرعة مجهولة ويتم تخصيبها بالسائل المنوي الذي يقدمه الزوجان، فيحدث نقل الأجنة التي تنشأ إلى الأم المتلقية.. عندما تنضج بويضات المتبرعة وتصل إلى الوقت الأمثل، يجمعها الأطباء المشتركين في هذا الجُرم في غرفة العمليات تحت المختبر تزامُنا مع ذلك، يُقدم الذكر عينة منوية قادرة في المختبر لتحسين قدرتها للتخصيب، و في الحقيقة هذا كله حرام شرعًا، و لكن لا أحد يُبالي.

بعدما استطاعت « هِداية» بجراءتها و سرعة إدراكها للأمر النجاة منهم، تنهدت بارتياحٍ و قالت محدثة نفسها باستغرابٍ:

” شكلهم مش طبيعي والله، أكيد ضاربين حقنة هيروين.. يلا الحمدلله عدت على خير، بس لسه جاي الأسوأ، ربنا يستر “

تساءلت « جنى» بخوفٍ بعدما أنزلتها أختها:

” إحنا قربنا نوصل ولا لسه يا هداية ؟ “

” مش عارفة يا جيجي، أدينا ماشيين.. لو بس نلاقي توك توك.. مش عارفة جاية على حظي و تنقرض “

هي فتاة عادية الملامح، لكن أكثر ما يميزها.. قوة شخصيتها، و مثلها مثل أي شخص لديها نقطة ضعف، و تحاول في مثل تلك الظروف التي وضعها القدر فيها أن تتغلب عليها، لديها أختها الصغيرة تستند عليها ولا تشعر بالاطمئنان إلا بوجودها، لذا عليها التصدي لأي خطر بشجاعة، و كتمان مشاعرها المرهفة بداخلها.
تُوُفِّيت والدتها منذ يومين فقط ! يومين و هي تكتم مشاعر القهره و الحُزن بداخلها، يومين وهي تصارع الوجع ولا تظهره، يومين مرا كأنهما عامين دون إبداء أي ردة فعل، فقط صامتة ولا تذرف دمعة واحدة.. تنزف الدموع من قلبها و عينيها تعكس ذلك، و كيف تُظهر ضعفها وسط عائلة بأنياب تتهيئ للانقضاض عليها في أي وقت !
يقولون أن الخالة مثل الوالدة، و لكن مع
« هِداية» الأمر مختلف.. خالتها « نادية» هي السبب في كل ما يحدث لهم.
أحبت زوج أختها و كان رجل لا يؤتمن، رجل خائن استجاب لمحاولات « نادية» في جرِّه للرذيلة، فأقام معها علاقة غير شرعية و كانت حينها متزوجة و زوجها يعمل ببلاد الخليج، و في ذلك اليوم منذ خمسة أعوامٍ، رأت أختها والدة هِداية الاثنان في وضعٍ مُخل، لم يهدأ لها بال و كادت أن تصاب بنوبة من الجنون، فطلبت الطلاق وكان هو الحل الوحيد للخلاص من هذا الزوج الخَسِيس، أما « نادية» تزوجت الرجل و المدعو « سعيد» بعدما قامت بخلع زوجها، و لم يقف أحد من عائلة سعيد بجانب طليقة ابنهم المكلومة، كانوا عائلة لا يهمها شيء سوا المال و البحث عن الأثار، عائلة لها تاريخ اجرامي لم تكتشفه « نوال» والدة هداية إلا بعد الطلاق، لقد أحبت سعيد في بداية شبابها و تزوجته رغمًا عن أهلها، فكسر قلبها هو و أختها و كانا سببًا رئيسيًا في موتها.. ماتت نوال من كثرة الهم و الحزن، ماتت من كثرة التفكير في مستقبل ابنتيها، ماتت لأن هذا قدرها، و لكن السكتة القلبية التي أصابتها بسبب الحزن الدميم، هي من أودت بها للدار الآخرة.

بعد الطلاق تركت « نوال» المنزل و قررت اللجوء لبيت أهلها، فلم تسلم من لسان زوجات إخوانها، و كل رجل من إخوانها الثلاث لم يُبدِ أي ردة فعل على مضايقات زوجاتهم لأختهم، و كأنهم كانوا يشجعونها على ذلك؛ حتى لا تُقاسمهم في البيت و المعيشة، فلم تجد المرأة ملجأ غير باستئجار شقة متواضعة لها و لبناتها، و لُتسد حاجة معيشتهنَّ؛ عملت عاملة بإحدى مصانع الملابس، و كانت « هداية» تساعدها في صُنع الحلويات و بيعها، فهي جيدة جدًا في هذا الأمر.. لم تكن حالتهم المادية متعسرة أو وُلدت في بيئة فقيرة.. لا، بل نشأت « هداية» في أسرة مُرفهة لا تحتاج للعمل لكسب المال، و ما حدث لوالدتها أمر خارج إرادتها، و الآن هي في طريقها للقاء خالتها و والدها بعد مرور خمس سنوات.. و ما تفعله.. تفعله على كُرْهٍ.

هي مُجبرة على ذلك، خافت أن تسكن وحدهما بالشقة، خافت على أختها أن تتركها وحدها دون أن يُراعيها أحد عندما تذهب للعمل، و جنى ليست بالطفلة الواعية، بل من الممكن أن تذهب مع أي شخص لمجرد أنه عرض عليها احضار دمية أو باكو من الشوكولاتة !
لم يكن من الجيد مكوث « هِداية» و أختها لوحدهما، لذا قررت مُجابهة ظُلم خالتها و الارتضاء بالمكوث معها في نفس البيت الذي كان بيت والدتها في السابق، البيت الذي تربت و نشأت و قضت طفولتها فيه، لم يُصبح بيتها بعد الآن.. كانت صدمة هداية الكبرى في خالتها وليس والدها، لقد أحبت خالتها مثل أمها تمامًا، لأن الأولى كانت تعاملها معاملة رحيمة و تظهر لها كامل الحب و الحنان، و في النهاية كانت كل تلك المشاعر مزيفة، فقط من أجل التقرب لوالدها، الذي وقع فريسة سهلة لشهواته، فنادية كانت تفوق أختها نوال في الجمال، و لكن في الأخلاق.. لا تعرف عنها شيئًا.

لم تستطع « هداية» التصرف في أثاث والدتها البسيط الذي بالكاد أخذت منه القليل بعد عدة جلسات في محكمة الأسرة، فقامت ببيعه و وضعت الأربعون ألفًا في الفيزا الخاصة بها، استعدادًا لبدء مشروع صغير خاص بها، يكون رأس مالها بدلًا من التذلل لوالدها أو خالتها.

بعد مرور خمسة عشر دقيقة، وصلت للمنزل..
لقد تغير كُليًا، أصبح أجمل و أوسع عن ذي قبل، سؤال واحد دار في عقلها في تلك الدقائق التي وقفت بانبهارٍ تُطالع المنزل الفخم..
« من أين أحضروا المال لترميم البيت هكذا ؟ “

تساءلت جنى بابتسامة واسعة:

” ده بيتنا يا هداية ؟ “

” كان بيتنا يا جنى.. كان “

ردت بها بغصة شعرت بسهامها تتغلغل في حلقها، فتنهدت بحُزنٍ و أغمضت عينيها تواسي نفسها:

” أنتِ قوية يا هداية، أنتِ أقوى من أي حاجة.. جمدي قلبك و اوعي تبيني ضعفك ليهم، لو مش عشانك.. عشان أختك “

مدَّت يدها تضغط على زر الجرس، و بعد عدة مرات.. فُتح الباب و خرج شخص لم تتوقع أبدًا وجوده !

اتسعت عيناها تتأمله بصدمةٍ يسبقها عدم الاستيعاب، فهي كانت على يقين أنه لا زال بالسجن.. كيف و متى خرج ؟!

تبسم الشخص باستخفافٍ و قال:

” اتفضلوا “

دلفت تصطحب أختها في يدها و بدأت علامات القلق تظهر عليها، ثم استدارت له و تساءلت بفتورٍ مزيف:

” أنت خرجت امتى ؟ “

” وحشتك ولا إيه ؟ “

” وحش إما يلهفك “

ردت بها باستحقارٍ له، حتى ظهرت « نادية» والدته.. إمرأة في الثامنة و الثلاثون من عمرها، جميلة الملامح، و لكن عندما تدقق النظر بها ستشعر بالقشعريرة تسري في جسدك.. لا تدري لماذا، و لكن نظراتها وحدها كفيلة بأن تجعلك في قمة توترك.. جميلة و غير مريحة اطلاقًا، من نظراتها، تُدرك أنها تخفي سرًا كبيرًا وراءها.

” أهلًا “

قالتها بنظرات فاترة و حاقدة لهداية، فَردت الأخيرة ببرودٍ مماثل:

” لا أهلًا ولا سهلًا، أنا جاية أعيش في بيت أبويا و أظن وصلك الكلام، فعشان نبقى على نور من أولها كده.. أنتِ في حالك و أنا في حالي، عشان لو حالك جه جنب حالي، هتزعلي.. و هتزعلي بالقوي كمان “

لم تتعجب « نادية» من طريقة حديث ابنة أختها الجريء.. هي تعرف أن « هداية» جريئة و تتحدث و كأن العالم خاضع لسيطرتها، لكن ابنها ذو السابقة الإجرامية، لم يتوقع أن تكون «هداية» بتلك القوة، فقال بنظرة اعجاب مملوءة بالتحدي:

” و مالك بتتكلمي بقلب جامد كده ؟ اومال لو البيت بيتك كُنتِ عملتي إيه ؟ “

” البيت بيتي فعلًا، بس أعمل إيه.. شوية صهاينة جُم احتلوه، بس معلش.. مسير الحق يرجع لصحابه “

قالتها وهي ترمقه بتحدي أكبر، مما هتف هو باستنكار موجهًا حديثه لوالدته التي وقفت تطالعها بغيظٍ لا مثيل له:

” الله الله ده أنتِ بتتكلمي بجد بقى ! ما تشوفي ياما البت دي بدل ما أعلم على وشها “

أنهى جُملته و أخرج السلاح الأبيض « مطواه» من جيبه في حركة تدل على خبرته في الأسلحة البيضاء، بينما « جنى» حينما رأت ذلك، اشتد بها الخوف و توارت خلف أختها سريعًا تنتظر نصيبها المؤلم من قسوة الأقارب.

على الجهة الأخرى في فيلا المعلم عوض.. وصلوا الخمسة يوازي بعضهم السير في مشهد يُقال عنه هدوء ما قبل العاصفة.. تم ابلاغ
« عوض» بتواجدهم في الخارج، فأدرك على الفور سبب المجيء، مما أمر ابنه الذي يساعده في أعماله و رجاله بأن يستعدوا لخوض نزالٍ مع رجال « زينات» و التأهب تَحسُبًا لأي موقف يصدر منهم، فهم معروف عنهم الغدر.

جلسوا الخمسة في المَضيّفة التابعة لحديقة الفيلا و تم تقديم المشروبات لهم، فالتفت وسيم للعامل الذي قدم لهم الصينية، و تساءل بخوفٍ بدا عليه:

” أنت غاسل ايدك قبل ما تغسل الكوبيات ؟ و الكوبيات أصلًا مغسولة ؟ أنا بسألك ليه ! أنا كده كده مش هشرب “

وقف الرجل ينظر له ببلاهة لا يعرف ماذا يقول، بينما « كرم» رد على أخيه باستياء:

” يا عم فلقتنا، أنت ناقص تغسل الميه قبل ما تشربها “

” معندهمش نساء هنا ؟ “

تساءل بها ” سُلطان» وهو يبحث بعينيه هنا و هناك عن أي مؤنث سالم، و بعد دقائق أقبل
« عوض» يمشي بخطوات غير متزنة، و بجانبه ابنه الفارع يحاول اظهار صلابته بخطواته و نظراته، و وراءهما رجال عوض الأشداء.. تفحص « قابيل» تعابير وجه عوض سريعًا، و التفت لـ «باشا» هامسًا:

” خايف و ها يجي يحور علينا، و ابنه أهبل و أمه عارفة “

رد « باشا» بابتسامة خافتة:

” الود بالود و الصد بالصد “

جلس « عوض» قبالتهم و بجانبه ابنه، ليقول الأخير واضعًا قدم فوق الأخرى:

” طبعًا أنتم جايين عشان الفلوس ؟ “

” لا جايين نتأمل في جمال أمك، نزل رجلك يا عيرة “

هتف بها « قابيل» بنظرة ساخطة جعلت عوض يوكز ابنه بارتباكٍ ليجلس باحترامٍ أمامهم، ففعل الأخير بتوتر من نظرات الخمسة المتصلبة عليه ببرودٍ قاتل.

عند العمل و عند خوض مهمة هامة تخصهم، يتصرفون بشخصية أخرى غير شخصياتهم الحقيقية، فتجد « سُلطان» السكير يتحدث بكامل وعيه، و « وسيم» يفوز على شخصية الرجل الأخضر في التحول للصرامة، و كذلك البقية.

تحدث « باشا» رافعًا السبابة و الوسطى معًا في حركة جامدة المشاعر:

” قدامك حاجتين، يا تطلع الفلوس يا نطلع روحك “

تدخل ابن عوض بغيظٍ منه:

” اتكلم عدل مع المعلم عوض يا باشا “

” أنت اللي بتختار هعاملك ازاي، أنا بنفذ بس”

رد بها« باشا» موجهًا حديثه لعوض، دون الالتفات لابنه أو لم يعيره انتباهه من الأساس، مما احمر وجه الأخير من الغيظ، و هتف بانفعال:

” كلامك معايا يا باشا “

” في دبانه جنبك يا عوض، هشها عشان نعرف نتكلم “

كاد أن ينهض و يصب جام غضبه عليه، فضغط والده على فخذه قاصدًا من ذلك أن يجعله يتحكم في غضبه، و أردف هو بابتسامة مزيفة تخفي توتره:

” إيه يا رجاله ! ده إحنا ولا كأننا واكلين عيش و ملح مع بعض.. معقول غلطة زي دي تخلينا نخسر بعض ؟! أنا بعترف إني غلطت، بس العفو عند المقدرة، و أنتم تقدروا تعفوا و تعدوها.. عدوها المرة دي و أوعدكم أعوض المعلمة زينات بأضعافهم المرة الجاية “

رد « قابيل» بنبرة ساخرة و بداخله يريد اشعال الأمر بينهم، ليتسنى له إراقة الدماء كيفما يشاء:

” ملهاش علاقة بالعيش و الملح يا معلم عوض، لو واكلين كباب و كفتة مع بعض.. المعفن معفن و أنت معفن يا معلم “

بينما « وسيم» قال بنفس سخرية أخوه:

” متدخلوش العيش و الملح في الموضوع.. الأكل مكانه المطبخ مش في العلاقات، و إن كان على صيانة العِشرة، فالمعاملة بالمثل.. أنت استندلت و أنا استبدلت.. تعيش و تاخد غيرها يا معلم، بس المرة الجاية خد بالك هتاخدها فين، يلا يا رجالة “

بدا الموقف مضحكًا وهو يحاول انهاء الموضوع بأي شكل، ليذهب للبيت و يستحم فقد شعر بالتقزز منذ دخوله الفيلا.. جذبه « كرم» يجلسه بجانبه وهو يقول بنفاذ صبر:

” ياريتك كنت معفن بدل الهم اللي إحنا فيه ده “

تجاهل « باشا» كلام اخوانه و مال بجسده للأمام ناحية « عوض» ثم قال و عينيه لا تنبئ بالخير في القادم:

” الفلوس لو مجتش في خلال خمس دقايق.. مش هيحصلك طيب أنت و الهفأ اللي جنبك ده”

ازداد توتر « عوض» و أردف بنظرات ترجي:

” معييش المبلغ كله دلوقت، بس أقدر أوفر لك نصه في خلال يومين، و زي ما قولتلك يا باشا إحنا بينا عشرة و العفو عند المقدرة “

” أنا معرفش يعني إيه عفو يا عوض، و الناس لو اتعاملت معاهم بلين، هَيدوك بالشمال و اليمين “

التزم الرجل الصمت لدقائق بعد قول « باشا» يحاول التفكير و الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه مع زينات و مُهددين الطُرق، في تلك الدقائق التي التزم عوض فيها الصمت، سيطر الاستياء و الغضب على « قابيل» فهو بطبعه لا يحب الصبر و يفضل انجاز الأمور بأسرع ما يكون، لذا هتف بعدما ضرب مسند الكرسي الذي يجلس عليه بقبضته القوية:

” انجز يا عم، أبعتلك أسد و تتكلم و لا اجي اكبسلك ! “

تحدث عوض بجوفٍ جاف من شدة التوتر:

” براحة عليا شوية يا رجالة، ده المثل بيقول ايد لوحدها ما تصقفش “

رد « كرم» بضحكة خافتة:

” بس تقدر تديك كف تنسيك اسمك “

” لا.. ده أنتم زودتوها أوي.. مش هينفع الكلام ده يا معلم عوض “

قالها ابنه في إِحْتِجَاجٍ و اِمْتِعَاض، فصاح عليه والده ينهره بغضب:

” اسكت خالص و متدخلش “

ثُم تنهد و استعاد رباط جأشه ليردف:

” ادوني مهلة أسبوع و فلوسكم تكون جاهزة كلها، و بعدين هو إحنا أول مرة نتعامل مع بعض، ولا ده أول شغل بينا ؟ أنتم مش واثقين فيا ولا إيه ؟ ده أنا المعلم عوض.. سمعتي زي الجنيه الدهب، أنا عمري وعدتكم بحاجة و طلعت مش راجل معاكم ؟ البضاعة نصها غرقت و مبقاش عندي سيولة، فاصبروا عليا شوية.. قولتوا إيه ؟ “

ساد الصمت بينهم الخمسة، لا يخلو من صوت أنفاسهم المنتظمة و نظراتهم الباردة كالذئاب الماكرة.. علم « عوض» في الحال أنهم جاءوا إليه و بداخلهم يضمرون الشر.. قال « قابيل» بابتسامة مخيفة:

” الكلام يحسسك إنك أهم شخص في
‏الدنيا بس الأفعال بتلبسك البامبرز “

عقب قوله بنظرة جانبية لأخيه الأكبر، الذي سأله وهو ينقر بخفة على يد الكرسي بيده الصناعية، كأنه يستعد للضرب بها:

” إيه رأيك ؟ “

” بيحور “

” صُب الصابون و زحلق الزبون “

تلك الجملة تُمثل الناقوس لهم الأربعة، عند سماعها.. تأهبوا جميًعا و كذلك تأهب رجال عوض، و أخرج ابنه مسدسه يصوبه تجاه
« باشا» ثم ينتقل ليصوبه تجاه « قابيل»، و عندما رأى في أعينهم جميعًا نظرات اللا مبالاة، رفع المسدس للأعلى و أطلق رصاصة تجاه السماء هاتفًا:

” ولا حركة أنت وهو “

حاول « عوض» تهدئة الأمور، فباءت محاولاته بالفشل وهو ينتبه « لكرم» الذي أخرج سلاحه الأبيض المخفي داخل معطفه، فالأسلحة البيضاء لديهم هي شيء أساسي في العراك، وهي عبارة عن أسلحة فردية يدوية غير النارية.. تمثل سلاح «كرم» في ملكمة حديدية ( البونيه)، أما « سلطان» أظهر ما بحوزته وهو جنزير متين أخذ يلوح به في الهواء بمهارة، في حين أن « وسيم» حك شعره باستسلامٍ وهو يتأمل رجال عوض المسلحين قائلًا لنفسه:

” شكلها مفيهاش هروب.. أنا بدأت اشم ريحة وحشة، الناس دي شكلها مش بتستحمى “

و كان سلاح « قابيل» القوي هي ركلة قدمه المبهرة، و أكثر ما يميز « باشا » قبضته الفولاذية المميتة.

الخمسة على أتم الاستعداد و رجال عوض بدأوا بالمحاصرة منتظرين أمر سيدهم بالهجوم.. الأسلحة مختلفة هنا، رجال زينات يحملون أسلحة بيضاء و الآخرون بأسلحة نارية، و النارية هي الأسرع في التصويب.

” يعني مفيش فايدة معاكم ؟ “

تساءل بها «عوض» على أمل أن يتراجعوا، فرمقه « باشا» برفضٍ قاطع تزامُنًا مع استعمال مشط القدم في الضغط عليه و القفز على الأريكة المقابلة للمعلم عوض، ثُم في سرعة البرق و قبل أن يتوقعوا منه الهجوم بتلك الطريقة، ارتفع جسده في الهواء بفضل قفزته المثالية على حافة الأريكة، و أخذ برقبة ابن عوض في حركة مباغتة تعجب لها الجميع بخلاف اخوانه، و نزل بالرأس لأسفل مع ارتكازه بركبة و نص على الأرض، و بطرفه الصناعي احتوى الرقبة في يده بشدة حتى كاد أن يكسرها، و اختطف منه المسدس ثُم وضعه على رأسه هاتفًا:

” حفرت قبر ابنك بايدك يا عوض “

.. في قصر المنزلاوي، لم يهدأ لشُكري بال منذ أن عرف بالجريمة التي حدث أمس، و التي تزامنت وقوعها مع تواجد « آدم» ابنه و
« عُثمان» ابن أخته في الديسكو بجانبها.. يعرفهما جيدًا، يعرف أنهما إذا اجتمعا معًا حدثت الكارثة، و ليست تلك أول مرة يحدث و أن اتهمهما بارتكاب جريمة.

بعد أن نهض الاثنان معه لغرفة مكتبه المعزولة عن القصر، بالحديقة الخلفية.. وقف أمامها يتأملهما بغضبٍ شديد كلما ازدادت شكوكه حولهما.

تساءل « عثمان» بعدم اكتراث للأمر من أساسه، بعدما أحضر معه ( برتقالة) من السفرة، و أخذ يأكل فصوصها ببرودٍ شديد تميز به منذ طفولته، مما أثار غضب خاله:

” خير يا خالو.. مقومنا من على الأكل ليه ؟ “

صرخ « شُكري» بغضب أعمى بصيرته و همَّ بضربه لولا أن أوقفه «آدم»:

” عُثـمــان.. برود و بجاحة مش عايز.. أنتم مش عارفين حجم المصيبة اللي سمعة العيلة هتبقى فيها بسببكم ؟؟! “

” اهدى بس يا بابا.. حصل إيه لكل ده ؟ “

تساءل بها « آدم» الذي وقف مذهولًا مما يحدث، فقال والده بإغتياظٍ منهما:

” أنا مش منبه عليك ميت مرة أنت وهو تاخدوا بالكم من أي حاجة بتهببوها ؟ ما بتسمعوش الكلام ليــه ؟! المخدرات هتوديكم في ستين داهية، منبه عليكم كذا مرة أنا ولا لأ ؟ قايلكم اوعوا تسكروا و أنتم متنيلين سهرانين برا، لكن أقول إيه.. بتكلم مع عيال مش رجالة بشنبات “

تبادل « آدم» و ابن عمته « عثمان» النظرات بدون فهمٍ و باستغراب لما يحدث، لا يعرفان لِمَ كل هذا الصراخ و ما سبب غضب « شُكري» الصارم هذا.. تجاهل « عثمان» الأمر، و قدم فص من فصوص البرتقال لخاله قائلًا بنبرة سخيفة:

” تاخد فَس”

وكزه « آدم» مُتمتمًا بخوفٍ من والده:

” مش وقته برودك ده “

مسح « شكري» على وجهه زافرًا بضيق، و أعطى لهما ظهره يفكر بحسرة في كيفية التعامل مع ذلك الأمر، فتلك المرة لا يوجد مهرب.

استدار لهما و تابع القول بسخرية ممزوجة بالحسرة في نظراته:

” أنتم اللي اغتصبتوا الست اللي لقوها محروقة امبارح في صندوق الزبالة.. مش كده ؟
اغتصبتوها و حرقتوها و رمتوها في الصندوق و روحتوا كملتوا سهرتكم ولا كأن حاجة حصلت “

فتح « آدم» فمه نصف فتحة بدهشة غير مصدق ما يتهمه به والده، بينما « عُثمان» توقف عن أكل البرتقال و قال بصدمة هو الآخر:

” إيه اللي أنت بتقولوا ده يا خالي ؟ اغتصاب و قتل إيه اللي بتتكلم عنه ؟ إحنا نعمل أي حاجة غير إننا نودي نفسنا في داهية “

ليلة أمس..

في ليلةٍ شديدة البرودة امتلأت بالأمطار الكثيفة، صرخة قوية مزقت سكون مدينة الشيخ زايد.. صرخة استغاثة امرأة:
«ها يقتلوني.. الحقوني يا ناس»

حاولت الخلاص من قبضة ثلاثة من شياطين الإنس أرادوا مواقعتها بالقوة.

ازداد جنون الثلاثة لصياحها فشقوا بطنها حتى الصدر بالمطواه لإسكاتها.. استيقظ بعض السكان على صراخها.. أضيئت بعض الشبابيك.. أطل بعض السكان على مسرح الجريمة ثم أغلقت النوافذ وساد الظلام والسكون.

لقد انهارت مقاومة الضحية من كثرة النزيف.. جرجروها 300 متر بعيدًا عن مساكنهم وهي تنزف بكثرة، إخفاء لجريمتهم.. ألقوها في صندوق قمامة خلف مدرسة وهي لا تزال على قيد الحياة.. غطوها بخرق مبللة بزيت السيارات و الكيروسين وأشعلوا فيها النيران وبعد دقائق المرأة ذات الثلاثين ربيعًا تحولت إلى كومة من الفحم البشري.. !
وتسقط الأمطار رذاذًا في اليوم التالي على المنطقة: فهل كانت السماء تبكي حُزنًا على الضحية ؟.. أم لتزيد الجريمة غموضا ؟! .. لقد أزالت الأمطار بقعة الدم الكبيرة بين المساكن؛ حيث تمت عملية «الذبح».

في مكانٍ آخر في فيلا بمدينة الشيخ زايد أيضًا، تجلس فتاة ذَبُلت ملامحها الجميلة من كثرة الحُزن و الارهاق و التعب الذي يسببه لها زوجها، أو الذي أخذته من وراء الحُب !
فتاة في الرابعة و العشرون من عمرها، تخلت عن هواياتها و عن عملها و أي شيءٍ تحبه، فقط لتُرضي غطرسة زوجها.. زوجها الذي تحبه أكثر حتى من نفسها.

« ميار» ابنة الأم البائسة ماجدة و شقيقة
« جبريل» و زوجة « أحمد الرماح» ابن رجل الأعمال المختلس صديق عائلتها
« مجدي الرماح»، كان زواج أحمد منها قائم على المصلحة و المصالح المشتركة التي تربط العائلتين ببعضهما و برغبة والده، أما هي فكانت تعشقه حقًا.. و لا زالت.

شخصيتها ضعيفة و حساسة جدًا، لم تكن كذلك بل العلاقة الخاطئة هي من أضعفت شخصيتها و أطفأت بهجة حياتها.

جلست « ميار» في كامل زينتها تنتظر عودة
«أحمد» من عمله بمول والده الشهير على مستوى مصر.. تزينت و ظهرت بكامل طلتها، و على تكة مفتاح الباب الخاص بغرفتهما الواسعة بالفيلا.. استدارت تستقبله بابتسامة واسعة، و عدَّلت من هيئة شعرها المُرتب، و فور أن ظهر بقامته و طلته أمامها.. اقتربت منه تحتضنه كعادة كل يوم و تضع قُبلة عميقة على خده قائلة بمنتهى الرقة:

” قلقت عليك لما اتأخرت و اتصلت عليك كتير بس أنت مردتش “

” أنا قايلك متتصليش عليا و أنا في الشغل “

قالها بعدم اهتمامٍ لها ولا لزينتها، و وقف أمام خزانة ملابسه يبدل ثيابه تحت نظرات الأسى و الألم منها اللذان طوقا قلبها بسهولة، فذهب رونق الحُب و عنفوان أول عدة أشهر زواج، و حل محله التعاسة الأبدية.. منذ ثلاث سنوات وهما هكذا، يعاملها بكل جفاء و تعامله بكل رقة و لين، يعامل ببرود و تعامله بِحُب، يسبها أحيانًا بأفظع الألفاظ، و تتعمد هي تجاهله حتى لا تخسره للأبد.. لقد هددها مرارًا بأنه سيطلقها عندما ستسنح له الفرصة، و هي خوفها كل الخوف أن يبتعد عنها.. عشقها له دمر حياتها و أضعف شخصيتها بالكامل.

جاءت من وراءه و احتضنته من ظهره، ثم همست تترجاه بنبراتها المتألمة أن يكف عن أذيتها في موضع قلبها الرقيق:

” أنا عاملت إيه عشان استحق منك المعاملة دي، تلات سنين و أنت بتعذبني.. مرة بكلامك و مرة ببعدك عني، مش كفاية بقى عذاب يا أحمد ؟ خلينا نعيش مع بعض كويسين.. أنت مكنتش كده، إحنا متجوزين عن حُب يا أحمد، إيه اللي حصل بس ؟ “

أبعد يديها عنها و زفر باستياءٍ منها، ثم صمت للحظات يحاول الهروب من نظراتها الحزينة بأي طريقة، فلم يجد سوى تلك الطريقة و ذلك الأمر الذي حينما تسمعه منه، تبدأ حساسية الارتكاريا النفسي بلعب دورها على مناطق مختلفة من جسدها، وهو من الأمراض الجلدية المرتبطة بشكل مباشر بالحالة النفسية، و تكون الأعراض فى صورة حساسية و احمرار بمناطق معينة بالجلد عند التعرض للضغوط العصبية كالتوتر، والانفعال، والقلق، والخوف كما هو الحال الآن لدى « ميار».

قال هو بلا رحمة لمشاعرها قاصدًا استفزازها:

” كل اللي في سني وكل صحابي المتجوزين مخلفين و معاهم عيال إلا أنا.. حرمتيني من الخلفة و أنا لسه في عز شبابي.. ذنبي إيه اتجوز واحدة تطلع معيوبة ! “

بدأت الحساسية تفعل مفعولها، و بدأت تشعر بالحكة، فأخذت تحك جلدها و الدموع حاضرة دون انتظار دعوة، فجلست مكانها و ظلت تبكي و تحك جلدها، أما هو ألقى عليها نظرة جافة المشاعر و تركها في حالتها التعيسة، ثُم خرج.

هي تُحبه، و في نفس الوقت تشعر و كأنها في علاقة كل شيء بها تفعله على كُرْهٍ.

في مكانٍ بعيد، في الجزء الشمال الشرقي من جمهورية مصر العربية حيث تقع « سيناء» أرض الفيروز و محط أنظار الأعداء.

توجد قبيلة « القحطاني» قبيلة بدوية أصيلة تمتد سلالتها لأعوامٍ كثيرة، يتميزون أهل سيناء العربية.. بلغة يتكلمونها بلهجة حسنة، تقرب من لهجة بادية الشام.

و مثلما يوجد ما يُسمى مروءة و شهامة و كرم العرب، يوجد أيضًا عرب خصالهم غير حميدة بالمرة، و قبيلة القحطاني تتنوع ما بين هذا و ذاك.

يقف « عز الدين القحطاني» ابن شيخ القبيلة بشموخٍ لا يليق إلا به، و بصره يمتد على بُعدٍ، فقد جاء للتأمل في مكانٍ وحده خاص به بجانب الجبل، يذهب إليه عندما يفضي به الكيل من كل شيء، فبرغم أنه سيد القبيلة منذ أن كان في الثلاثون من عمره و أكثرهم قوة و ذكاءً، لكن الهموم تتجلى دائمًا على عاتقه هو بالأخص.. هو الآن على مشارف اتمام الأربعون، و لم يتزوج أو لم يفضل الزوج إلا بعد أن يطمئن على اخوته، فبعد هروب « أسماء» شقيقته من القبيلة وهو انقلب حاله للتعاسة، و أقسم لو وجدها سيقتلها.

بدأت السُحب تتخذ وضعيتها و هطلت الأمطار مرةً واحدة بغزارة، و في ذلك الوقت لمح طيف شخص قريب الشبه منه، قوية البنية مثله، يمتطي جوادًا بُنيًا أصيلًا، ثم ترجل منه و قال بابتسامة صغيرة:

” اشتي خاش “

قصد بقوله أن الشتاء مطره يزداد عليه، فبادله عز الدين الابتسامة الخافتة قائلًا بنبرته الصارمة:

” زمقتنيه “

في كل مرة يذهب « عز الدين» لقضاء بعض الوقت مع نفسه، يكتشف شقيقه الأصغر «صخر» و الأكثر الشباب هدوءًا و حكمةً في القبيلة مكانه بسهولة، فيأتِ إليه؛ خوفًا من تركه وحده يصارع هموم و مشاكل القبيلة دون مشاركتها مع أحد، فيؤثر ذلك على نفسيته تأثيرًا سلبيًا.. رفض عز الدين الذهاب وفضل المكوث تحت المطر، فلم يجد صخر مفر سوى مسايرة أخيه و الجلوس معه.. أخفى بالعمامة جيدًا رأسه، و قال محاولًا جذبه في الحديث:

” ايش ودك عز الدين ؟ “

” ما وديه “

وكزه « صخر» بلُطفٍ يداعبه و بنظرة شفقة عليه قال:

” شن عليــّه “

طلب منه أن ينظر له و يتحدث كالرجال ولا يظل صامتًا هكذا، فأردف عز الدين بنظرة شرٍ لا تزول من عينيه منذ هروب أسماء قبل زواجها لخارج البلاد..يريد العثور عليها و قتلها، و لكن حتى ذلك سيفعله عن كُرْهٍ:

” انقلع من وجهي، ما وديه اتكلم “

” ايش صارلك ؟ شن فيك ؟ “

” ما بقدر انسى اللي سويته فينا “

زفر « صخر» بقلة حيلة، و أردف يحاول تهدئة نار أخيه:

” إحنا حسبناها ماتت، لا تذكرها “

” لابد ألقاها و أطهر عرضنا “

في تلك اللحظة، رن هاتف « صخر» بمكالمة من شقيقه الأكبر منه و الذي يلي عز الدين في السن، و الملقب بالأعور؛ نظرًا لفقع أحد الصقور عينيه عندما كان يقوم بتربيتها.. رفع « صخر» الهاتف على أذنه، و تحدث شقيقه « فيصل» بجملة جعلته يهتز من الهلع مكانه:

” إحنا في وادي الشوم.. تعال بسرعة « آسر» سوى الفاحشة مع رغدة و هرب “

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية حصب جهنم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *