رواية حصب جهنم الفصل الرابع 4 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم الفصل الرابع 4 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم البارت الرابع
رواية حصب جهنم الجزء الرابع

رواية حصب جهنم الحلقة الرابعة
اللهمَّ على طولِ انتظارِ الفرج، وفداحة الخسائر، وجَلَلِ المُصاب، وعظيمِ الوجع، فزِدْ على الصّهاينة غضبك، وأنزِل عليهم جميعَ سخطك، اللهمَّ فلا تذَرْ منهم صغيراً ولا كبيراً إلا ولعنته، وجعلتَ جهنّم خلده، والزّقومَ مأكلَه، والنّارَ ملبسه.
اللهمَّ إنّهم يكيدونَ ويمكرون، وأنتَ خيرُ الماكرين، اللهمَّ فردَّ كيدهم عليهم، واشفِ صدورَ قومٍ مؤمنينَ قالوا حسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيل.
____________________.
واقعنا هذا يشبه الموت، لكنه بطيء جدًا في كل يوم يقتل جزءًا فينا.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
أحيانًا من هول ما يحدث حولك في العالم الخفي عن بصيرتك التي تأبى الاعتراف به؛ تود الهرب و تسعى لخلق عالم خاص بك وحدك، عالم من الخيال و أحلام اليقظة التي لا فائدة منها سوى أنها تُنسيك حقيقة ما يحدث في مجتمعك و واقعك المرير.
ولكن قُل لي لمتى ستظل تضرب بالواقع عرض الحائط و ترفض تصديق ما يَحصُل ؟
لمتى ستظل أعمى البصر و البصيرة، و تترك الواقع يتلاعب بك كما يتلاعب الهواء بأوراق الشجر الضعيفة ؟
استيقظ من غفلتك يا صاحب العقل المحدود، استيقظ و جابِه ظلمات الأيام و فُجر الواقع الدامس.. ما حدث و يحدث و سيحدث ليس من محض الصدفة أو مجرد كابوس مزعج، بل هو حقيقة.. حقيقة واقعية مريرة لا مفرّ منها.
إما أن تواجهها، أو ستستغل عقلك المحدود و تهزمك.
في هذا الواقع المرير، الأغلبية من ذوي النفوذ و أصحاب الجاه يقومون بفرض سيطرتهم على من هم أقل منهم نفوذًا، لا تدري لِمَ يحبون إذلال الأقل منهم سُلطة، هل لأنهم اعتادوا الظلم و عرض جشاعتهم و جبروتهم دون أن يردعهم أحد ؟ أم لأنهم مختلين عقليًا ولم يدخل الإيمان قلبهم بعد ؟
أم لأن الناس رضوا الخنوع و الإذلال و خافوا فتح الأفواه ؟
لا تدري من المخطئ، الذي سكت عن حقه ؟ أم الذي تعمد ظُلم غيره ؟!
« منى السيد» فتاة في مقتبل العشرين، في بداية الصف الثاني الجامعي لكلية طب بشري القاهرة، فتاة رقيقة الملامح طيبة القلب، محتشمة في ملابسها، مجتهدة في دراستها، و أسعف اجتهادها هذا؛ لارتدائها نظارة طبية منذ بداية الثانوية العامة.
تجلس على الدرج المقابل لقاعة المحاضرات تنتظر بدء المحاضرة التالية، « منى» معروف عنها أنها من أنجب الطلاب و هادئة الطباع، دائمًا تجدها في أوقات الفراغ ما بين المحاضرات.. إما جالسة تقرأ وِردها اليومي مما تيسر من القرآن الكريم، أو تذاكر دروسها، لا تحب التدخل في شؤون الآخرين ولا تشغل بالها بأحد، و لكن إذا احتاجتها إحدى صديقاتها الفتيات في شرح درسٌ ما، تبتسم عن طِيب خاطر، و تساعدها قدر المستطاع.
هي من أسرة متوسطة الحال كمعظمنا، رُزقا بها والديها بعد خمسة عشر عامًا من الصبر و الالحاح على الله في الدعاء، و عندما وُلدت.. جاءت للدنيا و جلبت الخير معها لوالديها، فقد تعين والدها مشرف على عمال النظافة في إحدى الشركات بعد أن كان مجرد عامل لا يكفي راتبه الشهري قوت معيشته، أما والدتها بشوشة الوجه السيدة « فايزة» بدلًا من أنها كانت بائعة خضار في الأسواق مثل باقي السيدات المحترمات اللواتي يسعينَّ لإطعام أبنائهنَّ بالحلال؛ أصبح لديها محل خاص بها للفاكهة و الخضروات، و « منى» الابنة الوحيدة لهما.
فتاتنا المسكينة بدا عليها التوتر عندما وصل لمسامعها همسات تقول أن دكتور المادة قد جاء، نهضت و دلفت مع زميلاتها و بقية
« الدفعة» لاستقبال محاضرة اليوم.
هذا الدكتور المُحاضر و الذي يُدعى
« د/ عفت الشربيني» و يبلغ من العمر سبعة و خمسون، يعامل الطلاب و كأنه مَلكٌ ظالم عليهم و هم عبيده، جميع الطلاب هنا يهابونه، الجميع يخشاه، بالأخص « منى» التي ينتابها التوتر من أقل شيء، خاصةً و أنه قام بتهديدها تهديد غير صريح في بداية العام الدراسي، و ذلك بسبب أنها كأي طالب تُحب الاستفسار عما لا تفهمه في الكتاب الجامعي، و سألت سؤالًا تعسر على الدكتور الصارم إجابته، فأخبرها أن تنتقي أسئلتها لأنها تسأل أسئلة غير منطقية، قالها بنظرات عينين يلمع بهما الشر و الغِل، و بنبرة أربكتها فأقسمت في نفسها ألا تسأله عن أي شيءٍ ثانيةً مهما حدث، و منذ ذلك اليوم وهو يتعمد وضع امتحانات صعبة جدًا قاصدًا تعجيزهم، أو هو معروف عنه من الأساس أنه يعامل الطلاب و كأنهم حثالة عنده و يضع لهم أسئلة خارجية لا يستطيعون إجابتها، و النجيب منهم يظل يلوم نفسه على عدم مقدرته التركيز و الحل الصحيح، مثلما يحدث مع « منى» تظل تأكل نفسها من الندم لعدم حلِّها السؤال بطريقته الصحيحة.
دلف الدكتور عفت للقاعة، و ألقى نظرة ساخرة عليهم قائلًا بنبرة استهزاء كعادته:
” أخبار المحاضرات اللي فاتت إيه ؟ يا ترى بتتذاكر ولا مطنشنها و مشغولين مع امتحانات دكتور سامح ؟ “
نطق بعض الطلاب من خوفهم:
” بنذاكر لحضرتك دايمًا والله يا دكتور “
و رد آخرون بصوتٍ واحد:
” مادة حضرتك أول مادة بنذاكرها “
أما المعظم اكتفوا بالصمت في توتر من نظراته من بينهم « منى» التي مالت على صديقتها هامسة بارتباكٍ:
” حاسة إنه هيعملنا امتحان مفاجئ “
انتبه لها « عفت» و رمقها بغيظٍ فهو لم ينسَ ذلك الوجه أبدًا، الذي أحرجه أمام جميع الدفعة، ثُم صاح يستدعيها طالبًا منها الوقوف:
” الدكتورة اللي مش محترمة و اللي جنبها يتفضلوا يطلعوا لي برا كده “
أدمعت عينيّ « منى» عند إهانته لهما أمام الجميع، و نهضت برفقة صديقتها التي ردت عليه باستياءٍ:
” حضرتك إحنا محترمين و جايين من بيوت محترمة، مينفعش حضرتك تقول علينا كده لمجرد إن واحدة بتسأل زميلتها سؤال يخص المنهج “
رفع حاجبيه مُندهشًا من شجاعتها، و توعدها بداخله هاتفًا بسخرية:
” و كمان لسانك طويل و بتردي ! يعني بتتكلموا في وجودي و غلطانين فبدل ما تعتذري بتطولي لسانك ! اسمك و الكارنيه و اطلعي لي برا أنتِ و اللي جنبك “
توترت الفتاة بينما « منى» هربت منها الدموع و فضحت خوفها و رقتها، و ظلت تدعو الله في جوفها، بينما الطلاب أخذوا يتوسلون الدكتور بأن يعفو عنهما و ستتأسف و تعتذر الفتاتان له، بينما يتوسلون له ظل هو يبتسم بتهكمٍ من ضعفهم و إذلاله لهم، ثُم أردف موجهًا حديثه للفتاتان:
” خصم عشر درجات أنتِ وهي في العملي، ولو سمعت نفس واحدة فيكم.. صفر في العملي و همنعها من دخول امتحان مادتي لسوء سلوككم أنتم الاتنين.. أنتم سنتكم سودة معايا يا سنة تانية، و خدوا بالكم أنا معاكم لآخر سنة “
لم يستطِع أحدًا من الطلاب الرد بكلمة، فقد اكتفوا بالصمت و تَقبُل الإهانة و المعاملة السيئة، لربما لو اعترض واحد فيهم و قام بتقديم مذكرة شكوى لرئيس الجامعة لما كان الوضع ما هو عليه الآن، و لكنهم خافوا فأكل الخوف حقهم و أهدر الصمت العدل.
هذا هو حال من يصمت عن حقه، إما يعيش مُهان أو يموت شريف، في الحالتين خسر نفسه و لكن في حالة الرفض و علو صوت الحق؛ كسب كرامته.. و مات في النهاية من قوة الردع !
«لهذا يقولون الاتحاد قوة و التفرقة ضعف»، لا أحد يستطيع مجابهة الظلم وحده، حتمًا سيقضي عليه و يخسر روحه، لكن إذا اتحد الجميع و وقفوا بشجاعة في وجه الطاغية، لرفرفت راية الحق في سماء العدل، و بُهت الظالم و زهق الظُلم.
و لم يخِب ظن « منى»، بالفعل تابع قائلًا بحقد:
” ورقة و قلم و اكتبوا السؤالين دول.. امتحان مفاجئ “
لم يقدروا حتى على التهامس بينهم، فعلوا ما أُمروا به في صمتٍ، و « منى» تحاول كبح دموعها لتستطيع الإجابة على السؤالين.. أعطَ لهما سؤالين إجابة كل منهما صفحتين، سؤالٌ من المنهج و سؤالٌ لم يأتِ على مخيلتهم قطّ، و الوقت المستحق لهم هو خمسة عشر دقيقة فقط !
منهم من ازداد لديه التوتر و تعرق اصبعه عن مسك القلم، فلم يستطع كتابة شيء، و منهم من ظل ينظر للورقة في بلاهةٍ بعدما طار من عقله كل شيءٍ ذاكره، و آخرون بكوا في صمتٍ وهم يكتبون أي شيء قبل أن يمر الوقت، و « منى» اهتزت أعصابها وهي تجيب و قبل أن تنتقل للسؤال الثاني، انتهى الوقت و صاح فيهم بأن يتركوا القلم فورًا.
قاموا بتسليم أسئلتهم الغير مكتملة إجابتها، و أخذها منهم بنظرات ساخرة، ثُم قال ببرودٍ:
” مفيش محاضرة، النهاردة كان امتحان فقط “
و تركهم في صدمتهم و غادر.. نهضت « منى» تقول لصديقتها قبل أن تنهار كُليًا:
” أنا هروح مش هقدر أحضر المحاضرة الأخيرة “
رد صديقتها بقلقٍ عليها:
” بس دي مهمة يا منى.. كبري دماغك منه، هنعمل إيه يعني.. محدش يقدر يتكلم “
مسحت دموعها و لملمت أغراضها في حقيبة الظهر مُردفةً:
” معلش ابقي سجليها و ابعتيها لي، أنا بجد تعبانة و مش قادرة استنى.. يلا مع السلامة “
” طيب خلي بالك على نفسك “
” إن شاء الله “
لم تستطع الصمود فقررت المغادرة قبل أن تنفجر باكية أمام الجميع، لقد اكتفت من أحداث هذا اليوم، الإهانة و الامتحان أودا بها لمنعطف نتائجه لن تكون مرجوة بالمرة.
أثناء اتجاهها لخارج الجامعة، استوقفها المعيد الذي يحاول لفت انتباهها في كل مرة.
« دكتور حسن» معيد جديد بالكُلية بالأخص قسم « منى»، في السابعة و العشرون من عمره.. شاب خلوق و على قدر واسع من التفهم مع طلابه، الجميع يحبونه و يكنون له الاحترام و التقدير.. مُعجب كبير بها منذ العام الماضي، لفت انتباهه ذكائها و أخلاقها العالية، أعجب بها سرًا، و هذا العام قرر البوح بإعجابه الذي لم يعد مجرد إعجاب.. أرسل إليها أخته الطالبة بقسم آخر لاخبار « منى» بأنه يريد الزواج منها، و رفضت الأخيرة أكثر من مرة معللة أنها لا تفكر في الزواج الآن.
استوقفها « حسن» متسائلًا باحراج بدا في نبرات صوته:
” دكتورة منى.. حضرتك كويسة ؟ “
خفضت وجهها كيلا يرى دموعها، و أومأت في صمتٍ، ثُم همَّت بالذهاب، فاستوقفها قائلًا:
” دكتور عفت ضايقك في حاجة ؟ “
نزلت دموعها رغمًا عنها، فمسحتها سريعًا و همست بنبرة مُتَهدِّجة:
” لا.. أنا كويسة مفيش حاجة، عن إذنك “
لم تنتظر منه رد، حملت نفسها و بخطوات سريعة كانت خارج الجامعة، أما هو ظل ينظر أمامه بتساؤل عن حالتها، فقد لاحظ الدموع في عينيها.. همس لنفسه بأمل:
” إن شاء الله تكوني بخير.. ربنا يصلح حالك و حالي، و يجعلني من نصيبك لو فيا خير ليكِ “
أقبلت عليه شقيقته « مريم» بعدما أنهت محاضرتها للتو، لتتساءل بابتسامة مرحة:
” بتفكر في إيه يا أبو علي ؟ جبت لك سندوتشات معايا، يلا نتغدى “
جلس بجانب شقيقته على إحدى الدرجات يتقاسم معها السندوتشات قائلًا بتنهيدة بدت قلقة:
” متعرفيش منى مالها ؟ “
ردت « مريم» بعدما تحولت ملامحها للاستياء:
” اللي ما يتسمى دكتور عفت عملهم امتحان مفاجئ زي الزفت، العيال محلتش حاجة، واقفين يا عيني هناك أهم متنكدين و في بنتين أغمى عليهم “
” لا والله ! للدرجة دي جايب لهم أسئلة صعبة ؟ “
” أيوه هو أسئلته متخلفة كده، الحمدلله الذي عافانا منه والله، ده أنا نجحت في مادته بمقبول السنة اللي فاتت مع إني على ايدك كانت اكتر مادة بذاكرها “
تنهد بحزنٍ و غضبٍ مردفًا:
” حسبي الله ونعم الوكيل فيه و في أي حد وصل و بيصعبها على اللي بعده.. للأسف أنا مينفعش اتكلم، أصل لو ادخلت هيقولك معيد لسه متعين و جاي ينظَّر على دكتور بقاله خمسة وعشرين سنة هنا، و هيتقالي مع السلامة في داهية عادي جدًا.. مش عارف ليه ساكتين ! اشتكوا لرئيس الجامعة “
رمقته بضحكة ساخرة لتقول:
” أنت ناسي إنه كان بيدرس لك أنت كمان، و برضو محدش فيكم نطق “
” هو ترم واحد اللي دخل لنا فيه و الحمدلله جات من عند ربنا و اتنقل لقسم تاني، لكن دفعة منى هيفضل معاهم لآخر سنة.. اللي بيحصل ده ميرضيش ربنا والله “
ردت « مريم» بلا مبالاةٍ، و كأن صبرها نفذ من جحود الدكتور عفت:
” رئيس الجامعة عارف و مكبر دماغه، أصل طالما الطالب مشتكاش هو هيدخل ليه ؟ هما خايفين.. دكتور عفت مش سهل، يلا ربنا يعينهم و يرحمهم منه “
سكت قليلًا و قضم قطعة من ساندوتش الطعمية، و أخذ يأكله ببطءٍ وهو مشغول القلب و التفكير على « منى»، ليقول بنبرة حزينة:
” حاسس إن مش موضوع الامتحان بس اللي مزعل « منى»، فيه حاجة تانية أكبر من الامتحان.. بصراحة يا مريم قلبي واكلني عليها.. شفت الدموع في عينيها و كنت واقف زي العاجز مش قادر أعملها أي حاجة، بالله عليكِ إما تيجي بكرة إن شاء الله اسأليها كان مالها، يمكن في حاجة نقدر نساعدها فيها “
أومأت بابتسامة صغيرة تربِّت على فخذ أخيها و تطمئنه قائلة:
” متقلقش إن شاء الله تكون بخير، منى من أوائل القسم و بتحب المذاكرة جدًا، مبتحبش مجهودها يروح على الفاضي، هي أكيد متأثرة بسبب الامتحان.. اطمن بإذن الله هي كويسة، إن شاء الله اما تيجي بكرة هتكلم معاها، والله كنت عاوزة أتصل عليها بس الموبايل لما عملت له سوفت وير مسح كل الأرقام، و اتحرجت اخده منها “
” ربنا يجعلها بخير دايمًا “
.. على ناحية أخرى، و صلت « منى» شقتهم في إحدى البنايات القريبة من جامعة القاهرة، وضعت حقيبتها في تعبٍ، و اتجهت للمرحاض تتوضأ و تصلي فرضها الفائت، ثُم ألقت بجسدها المتعب على الأريكة بالصالة، و ظلت تبكي في صمتٍ لحين عودة والديها من عملهما.
دلفت والدتها « فايزة» و ما إن وجدتها تبكي في صمتٍ، ضمتها لصدرها و انهالت عليها الأسئلة في قلقٍ عن سبب بكائها و مجيئها باكرًا، بينما والدها ربَّت على شعرها بحنانٍ و أخذها من زوجته يضمها لصدره متسائلًا بقلق عليها:
” إيه يا مونه يا حبيبتي، إيه يا حبيبة بابا.. بتعيطي ليه يا بنتي.. مين اللي مزعلك، احكي لأبوكِ حبيبك “
لم ترضَ لوالديها حمل همها، فمسحت دموعها و ابتسمت قائلة:
” متقلقوش.. مفيش حاجة، بس كان عندي امتحان و كان صعب شوية، بس أنا كويسة والله الحمدلله “
” يا بنتي يغور الامتحان في داهية، أنتِ عندنا أهم من مليون امتحان، صحتك يا حبيبتي أهم من أي حاجة “
قالتها والدتها تواسيها بحنانٍ، بينما والدها تساءل مغيرًا الحديث في محاولة منه رحيمة لجعلها تتناسى:
” صحيح هِداية و جنى أخبارهم إيه ؟ راحوا عند أبوهم ولا لسه ؟ “
أردفت « منى» بشهقة خفيفة:
” أوف.. استغفر الله العظيم يارب، الامتحان خلاني أنسى اتصل عليها النهاردة.. قلت أول مخلص المحاضرات هشحن و اكلمها عشان رصيدي خلص وعشان أكيد هي يا عيني ملخومة بأختها و مش هتعرف تتصل هي، و نسيت خالص.. أنا أخت وحشة والله “
ضحكت أمها بضربة خفيفة لها هاتفة:
” متقوليش على نفسك كده، هداية عمرها ما تزعل منك، ده أنتم متربيين مع بعض و اكتر من اخوات “
ثم تنهدت بحزن و قالت:
” الله يرحمك يا نوال، كانت ست طيبة و أصيلة، النصيب حطها مع واحد معندوش ضمير، يلا هنقول إيه لله الأمر من قبل و من بعد.. ربنا يكون في عون البنتين الغلابة دول و يحفظهم من كل شر يارب “
والديّ « منى» عاشا في بداية زواجهما بالقرب من منزل سعيد والد « هِداية»، و هناك نشأت علاقة جيرة قوية بين نوال و فايزة، لكن السيد لم يكن يُحب سعيد، كانت المعاملة سطحية بينهما، أما الفتاتان كانتا تلعبان سويًا دائمًا، الاثنتين بقيا مع بعضهما حتى المرحلة الاعدادية، و دخلت « منى» الثانوي العام، بينما
« هداية» قررت دخول الثانوي الفني الصناعي، وجدت أن المشاكل تزداد يومًا عن يوم مع والديها حتى حدث الطلاق، فأُصيبت والدتها بأزمة نفسية، لذلك قررت هداية و فضلت الاعتناء بها عن مستقبلها.. من المعلوم أن الثانوي العام يستهلك طاقة الطالب النفسية و الجسدية، و كذلك الفني لكن العام أكثر، و في ذاك الوقت لم تسعف الأيام على مساعدة
« هداية» و التوازن بين والدتها و الدراسة، فكان قرارها أن تدخل الثانوي الفني، و لم تبتعد « منى» بقلبها الطيب عن صديقتها، ولا حتى والدتها، بل ظلا معًا قلبًا و قالبًا، لا يمر يومًا دون أن تتحدث الفتاتان سويًا و تحكي كل منهما للأخرى عما حدث في يومها بالكامل، و قبل دخول « منى» الجامعة، انتقل والديها للعيش من إمبابة إلى القاهرة بالقرب من كُليتها لتخفيف عبء الطريق و المسافة عليها، رغم أنها مسافة لا بأس بها، و لكن لأنها الابنة الوحيدة، فالخوف عليها كثير.
.. في بيت سعيد الرجل الذي تغير كُليًا من أب عاشق لأبنائه و زوجته و حنون جدًا، لأب عديم الرحمة و المسؤولية، بين ليلة و ضحاها تحول هكذا، ولا تعلم كيف !
هل لأن « نادية» استطاعت إغراء سعيد فسال لعابه عليها، أم لأنه لم يكن زوج وفيّ و مخلص من الأساس ؟!
مسدت « هداية» على شعر أختها الطويل بحنوٍ هامسةً لها:
” متخافيش يا جيجي، محدش هيقدر يجي جنبك أبدًا، أنتِ في رعاية ربنا قبل ما تكوني في رعايتي.. بس عاوزة من جنى حبيبة أختها القوية تستنى هنا لحد ما أطلع أشوف أبوكِ عاوز إيه.. عشان خالتك الحرباية دي شكلها مش هتجيبها البر النهاردة “
أومأت « جنى» و قالت وهي تختلس النظرات على الباب بخوف:
” هو.. هو بابا ممكن يضربنا يا هداية ؟ “
أغمضت « هداية» عينيها تحاول بقوة ألا تبكي أمام أختها، ثُم احتضنتها قائلة لها:
” لا يا قلب هداية، بابا بيحبنا يا جيجي، فاكرة إما كان يجيب لك لعب كتير ؟ هو بيحبنا بس دلوقتي تعبان شوية، لما يخف هيرجع يحبنا تاني إن شاء الله “
لم تشعر بنفسها و هي تتحدث بتخبط و بدون فهم لما تقوله، و لكن على كُلٍ أرادت مطمئنة أختها بأي طريقة، فالصغيرة لم تكتفِ بعد من حنان و رعاية الوالدين.. ردت جنى تتساءل ببراءة:
” طيب.. طيب يا هداية مش التعبان بيروح للدكتور عشان يخف ؟ “
” المريض في الجسم بيروح للدكتور و المريض في النفس بيروح لربنا.. ادعي لبابا يا جيجي ربنا يهديه “
رفعت كفيها تدعو في براءة منها تجعل قلبك يتفطر من الحزن عليها، في حينٍ أن « هداية» تنهدت بنفاذ صبر هامسة لنفسها وهي تفتح الباب و تستعد للمواجهة:
” متخافيش.. الحق معاكِ، صوت الحق لازم يعلى “
فتحت الباب لتستقبل المسكينة كم هائل من السباب و التوبيخ.. صاح والدها بعينين امتلأ بهما الشر و الشرر و الشرار:
” أنتِ يا بنت الـ * جاية تعيشي ولا جاية تقلي أدبك ؟ خالتك نادية جزمتها فوق راسك و راس أي حد.. طولة لسان و قلة أدب هتلاقي مني معاملة زي الزفت.. من هنا و رايح يا تعيشي محترمة، يا تغوري في ستين داهية و مش عاوز أشوف وشك تاني لا أنتِ ولا البلوة التانية أختك.. سمعتِ يا بنت الـ * ؟ “
بينما كان يتحدث بتلك الكراهية و هذا السخط، ظلت تتأمل تعابير وجهه التي تغيرت تمامًا، لم يعد ذلك الأب الحنون الذي كان يدلل ابنتيه باستمرار، لقد انقلب رأسًا على عقب.. حاولت الوقوف باستقامة و استماتة و اختلست نظرة سريعة على خالتها، فوجدتها تنظر لها بشماتة و استفزاز و كذلك ابنها، مما لملمت شجاعتها و قالت بنبرة لم تخلو من السخرية و القوة:
” مش هلومك عن اللي عملته فينا، ولا أنا جاية أحاسبك على اللي حصل لماما الله يرحمها، ولا هقولك بعتنا ليه و اتخليت عنا، ولا هجيب سيرة العِشرة الطيبة اللي أنا شهدت عليها بينك و بين ست الستات الأصيلة المحترمة أمي الله يرحمها، بس هقولك و هقول للست اللي بقت بالنسبة لي مرات أبويا مش خالتي اللي كُنت بحبها اكتر من نفسي، إن الظالم نهايته سواد..
متنسوش و أنتم بتظلمونا، إن الظلم دا هيتردلكم و هيكون أضعاف ف أعز حاجة بتملكوها.. أنا و أختي لنا في البيت ده اكتر من الهانم اللي واقفة دي، إحنا مش جايين نقعد على راسكم.. ده بيتنا و إحنا جايين بيتنا، و يوم ما هنطلع منه هيبقى بكيفنا.. ما عاش ولا كان اللي يطلعنا منه غصب عننا.. مهو أصل الحق عمره ما يتهزم، لو حواليه ألف لأ، لو حواليا الباطل من كل ناحية، مسير الحق ينتصر في النهاية.. و أنا بقولها لكم أهو، و ربي اللي خلقني و خلقكم لأخد حق أمي و حق كسرة نفسها و قهرتها، و حق أختي اللي مبقتش تعرف تنام بسبب الرعب اللي حاسة بيه، أما عن حقي فأنا مسامحة، عشان مش عاوزة أشوفكم في الآخرة، و يا ويل الظالم من دعوة المظلوم..
يا ويله “
كلماتها تلك جعلت الخوف يتربع على عرش قلب خالتها التي وقفت مصدومة من كلامها الجرئ و القوي، بينما « والدها» ازداد غيظه منها برغم أن كلماتها تركت أثر الخوف بداخله، و لكنه لم يُبالِ و استطرد توبيخه لها:
” أنتِ بت ناقصة رباية، إنك تقفي في وش أبوكِ تكلميه كده، يبقى متربتيش “
” أبويا مكنش فاضي يربيني.. كان بيجري ورا خالتي “
ردت بها بسخرية و همَّت بدخول الغرفة، فجذبها من شعرها بغتةً و قبل أن يهبط بكفه على وجهها، استطاعت بانسيابية تحرير نفسها منه و قبضت على معصمه قبل أن يلمس وجهها، ثُم أنزلت يده هاتفةً بهدوءٍ زاد قلق « نادية» و دُهش له ابنها:
” اللي كانت بتنضرب و تسكت ماتت الله يرحمها.. أنا تربيتك يا بابا، فاكر إما كنت بتقولي و أنا صغيرة أنا عاوزك تطلعي زيي.. بارك لي، أنا طلعت زيك أهو، أنت اتغيرت على ماما و أنا اتغيرت عليك.. طلعت زيك مبعرفش أصون العِشرة، أنا آسفة مش بايدي.. أنا نتاج تربية حضرتك.. قولي مبروك عاوزة اسمعها منك “
ثُم صاحت بضحكة ساخرة لخالتها تلوح بيدها:
” قوليلي مبروك يا خالتي.. بقيت قليلة الأصل و الرباية زيك.. متتصدميش، من عاشر القوم بقى، المعاملة معاكِ أنتِ بالذات يا خالتي ياللي كُنتِ أعز عليا من نفسي، المعاملة معاكِ بالمثل.. أما أنت يا بابا، عمري في حياتي ما كنت أتخيل نقف أنا و أنت الوقفة دي، و عشان مين ! عشان واحدة طعنت أختها في ضهرها بسكينة باردة.. على قد منا مقهورة منكم على قد منا فرحانة إني واقفة لكم الوقفة دي لوحدي و بطولي “
و التفتت لوالدها تتابع بدموع بسيطة نجحت في إخفائها:
” بدل ما أكون باره بيك بقيت عاقة، بس والله مش بايدي.. أصل أنا حفظاكم، لو اتعاملت معاكم كويس هتدوسوا عليا و تنهشوا لحمي حية أنا و البت اليتيمة اللي جوا دي، بس مش كل طير يتاكل لحمه.. من هنا و رايح أنا صاحبة البيت زيي زيكم بالضبط، و مش عاوزة منكم ولا جنيه، أنا أقدر اتكفل بنفسي و بأختي.. مش طالبة منكم غير إنكم تسيبونا في حالنا، عشان جر الشكل معايا أنا بالذات هيقلب بزفارة لسان مني.. آمين ؟ “
تدخلت « نادية» تقول باعتراض لكلامها و بنبرة غاضبة:
” جرا إيه يا بت ! أنتِ محدش قادر يلمك ولا إيه ؟ “
و رد ابنها المدعو « أشرف» يقول:
” بصراحة يا عمي أنا لو عندي بت لسانها طويل زيها كده كنت قصيته لها و علمتها الأدب “
صفقت « هداية» بكلتا يديها في حركة استهزاء، ثم صاحت ساخرة منه:
” شوفوا مين بيتكلم.. رد السجون المتحرش، أبو سيجارة بني اللي ريحته فايحة عفانة.. اتكلم كلام تستحمله الأول يا.. يا ننوس عين أمك “
خرجت « جنى» في تلك اللحظة، لتتمسك ببنطال أختها و تشدها بخوف لتدخلها، فلاحت نظرة جانبية من والدها عليها، و بدأ يَحِنُّ لها، لكن « نادية» انتبهت له، فهتفت سريعًا تحاول تشتيت انتباهه:
” عجبك كده يا سعيد طول لسان بنتك و قلة أدبها ؟ “
” بقولك إيه يا أم أشرف.. كل قرد يلزم شجرته بقى “
هتفت بها « هداية» تحت نظرات والدها المندهشة من تغير طباعها هكذا، فقال ببرود منه:
” خدي أختك و ادخلوا ناموا.. و لما يجي بكرة نشوف جاي معاه إيه “
رمقته ” نادية ” باندهاشٍ من ردة فعله الباردة، و قالت محاولة استعطافه:
” يعني ده يرضيك يا سعيد ؟ حتة عيلة زي دي تهزقني و تهزق ابني و أنت ساكت متنطقش ؟
هي من دلوقتي هتقويك عليا ؟ “
رفعت هداية حاجب و أخفضت الآخر بِتَعجُبٍ مما تفعله خالتها من دلال مزيف على والدها، لتقول بضحكة استهزاء قبل أن تدخل الغرفة و تغلق الباب في وجهها:
” أما عجايب بصحيح.. ده على رأي المثل، خد من الزرايب ولا تاخد من القرايب “
ثم أغلقت الباب دون انتظار رد منهم، بينما
« سعيد» قال محاولًا تهدئة الأجواء بعدما اكتشف قوة ابنته في الوقوف أمامهم:
” كل واحد في حاله أحسن يا نادية.. البت جاية و ناوية على شر، دي بنتي و أنا عارفها.. موتها و سمها حد ياكل حقها، فعشان نقصر الشر و نغنيله.. كل واحدة فيكم تخليها في حالها “
و التفت لابنها قائلًا بنبرة آمرة:
” و أنت يا أشرف ملكش دعوة بيهم.. سامع ؟.. مش معنى إن أنت و هداية متربيين سوا يبقى هتسكت لك.. هداية نابها أزرق ولو جيت تحت ضرسها مش هتسمي عليك.. خليك في حالك عشان مش فاضي أنا للمشاكل كل شوية، و من بكرة تنزل الشغل معايا “
كاد أن يرد مُعترضًا، فغمزت له والدته ليلزم الصمت، ثم قالت هي بنظرة خبيثة:
” اللي تشوفه يا سعيد.. أنت راجل البيت يا خويا و كلمتك تمشي على الكل “
أما بداخل غرفة هداية، نامت أختها على ذراعها، و ظلت هي في يقظة تفكر في مستقبلها في تلك المنطقة، التي بالكاد نسيت كل شيء بها، رغم أنها نشأت فيها و لكن حزنها الدائم بسبب والدتها و بعدها عن البيت بعد الطلاق، جعلاها تنسى تفاصيل الأماكن و الشوارع و ما شابه، لكن الآن بدأت تتذكر كل شيء.
رن هاتفها باسم « توأم روحي» المقصود به صديقة طفولتها و مراهقتها و طريق شبابها
« منى»، امتدت المكالمة بينهما لساعة كل واحدة تطمئن على الأخرى و تخبرها بما حدث معها، ثم انتهت المكالمة، و غفت الفتاتان بعد عناء يوم طويل مرهق لهما و لأمثالهما.
في الصباح التالي.. نهضت « هداية» باكرًا، لتدخل المرحاض قبل أن يستيقظ أحد منهم و يبدأ التصادم معهم، و بعدما خرجت جلست أمام المرآة تمشط شعرها الأسود الطويل الذي لطالما حلمت بقصه على شكل كاريه، و لكن والدتها رفضت رفضًا قاطع معللة أن زينة الفتاة في شعرها الطويل، و لكن هداية لا تحب الشعر الطويل، و تجده مرهق في التمشيط.. الآن يجب عليها أن تحب شعرها لأجل والدتها فقط، فقد اشتاقت جدًا للمس أناملها لشعرها و مداعبتها الحنونة لفروة رأسها، اشتاقت للجدائل الطويلة التي كانت تصنعها لها و لأختها
« جنى».
” الله يرحمك يا ماما.. تالت يوم يعدي على فراقك كأنهم تلات سنين.. لسه ماسكة نفسي يا ماما عن العياط عشان مبينش ضعفي قدام حد، لسه معيطتش عليكِ يا ماما، بس أقسم بالله قلبي بينزف من القهرة عليكِ كل دقيقة.. شامة ريحتك معايا و حاسة إنك حواليا، حاسة إنك معايا في كل مكان، عشان كده لسه مش عارفة استوعب إنك خلاص كده روحتي لدار الحق.. وحشتيني أوي يا غالية والله، الله يرحمك.. كنتِ أحن واحدة في اخواتك، بعد ما مُتِ يا ماما محدش سأل فينا.. بس مش مشكلة، ربنا أحسن من الكل “
انتهت من تمشيط شعرها و ربطته على شكل ذيل حصان، ثم تركت أختها نائمة و أغلقت عليها الباب بالمفتاح، و خرجت لتشتري لهما طعام الافطار.. أثناء مرورها على البدروم أسفل طابق المنزل، سمعت همسات نسائية لم تستطع ترجمتها جيدًا.. فقط همهمات مبهمة لم يتبيّن منها شيء، و لأنها بطبيعتها شخصية فضوليه.. تعجبت من تواجد أحد بالأسفل في الصباح الباكر، فخطت بضع خطوات تجاه مصدر الصوت تحاول فهم أي كلمة، فالمناقشة في الأسفل تحولت للصرامة و الحدية.
.. في المشرحة التي تعمل بها الطبيبة الشرعية
« آلاء المنزلاوي»، ترتدي الملابس الخاصة بالتشريح و كمامة بيضاء و واقي للعينين أيضًا، و على تلك الطاولة المعدنية الكبيرة التي وُضعت الجثة المتفحمة عليها، بدأت هي بفحصها بمنتهى الدقة و التركيز.. أخذت بعض العينات منها للفحص المخبري، و بمساعدة طبيب آخر أكثر خبرة منها في التشريح.. أخذ يقوم بفحص الرقبة و تشريحها بعناية، لينظر لها قائلًا بدهشة:
” دي مش جريمة اغتصاب ولا قتل عادية.. في إنَّ في الموضوع، واضح إن فيه أثار خنق بسلسلة حديدية “
أمعنت « آلاء» النظر و الفحص معه، و مع الاستغراق في التشريح و التحليل للعينات.. هتفت بدهشة هي الأخرى:
” دكتور.. الاغتصاب حصل الأول و بعدين الخنق بعده بعشر دقايق و الحرق في الآخر “
أومأ وهو يسجل بعض التقارير التي تفيد التحقيق الجنائي:
” كلامك مظبوط يا دكتورة.. لكن الجديد و اللي ظهر دلوقت و هيغير القضية بالكامل، إن الست ماتت بالخنق مش بالحرق.. خنقوها الأول لحد ما تأكدوا إنها ماتت، و عشان يخفوا أثار الجريمة، حطوها في الصندوق و حرقوها بالكامل.. الكيروسين اللي محروقة بيه جاي من بقايا استخدامات في طهي الأكل “
أكملت « آلاء» متفهمة بسرعة بديهة:
” يعني اللي عمل كده وارد جدًا يكون فاتح محل أكل أو أي حاجة بيستعمل بيها الكيروسين قريب من الباسكت اللي لقوها محروقة فيه ؟! “
” بالضبط كده.. و كمان الضحية في أثار مقاومة تحت ضوافرها، و بالفحص أثبت إنها لشخصين مختلفين، و في أثار مسك جامد على رجليها لشخص تالت خالص، و الواضح إنه كان ماسك الرجلين بس.. لأن بصمة الشخص ده على الرجلين بس، مش زي الاتنين التانيين.. اعتقد البحث الجنائي رأيه من نفس رأينا برضو، شخصين اغتصبوها و واحد كتفها “
هزت « آلاء» رأسها بأسى، بداخلها تتمنى ألا يكون « عثمان و آدم» الفاعلين، تعلم أنهما مشاغبين للغاية، و لكن لم يسبق لهما و أن قتلا أو قاما باغتصاب إمرأة، لقد شككت بأمرهما بسبب توترهما ليلة أمس و نظراتهما الغير مريحة حينما سمعا بالجريمة.
بعد وقتٍ كثير لاستكمال التشريح و تحليل الجثة و تحليل الحمض النووي و أثار الخدش و الجروح عليها، قال الطبيب بإيماءة رأس واثقة:
” كده إحنا دخلنا في سكة تانية خالص “
” في إيه ؟ “
” اللي خنق الضحية شخص رابع ملوش علاقة بالاغتصاب.. عشان كده الوقت بين الاغتصاب و الخنق استغرق عشر دقايق كاملين، و ده اللي خلى الأهالي يقولوا إنهم سمعوا صويتها بتقول الحقوني هيقتلوني و بعد مدة رجع الصويت تاني.. فالصويت في المرحلة التانية كان بعد الاغتصاب، و كانت بتحاول تهرب من القاتل الحقيقي “
توسعت عينيّ « آلاء» باستيعابٍ بطيء هاتفة:
” دي مش اتحلت، دي كده تعتبر تعقدت اكتر ! “
” هي جريمة غامضة، و ربنا يعين التحقيق الجنائي في البحث عن المجرمين سواء المغتصبين أو القاتل “
في تلك اللحظة، دلفت المحققة « فاطمة» ابنة عمتها، فهي أيضًا تعمل على القضية.. التوتر واضح وضوح الشمس عليها، ألقت التحية على طبيب التشريح و أخذت آلاء تتحدث معها بانفراد.. تساءلت الأخرى باستفسار لتوترها الزائد:
” في إيه ؟ مال وشك مخطوف كده “
ابتلعت ريقها بصعوبة و تفحصت المكان بعينيها جيدًا قبل أن تظهر شيء يقلب موازين القضية.. أخرجت من جيبها
« سوار انسيال رجالي فولاذ مطلي بلاتينيوم»
همست بلسانٍ جاف و بوجهٍ شاحب:
” انسيال آدم ابن خالو شكري، اللي.. اللي أنا جبته له في عيد ميلاده من شهرين، فاكرة ؟
أنا عارفاه كويس.. أنا اللي اخترت التصميم بتاعه “
تساءلت آلاء بعينين متسعتين من الصدمة:
” أنتِ.. أنتِ لقتيه فين و جبتيه منين ؟! “
” مش هتصدقي يا آلاء، أنا لحد دلوقت بحاول استوعب.. لقيته و أنا بعاين مكان الجريمة، خدته بسرعة من غير ما حد ياخد باله.. إيه اللي ودا انسيال آدم هناك إلا لو كان… ! “
مسحت آلاء وجهها بتعبٍ و تنهدت بِحيرةٍ هامسة بخفوت:
” مينفعش نسكت يا فاطمة.. شغلنا مفيهوش عاطفة، أنا قلبي موجوع اكتر منك والله دول اخواتنا و حتة مننا، بس مينفعش نخون ميثاق المهنة “
” يعني هنعمل إيه ؟ هنسلمهم بنفسنا ؟! “
هتفت بها فاطمة بعدم تصديق لما يحدث، فقالت آلاء بحزنٍ:
” مقدمناش حل تاني غير إننا نوريهم الدليل اللي معانا.. الست اللي ماتت دي لازم حقها يجي، لو سكتنا يا فاطمة هنضطر نسكت عشان حاجات تانية كتير، اللي بيسكت عن الحق مرة هيتعود يسكت كل مرة.. ادي الانسيال للمحقق اللي شغال معاكِ عشان يشوف شغله مع الشرطة و يبدأ يستدعي المشتبه فيهم و يحقق معاهم.. الحق بيظهر في النهاية يا فاطمة، بلاش نودي نفسنا في داهية معاهم “
رمقتها فاطمة بدموع و قالت باصرار على الرفض:
” آلاء.. فكري فيها تاني كده.. لو آدم راح في داهية، عثمان أخويا هيروح معاه.. آلاء أنا آسفة بس أنا مش مستعدة أخسر أخويا “
” طب ما الست المسكينة خسرت حياتها.. اشمعنا هي يتسكت على حقها و أخوكِ يعيش !
اللي غلط يستحمل غلطه و يتحاسب.. دي روح.. بني آدم، حرام لو سكتنا عن حقها، هيفضل في رقبتنا ليوم الحساب، و ساعتها لا أخوكِ ولا عاطفتك ولا أي حد هينفعك.. اديهم الانسيال و سيبيهم يشوفوا شغلهم، الله أعلم يمكن ميطلعش بتاع آدم و نكون وجعنا دماغنا على الفاضي “
بكت رغمًا عنها و أردفت بحسرة:
” الانسيال بتاع آدم يا آلاء، خدت بالي إنه مكنش في ايده و إحنا على السفرة النهاردة.. أنا، أنا هتصرف “
صاحت بها بنفاذ صبر:
” هتعملي إيه يعني ؟ هتلبسيها أنتِ بدالهم ؟ “
ردت فاطمة بنفي و بدون تردد:
” هكلم قابيل “
” تاني قابيل يا فاطمة ! تاني زفت ؟! “
” آلاء أنا بحبه و مش قادرة أنساه، و أنا متأكدة لو كلمته هيلاقي حل و يساعدني “
” أنتِ حرة يا فاطمة اعملي اللي أنتِ عايزاه، بس قابيل غدار و نفسه و مُنى عينه يقلب الدنيا دي دم و قتل، ده واحد الاجرام ماشي في دمه، ها تستنجدي بيه ؟ “
” قابيل مش وِحش، بس الزفتة اللي مربياه هي اللي عاملة فيه كده، لكن قابيل كويس و لولا إنها بعدته عني، كان زماننا لسه مع بعض، أنا متأكدة إنه لسه بيحبني، زي ما أنا لسه بحبه “
” أنتِ شكلك كده اتهبلتي و مخك اتلحس، أعملي اللي أنتِ عايزاه، كل واحد يشيل شيلته، بس افتكري إني قولتلك بلاش “
قالتها آلاء بلهجة صارمة، ثم تركتها و اتجهت لعملها.
… في فيلا المعلم « عوض»، انقضت الشرطة عليهم بداخل الفيلا، و هتف ضابط يوجه سلاحه عليهم جميعًا:
” ارفع ايدك أنت وهو.. يلا “
تمتم قابيل بغيظٍ منه:
” أنت بروح أمك هتعملهم علينا “
و مال سلطان على كرم هامسًا باستخفاف:
” مفكر نفسه في مدرسة السعدية بنين، فاكرنا تلامذة عند مديحة أمه، مش أمه برضو اسمها مديحة ؟ “
رد « كريم» يبتسم بعينيه الخضراوان قبل فمه قائلًا:
” متغلطش في طنط ديحا، دي زي السكر والله، ناقصها بس رشتين فانيليا و نعمل منها أحلى كيكه “
دخل الضابط و المدعو « محمود» و الذي يبلغ من العمر اثنان و ثلاثون عامًا، و مثلما يوجد ضباط شرفاء يوجد أيضًا ضباط معدومين الضمير أصحاب رشاوي، و « محمود» واحد منهم، لا يهمه القبض على المجرمين بقدر ما يهمه الحصول على رشاوي منهم بمبالغ طائلة ليجعلوه ضامن لهم و مساعد في أعمالهم المشبوهة، و المعلمة « زينات» استطاعت بذكائها شراء هذا الرجل.. لقد أقام معها علاقة غير شرعية بطلب منها هي، و قامت بتصويره فديو دون علمه، لتهديده به متى شاءت أو عندما يخل بوعوده و أداء أعماله معهم..
أخبرته « زينات» بأن يتهيئ للهجوم على فيلا عوض أثناء تواجد رجالها الخمسة هناك، و كانوا هم على علم بالخطة، و عندما يهجم عليهم، يساوم عوض على أمرين، إما أن يقبض عليه بتهمة الاتجار بالأعمال غير المشروعة، أو يعطيه ضعف المال الخاص بـِزينات، و بالطبع سيوافق عوض بقلة حيلة، لأن وجوده في السجن يعني انتهائه من سوق العمل.
أعاد الضابط محمود قوله بصرامة:
” نزل سلاحك أنت وهو على الأرض، و ارفع ايدك “
امتثلوا جميعًا لأوامره بالأخص الخمسة مهددين ليجعلوا الأمر حقيقي و ليس مدبر منهم.. ازداد التوتر على عوض وهو يقول:
” إحنا معملناش حاجة يا محمود بيه، ده شغل بيني و بين الرجالة “
وجه «محمود» معروف بين رجال الشرطة بعنفه ضد المساجين، و طريقته الصارمة في التعامل، و حقوق الإنسان يبدو أنها غافلة عما يحدث داخل السجون تلك الأيام، هل لأن الإنسان أصبح لا قيمة له ؟ أم لأن الإهمال زاد عن حده ؟ لا أحد يعلم، أو ربما يعلمون كل شيء و يتجاهلون الأمر.. واقعٌ مرير يَحِفُنا جميعًا، ولا مفر منه.
نظرة « باشا الباشوات» له بدت مستشيطة غضبًا كأنه يود قتله لجعله يرفع يديه مثل الأبلة هكذا، لقد فعل ذلك فقط لأجل خطة زينات، لكنه في العادة لم يسبق له و أن سار بأوامر من أحد، و الآن هذا الوغد من نظره يخبره بأن يرفع يديه !
وزع محمود نظراته عليهم باستهزاء، و عندما جاءت عينه في عين « باشا» أدارها سريعًا خوفًا من نظراته التي تشبه الثعابين التي يعتني بها و يربيها.
هتف « محمود» موجهًا حديثه لعوض:
” إيه يا معلم عوض ! مش ناوي تهدي اللعب شوية ؟! “
رد عوض بتوتر:
” يا محمود بيه قولت لك مفيش حاجة، ده مجرد شغل بيني و بين الرجالة “
” و الشغل ده بقى عن أسلحة و آثار متهربة لبرا عن طريق البحر.. مش كده ؟ “
تلاعبت نظرات عوض بالارتباك، و أردف ضاحكًا محاولًا تخفيف حدة الموقف:
” أكيد اللي بلغك وصلك البلاغ غلط.. إحنا ملناش في الشمال يا بيه “
نفذ صبر « باشا» كُليًا و أنزل يديه هاتفًا بتعصب للضابط:
” ما تخلص بـ * أمك أنت كمان.. أنت لسه هتلوك لوك معاه ! شغل النسوان ده.. انجز عايز أمشي “
نظر له « سلطان» بدهشة في مشهد أقل ما يقال عنه هزلي، و لم يستطع « كرم» تمالك نفسه من الضحك على مظهر « باشا» وهو يتحدث بعصبية و مظهر « عوض» وهو يتبادل النظرات الصادمة مع « محمود»، بينما
« وسيم» هتف يشجع قرار أخيه الأكبر:
” الله عليك يا سيدي قلبك داب في ايدي، هو ده الكلام ولا بلاش.. أيوه انجزونا بقى عاوزين نمشي، إني أشتاق للجلوس في البانيو، و ربنا اشتاق.. عايز أغير ملاية السرير، نسيت اغيرها قبل ما أطلع “
بينما « قابيل» أنزل يديه مثل « باشا» قائلًا ببرود:
” محمود.. متعملش فيها ظابط شريف، انجزنا “
رمقهم محمود بعين التحذير، بينما عوض تساءل في غباء:
” ينجز إيه ؟ هو في إيه ؟! “
” ما تشغلش أنت بالك يا عوضيتش، ده حوار كده برا عنك مش هيكلفك غير اتنين مليون دولار غير الاتنين بتوعنا “
هتف بها « سلطان» ضاحكًا، بينما « باشا» جلس مُباعدًا المسافة بين فخذيه كعادته في الجلوس، يجلس بأريحية تامة كأنه في بيته، و قال بنبرته التي تبدو قاسية دون إرادته:
” بص يا عوض، كلمتين و رد غطاهم عشان أنت عارفني مبحبش اللت و العجن الكتير “
ثم سكت فجأة و التفت لقابيل قائلًا:
” قول أنت الكلمتين عشان مكسل “
تبدل وجه قابيل للابتسامة الساخرة، و تابع جالسًا بجانب أخيه واضعًا قدم فوق الأخرى بغرور:
” إحنا شغلنا معاك خلص لحد هنا يا عوض.. حقنا و خدناه خلاص، حق الحكومة فين بقى ؟ “
” حكومة إيه ؟ قصدك إيه يا قابيل ؟! “
تساءل بها وهو يوزع نظراته على الضابط محمود و على الأخوان باشا و قابيل بعدم فهم، تابع الأخير بعدما أخرج سيجارة من علبته و أشعلها:
” محمود مستعد يبيتك في الحجز النهاردة، و لو جبت اتخن محامي مش هيحلك منها، أنت عارف صيت زينات واصل لحد فين و تقدر تلف المشنقة حوالين رقبتك، فعشان الحركة الـ * اللي أنت عملتها معانا و عضيت الايد اللي اتمدت لك، عملنا لك عقاب صغير كده يفوقك.. تقدر تعتبرها قرصة ودن.. الحكومة عاوزة منك اتنين مليون أخضر غير بتوع المعلمة، و يا دار ما دخلت شر “
صاح في دهشة غير مستوعب ما يقولونه:
” اتنين مليون إيه ! أنتم أكيد بتهزروا.. أنا معييش المبلغ ده دلوقت “
” بيع كلاويك “
قالها « باشا» بابتسامة جانبية مستهتر بالأمر، ثم أخذ سيجارة من أخيه و بعدما أشعلها، سحب نفسًا منها و نفث دخانها بلا مبالاةٍ لما يحدث، ليتابع ببرودٍ أكثر:
” نصيحة يا عوض.. بعد كده لما توعد حد بحاجة، يا تكون قد كلامك يا تخلي كلامك على قدك “
وضع عوض كلتا يديه على رأسه، لا يعرف مالذي يتوجب عليه فعله الآن وهو محصور بين أكثر من زاوية.. قال محاولًا استعطافهم:
” بس أنا مش حاسس بالغدر منكم.. أكيد ده مقلب.. صح ؟ “
رد « باشا» وهو ينفث الدخان باستمتاع:
” طب لما تِحس ابقى اديني حِس “
و تدخل الأخ الأصغر « كرم» و الذي يدخل الانجليزية في معظم حديثه بطريقة فكاهية:
” ما تنجز يا معلم.. لا تسوي نفسك important و أنت حتة nothing لا راحت ولا جت “
زفر « عوض» بضيق و نظر للضابط يتوسله:
” أنا من وجهة نظري يا محمود بيه نشوف حل تاني غير موضوع الفلوس و السجن “
تدخل « وسيم» الذي يود من صميم قلبه الهروب للمنزل الآن:
” يعني دي وجهة نظرك ؟ “
” أيوه “
” طب شيلها عشان هنرش ميه، شامم ريحة يع يع في الجو “
اقترب « كرم» من « باشا» هامسًا له بدلال طفولي عليه:
” ما تجيب سيجارة “
رد « باشا» بنفي قاطع:
” أنت ليك سيجارة في اليوم، و شربتها الصبح.. مفيش تاني “
” طب آخر واحدة والله.. عشان خاطري يا باشا “
اتضح الحنان في نبرة « باشا» وهو يقول بخوفٍ عليه:
” خاطرك عندي أغلى من حياتي، عشان كده بقولك لأ.. أنا خايف عليك يا * “
تراجع مكانه و قال بتهديد مزيف:
” على فكرة أنا ممكن أشرب من وراك و من غير ما تعرف “
” أنت عمرك ما خبيت عني حاجة، و ثقتي فيك تخليك متعملش حاجة من ورايا أنا منعتك منها “
” طب هصاحب بنات امتى يا باشا.. أنا ريقي نشف، اشمعنا سلطان “
رد قابيل يضربه بخفه على شعره الأشقر:
” عشان أنت لو صاحبت هتحب و تقرفنا و إحنا مش بتوع حُب، الحُب بالنسبة لنا إحنا الخمسة كبيرة من الكبائر، أما سلطان مش بتاع حُب، آخرة ليلة مع واحدة من الشارع، و تاني يوم يصحى مش فاكر اسمها.. خليك زي وسيم كده، اللي يقرب منك ارقع بالصوت “
ضحكوا الأربعة، عدا باشا الذي رفع يده قائلًا بأمر لهم كأنهم جهاز كمبيوتر عنده:
” كملوا.. دي كانت لقطة أخوية متاخدوش في بالكم.. كمل يا عوض “
تنهد عوض بقلة حيلة يردف:
” المبلغ اللي أنتم طالبينه كتير أوي يا باشا “
” ميغلاش على الحكومة يا عوض، و لا عاوزهم يعني يقولوا علينا إننا مش وطنيين ؟ “
أخفض رأسه يفكر بحيرة، و عندما لم يجد الحل، قام بإعطائهم المال المطلوب وهو على وشك البكاء.. أخذوا حقائب المال التي تجر بعجلات منها، و قبل الخروج من البوابة، استدار له « قابيل» بنظرة ماكرة مُلقي عليه تحية استخفاف و استهزاء بيده جانب رأسه مثل تحية الجيش، هاتفًا:
” كان نفسي أقولك قلبي معاك بس معنديش قلب.. إلى اللقاء يا عوضيتش “
بعدما خرجوا جميعهم، ظل عوض يضرب بقدميه الأرض و يتوعدهم بداخله صائحًا بغيظ:
” ماشي يا زينات أنتِ و ولاد الحرام بتوعك دول.. أنا هحرق قلبك عليهم “
بعدما وصلوا لفيلا المعلمة « زينات» حينها كانت تسكب لنفسها كأسًا من الخمر، و عندما سمعت أصوات مجيئهم، تركت ما بيدها و اتجهت تستقبلهم بابتسامة واسعة قائلة:
” طول ما الرجالة بخير زينات بخير.. ها طمنوني.. طمني يا باشا كله تمام ؟ “
سألت « باشا» أكبرهم، فأومأ لها و نهض تاركًا إياهم، ليقول بهدوئه المعتاد:
” أنا مروح “
” بالسرعة دي ! طب اقعد الغدا بيجهز “
” أنتِ عارفة إني بحب أكل في بيتي “
نهض « كرم» يحتضنه بحنانٍ أخوي مردفًا:
” خليك معانا النهاردة “
ربت « باشا» على ظهره بحنوٍ، ليردف:
” مبحبش هنا يا كرم “
” طب اجي معاك ؟ “
” بطل زن بقى، ما أنت عارف إني بحب أبقى لوحدي، اومال أنا عايش لوحدي ليه “
” طب خلي بالك على نفسك “
لثم « باشا» جبينه برفقٍ قائلًا بنبرة عالية:
” أي حد يضايقك أو يفكر بس يزعلك، إخواتك عندك أهم هيكسروا عضموا في لحموا.. حد من إخواتك زعلك رن عليا هتلاقيني عندك، حتى لو المعلمة نفسها “
اختلست زينات النظرات عليهما في صمت، فعندما يأتِ سيرة و اسم « كرم» في أي شيء يقوله « باشا» لا تستطيع هي التعقيب.
منذ دخولهم الفيلا، و اختفى « وسيم» عن الأنظار تمامًا، ترك كل شيء و اتجه للحمَّام يغسل جسده و يده أكثر من مرة، و عندما انتهى، أحس بأنه لم يستحم جيدًا فأعاد الاستحمام كاملًا من أوله.
في الأسفل قد غادر « باشا»، و أعطت
« زينات» نسبة من المال للضابط محمود، أخذها و غادر.. بينما « سلطان» اتجه لغرفته يستقبل أعز ما يملك.. انهال عليها بالقبلات يحتضنها و يضمها له بشوقٍ كبير قائلًا لها وهو ما زال يُقبِّلها:
” أحلى سندس في الدنيا.. نسوان العالم دول مجوش حاجة جنب فروك الأبيض الناعم ده “
« سندس » هي قطته المهووس بها و يُحبها أكثر من أي شيءٍ آخر، حتى أكثر من النساء.
لم يتبقَ سوى « قابيل» الذي تمدد بتعب على الأريكة، فجاءت « زينات» و جلست بالقرب منه تمد يدها لتفك أزرار قميصه، فأبتعد عنها و أبعدها باعتذار أشبه بالهروب:
” معلش يا زيزي، محتاج أرتاح شوية.. طالع أنام “
نهضت خلفه و أجبرته على ارتكاب الفاحشة بعد الإلحاح الكثير عليه.. إمرأة تبوأت مقعدها في النار.
في اليوم التالي يستيقظ جميع من بالفيلا على خبر كالصاعقة وقع فوق رؤوسهم، حتى رجال الحراسة أحسوا بالرعب من صراخ زينات كالمجنونة على جميعهم.. قامت سريعًا بمكالمة
« باشا الباشوات» كان حينها يسقي الورد في حديقته.. عندما فتح المكالمة، صرخت هي في وجهه:
” الحقنا يا باشا.. سلطان مش لاقينه، فص ملح و داب.. تليفونه مقفول.. أول مرة يختفي فجأة من غير ما يقول أي كلمة، الواد تليفونه أول مرة يتقفل يا باشا.. سلطان راح، عوض اللي عملها.. مفيش غيره هو اللي عملها “
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية حصب جهنم)