روايات

رواية لأنه موسى الفصل السادس 6 بقلم ماهي أحمد

رواية لأنه موسى الفصل السادس 6 بقلم ماهي أحمد

رواية لأنه موسى البارت السادس

رواية لأنه موسى الجزء السادس

لأنه موسى
لأنه موسى

رواية لأنه موسى الحلقة السادسة

شَهقت السَماء

أحيانًا هُناک وجوه تُترک كالحِبر
على الروح لا يُمكن أن تَمر مرور الكِرام
بَل تُصبح كَوشم وَهمِي لا يُبهت
مَهما تَمُر عَليه الفصُول
أغرقوا ال موسى بنجومكم ⋆
دَعمكم هو وقودي للأستمرار
⋆ ⋆ ⋆ ⋆
⋆ ⋆
⋆ ⋆ ⋆
ولأَنهُ موسَى
𝒜𝓃𝒹 𝒷𝑒𝒸𝒶𝓊𝓈𝑒 𝒽𝑒 𝒾𝓈 𝑀𝑜𝓊𝓈𝒶
. —————————— .
———————
أهتَزت النَافذه بِفعل الريَاح الشَديده العَنيفه وقَد سَرت بِروده عَلى طول عمود ” أدم ” الفَقري فأتَخذ
وَضعية الجَنين يَشد الغِطاء أكثَر نَحوه ، مَدينة السويس تَصبح بَارده حِينما يَحل الشِتاء وَلطيفه بِموجَات حَارقه في فَصل الصَيف وكَأنها تُعطي لِكل فصلٍ حَقه ، شَعر بِباب الغُرفه يُفتح فَرفع رأْسُه
“ادم ، واد يا ادم ”
لَقد كَانت السَيده “نعيمه ” دَخلت الى حُجرتُه وصَكت البَاب فَشعرت بِبروده تَلفح جَسدها طَقس هَذه الأيَام بَارد لِلغايه ورُبَما يُنذر بِتساقُطات أشد مِن سَابقتها ، شَهقت السَيده ” نعيمه ” شَهقه مَكتومه واتَسعت عينَاها حينَ لَمحت النَافذه مُشرعه عَلى مِصرعيها والهَواء يَصفع السَتائر بِعُنف يَنتقل بِها مِن جَانب الى أخر ، مَدت كِلتا يَديها لأغلاقِها تَنبس بِبضع كلِماتٍ بِنبره مُلامه
” بقى كده يا أدم ، سايب البلكونه مفتوحه في عز البرد ده .. كده تبرد يابني ”
” نِفسي أشوف التلج بينزل في السويس مره يا امي ”
هَكذا نَبس ” أدم ” بِنبره هَادئه يُصاحبها أبتِسامه ، شَددت السَيده “نعيمه” الوشاح حَولها تَسير بِبطء نَحوه وجَلست بِالقرب مِنهُ بِبسمه بِها شىء مِن الرَاحه ، لِتقول بِنبره بِها بَعض مِن التَوتر
” باين عليك هديت يا ادم ، مش هتقولي بقى ايه اللي بينك وبين اللي مايتسماش سعد ”
بَللت شَفتيها ، فَلمحتهُ يَقبض عَلى يَديه بِقوه حَتى أبيَضت بِراجمهُ
اختَفت أبتسَامتُه ، وأنقَبضت مَلامحُه وشَعر بِطعمٍ أجاج في حَلقُه ، رَأت هي تَخبُط مَلامِحُه وَكأنُه يَتخبط بَين شَيئين ، فأخذت تُلاعب طَرف كُمها بِتوتر تُغير الحَديث لِتردف
” تـ.. تلج ، تلج ايه ياولا اللي عايزه ينزل في السويس .. دي السويس دي عباره عن جبال محوطاها من كل حته ده يوم ماتمطر بيبقى عيد ، تقولي تنزل تلج ”
فَتح ثَغرُه بأبتسامه ليُعقب
” ياماما بقولك نفسي ، نفسي ”
أنحَرف ثِغرها في أبتِسامه ، واتَجهت نَاحيه الخِزانه تُفتش بَين الملابس عَلى القطع المُتسخه
“خلاص ، خلص انتَ امتحاناتك بتاعت نص السنه وانا هخليك تسافر عند خالتك عفاف في اسكندريه ، وابقى شوف التلج براحتك ياعم مبسوط كده ”
ثُم تَمتمت هامسه مِن بَين شَفتيها تُزمجر
” شوف ، شوف الواد “انس ” رامي هدومه الوسخه في قلب الدولاب ازاي ، الا ما هاين عليه حتى يحطها في الغسيل ، طيب وحياة أمك يا انس ما انا سيباك ”
حَملت المَلابس بَين يَديها تَتجه بِها الى الخَارج وهَي تَخبرُه :
” قوم ، قوم يلا عشان نتغدا بره خالتك وداد خلاص بتحمر الفراخ وهنغرف ”
تَحرك ” أدم ” عِند زاوية الفِراش يَسند وجهه بَين كَفيه سائلاً
” أنتِ عملالنا ايه النهارده ”
تَراجعت تَنظر نَحوه بِحماس شَديد تُسايرهُ فَقالت
” عملالك حلة محشي كرنب تستاهل بوقك ”
قَاطعهما دخول ” أنس ” الذي مَازال يَمط بقميصه
الى الأسفل قائلاً
” أيوه افضلي دلعي فيه أنتِ كده ، وانا لما اقولك روحي هاتيلي بنطلون تنفضيلي ولا تسألي فيا ”
اتَسعت عيناها بِتفاجؤ حينَ وَجدته مَازال على حَالته
” لهو أنتَ لسه ماشي بفخادك ياموكوس ، كُنت فين كل ده ياولا ”
اتَجه ناَحية الخِزانه يُغير لِباسه لِقميص أخر بُني فَاتر والذي يُشابه لَون عيِناه في عَسليتهُ يُقال أن هَذا يُميزهُ كَثيراً فِي مَنطقتُه ثُم أخرج بِنطال يُلائم قَميصُه قَائلاً
” فارقه معاكي اوي ياما كنت فين ”
نَفض بِنطاله بِوجه السَيده “نعيمه ” يُتابع
” كُنت في الحمام محبوس جوه الا اما حد فيكم جه عبرني ”
تَراجعت خَطوه لِلخلف مع نَفضة بِنطاله ولم تَستطع كَتم ضِحكتها تَخبره
” والله يابني ما كنت فيقالك كان كل همي اطمن عليك أنتَ واخواتك ”
أنخَفضَ بِجسدُه حتى تَسطح جَسده يَستند على طرف الفِراش يَرتدي بِنطاله
” واطمنتي يانعناعه ، فيها ايه يعني لو كنتِ جبتيلي اي بنطلون من جوه هيجرالك ايه يعني مش فاهم انا ”
رَفعت بَصرها نَحوه وقَد تَوقفت عَن تَحريك الملابس بين يَديها
“الطم منك يعني يا انس ، ما خلاص ياولا في ايه ، قولتلك مكنتش فيقالك ، خلصنا ، ويلا انتَ وهو عشان ابوك مستنينا بره على الغدا ”
همهم “ادم ” بِصوت كالحَسيس
” أيوه يا أمي بس أنتِ عارفه اني ماليش أوي في المحشي ”
أقتَربت مِنه أنشًا تَلقي بِالملابس عَلى الأرضيه تَخبرهُ بِحماس
” ودي برضوا تفوتني يا أدومه ، ده انا عملالك جنبها ملوخيه خضرا وشاهقه عليها حتة شهقه من اللي قلبك يحبها هتاكل صوابعك وراها ”
أخفَض رأْسه قَليلاً يَدعي البراءه ليُعقب
” وعايز لحمه مش فراخ ”
نَبست بأبتِسامه لَطيفه وأشَارت بأبهامها نَحو عينيها
” بس كده حبيب ماما ، عيني يابا ، عيني ، ده أنتَ تؤمر بس”
اقتربت “نعيمة” من “آدم” بِخفه دافئةٍ تعرف مَلامحُه كَما تَعرف خطوط يَديها هَمست له بِنبرة تَمنحُه الأمَان:
“تعالى ياحبيبي ، تعالى ده انا عملالك الأكل اللي انتَ بتحبه خَليك جنبي عشان أدلعك واكلك واعملك اللي نفسك فيه ”
ابتسم “آدم”، تلك الابتسامة التي لا تأتي بسهولة، لكنها حين تأتي تُزهِر المكان ، وتَحرك ناحية البَاب ، ليَقطعه حَديث “أنس” قائلاً
“أيوه يابا ايوه .. مين يلاقي الدلع ده كله ومايدلعش ”
ثُم دَحرج عينيه للسَيده “نعيمه ” قائلاً
” مش معنى انا ، ده أنتِ يوم مادتيني صدر الفرخه كنتي عايزاني اعملك مقام ، مش ناويه تحني علينا وتدلعينا زي مابدلعيه بقى ”
ضَربت على كَتفه بِخفه قَائله
“بس ياولا ، ادلع فيك ايه وانتَ شحط كبير اهوه ”
حرّك ” أدم ” جَسده بِخطى هَادئة نَحو البَاب، ولَحقت بِه السَيده “نعيمة” تَسير خَلفه عَن قُرب تُغني لهُ بِصوتٍ مُنخفض كَأنها تُسقي قَلبه المَفطور بِالماء:
” أدلّعك يا أدومه .. يا حتّة م القلب يا دومي
أدلّعك يا نجمايّه .. يا حتّة فوق ف سمايا
أغنّيلك يا ضيّ عيوني .. وأحطّك ما بين جفوني ”
انفَرجت ضِحكتُه أكثَر، دونَ أن يَلتفت، وكَأنها تَعرف طَريق الوصول إليِه دون أن تَنظر في وجَهه
مد “أدم ” يده بخفة وهَو يَخطو خارجًا، ليَلمس الحَائط كأنُه يَمرّ بِيدُه عَلى ذِكريات قَديمة، ثُم أكمَل سَيرُه ”
بَينما “أنس” ظَل واقفًا، ساكنًا يَتأملهم ، لم يَكن في عيِنيه سوى مودة خَالصه عيَناه تابعتا خَطوات “آدم”، وابتسامتُه، وحركة والدتُه خَلفه، ابتَسم بِتأثر ، تِلك الابتسامة التي لا تُطلب ولا تُفتعل، بَل تُنبع مِن مكانٍ نَقيّ ، وحيَن غابا عن عيِنيه ، بَقي واقفًا للحظةٍ، كَأن شيئًا دافئًا مرّ مِن قَلبه بِهدوء
⋆. . ⋆.
لَمحت ” سمر ” بِطرف عينيها والدتها ” وداد ” تَقف أمَام المَوقد تُحمر قِطع الدَجاج المُتبقيه لِلغداء ، أقتَربت مِنها بِهدوء ولَم تَتردد بأخبَار والدتَها عَما حَدث مُنذ قَليل ، فـ ” وداد ” ليسَت فَقط بِمثابة الأم لَديها بَل هَي صَديقتها الوَحيده كَذلك ، طَالعتها ” وداد ” لِلحظات وبمُجرد رؤيتها عَلمت بِأن هُناك خطبٍ مَا بِأبنتها ، دَحرجت عينيها نَاحية الطَبق النحاسي تُقلب بَين قِطع الدُجاج المَغموره بالزيت السَاخن عَلى المَوقد
“خير يا أخرة صبري ، عايزه تقولي ايه ”
هَتفت ” سمر ” بِما لَديها ، لا تَزيح بَصرها مِن عَلى الطَبق النِحاسي وَهي تَضحك تُكاد تَختنق مِن كَثرة الضَحك تُخبرها بِنبره مُتقطعه
” والله زي ما حكيتلك كده يا أمي ، ببص لاقيت انس داخل عليا بيتسحب بالشورت الابيض البفته على قميص چينز ، وشغال يُمط فيه ، يُمط فيه ، ولا لما شافني ياخرابي شويه وكان هايروح فيها ”
“وأنتِ بقى عملتي أيه لما لاقتيه داخل عليكي يافالحه ”
كَانت السَيده ” وداد ” تَتحدث بِسخط بَينما ” سمر”
أجابتها بِصوتٍ هَامس
” وربنا شويه وكنت هموت من الكسفه يا امي ، ووشي ده كان شويه وهيقلب بتنجاني ، مايغركيش اني بضحك دلوقتي ومش قادره امسك نفسي من كتر الضحك بس كل اما افتكر شكله وهو بالشورت البفته مابقدرش ماضحكشي ، بس وقتها كنت هموت من الكسفه بجد ”
قَلبت السَيده ” وداد ” نَظرها نَحو الجَانب الأيمَن حيثُ الرفوف الخَشبيه ، قَطبت حَاجبيها وشَردت لِلحظات مِما جَعل صَمتها المُريب هذا يَثير قَلق أبنتها ، تَفرقت شَفتي ” سمر ” بِتأثر حينَ سألتها
” سرحتي في ايه يا امي مره واحده ”
وَضعت السَيده ” وداد ” اصَابعها عَلى شَفتها السُفلى بِتفكير
” ينيلك يانعيمه لاهو أنتِ لسه لحد دلوقتي بتلبسي العيال الشرات البفته ”
أقتَربت “سمر ” مِنها في شَىء مِن الحِيره
” هو ده كل اللي شاغلك ياوليه ، الشورت البفته ”
نَظرت لهَا “وداد” بِابتسَامة، ورفَعت قِطعة الدجَاج مِن الزيِت السَاخن، ووضَعتها جانبًا
” بصراحه اه .. اصل انا ونعيمه كنا على طول وانتوا صغيرين بنلبسكم زي بعض ”
سَألت بِلهفه دونَ سَابق أنذار مُسبق
” يادي الفضايح ، وانا كمان ياماما كنتي بتلبسيني شرات بفته ”
نَبست بِأبتسامه مُتكلفه وسَخط
” ومالها يابت الشرات البفته دي حتى كانت بتتحمل وبتشرب كتير ”
مَسحت ” سمر ” على شَعر والدتها وكَانت تَقف خَلفها تُخبرها بِأبتسامه زائفه
” لا ياحبيبتي مالهاش ، الحمدلله اني كبرت ”
استدَارت نَحوها بِنظره حَانيه لُتنزل “سمر ” يَديها
ولا زَالت تُطالعها بِنفس الأبتِسامه
“ادلعي ياختي ادلعي هو انتوا بتعرفوا تلبسوا الايام دي أشي أوت فته واشي ابصر ايه ناسيه اسمه المستر البتاع ده اللي بتحطوا على وشكم وحالتكم حاله”
تَحدثت “سمر ” بِأبتسامه مَليئه بِالمشَاعر لِتربت عَلى كَتف والدتها وكَانت على وَشك أن تَضع يَديها الثَانيه عَلى الكَتف الأُخرى قَائله
” ياماما ياحبيبتي اسمه out fit مش فته والتاني اسمه mostrizer وبعدين ايه اللي جاب ال out fit للشرات البافته بس ”
ضَربت “وداد ” يَدها بِخفه مُبتعده عَنها
” ياختي اوعي ايدك كده هو انا حملك ”
وَعند هَذه الكَلمه أبتَسمت ” وداد ” بِمكر تُعيد الحَديث وكَأنها تَذكرت شيئًا
” بس تعرفي يابت ياسمر الواد انس ده طول عمره مفضوح مش جديده عليه يعني
فاكره لما كنتوا عيال صغيرين وكان بييجي ياخدك الصبح عشان تروحوا المدرسه سوا ”
قَطبت ” سمر ” حاجِبيها تُحاول التَذكر
” أمتى ده ”
أقبَلت نَحو الأطبَاق مِن جَديد لِتوزيع الطَعام عَلى الأطباق الخَزفيه
” يابت لما كنتوا في ابتدائي في مدرسه ١٥ مايو اللي في مساكن شل انتِ نسيتي ولا ايه ”
أومَأت مُسايره حَديثها
” اه ، اه افتكرت لما كان أول ما يشوفني يتلبخ ويقع في الطين، وطنط نعيمه تصوت من البلكونه وتقولوا اطلع ياموكوس، ده أنا لسه محمياك”
أومَأت السَيده “وداد بِجديه مُزيفه
“عليكي نور ، اديكي افتكرتي اهوه ”
وَهنا ابتَسمت “سمر” بأستِمتاع ، لأنَها تَدرك جَيداً صِحة ما تَقوله والدتِها وأصبَح وجهها يَحمر شيئًا فشيئًا.
“آه، تصدقي ، نسيت دي خالص”
“ايه اللي نستيته خالص ده يابت ياسمر ”
هَتفت بِها السَيده ” نعيمه ” حينَ دَخلت الى المَطبخ فَجأه بِصوتٍ مُرتفع ليَبلغ حَديثها مَسامعهُم بَينما وَجدت السَيده ” وداد ” تُتابع قَلي الدَجاج
تنَاثرت قَطرات الزيِت في كُل مَكان، فَأصاب بَعضها المَوقد وأجَزاء مِن المَطبخ فَحثتها السَيده “نعيمه ” بِقول
“وطي إيدك في الزيت يا وداد عشان الفراخ ماطرطش علينا ، المهم كنتوا بتقولوا إيه ”
مَنحتها “وداد” أبتِسامه دَمثه تُعقب بِتؤده وهي تَضع قِطعة الدُجاج جَانبًا :
“بعدين يانعيمة، هبقى أحكيلك… المهم ولعي على الشوربة لحسن بردت”
التَفتت السَيده “نعيمة” تَبحث عَن عود ثِقاب بِداخل الدُرج وأخرَجت عُلبة الكبريت ، ثُم أشعَلت عودًا تَدير زِر المَوقد وَهي تَقول
“تعبتك معايا يا وداد ”
أخَذت السَيده ” وداد” تَبحث بِعينيها عَن الطَبق، ثُم التَفتت إلى “سمر” تَشير بِرأسها نَحو الأعلَى.
“بت يا سمر، انتي طويلة، مدي إيدك هاتي الطبق اللي فوق ده”
ثُم أرجَعت عينَاها نَحو السَيده ” نعيمة ” ، تَومأ تَشير بالشوكه نَحوها مُبتَسمه
“ما إيه الجديد يعني يانعيمة ، ما طول عمرك قرفاني معاكي، جت على النهارده يعني”
وَضعت السَيده “نعيمة ” قَدر الشوربه الَكبير فَوق الموقد، ثُم علّقت وهي تَضحك:
“شوفي الوليه ، تصدقي أنا غلطانة إني بقولك كلمة حلوه … والله ما تستاهليها ”
ابتَسمت تَمد كَف يَدها لِتأخُذ مَكانها بالرغم عَنها
“هاتي، هاتي، أكمّل أنا تطليع الفراخ ياوداد”
أَزاحت السَيده ” وداد ” كَف يَدها تَشير بِعينيها الى ذاك المُبرد مُقابلها
“تطليع إيه ياوليه ، خلاص دي آخر حتة… روحي انتي هاتي المخلل من التلاجة وزوّدي الجزر عشان بحبه”
أومَأت بِأنصيَاع تَتجه الى المُبرد تَفعل ما طُلب مِنها :
“ماشي، بس بسرعه شويه ياوداد ، لحسن خلاص العيال عصافير بطنهم جعرت”
خَرجت “نعيمه ” تَحمل الوعَاء المَعدني الكَبير المُخصص لِلمحشي وكَان الجَميع جالسًا عَلى الأرضيه بِأنتظَارها ، نَاولتها لـ “نوح”
“خد يا نوح، حط الصينية دي في النص يا ولا”
ألتَقطها ” نوح ” بِسهوله يَتسائل وَهو يَضعها بِالمُنتصف
“إيه يا أمي، كل ده ، وبعدين ناكل الصينية فاضية ولا ايه مش فاهم يعني ، فين المحشي يانعناعه انا بطني شويه وتنعرلي ”
أخبَرتُه وَهي تَضع مَلعقه لِكُل فَرد :
“همّك على بطنك إنت ، استنى، هجيب حلة المحشي من جوه وأقلبها فيها”
التفتَ نَظرها الى “سَماح” والدة ” شيماء” فَرأتها لا تَزال جَالسة عَلى المَقعد الخَشبي دونَ حِراك فَطلبت مِنها بِود
“ما تقعدي على الأرض يا سماح ، مستنية إيه هو انتِ محتاجة عزومة ياختي”
نَفت ” شيماء ” رأْسها لِتجيب بدلاً عَن والدتِها، بصوتٍ فيه سِمة التعالِ:
“معلش يا طنط، أصل احنا ما بنعرفش نقعد ناكل على الأرض ممكن تحضرلنا صينية ناكل لوحدنا أنا وماما على الترابيزة”
طَالعتها السَيده “نعيمة” بِغيظ، وبَدت وكَأنها عَلى وَشك أن تَشُق ثيَابها مِن شدة الغَضب
“ليه يا حبيبتي هو على رجليكي نقش الحنّة واحنا مش عارفين”
تَركتها مُتجهه نَحو المَطبخ تَعود أدراجها ومَا أن تَركَتهُم التَقطت أوذناها صَوت ضَحكات مِن غُرفة الحَج ” نصار ” وأولاده الأثنين حَيثُ خَرج ” نَصار” مِن غُرفته يَتبعهُ أولاده فردّ عَليها وهو يُربّع قَدميه:
” بُصي يا بنتي… احنا لما بنعزم، ما بنعزمش علشان ناكل وخلاص، الأكل عمره ما كان غاية، ده مجرد سبب
يعني احنا بنعزم علشان اللمه، علشان الدفا اللي بيطلع من قعدتنا سوا ، من طبق واحد، من لقمة تتقسم، من ضحكة تطلع فجأة
انتِ يمكن متعودة على الكراسي والترابيزات في بيتكم ، بس احنا هنا لينا طريقتنا… لما نقعد كلنا في دايرة، نحس إن الدنيا لسه بخير، وإن مافيش حاجه فرّقتنا
فاللمه دي عندنا مش نظام… دي روح وحياه
فلو مكانش هيضايقك ومعذره منك وسعيلنا قلبك شويه ، واقعدي معانا، وهتدوقي طعم تاني خالص… طعم الحبايب”
ضَغط “لقمان” عَلى كوب المَاء الَذي بَين يَديه سريعًا وهو يَغمزها في ذِراعها مُعتذرًا لأبِيه
“معذرة إيه يا حج بس ، شيماء ما تقصدش حاجة من غير معذرة، هي هتقعد معانا في الأرض وناكل كلنا سوا، صح يا شيماء”
أمَالت “شيماء” شَفتيها بِعدم رِضا ، ثُم طالعت السَقف في صَمتٍ
انَتظر “نصار” مِنها ردًا، لَكنها لَم تَنبس بِحرف غَمزها “لُقمان” مَرة أُخرى يَضغط علَى كَف يَدها:
“صح يا شيماء ولا لاء ما تنطقي يا حبيبتي، انتِ مش سامعاني ”
جَلست “شيماء” أخيرًا عَلى الأرضيه الخَشبيه إلى جوار “والدتها” ، تَخبرهُ بِنفاذ صَبرٍ:
“صح يا لقمان”
جَلس “لُقمان ” إلى جوارِها يَمسح على عُنقه شَعر بِأن شَيئًا يُخنقه مِن حَركتها السَفيهه تِلك فَهو بِرغم حُبه الشَديد لَها لا يَتحمل أن يَتحدث أي شَخصٍ مَهما كان مَع والدُه بِنبره شِبه مَكروهه كَنبرتها تِلك
اقتَرب “موسى” ليَجلس بِجوار “والده” ، لَكنه وجَد مَكانُه لَم يَعُد شَاغرًا
“وسع شوية يا نوح، انت قاعد مكاني”
كَانت هَذه هَمستُه بَينما طالعهُ “نوح ” يَرفع رأْسُه إليِه مُستنكرًا:
“كنت كاتب البلاطة دي باسمك يعني ولا إيه مش فاهم”
رَد “موسى” مؤكدًا يَشير بِرأسُه:
“آه، مسجلها في الشهر العقاري يا خفيف وسع بقى، وقوم اقلع الجاكيت بتاعي، كفاية مرمطة خناقة الصبح ، الا صحيح إنت إيه اللي خلاك تاخده أصلًا ”
أنتَزع” نوح” سُترتهُ عَلى الفَور يَلقيها بِجواره عَلى الأريكه ، ثُم ابتَسم بِوداعة يَفسح لهُ المَكان ويَضرب الأرضيه بيَده بِخفة:
“حبيبي يا موسى، عايز تقعد هنا مكاني لو حابب، أقوم لك خالص والله”
جَلس “موسى” مُبتسمًا، وقَال مُمازحًا:
“ناس تخاف ما تختشيش.”
ابتَسم “موسى ” حينما دَاعب أنفُه رائحة حِساء البَصل بِشكل مُكثف يُحب هَذا الحِساء كَثيراً
دَخلت السَيده ” نعيمه” وَهي تَحمل قَدر المَحشي بِكلتا يَديها ، والبُخار يَتصاعد مِنهُ بِكثافه ، يَتكسر في الهَواء البَارد ويَبدأ في التَلاشي بِبُطء ومَا أن وَصلت اليهُم مَد ” موسى ” يَديه التَقط القَدر مِنها
” عنك انتِ يا أمي ”
نَاولتهُ القَدر وأعطَتهُ المَنشفه فَقامت بِتَحذيرُه :
“امسكها بالفوطة يا موسى، لحسن سخنة مولعة، تحرق إيدك يا بني خَلّي بالك.”
لَكنُه لَم يَنتصت لهَا يَفرغ مَا بالوعاء بيَديه العَاريتين
“سبيها على الله ياحجه ”
“يلا يا وداد، الأكل هيبرد”
دَخلت السَيده ” وداد” بِخُطى هادئة، تَتبعها “سمر” وتكوّن بينهم تلقائيًا شكلٌ دائريّ، بَدا كَأنه امتِداد لِدائرة الطَعام ، البُخار المُتصاعد مِن القَدر امتَلأ بِه المكَان، لم يَكن غَزيراً، لَكنهُ كَان كافيًا ليُغيّر شيئًا في البرودة التَي تَسكُن الأجسَاد ، صَار الهَواء أقرب، واللحَظة أهدأ.
مدّ “نوح” كَف يَدُه سَريعًا، الجوع يَتقدمُه، لَكنهُ تَراجع فورًا ، حَرارة المَحشي كَانت أقوَى مِن تَوقه، فَسقطت القِطعة مِن بَين أصَابعه
“أح، سخنة أوي”
هَتف والدُه وهَو يُتابع حَركته:
“اصبر شوية لما يبرد ”
رَفع ” آدم ” بَصرُه نَحو مِكبص المَروحه الكهربَائيه بِعين مُترددة
“حد يقوم يولّع المروحة”
رَفعت السَيده “نعيمه ” رأْسَها عَلى الفَور، وكَأن الفِكرة مُستحيلة:
“مروحة إيه في عز ديسمبر ، انتوا هتشلّوني، الأكل كده هيبرد”
رَد “نوح” مُبتسمًا، وقد بَدأ في التِهام قِطعة مِن البَاذنجان:
“ما هو ده المطلوب يا نعيمة… عايزين الأكل يبرد”
تَدخل ” موسى” وهَو يَختار لهُ قِطعة أُخرى:
“بس أنا بقى ما بعرفش آكله غير وهو سخن”
فَتش الحج “نصار ” بِعينيه حَوله، لَم يَجد “أنس ” فاستغرب:
“الله ، أومّال فين أنس؟ مش قاعد معانا ليه”
دَخل ” أنس ” بِخطوات مُسرعة، وجَلس إلى جِوار والدتهُ:
“أنا جيت أهو يا حج، معلش كنت بغيّر هدومي.”
نظَرت إليِه “سمر”، ومَا إن وَقعت عيَناها عَليه حَتى فَلتت مِنها ضِحكة خَفيفة، شَحب وجه ” أنس “، يَخفض نَظرُه الى الجِهة الأُخرى.
مَال الحَج “نصار” قليلًا نَحو “نوح” ، وسَأله بِنبرة شِبه هامِسه :
“أومّال فين بشر يا نوح ، هو مش قالك إنه جاي يتغدى معانا”
أجابُه “نوح” يَرفع قِطعة إلى فَمه:
“اتصل بيا وقال إنه جاله توصيله على التروسيكل بتاعه، هيطلع له منها قرش كويس، فمعرفش ييجي”
أدَار الحَاج نَظره إلى “نعيمة” :
“شيلي لبشر منابه يا نعيمة ما تنسيش .. وانا لسه مكلم طه قالي انه جاي على اول الشارع ”
أومَأت بِرأسها دونَ أن تَنظر إليِه:
“عنيا يا حج”
” السلام عليكم ”
ألقى “طه ” السَلام فاتَجهت كل ألأنظار اليِه يَردوا لُه التحيه بِصوتٍ واحد ابتَعد “موسى ” يَشير لُه بِكفه للجلوس بِجانبه ، تَقدم “طه” بُخطى ثابته فأخبرهُ “موسى”
“ابن حلال لسه الحج كان بيجيب في سيرتك ، تعالى اقعد بقى ”
جَلس ” طه ” بِجواره ، يَلتقط قِطعه مِن المَحشي ولا زَالت عينيه مُعلقه عَلى البَاب
“سايبين الباب مفتوح كده على طول اي حد يدخل من غير استأذان ”
أجَابه الحَج “نصار” بِنيه صَافيه
“وماله يابني ، اللي يقصدنا بابنا مفتوحله في اي وقت ، وبعدين اهل الحاره كلهم اهلنا وحبايبنا ”
شَرعت السَيده “نعيمة” بِتقطّيع الدَجاج بيديها ، ترفَعه وتَضعه أمامهم واحدٍ تلو الأخر ومَا أن أنتَهت حَتى جَاء دور الحج ” نصار ”
“خُد يا حج نابك اهوه ، دي عشانك”
ثُم أنتَزعت قِطعه صَغيره مِن الجَانب تَدسها بِفمها بأبتسامة رضا
” وانا هاخد الحته دي عشان بحبها ”
تَذوقت قِطعه الدجَاج تَخبرهُ بِتلذذ
” الله ، عملهالك بالخلطه اللي أنتَ بِتحبها ياحج والله ”
قَطب حَاجبيه بِبعض التَفاجؤ مِن كَبر قِطعه الدَجاج المُخصصه لُه
“إيه ده يا نعيمة ، مش كتير كده عليا”
أعَاد يَدها وقَال بِهدوء:
“هاتي حتة صغيرة، علشان الكل ياخد”
لَكنها أصرّت، وَضعت القِطعة أمَامهُ، وقَالت بإصرارها المُعتاد:
“تعدّمني لو ما أخدتها، وبعدين مين قالك إني مش عاملة حساب الكل ، كُل انت بس بالهنا والشفا”
مَال ” أنس” عَليها يَخبرها بِصوتٍ هامس
“أمي ، أنا ما أخدتش ”
تَجاهلته السَيده “نعيمه ” لِتجد الحج “نصار” يمسَك كَف يَدها يُقبله بُحب يُطالع عيِناها بِبعض الحِنو
” بعد الشر عنك يانعيمه ، تسلملي الايدين الحلوه دي ياست الستات ”
أبتَلعت الطَعام المَحشو داخِل فَمها تِوزع نظَراتها بَين الجَميع بحُب
” شايفين ياعيال جوزي بيدلعني أزاي قدامكم ”
هَز ” أنس ” رأْسه بِالأيجَاب يَهمس بِأذُنيها
” أنا شايف ان أنتِ اللي مش شايفه ان انا ما اخدتش ”
لَم توليه أهتِمام ، ففَلتت ضِحكه مِن الجَميع بَينما أكد الحَج ” نصار ” عَلى حَديثها بِقول
” طبعاً اومال لو مدلعتكيش يانعميه هدلع مين ”
أنتَشلت السَيده ” نعيمه ” قِطعه مِن الصَدر بَين أناملها تَضعها فِي فَمه
” طب والله العظيم الحته دي ما هاتروح في حته غير بوقك ياحج ”
لَم يَرمش ” أنس ” لِثانيه وَعيناه ظَلت تَطالع تِلك القِطعه بَين أنامِلها ، أبتَلع ريُقه بَينما يَمضغ الحج “نصار” قطعة الدَجاج بَين أسَنانه سأله “أنس”
” ايه ياحج حلوه ”
أغمَض الحَج ” نصار ” عيِنيه يَجيبه بأبتسامه جَانبيه وقَد خَيم الصَمت على الجَميع يَنتظرون ردة فِعله
” الله يانعناعه قلبي ، سكر كده سكر اكيد عشان حطيتي ايدك فيها ”
أطلَقت ضِحكه مُرتَعشه وقَد تَحدثت بِنبره مُتمايله
” ده عشان بعملهالك بكل حب ياحج ”
مَال ” موسى ” يُتمتم بِهمس ” للقمان ” الجَالس جِواره
” الحج والحاجه مالهم النهارده ”
امتَدت أنَامل ” لقمان ” يُحك أرنبة أنفه يَخبره بصوتٍ شِبه هَامس
” مش عارف ، باين عليهم ضاربين حجرين ومزودنها شويه ”
قَلبت “سمر ” عَيناها عَلى حَديث السَيده ” نعيمه ”
تَبتسم بُحب تَنهدت وقد جَرت قَدماها بِبعض الثُقل أوقَفتها السَيده ” نعيمه ” بِقول
” رايحه فين ياسمر أنتِ ما أكلتيش حاجه الطبق لسه مليان قدامك اهوه”
هَتفت السَيده “وداد ” خَلفها بَدلاً عَنها
“دي كده كلت ، أُطع الريچيم واللي عايزينه ، كانت قمر وهي تختوخه من وقت ما اتقرت فتحتها وهي بقت تعمل ريچيم وعايزه تبقى رُفع البوصه ”
تَبسم ” أنس ” نِصف ابتِسامه بَاهته وأردف
“أنتِ اتخَطبتي ياسمر ”
مَنحتهُ ابتِسامه لَطيفه وقَالت
” اه عقبالك يا أنس ”
أبتَلع ريُقه وشعر بِدبيب في صَدره ، سَحب نَظرُه نَحو النَافذه ، الافكَار تَتناوب سَريعًا عَلى عَقله ولَم يَعد بِمقدوره التَوقف عَن وَضع تَصورات تَرهقُه ، طَالعُه ” نوح ” وقد عَلم ما الذي يَشعر بِه شَقيقُه لِلتو ، لحظة صَمت لَم يَكسر جَدار هَذه اللحظه سوى صَوت السَيده ” نعيمه ” وهي تَقول
” أخس عليكي أخس ياوداد كده سمر تتخطب وماتقولناش ”
نَبس ” طه ” بِنبره هَادئه وهو يُعدل مِن وَضع نظارته بِطرف أبهامه
” والله ياطنط نعيمه احنا لسه معملناش خطوبه بمعنى خطوبه هو المعيد بتاعها في الجامعه وجاتله بعثه في امريكا وقبل ما يسافر قرا فاتحه مش اكتر ، بس احنا اتفقنا معاه أن الاتفاق ومعاد الفرح ده كله مش هيتم الا بوجود الحج نصار ، هو مكان المرحوم ابوها ، وهو وافق وان شاء الله لما يرجع هييجي ونتفق على كل شىء ”
اعتَلت ابتسامه مَاكره عَلى شَفتي “شيماء “قائله
“امريكا مره واحده … وعلى كده بقى هياخدك معاه لما يرجع ولا اكيد هيقعدك هنا ”
تَنهدت بِنبره هَادئه
” لا .. اكيد طبعًا هياخدني معاه ”
تَنبهت حواس “أنس” لِحديثها بَينما أصدَرت السَيده ” نعيمه ” زغاريط الفَرح تُهنىء “سمر” ووالدتها ” تهنئه مِن القلب
“الف .. الف مبروك ياوداد ياختي سمر بنت حلال وتستاهل كل خير ”
هَبت “شيماء” مِن مَجلسها بِغيظ مِما أثار فِضول الجَميع لقَد كَانت تَستمتع بِطعامها مُنذ قَليل ، بَللت شَفتيها وبَدا التَوتر واضحًا عَليها وقَد بَدا أن هُناك بَعض الكَلمات تَتحير في شَدقيها
” أنا شبعت .. هاروح اغسل ايدي واطلع فوق اشوف توضيب الشقه وصل لحد فين ”
عَقد ” لُقمان ” حاجبِيه طَالبًا
” استني طيب ياشيماء هاكل على طول ونطلع سوا ”
تَجاهلت تَعليقُه وسَارت تَتجاوزه تُشير بيَدها اليُمنه
“لا ، انا طالعه ”
بَينما تَسير تَتقدم الى الأمَام نَطقت السَيده
” نجاح” تَشير بِكف يَدها اليها
” بركه انها طلعت ”
ضَحك الجَميع يُتابعون خطواتها بأستثناء والدتها وبالطبع ذاك الذي يَعشقها تَتهافت الاسئله بِداخلُه
لِم يَسعون التَخلص مِنها ؟ الأ يَعلمون أنها قَد تَكون عَالمًا كَاملاً لٌشخصٍ ما
الكُل عَلى يَقين بِأن “شيماء ” هي العَالم الذي يَعيشُه ” لُقمان ” وأن غَادرتُه فَلن يوجد عَلى الأرض قَلب أضعف مِن قَلبُه ، سَتختفي أحلامُه البَسيطه وسَيحل مكَانها الكوابيس ، وسَيموت الأمل الذي بِداخلُه شِيئًا فَشيئًا
همَّ ” لُقمان” خَلفها، تَحرّك نِصف حَركه لَكن يَد
” موسى” استَقرّت عَلى سَاقُه مَرر ” لُقمان ” بَصره
عَليه لَكنُه اسَتقر عِند مَوضع يَده ، هَمس ” موسى”
بِنبره خَفيضه فَضغط عَلى سَاق شَقيقه قَائلاً
” اقرا ما بين السطور يخويا ”
انكمش وجه “لقمان”، عضّ على شفته، وكأن شيئاً داخله انهار بِصمت وبدلاً مِن أن يَنهض، هَوى بِجَسده إلى الخَلف، في جلوسٍ بائس لَم يَقل شيئًا، لَكن الصَمت الذي تَبعه ك كَان كافياً.
نظر إليه “موسى” بِشبه ابِتِسامه وَقد تنفّس قَلبُه أخيرًا حِين أطَاعُه شَقيقُه
⋆ ⋆. ⋆. ⋆.
.⋆ ⋆. ⋆. ⋆. ⋆.
.⋆
⋆. ⋆.
فَترة بَعد الغَداء ليلة الجُمعه هي الدقَائق المَعدوده التي يَسرقها عَائله ال ” موسى ” مِن الزَمن كَحق مُكتسب ، يَتشاورون بِها ، يَخرجون مَا بِصدورهم
دونَ حِساب لِلحديث ، اجتَمع الجَميع بِغرفة المَعيشه بَعدما استأذنت والدة شَيماء لِلرحيل في وقتٍ مُبكر كَالعاده كَان الجَميع يَتخذ مَجلسًا ، سَارت “نعيمه ” نَحو المَطبخ مِن جَديد لِتوزيع الشَاي عَلى كؤوس الزَخف بِثقل بَينما “نوح ” يُحدثها وبَين يَديه صَحن الأرز بِلبن المُخصص لِهذا اليَوم الجَميل
” ها ، قولتي ايه يانعناعه هاتجيبي الخمسمية لحلوح اللي قولتلك عليهم ولا هتعملي زي كل مره”
تَحركت خَطوه يَمينًا تَتجاهلهُ قائله
“ابعد عني يانوح احسنلك ، خمسميه ايه ياولا اللي عايزهم ، خمسمية عفريت لما ينططوك”
فَوقف مُقابلها يَهتف بِتَذمُر لاَ يَزيح بَصرُه عَنها
” أنت بتعملي كده ليه يانعيمه هو انا مش ابنك ياولي
أخبَرتهُ تؤكد عَلى حَديثه
” لاء مش ابني احنا لاقيناك جنب باب جامع ”
تَحدث بِسأم يَضع صَحن الأُرز بِلبن عَلى طَاولة المَطبخ
“يـــُـووه يا أمي بقى ، عارف .. عارف لقتوني جنب الجامع حتى بالأماره جنب كيس شيبسي ”
رَفعت حاجبِها الأيسَر
” ومش اي كيس شيبسي ياولا ده كان بالجبنه المتبله”
قَلد نَبرتها وَحركة يَديها
” كمان بالجبنه المتبله ، افرح انا ولا اعيط ولا اعمل ايه انا دلوقتي ”
أشَارت بِرأسها عَلى صَحن الأرز بِاللبن بِجانبها
” تشيل صنيه الرز بلبن دي تطلعها بره وتسيبني اطلع يابني اروح اودي الشاي اللي في ايدي لابوك واخواتك لا يبرد ، يَا اما قسمً عَظمًا انادي لابوك وهو يَعرف شُغله معاك ”
أَشَار ” نوح ” بِيديه بِأستِسلام
” لا وعلى ايه يا ام لقمان الطيب احسن ”
تَجاوزته السَيده “نعيمه ” واقتَربت مِن غُرفة المَعيشه ، كَان الجَميع يَتخذ مَجلسًا حول شَاشة التِلفاز القَديمه والحج “نَصار ” يُكاد يَختنق مِن كَثرة الضِحك بِوجهً مُحمر زيَاده عَن اللزوم ، يَنبعث
صَوت فيلم قَديم بِالأبيض والأسود يَظهر فيه “اسماعيل يس” بِوجهه المُتحرك ، سَريع التَعبير وَحركاتُه المَألوفه تَتردد فِي أرجَاء الغُرفه فَتوقظ البَسمه حَتى على الوجوه المُرهقه
أَقتَربت السَيده ” نعيمه ” مُثنيه قوامها تُقدم الشَاي السَاخن لِلجميع فيما بَينهم الحَج “نصار” رَفع كَف يَدهُ يأخذ مِنها الكَوب شاكراً
“من يد مانعدمها يانعيمه ”
أرتَفع ثِغرها في أبتِسامه رَاضيه ، جَلست بِجواره ومَا أن تَذوق الشَاي حَتى أخبَرهم بِأرتيَاح
” عارفين ياولاد ، اهوه انا بقالي ٣٢ سنه متجوز امكم عُمري ما عرفت اشرب كوباية شاي غير من ايديها ”
لَطالما أمَنت السَيده ” نعيمه ” أن الكَلمَات مثل سَهمٍ ذو طَرف لَين وأَخر حَاد ، ولَكن مَا نَبس بِه الحَاج ” نصار ” قَد أحدَث حُبٍ عَميقًا في دَاخِلها
أرتَبكت لِلحظه لأحمرار وجهها تَعدل حِجابها مِن الخَلف وَهي تَقول
” يالـــهوي عَلى كَلامك الحلو يالــــهوي ”
دَحرج ” موسى ” مِقلتيه ليَضحك يَلتقط طَبق الأُرز بِلبن بِجواره ليَجد ” أنس ” يَلتهم خاصتُه لَم يَتغير لَديه بئر ولَيس مِعده ، بَينما لاَحظ صَمت
” ادم ” المُخيف مُنذ بِداية الجَلسه ، دَس الطعام بِفمه ، يَشير لهُ بِالملعقه سائلاً
” ساكت ليه ياعم ادم من ساعة الخناقه ومحدش سامعلك صوت ، روق كده مافيش حاجه تستاهل ولا حد يقدر يزعلك بعد كده ”
أَردف ” نوح ” في عَجب يَصب جَل تَركيزه عَما تَفوه بِه شَقيقه
” أنتَ بتسأله هو عن حاله الا ما حد عبرني حتى ولا بص في وشي ، انا اللي كنت بَنضرب الصبح يا استاذ مش هو ، هو محدش لمسه ، لاء وكل ما قرب منه واقوله يروح يناديكم الاقيه شغال يصلي على النبي وهو قاعد ونازلين فيا طحن بذمتك هو ده وقته ”
احتَرق ” أدم ” لِما قَاله وقَد القى عَليه عُلبة الخياطه الفَارغه
” انا كنت بصلي على النبي عشانك على فكره ، عشان كنت خايف عليك ، كنت بصلي على النبي بنيه ان مايحصلكش اي اذى ”
لَم يَقتنع ” نوح ” كَثيراً بِما قَاله ، فنَبست السَيده
” نجاح ” بِتنهيده أكثَر ثُقلاً مِن حِمل زُبر الحَديد دُفعه واحده
” انتَ ياواد يايحي مش مِصدق ، إن كثرة الصلاة عَلى النَبي بتلبي الحاجه وبتستهتر بكلامه ، طيب ايه قولك بقى ، انا هقولك حاجه حصلت معايا انا شخصياً من ييجي تسع سنين وماقولتهاش لحد قبل كده يمكن دي اول مره هقولها ”
أعَترض ” نوح ” يُصحح لَها
” ياستي اسمي نوح ، نوح ، نــــوح بلاش يحي دي بتعصبني ”
تَجاهلتهُ ونَبست تَجلس أمَامُه تُحرك طَبقها بِرفق ، ليَنتبه لَها الجَميع يُطالعها بِنظرات مُختَلفه رُبما نَظرات تملؤها الفضول ، لاَحت شَفتاها تَبتسم لِوهله
” من تسع سنين طَبعاً كلكم عارفين اني كنت في الشارع لا كان ليا اهل ولا عزوه ابني رماني عشان خاطر مراته والمصاريف تقلت عليه ، رماني علشان مايدفعليش حق دوايا بتاع كل شهر ”
فَرت ضِحكه خَافته مِنها تَنفي بَرأْسها تَرتشف مِن المَاء لَرُبما تَخفي ألاَمها
” بس انا ، انا برضوا عذراه ما هو برضوا ياولا الدنيا صعبه وهو يعني هيجيب منين ، دوايا و..
تَباطىء حَديثها والجَميع يَستمع لَها بِتأثُر ، لِتَزيح ملاَمح القَلق مِن عَلى وَجهها
” وده غير أكلي وشربي ، وهو ياحبة عيني كان بييجي يجيبلي كده ييجي كل عيد هدمه اعيد بيها ”
أشَارت تَنفي بِأصبِعها
” مكانش بخيل أبداً ”
مَسحت دموعها تُحاول رَسم البَسمه على شَفتيها بِالأجبار
” بس يعمل ايه برضوا مراته وعياله أولى بي ، لحد ما في يوم قالي تعالي ياما هخرجك شويه ، وقتها ماصدقتش روحي ده انا كان بقالي سنين وسنين مخرجتش من البيت ، قولتله
تَنهيده حَاره خَرجت مِنها التَقطها مَسامع الجَميع كَرعشه مُره حينَما ذَكرت
” قولتله بالله عليك، بالله عليك يامحما هتخرجني قالي وهو مبسوط ايوه يا اما هخرجك ، ناولني ايده وقومني من على الكنبه وسندت عليه ماهو السند اللي كنت شيلاه من الدنيا ، وروحت معاه ، وخرجت بره شقتي ، وقعدني شويه في الجنينه ، وجابلي ايس كريم ”
طَالعها الجَميع بِأعين زُجاجيه تُبادلهم بِأبتِسامه ضَيقه تَعكس ما بِداخل صَدرها الضَامر الذي لَم يَعد يَتسع للكَثير تَهتف
” الأيس كريم كان بالشيكولاته اصل هو عارف اني بحب الايس كريم اللي بالشيكولاته ومن فوقيه السوداني المتكسر ده
” اتكلمنا اليوم ده كتير ، كتير اوي في كل حاجه وفي اي حاجه كنت مــبســــوطــه
مبسوطه اوي ياواد يايحي ، ونسيت اي قسوه شوفتها منه ومن مراته لمجرد انه خرجني وفضل يتكلم معايا ، وباس ايدي وبصلي وقالي راضيه عني ياما بصيتله وقولتله من قلبي روح يابني ربنا يراضيك دنيا واخره وروحت مدياه البطاقه ، اصلنا كنا اول الشهر وقولتله خد المعاش بتاع ابوك انزل روح اشولنا فرخه وهات لمراتك اللي نفسها فيه مسح دموعه وقالي حاضر ياما خليكي في الجنينه هنا مش هتأخر ساعة زمن واجيلك ”
كَتفت ذِراعها واكتَنفت بِنفسها وأطلَقت العنَان لِدموعها بَعدما حَبستها لِسنين
” بس الساعه عدت اتنين والساعتين جروا يومين وانا قاعده في الجنينه مش قادره اقوم بتحرك بالعافيه وعنيا كالتها دموعي لا معايا تليفون ولا حتى حافظه رقمه لحد ما ولاد الحلال روحوني ولما روحت لاقيته باع حتة الشقه اللي ابوه سايبهالي بالتوكيل اللي كنت عملاهوله حتى البطاقه بتاعت المعاش خدها وتليفونه اتقفل معرفتلهوش طريق والناس اللي اشتروه الشقه طردوني ومارضيوش يخلوني ادخل شقتي ، اللي عيشت فيها وربيته فيها
فضلت بالأيام في الشوارع انام على الارصفه والغُرب يحنوا عليا ببق مايه ورغيف عيش ، وقتها فضلت اصلي على النبي كتير ، طول ما انا قاعده اصلي على النبي بنيه الفرج والكرب اللي كنت فيه وانه ربنا يرزقني ببيت اعيش فيه لحد ما يييجي الأجل وربنا ياخد أمانته ، وزي ما يكون ربنا استجاب لدعايا ومن بهدلتي في الشوارع لما جالي موسى وشافني وانا مرميه واخدني في حضنه وطبطب عليا ، وانتوا فتحتولي بيتكم ونعيمه اعتبرتني امها ومابقيتش تقولي غير ياما وانا بقيت بالنسبالكم ستكم ، اه ربنا بعدني عن ابني بس كرمني بعيله واحفاد وبيت وبقى ليا شقه مخصوص تحت
كل ده بفضل الصلاه على النبي وبفضل ربنا انه يبعتلي موسى عشان ينجدني من اللي انا فيه ”
مَسحت دمُوعها بِحجابها الاسوَد فَوق راْسها تُحاول الأبتِسام رَغمًا عَنها قَائله
“وبعد كده ياولا يايحي جاي تقول ان فضل الصلاه على النبي ما بينجيش من المهالك تبقى حمار ”
لَم يَتوقع أحد أن يَكون لكَلماتها هَذا التَأثير عَليهُم
فَبعض الكَلِمات أمَا أن تَكون كَالغيمه تَحملنا نَحو السَماء السَابعه ، أو تَكون كالمَطرقه تَلصقنَا أرضًا
تَوقف الحَديث فِي حَلق الجَميع وَهي لَم تَنتظر مِنهُم جَوابًا ، ابتَلع “موسى” ريُقه بِتوتر لِتتحرك تُفاحة أدم خَاصتهُ بِبطء لِيختَار سياقاً أخر لِلحديث يَشق بِه صَمت الجَميع
” ما خلاص بقى يانجاح ، انسي بقى اللي حصل زمان وعيشي ”
التَف الجَميع حَولها بُحب فَنبس ” طه ” بِتأثر
” من النهارده اتمنى ياحجه نجاح تعتبرني انا كمان زي موسى ولقمان لو تسمحيلي انتِ من النهارده بقيتي ستي ”
وَضعت ” وداد ” كَتفها حول ذِراعها بِابتسامه
” وانا من النهارده زي بنتك نعيمه واكتر كمان ”
ابتَسمت السَيده ” نَجاح ” تَلقي نَظره على الجَميع
مِن حولها ، فأردف ” موسى ” مَازحاً
” ما خلاص بقي ياست نجوحه امسحي دموعك دي ، دموعك غاليه علينا اوي ”
رُبما هو مُحق .. فَلقد أكتَفت مِن البُكاء في كُل مَره
تَأتي سيرة ولدَها فالأمر لَيس بِيدها فَهي تَفتقدُه ، تَفتقد تواجُدها معُه ، عَلى الرَغم مِما فَعله سَيظل فَلذه كَبدها
لاحظ “موسى” شرودها أثنى رُكبتيه وجلسَ أمَامها يُطبطب عَلى كَفيها بِطبطبه خَفيفه فَشعرت بِأنه يُطبطب عَلى جَرح قَلبها الأن فأردَف
” وبعدين بقى ده من حظي وقتها اني شوفتك ده من يوم ما دخلتي البيت والبركه حلت عليه مش كده ياحج ”
وَجه حَديثه لوالده ، لِكي يَؤكد عَلى حَديثه
” طبعاً يابني وهي دي عايزه كلام من يوم ما الست نجاح دخلت البيت وانا بعتبرها زي امي واكتر ”
رَفعت السَيده ” نجاح ” رأْسها عَن كِتفها التي أثقَلتهُ الحَياه ، تَبتسم لهُ لِتزداد التجَاعيد عَلى وجنَتيها فَنهضت بِمشاعر مُختلفه ، مشَاعر طَازجه كَانت تُكاد أن تَموت مُعترضه
” أمك ، امك ده ايه يا نصار ، ده انا لسه صغيره موعاش اجيبك ”
ضَحك الجَميع فَلقد عَادت لطَبيعتها الأن ، بَينما دَافع الحَج ” نصار ” عنَ حَالته
” ياوليه ، ياوليه اتقي الله ده انا لما روحت اعملك البطاقه لاقيتك انتِ مواليد اتنين واربعين وانا مواليد واحد وستين يعني تجبيني ونص كمان ”
كَانت نَبرتُه سَاخره وضَحكا هؤلاء الأناس البُسطاء
وضحك الحنين معهم، كأن لَمّتهم وحدها كانت كافية تمحي وجع سنين.
. ⋆ ⋆
.

❄︎.
⋆ . ⋆
⋆. ⋆ . .
.
❄︎. .

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأنه موسى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *