روايات

رواية عودة الذئاب الفصل الثلاثون 30 بقلم ميفو السلطان

رواية عودة الذئاب الفصل الثلاثون 30 بقلم ميفو السلطان

رواية عودة الذئاب البارت الثلاثون

رواية عودة الذئاب الجزء الثلاثون

عودة الذئاب
عودة الذئاب

رواية عودة الذئاب الحلقة الثلاثون

ظلّ “أسمر” يدور في الغرفة كوحشٍ جريح، خطواته متسارعة، أنفاسه تتقطّع بين الغيظ والذهول… عيناه تشتعلان، كأن شررًا يتطاير منهما.
فتح هاتفه بارتباكٍ بالغ، وراح يتصل بها… مرة، واثنتين، وثلاثًا — ولكن دون جدوى.
كأنّ الهاتف صار عدوّه الجديد، لا يردّ ولا يشفي الغليل.
شعر أنّ رأسه على وشك الانفجار، كأنّ كل شيء بداخله يصرخ! بعث لها برسالة، أنفاسه مختنقة، وأصابعه تضرب على الشاشة بجنون:
“لو فاكرة إنك ضحكتي على أسمر أبو الدهب… تبقي غلطانة! حجي هعرف اجيبه… ولو عدى عمر، هاخده! وإنتِ… يا مهره…هجيبك، وهجيبك!”
ضغط زر الإرسال بعنف، ثم ألقى الهاتف بعيدًا، فارتطم بالحائط وسقط.ووقف هناك، وسط دوامة من العتمة والغليان… كأن قلبه انشقّ نصفين.
لم يكن يعرف — أحقًّا يريدها؟ أم يريد الانتقام منها؟ كل ما يعرفه أنّ شيئًا ما احترق بداخله… ولن ينطفئ.كأن صوته صرخة…
صرخة وجع، صرخة قِلّة حيلة، كأنّ ما بداخله انفجر دفعة واحدة.لم تكن مجرد كلمات، بل وجعًا صاعدًا من قلبه، يئِنّ، يتلوّى، يرفض التصديق.
كان يريد أن يمسكها بين يديه، يشدّها أمامه، يصرخ في وجهها بأعلى صوته:
“ليه؟! إزاي قدرتي؟!”
كان يتوق أن يرى عينيها، أن يغوص فيهما، أن يبحث فيهما عن إجابة…
هل كان كل ذلك كذبًا؟ هل كانت مجرد خدعةٍ طويلة؟ أكان يعيش في وهمٍ نسجته أنثى، ثم رمته خارجه كخرقةٍ بالية؟
“أسمر” — ذاك الذي لا يعرف طريقًا للمشاعر، ولا يسمح لقلبه أن يُؤخذ بسهولة —
أحب…وبلا مقابل.ولما أطلق قلبه من قيده، فُجع بأنه أطلقه نحو غدر المهره.
كأنها أتت على جزءٍ من رجولته…دهسته تحت قدميها دون رحمة،وأشعلت فيه نارًا لم تخمد بعد…أحرقت شيئًا عزيزًا بداخله،
شيئًا لا يُقال، لكنه يُشعر، يُوجِع… ويكسر.
دخلت “مهره” حجرتها والباب يُغلق خلفها بصوتٍ خافت، لكن صداه كان كالرعد في صدرها.مشَت كأنّ الجدران تضيق عليها، وكل خطوة كانت بتُوجع في صدرها أكتر من التانية.
كلامه؟لا…ما كانش مجرد كلام! أخوها دبحها… آه، دبحها من غير سكين. ذبح ناعم…كلمة واحدة خرجت من بين شفتَيه، كانت زي سكينة حريرية…دخلت فيها بهدوء قاتل، وفتحت جرح قديم — جرح ما عمره التأم،
ساعتها “مهره” حسّت إنها اتهزّت من جواها،
مش عشان هو وجّعها…لكن لأنه فكّرها بحقيقتها اللي بتحاول تهرب منها دايمًا.
فكّرها إنها، طول عمرها، بتتساوى في عين الناس بحدّ يحِسّ مش زيها. بيساووها بحدّ، عمره ما داق وجعها،ولا جرب يحضن الخوف ويكتمه ف صدره عشان ما يبانش عليه.

دمعة وقفت في عينيها، بس ما نزلتش…
وقفت كأنها بتحاول تستأذن،كأنها مش متأكدة إذا كان يحقّ لها تنزل،
ولا خلاص — الدمع ما بقاش له مكان ف وشّ ما بيتهزش من الوجع.
نظرت “مهره” لصورتها في المراية…
مراية ما عادش بيبان فيها وجهها، قد ما بيبان وجعها.
كانت ملامحها شايلة حزن الدنيا،
شايلة سكوت البنات اللي اتظلموا لما كانوا بيكتمو….
“آه يا نديم…من إمتى كنتوا بتفهموا اللي زيي؟أنا اللي بحس قبل الكلمة،وبنطفي عشان غيري ينور،وفي الآخر…ما نتقارن بللي بيحسّوا!
بتقول وجد بتحس؟ طب وانا؟ أنا اللي كل وجعكم دخل قلبي من غير ما أتكلم!أنا اللي بحضن الدنيا وادي ضهري ليها عشانكو وأنا بنزف…وبرضه مش كفاية؟!”أنا اللي قسيت علشان أعيش،أنا اللي محدش طبطب عليا لما كنت بطيح من وجعي عشانك.تيجي دلوقتي تقولي ما تقسيش على نفسك؟فينك لما كنت محتاجة الكلمة دي.
ابتسامة مكسورة، وهمسة طالعة من قلب موجوع:
– أيوه يا نديم…أنا غير.ويمكن دي مشكلتي.”
سهمت… ورجعت بزمنها . كنت لسه صغيرة، ماسكة عروستي بحضني، بضحك، بتهته في الكلام، بقلّد صوت أمّي.كان قلبي طري… ولسّه بيعرف يحب.
دخلت القوضه، وشك مكشر فاكر العروسة اللي رميتها؟ فاكر عملت إيه ؟
صرخت فيا: “إنتي لسه بتلعبي؟!”رميتها …وقعَت وهي ساكتة، قلبي وقع قبلها،أنا إللي اترميت ساعتها من الشباك وفضل خيال اسود مالوش ملامح.
أنا كنت بحبها…بس من يومها، بطّلت أحب اللي في إيدي.من يومها… وأنا سايبة كل حاجة تمشي،قبل ما حد ياخدها مني ويكسرها قدامي.”…
أغمضت عيونها بوجع، لمست جُرحها القديم…
تذكرت يوم إنّه شدّ يدها… من الحَرق.
ساعتها صرخت —مش من الوجع، من الخوف،من الإحساس إني لو غلط،

هتسيبني…زي ما أمّي وأبويا سابوني.
“غرزت إيدك في جرحي طلبت مني: ما عيطيش… ما حسيش… و أنا كتمت… بلعت الصرخة، بلعت العيلة، بلعت نفسي.
من يومها… وأنا كل ما أتوجع، أعض على لساني.كل ما أفرح، أكتم ضحكتي.كل ما أحب… أخاف.بقيت أنام جنب وجعي، وأصحى ألبس القوة زي هدومي.واللي يشوفني، يقول جامدة.بس الحقيقة؟
أنا بس… اتربيت على الكتمان.”
ابتلعت ريقها، عينيها لمعت مش دمع…
ده كان ارتجاف الروح لما تتهز من كلمة كانت محتاجاها، بس عمرها ما جت .
اتجهت الي فراشها وسقطت عليه وتركت لنفسها العنان ..اليس من حقها اظهار مشاعرها فلتبكي فلتدع نفسها تبكي ..ظلت لفتره تبكي ..وكلماته ترن باذنيها ..انت غير ..انت مابتحسيش انت مابتعرفيش تحبي .
قامت بهدوء… كأن خطواتها فوق الزمان،
واتجهت نحو دولابها. مدّت يدها المرتجفة، ولمست العلبة القطيفة… فتحتها بإيد بترتعش كأنها بتفتح على قلبها، وليس مجرد صندوق.
كانت “الدبلة” تلمع في عيونها…زي دموعها اللي واقفة، زي ذكرى مش بتموت، زي أمل اتكسر ومابيخلصش.
لمستها بإصبعها، ولمست معاها كل الوجع اللي خبتُه سنين. همست لنفسها:
“أنا غير…أنا ما بعرفش أحب…ما بعرفش…”
أغمضت عينيها بقهر، وقفلت العلبة بسرعة،
ودسّتها في نفس المكان —كأنها بتخفي جراح بتصرخ جواها،بس مالهاش صوت.
قفلت الدولاب بعنفٍ ناعم…وعادت مسرعة إلى فراشها،كأنها تهرب من نفسها،من قلبها.
فتحت تليفونها، وبيدٍ مرتعشة بدّلت الشريحة، وضعت القديمة —شريحة الذكرى…و الوجع.
وما إن عادت الحياة إلى الشاشة،حتى ظهرت رسالة أمامها…واسم “الأسمر” يبرق كطعنة،

كأن اسمه لوحده كفيل يرجّ قلبها ويوقظ الجرح القديم.
فتحتها —وهنا، رجف القلب الموجوع.
تهديد “الأسمر” كان واضحًا…مش بس تهديد!ده كان حكم إعدام…إعدام لمشاعرها، لقلبها، لحكايتها.كأنّه كَتب عليها… أن يُقتلوها،واحدًا تلو الآخر.
قرأت تهديده…وأغمضت عيونها للحظة،
لحظة قصيرة —كأنها بتودّع وجعها القديم.
ثم فتحتهم…لتظهر نظرات جديدة،نظرات نِمْرة انجرحت،بس ما ماتتش!نِمْرة… عايزة تاخد حقها من اللي نهش قلبها ومشي.
ظلّت “مهره” ساهمة، شاردة النظرات، كأنّ شيئًا ما يجذبها إلى هاويةٍ من الذكريات…
ابتسمت بهدوء، ابتسامة خاوية من المعنى، كأنّها قرّرت أن تصمت حيث كان يجب أن تصرخ.
نهضت بهدوء، واتّجهت نحو “شجَن”،
أخذت منها فستانًا كان يخصّها،ثم عادت إلى حجرتها — خطواتها تشي بقرار لا رجعة فيه.
ارتدت الفستان،فردت شعرها بعناية،
ثم التقطت خاتمًا قديمًا يعود لوالدتها، وارتدته كمن يستحضر دفءَ الأمومة كي تتّكئ عليه في لحظة انكسار.
وقفت أمام المرآة،تتأمل نفسها طويلاً…
لم تكن ترى ملامحها، بل كانت ترى امرأةً لم تعهدها من قبل .
مدّت يدها نحو الهاتف،كتبت له رسالة، وبعثتها —كأنها تطعن جرحًا قديمًا لتُنهي النزف بيدها.
أغلقت الخط.أزالت الشريحة القديمة من الهاتف،نظرت إليها للحظة، ثم كسرتها بهدوءٍ بارد،كأنّها تكسر آخر خيطٍ يربطها بضعفها القديم.
ثم قامت، واتّجهت نحو أختها…بعينين ساكنتين لا تحملان حنينًا ولا ندمًا،فهي الآن لا تريد أن تفكّر فيه.
لقد اختارت أن تُخرسه داخلها،كما تُخمد النار تحت رمادٍ ثقيل…لكنها لم تنسَ أن النار، مهما خمدت، لا تموت.
كان على الجهة الأخرى، يجلس وقلبه يشتعل…نارٌ صامتة تأكل صدره،حين أتاه صوت التنبيه — ردٌّ منها.

هبّ من مكانه، كأنّ النار قد التهمت أنفاسه.
أمسك بالهاتف، وفتح الرسالة…ثم توقف قلبه للحظة،كأنّ الزمن تجمّد في عينيه.
“مهره” كانت أمامه…شُعلة من الأنوثة،
عكس ما اعتاد أن يراها تمامًا كانت تبتسم له…ابتسامة سكنت قلبه قبل أن يفهمها،
ابتسامة خاطفة، هشّمت حصونه دون إذن.
لانت ملامحه، ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة، وقلبه يخفق كما لم يخفق من قبل.
مدّ يده، يلمس الشاشة…كأنّه يلمسها،
كأنّه يهمس باسمها من بين الحنين واللهفة.
لكنّه تجمّد فجأة،تجمّدت نظراته، وانكمش الشعور داخله حين سمع صوتها…كانت نبرتها قاسية، مغلّفة بالغِلّ،قالت بجمودٍ كالسيف رنّ صوتها في أذنه كصفعة،
.
ضحكت — ضحكة عالية، ساخرة، واثقة من نفسها كما لم يعتدها.ثم اخترقت أذنه كلماتها:
“إزيك يا وحش عيلة أبو الدهب؟فُقت من الصدمة؟ولا لسه قاعد جنب عمّك، بتنُح عاللي فات؟!”
ضحكت مرةً أخرى، وكأنها تزيد الطعنة عمقًا.
“إيه؟ مش مصدّق إن حد قَدَر على أسمر أبو الدهب؟مش طايل تجيبني…هتموت، صح؟”
سكتت لثوانٍ… ثم باغتته بنبرة أكثر قسوة،
نبرة أنثى كسرت سكونها، وقررت تردّ الكلمة بألمها:
“بس أحب أفرّحك بيا…إيه رأيك؟مش كنت بتقول عليا دَكر؟باين!”
لفّت حول نفسها بخفةٍ مستفزّة، كأنها ترقص على وجعه،وقالت بنبرةٍ ساخرة:
“آه، كنت بتقول إيه؟إيه؟ آه، افتكرت…

ماخدش عتب حد، صح؟”
ابتسمت بمرارة، قبل أن تُكمل:
“مش كنت بتقول بنت الغازية عتب؟”
أطلقت ضحكة عالية، ،ثم نظرت إلى يديها، ورفعتها أمام الكاميرا كأنها تستعرض انتصارها:
“أحب أعرّفك بقى…إن فيه حد خد العتب ده، وبيموت عليه!”
أشارت إلى إصبعها، حيث يلمع الخاتم،
وابتسامتها الآن ممزوجة بالشماتة:
“جابلي حتّة خاتم… يجنن!يليق بـ مهره هانم!”
مالت برأسها، وعيونها تبرق من نارٍ مختلطة بالانتقام:
“إيه رأيك بقى في الخاتم؟ما الهوانم يا حبيبي… بياخدوا اللي يليق بيهم،مش حتّة سلك…تترمي في الزبالة.”
تقدّمت نحو الكاميرا بخطى واثقة، نظرتها ساخرة، ونبرتها مرّة…رفعت يدها، وأشارت إلى الخاتم مرةً أخرى،ثم قالت بابتسامة تحمل كل ألوان التحدي:
“حلو، مش كده؟معلش…أصل فيه خواتم ليها صباع مهره،وفيه خواتم ليها الزبالة، يا ابن أبو الدهب!”
توقّفت، وكأنها تستعدّ لطعنة جديدة،
ثم مالت برأسها بخفة وقالت:
“آه، وعلى فكرة…خدت فلوس من بتاعتكو،
وجبت بيها هدية للي يستاهلها.”
غمزت له… واقتربت من الشاشة، كأنها تهمس في أذنه مباشرة:
“أنا نازلة…”أطلقت ضحكة خفيفة،
ثم قطّبت حاجبيها بدلال مستفزّ، وهمست:

“أوبس…ماعلش، ما طلعتش بتاعتك،
وإللي في إيدك… راح لغيرك.”
استدارت قليلاً، ثم عادت تنظر إليه بنصف ابتسامة، وختمت:
“أسيبك بقى، يا وحش…”
اقتربت أكثر،هامسة،بصوت ناعم، لكنه حقيقي مشاعر حقيقي مست قلبه دبحتها.. نبره صدق ضائعه… فيها شيء يشبه الندم:
“هتوحشني…”ثم…أغلقت الرسالة.
ما إن انتهت الرسالة…حتى أحسّ بالجنون يتسلّل إلى أعماقه كريح عاصفة. كان “أسمر” يقف متجمّدًا،عيناه جاحظتان، ونظراته تائهة كأنّه لا يرى،يشعر أن قلبه على وشك أن يخرج من مكانه…ليشتعل عن آخره.
الرسالة؟كانت طعنة…لا، بل كانت قنبلة انفجرت في صدره.
“مهره” —أرسلت ما خلع قلبه من مكانه،
كلماتها كانت كالسكاكين،مغلفة بالضحك، لكنها تترك نزيفًا لا يُرى… ويقتل. سقطت علي غروره هشمته ارضا..
صرخ فجأة، كمن ضاق به صدر الأرض،
ثم اندفع في الغرفة…يُكسّر كل ما حوله بلا وعي،يمينه ويساره، كل ما طالته يده تحطّم.
كانت لحظة انهيار…انهيار رجلٍ ظنّ أنه لا يُوجَع.
هبّ “أسمر” واقفًا كالمجنون،وجهه محتقن، ودمه يغلي في عروقه.صرخ بأعلى صوته، كأن الحيطان تسمع وتشهد على وجعه:
“مين اللي هتتجوز؟داني أجتِلك واجطعك نساير مين؟!”
كان يترنّح في المكان…يضرب الجدار، يدفع الطاولة،يتكلّم كمن فقد توازنه وكرامته معًا.
“البت بتتمسخر بيا…بت عمي…بت عمي بتتمسخر بيا؟!”
أمسك برأسه، كأنّه لا يصدق ما يسمعه أو يراه:”أني؟أني يتعمل فيّا كده؟أني؟!”

ثم صرخ كالممسوس:”هتتجوز؟هتتجوز؟!”
“ماينفعش…والله، لأموتها بيدي!”
تراجع خطوتين، ثم انفجر من جديد:
“هتتجوز ليه هو اني مرة… “أسمر”…بقي مرة عشان يسيبك تتجوزي؟لأاااا… بروحِك، وهتشوفي!”
صوت حنجرته كان يرتعد…أقسم بكل ما فيه:”ما هيحصلش!وهجيبك…هجيبك يا مهره، لو في آخر الدنيا!”
جلس على الأرض… لا، انهار فوقها.
أسند ظهره إلى الحائط،ثم دسّ وجهه بين كفّيه،وانفجرت الذكريات عليه… كطعناتٍ متلاحقة:ضحكتها…ملامحهاِ. قربها لمستها
ضرب الحيطة بقبضته…نزف جلده، بس ما حسش…الوجع كان جوّه…مش في الجلد،
في اللي اتكسر منه…رفع وجهه بوعيد حارق.
عايزه تتجوزي……تمام قابلي بقه الاسمر واللي حضر العفريت يجدر عليه.. بكره اعلّمك… إن اللعب مع أسمر…له تمن.”
دخل عليه “جابر” بخطى ثقيلة، ونبرة جافة:
“جوم، جوم يا ولدي… أما نتكلم برّه.”
“أسمر” كان جالسًا، ملامحه جامده، قلبه مولّع،صرخ بانفعالٍ حاد:
“ماعايزش اتهبّب دلوك!فوتني بحالي!”
“جابر” ضرب الأرض بعصاه، ورفع صوته عليه:”مالك؟ محروج كده على بت الغازيّة؟!”
كأنّ جرحًا انفتح في صدر “أسمر”،كأنّ كلمة واحدة فاضت بيه…فصرخ، وقلبه يسبق لسانه:
“ما تجولش عليها اكده!إنت فاهم؟!”
تجمّد “جابر”، وبهت وجهه:”إنت بتدافع عنها؟ده إيه الحزن اللي فيك ده، يا واد؟!”
هبّ “أسمر” واقفًا، عيونه نار، وصوته يرتجف بين الغضب والوجع:

“لا! ما بدافعش…بس ما تجولش عليها اكده برضك!… وخلصنا!”
سكت لثانية، صدره بيعلو وينزل كأنه بيتخانق مع نفسه…ثم أدار ظهره، ورزع الباب بقوّة خرجت من كل اللي مكبوت جواه.
وقف “جابر” مكانه مبهوت،يشوف ضهر “أسمر” وهو بيبعد…ويحس لأول مرة،
إن اسمر به شيء جلل… اشتعل “جابر ” غضبًا واندفع خارجًا من الغرفة، كأن النار تسوق خطواته:
“إيه؟!هنجعد نولول كيف النسوان والشركات تجع؟ لااا! احنا ما يهمّناش حد!احنا لازم نِجفّ… ونفرّح، ونِعرف الكل… إننا ما بنتكسرش!”
نظر إليه والده بنظرة ثقيلة، وقال بمرارة:
“هتخرب إيه تاني يا جابر ؟”
لكن “جابر” لم يتراجع، بل تقدّم خطوة بثبات،
ووقف كأنّه يحمل على كتفيه اسم العيلة وتاريخها،ونطق بقرارٍ رجّ البيت:
“هنعمل فرح… يتكلم عليه البلد بحالها!”
تبادلوا النظرات…فاردف “براء” و”وجد” خلاص، مش بس هيتجوزوا،ده هيبقوا بيان علني للناس كلها إن عيلة “أبو الدهب”
ما بتهزش… ما بتنهدّش.
ثم أكمل “جابر”، صوته يرتفع بثقة راكبة فوق الوجع:
“يوم ما عملنا اكده أسهمنا وجعت بالبورصة،
والكل بيتكلم.فلازم الكل يعرف…إن عيلة أبو الدهب،ما بتموتش!”
نظر “براء” إلى “أسمر” بعينٍ مستنكرة، فيها رفض ومفاجأة،كأنّه مش مصدّق إن الدنيا بقت صفقة…مش زواج.
لكن “أسمر” فهم النظرة،وحسّ في اللحظة دي إن “جابر” — رغم قسوته — كان عنده حق،وإن سمعتهم في السوق فعلاً…اتهدّت.
أشار إلى أخيه بعصبية، وقال:
“عندك حج يا عمّي…القلم نِزِل، خلي الأسهم انهارت،واحنا؟لازم نعمل حاجة…

من بُكره، هنعمل الولايِم والدبايح،ونخلّي الناس تتكلم عن عيلتنا مش عن فضايحنا.”
اقترب “براء” منه، بصوت هادي بس حاد:
“إني مش عايز وِجد، يا أسمر…”
كان الكلام بسيط،لكن طالع من صدر موجوع ومزنوق.
ردّ “أسمر” بنبرة عملية، ما فيهاش مكان للرومانسية:
“مِشّي الدنيا يا براء…وابقى اتفِج معاها بعدين وتسيبوا بعض عادي.بس الحَرِيجة تنطفي الأول،وبعدين كُلّ شيء يتحل.”
سكت للحظة، عينه راحت بعيد…
وقال بنبرة أخفت فيها الحقيقة:
“السوج ما بيرحمش،واللي يجع… يتداس.”
شعر “براء” بالقهر ينهش قلبه،كأنّ صدْره لم يعد يتّسع لأنفاسه،وصعد إلى حجرته كأنّه يصعد إلى سَجنه الخاص.أغلق الباب خلفه…وجلس أرضًا،يتنفس كمن يجرّ خلفه العمر بأكمله.
مدّ يده إلى الدرج،وأخرج الورقة التي تحتضن بعضًا من رائحتها… من روحها.
ضمّها إلى صدره كأنّه يخبّئها من الزمن،
وصوته خرج هامسًا، مكسورًا:
“يا ترى… إنتِ فين؟ليه مابتكلمنيش؟
عملوا فيكي إيه؟إنتي كويسة؟…بتعيّطي؟
بتتوجّعي؟ولا زيّنا… اتكسر فيكي كل حاجة وسكتي؟”
رفع الورقة إلى وجهه…شمّها كأنّه يبحث فيها عن آخر أنفاسها.تلمّس قلبه على صدره،
ثم قال بوجعٍ طالع من عمق ما تبقّى فيه:

“وحشتيني يا ملاكي…والله، ملاكي.هكتب اسم حدّ غيرك على اسمي؟إزاي؟…إزاي؟”
نزلت دموعه دون إرادة،دموع خرساء،
لا أحد يراها، ولا أحد يسمع الصوت اللي بيبكي جواه.كان يعلم…لا طريق له إليها،
ولا سبيل لإبعاد غيرها.لكنّه لا يعلم كيف سيكمل،وقلبه مُعلّق في غيابها،يحترق،
ويشتاق…ويموت بالبُطء.
وقف “براء” ، وصوته بدأ يعلو رغم هدوء نبرته:
“يعني أنا أضحّي بوحده مالهاش ذنب؟
بس عشان الناس تسجف؟ عايزينّي ألبس صورة مش ليا،وأنام جنب واحدة أنا مش طايج أبصّ في عينيها؟”
مد إيده وهو بيتنفس بصعوبة، كأن الكلام طالع من جوه حرقة:
“هعمل اللي عايزينه بس بطريجتي واللي يحصل يحصل
التفت، ومشى بهدوء…بس رجله كانت بتترعش،لأنّه لسه مش قادر يبلع اللي جاي.
غرفتة مظلمة، إلا من نور خافت ينبعث من مصباح صغير على مكتب خشبي قديم. جالس، منحني الظهر، عيونه حمراء، ويده ترتعش يمسك احد الاقلام.أوراق كتيره مكوّمة، كلها مشطوبة، محاولات فاشلة للاعتذار حاله من الجنون اصابته ..فكره بعدها اصابه بخلل نفسي فوق خلله الطبيعي .…… بدأ يكتب، بصوت داخلي، كأنه بيحكي لجدران بتشهد على قهره وانكساره..
“مكنتش ناوي أكتب…مكنتش ناوي أتكلم…بس الوجع بقى تقيل، وأنا… مش عارف أهرب من صورك وهي بتطاردني في كل حته.كنتِ نجدتي من الضياع… بس أنا غرّقتك بإيدي.
فاكرة؟ لما قولتيلي إنك شايفة جوايا بني آدم؟ طلعتي غلطانة…أنا مش بني آدم، أنا كنت خنجر مغروس في ضهرك، وإنتي واقفة بتصدقي حضني.أنا اللي خليتكِ تحبي الحضن ده ، وصدقتي على إنه وطن..انا عمري ماكنت وطن لاني من الاساس ضايع ماليش وطن. …أنا اللي كسرتكِ، وأنا عارف إني ده الكسر الوحيد اللي مش بيتصلّح.

مفيش مبرر… مفيش تفسير…الانتقام خدني، ولما فوقت… كنتي مش موجودة…كنتي خلصتي مني، وده حقك. ساعات اقول اني ماستاهلش وبعدك راحه ليكي ..بس غصب عني خايف ..انت اللي علمتيني ابقي انسان …خايف ابطل احس اني انفع بني ادم زي الخلق …كانت دموعه تسيل عالورق وشهقاته تعلو وتعلو .
“مش هبرر… ولا هستعطفك…ولا هقول كان غصب عني…أنا اللي اخترت.اخترت أكون واحد من اللي خلعوا قلوبهم،
ولبسوا وش الانتقام، ومشوا يدوسوا في طريقهم على كل شيء نضيف.”كنت فاكر إن العيشة اللي دمرتني، تبرر إني أدمّر غيري…
كنت فاكر إن الذل اللي شربته… يديني الحق..
بس دلوقتي؟دلوقتي ببص لوشّي، ومش شايف راجل.شايف شبه راجل… بس روحه مهزومة.أنا مشيت ورا وجع سنين…وخليت الحب الوحيد اللي نور لي قلبي…ضحية طريقي.أفضل الهدايا لأحبائكم
إيه اللي كنت بدور عليه؟ انتصار؟لا انتصرت ولا حتى أخدت حقي.أنا بس… بقيت شبه اللي كسّر مرايته،…استاهل اكره نفسي كل يوم.أنا عشت عمري أدوّر على نقطة ضوء…ولما لقيتها… طفيتها بإيدي.
بس لو في العمر لحظة رجوع…كنت هعيط عند رجلك، وأقولك:
“سامحيني… مش علشان أستاهل، بس علشان قلبك الطيب مايكنش حب واحد زَيِّي.”بس أنا عارف… الرسالة دي مش هتوصل.ويمكن حتى لو وصلت… عينكِ مش هتبص فيها،لأن اللي زيي… ميت حتى وهو عايش.
أنا دلوقتي بندم…اسمي بقى لعنة على لساني…وضميري بياكلنيّ وأنا بكتب لحد مش هيرد، ومش هستنى الرد…
دي آخر حاجة هقدر أعملها…أكتبلك، وأعترف، وأبكي في صمتي…
سكت، ويده تضغط القلم الي ان انكسر، سحب الورقة، يطويها، يضعها داخل ظرف، ويكتب عليه بخط مرتعش: “إلى من كانت ملاكاً… وغدر بيها شيطان.”
نظر للظرف الطويل، لا يتحرك…وكلمة شيطان ترن بداخله … يسحب ورقة جديدة… يكتب هذه المرة ببطء، ويملي على نفسه بصوت يملؤه الحقد على ذاته…
“إلى الشيطان الذي يسكن جلدي…إلى نديم الذي باع قلبه بوهم انتقام…أنت السبب…كنت عارف إنها بتحبك، وكنت عارف إنك بتحبها،بس سيبت كل ده، وجريت ورا غلك… ليه؟ليه خنتها؟ ليه طعنتها وهي سندك؟كنت شايف في عينها أمان… وكسرت ده الأمان.دلوقتي بتبكي؟ دلوقتي بتكتب؟لمييين؟لروح مش هتشوفك تاني…لو شفتك، هتتمنى ما كانتش عرفتك.
أفضل الهدايا لأحبائكم

فاكر ضحكتها؟راحت.فاكر حضنها؟اتبدّل بفراغ بيقرّص في ضهرك وانت نايم.انت مش ندمان… انت منتهي.منتهي بمعنى الكلمة…الانتقام كسب… والحب خسر… وإنت كنت الكفة اللي رجّحت الخسارة.
كل يوم حتقوم تفتكر… وتلعن…بس لا حد هيغفرلك… ولا هي هتكون جنبك.
ودي العدالة الوحيدة اللي باقيالك.””أنا ماستاهلتهاش… بس هي كانت آخر نقطة نقاء في قلبي، وانا… أنا خنقتها.”
ينتهي من الكتابة، يطوي الورقة، ويكتب على الظرف بخط مهزوز: “من نديم… إلى نديم. اقرأها كل ما تنسى إنك ما تستاهلش تسامح نفسك.”
يسقط رأسه على الطاولة، ويجلس في صمت ثقيل… كأن الحياة نفسها رفضت تُكمل المشهد..يبكي بصمت ..
” بس أنا مش شيطان… أنا أضعف من إني أكون شيطان… أنا بني آدم خان كل حاجة بس والله مريض وغلبان.. .”
يسحب كرسي ويجلس في العتمة… لا نور، لا صراخ… فقط همس ورق، ونَفَس متقطع، وشهقة مختنقة تتسلل من قلب رجل لم يبق منه إلا اسمه… وندمه.
عند “وجد”…
كانت جالسة في ركن غرفتها، لا تتحرّك،
حتى وصلها صوت والدها، حاسمًا لا يقبل نقاشًا.ثم دوّت الزغاريد…وانتشر الخبر في أنحاء البيت كالرصاص في ليلٍ هادئ.
ارتجف قلبها…كأنّه هَوَى من بين أضلعها،
وشعرت أنها ماتت حيّة.كيف؟كيف تُجبر على الزواج من ابن عمّها، وهي متزوجة في السرّ؟كيف تُزفّ إلى غيره؟كيف فعل بها ذلك من ظنّت أنّه “روحها”؟
لم تصرخ… لم تبكِ…لكن صوت أنينها كان يعلو في صدرها، كأنّه طعنات تئنّ دون دماء.
الدنيا دارت بها،العالم كله اختلّ أمام عينيها،
ثم اسودّت الرؤية،وغابت…وسقطت أرضًا، كأن الأرض لفظتها من شدّة الوجع.
مرّ الوقت… واستفاقت “وجد”.كانت الغرفة ساكنة، والهواء ثقيل كأنّه يشهد على جريمتها، أو يختنق معها.جلست منكمشة، عيناها تائهتان، ويديها تقبضان على أطراف ثوبها كأنها تبحث عن ثبات في العالم.أفضل الهدايا لأحبائكم
تفكّر…

“هتجوز إزاي؟أنا متجوّزة… أو مش متجوّزة؟
طب لو اتجوّزت، هييجي؟هيفضحني؟
هيطلّع الورق؟طب… ليه؟””طب… براء؟
براء هيعمل إيه لما يعرف؟هيموتوني!”
سكتت، ثم شهقت شهقة حادة كأنها تذكرت خنجرًا نُزع من قلبها…
“المنديل! لطمت وجهها بكفٍ مرتعشة،
وانفجر صوتها:
“منديل العار يا بنت جابر! يوم جوازك… يوم فضيحتك!”
نزفت الدموع من عينيها دون إذن،وقالت، كأنها تناجي شبحه:
“ليه؟ليه الغل ده؟تفضحني؟أنا؟أنا يا نديم؟!”
سقطت الدموع على الأرض،كأنها بتودّع نفسها…اللي كانت بتصدق ِ
دخل “براء” عليها…كان صوته ساكنًا،
لكن خطواته ثقيلة، كأنها تحمل ما لا يُقال.
رفعت “وجد” عينيها،وعيناها ككأسيّ دم،
احمرّتا من البكاء، والخوفُ يرتجف في نظراتها.شعرت برهبة…كأنّها تنتظر حكمًا بالإعدام، لا مجرّد حديث.
اقترب “براء”، وصوته خرج واضحًا، ثابتًا، خالٍ من العاطفة:
“اسمعي يا بت عمي… الكلام ده بيني وبينك.احنا هنمشي الدنيا… هاه،وما تستنيش يا بت عمي إني أبقى راجلك، فاهمة؟نمشّي أمورنا،وبعدين… كل واحد يروح لحاله.”
كان كلامه أشبه بمسمار يُدق في صدرها،
لكنّه تابع دون تردّد:

“إني مش رايدك…ما تزعليش،أنا بحب واحدة تانية…ورايدها.فعشان اكده… هنتجوز صوري،وما هجربش ليكي.
اصحك تزعلي…إنتِ زي الفل، ومين ما كان يتمناكي!بس إني… ما نفعلكيش.”
سكت للحظة…ثم أدار وجهه، وخرج دون أن ينتظر ردّها. وخرج…
جلست “وجد”، كأنّ روحها قد رُدّت إليها بعد الغرق…لأول مرّة منذ زمن، شعرت بأنفاسها تعود، همست لنفسها، تبتسم بمرارة:
“أزعل؟ أزعل؟يبارك فيك يا بن عمّي… رجّعتلي روحي.استنّى تبقى راجلي؟هيّا مين؟لا انت… ولا غيرك.”
سحبت نفسًا عميقًا، كأنّها خرجت من قبر:
“خلاص… وجد ماتت بالحيا.الحمد لله يا رب…انت كريم… ما هتفضحنيش،ما هيدخلش عليا…وشويّة كده، ويطلّقني!”
ضحكت، ضحكة يائسة لكنها مشروعة:
“خلاص… واترهبن عمري كله…هعوز إيه تاني؟مُتّ… وماتت أيّامي.منّك لله يا نديم…
عملتلك إيه؟ده أنا… أغلب من الغلب!”
سكتت،ورفعت وجهها للسقف كأنها بتسلّم وجعها لربها…ثم هبطت نظرتها للأرض.
لكن في عيونها نار،في قلبها رغبة مجنونة…
إنه يِحِسّ.عايزة توجّعه، تصرخ فيه، ترمي عليه إحساسها…عايزة تحرّقه زي ما حرّقها.
أمسكت “وجد” هاتفها بأصابع مرتعشة،
أنفاسها مخنوقة،لكن كلماتها خرجت،
وخرج معها آخر ما تبقّى من نبضها.
كتبت له…
“إزيك يا نديم؟عايش؟حلو؟مبسوط؟
عموماً… حابة أفرحك.خلاص… القصة خلصت.آه والله…لو يعني عندك إحساس…

وبتحس…أو حتى عندك ضمير من أساسه…”
صمتت لحظة، ثم تابعت:
“جايالك بخبر يفرّح… باركلي يا نديم… وافرح…مراتك هتتجوز…عقبالك!”
ضحكت ،ضحكة فيها وجع ميت،
وقالت:
“أيوه، هتجوز…هيجوزوني ابن عمّي، وطبعاً… هيعوز منديل… وكده.”
هنا خانها نفسها،فانسكبت الكلمات كطعنة على جرح لا يندمل:
“قولي يا نديم…أجبله منديل منين؟قولي أعملها إزاي؟ما أنا بقيت معيوبة…ما تدّيلي فكرة كده…أعدي الليلة دي إزاي؟إنت غدرت…قولي أغدر بأهلي إزاي؟أستر نفسي بعد ما فضحتني… إزاي؟”
كانت تبكي، ولا تبكي…لأن الألم تخطى حدود الدموع.
“بس عارف؟هعمل إيه؟هتجوز ابن عمي،
وليلتنا؟هوطّي على رجله،أبوسها… يستر عليا،ما أنا آخري تحت الرجلين…اللي تسلّم لغادر زيك… تستاهل.”
شهقت، وتنفست وجعًا:
“بعتلي تقولي: جوزك وماتخافيش طول ما أنا عايش؟هو أنا فاضلي غير الخوف؟والله… ما فاضل.”
صمتت… ثم كتبت:
“وإنت فاكر إنك لسه عايش؟إنت مت ألف مرة،مت بالنسبالي،ودفنتك… وخدت عزاك.”
ابتلعت حرقتها، ثم وجّهت آخر طعنة:
“بس عارف؟جايز ابن عمي يصعب عليه…
ويستر عليا…ما هو ابن أصل…مش خسيس.”

وتابعت، بصوت مخنوق بين الانكسار والدعاء:
“ادعيلي…راجل غيرك يسترني بعد ما فضحتني يا…””مش عارفة…إنت مين أصلًا؟ولا اسمك إيه؟ولا عملت كده ليه؟”
“بس كل اللي أعرفه…من قلبي…وبحرقة…
بدعي عليك…تدوق لوعتي، وقهرتي،
نفسي تدوقها، آه والله…دوق الفضيحة والعار،من قلب واحدة…ما عملتش حاجة في دنيتها غير إنها… حَبّتك.”
سحبت نفسًا أخيرًا،وهمست:
“يا راجلي…”
ثم ضحكت… ضحكة مليانة سخرية باكية:
“لا… راجلي إيه بقى؟إنت…ما ينفعش تبقى راجل،ولا حتى شُفتك راجل من أساسه.”
ثم أغلقت الهاتف،رمت به بعيدًا كأنّه رماد الذكرى،وانهارت على الأرض…تبكي بلا صوت،كأنها تنتحب على جنازة قلبها.
كان “نديم” جالسًا في عتمة غرفته،ظلال الليل تكسو ملامحه،ويده تتحرك على الورق كالمسحور،يخطُّ فوق خط،يكتب فوق كتابة،
كأنّه يحاول إخراج ما بداخله لكنه لا يملك لغة تسع جرحه.
عينا نديم كانتا جاحظتين،تُشبهان عيون من رآى شيطان قلبه أمامه.كان كأنّه ممسوسٌ بالندم، مشلولٌ بالعجز.
فجأة…وصلت الرسالة.م يكن هاتفه يضيء فحسب،بل قلبه انطفأ في اللحظة ذاتها.
قرأ أول سطر… ثم توقّف.يده ارتعشت.
نَفَسه اختنق.شعر أنّ قلبه توقف بالفعل.
هبّ واقفًا،كأنّ جسده ينتفض من نار تشتعل فيه.أمسك الهاتف،اتصل بها…مرة،مرتين،
عشرات المرات…
كان صوته يعلو في الفراغ:

“ردّي… بالله عليكي ردّي… وجِد!! وجِد بالله عليكي!!”
لكن الهاتف كان صامتًا كالمقبرة.لا صوت…
ولا حياة.كان يصرخ لكنها كانت قد أغلقت كل نوافذها.انتهى كل شيء…و”وجد” تنتظر ذبحها،بعينين مغمضتين على ذكرى خيانة.
هبّ “نديم” واقفًا كأن صاعقة ضربته في صدره،صرخ صرخة مخلوق احترق قلبه وهو حي:”البِت راحت!!نهارك اسود يا نديم…
هيموتوها…أيوه، حبيبتي هتموت!مراتي… بتاعتي!”
كان يهذي وهو يركض داخل الغرفة كالمجنون،يضرب الجدران، يركل الأبواب،
“نهارك طين يا نديم…عملت إيه إسودّ على دماغك !”
رفع وجهه، والدمع يتفجّر من عينيه:
“بقي يفرح جابر؟عايز يوريني إنه هيقدر عليا؟لاااا… وجد بتاعتي! بتــاعتي!”
ثم زمجر، وصوته خرج كوحش انفكّ من قيوده:
“وهحرّق قلبه!هحرّقه زي ما حرّق قلبي…
وجد ماحدش هياخدها غيري…ومش هسيبها لحد يئذيها!”
صرخ نديم، والنار بتلسع صوته من جوّاه:
“جواز إيه؟ وتوطي إيه؟لا عاش ولا كان اللي توطّيله،ولا يخليكي توطّي!دانتي… ست البنات،عالية… وغالية،ومافيش فيكي حاجة تنحني!”
وقف مكانه،أنفاسه بتنهش صدره،وكل كلمة كانت طعنة في قلبه هو قبل غيره.
“جايلِك…يا قلب نديم،جايلِك يا وجِد،
وجاي أقولها قدام الكل…إنتي مراتي،
مرات نديم عامر أبو الدهب!”
رفع راسه، صوته كان زئير:

“ابن عمّك ما يهمّنيش.العيلة؟ما يخوّفونيش .هقول وهتشوفي،ولا هسيب مخلوق يأذيكي،ولا هسمح لدمعة تنزل من عنيكي!”
ثم التفت فجأة،ركض نحو غرفة “مهره”،
فتح الباب بعنف، عيونه مشتعلة:
“قومي!قومي جهّزي أختك…إحنا مسافرين!”
نظرت إليه مذهولة:
– نسافر؟! نسافر فين يا نديم؟! إنت اتجننت؟!
صرخ بحرقة وهو بيخبط على صدره:
– لا ما اتجننتش! مراتي… مراتي هيجوزوها! فاهمة ده معناه إيه؟! قومي! محدش هيقرب منها طول ما أنا عايش!
نظرت له برهبة، صوتها مكسور:
– نديم… اهدى وفكر، ممكن نبعت لهم، ممكن نتصرف بهدوء، إنما تروح بنفسك؟ دول ممكن يقتلوك… وده اللي هيحصل!
صرخ وهو بيجز على سنانه، كأن قلبه بينزف:
– يبقى ارتاحت! وارتاح قلبي!أنا مش هسيبها تتوجع تاني… كفاية إللي حصل.أنا مش هستخبى طول عمري…هروح وأطلب حقي في النور.كفاية داسونا… كفاية خلونا نعيش في الظلمة.مراتي وحبيبتي تتبهدل وأنا حي؟!لا والله…يضربوني؟ يقتلوني؟ يفارقوني عن الدنيا؟بس هي… تتردلها كرامتها.
وهرجع لها فلوسها، باسمها.أنا مش طمعان في حاجة.أنا مش حرامي!أنا “نديم عامر أبو الدهب”…أنا اللي معايا قدهم، ويوزن عيلتهم كلها.قومي يا مهرة… قومي أجيب لمراتي حقها…متتوجعش…ومتخافش…ده عهدي ليها حتى لو هموت!
كانت “مهرة” واقفة، سمعاه، بس رجليها مش شايلينها…صوته بيرن في ودانها زي طبل حربي، بيعلن إنه طالع يموت… ورايح بإيده.
قربت منه، عينيها مليانة دموع، وقالت بصوت مكسور:
– وهنفضل ندفن نفسنا بايدينا؟ هنكمل نسيبهم ياخدوا مننا كل حاجه؟طب وإنت يا نديم؟! لو حصلّك حاجه؟!هسيبك تروح زي أبويا؟!هسيبك تتاخد.. إنت ضهرنا.
لو راح الضهر، مين هيشيل؟

لو اتكسرت إنت… إحنا نضيع يا نديم!
انهارت دموعها، وقعدت على الأرض، صوتها مختنق:
– مش قادره أشوفك رايح للموت برجليك…
بكت بحرقة، وهي تتمسك بإيده:
– ابوس إيدك… فكر، خطط، إوعى تتهور…
لو مش عشاني، عشانها… عشانها تعيش وهي عارفه إنك عايش وبتحبها.
متسيبهاش تعيش بوجعين… فقدك وكسرتها.
كان واقف قدامها، وصوت بكاها بيخرق قلبه….ضهر أخته… اللي اتحملت معاه وسندته، والنهارده بتترجاه ما يتهورش.
اتنفس بعمق… صدره طالع نازل كأنه بيبلع نيران.
قرب منها، وركع قدامها… بص في عينيها والدمع بيبرق جوه عنيه،بس الملامح حازمة، راجحة، فيها عزم الرجالة اللي اتربّوا على الوجع من صغرهم.
قال بهدوء غريب وسط العاصفة:
… وكل حرف منك نزل على قلبي سكاكين.
بس أنا لازم أكون النديم اللي وجِد حبتّه…
مش اللي يستخبى، ولا اللي يبيعها.
أنا مش رايح عشان أموت يا مهرة،أنا رايح أعيش بكرامة… وارجّع لها كرامتها.
مسح دموعها بإيده بحنية، وقف، ومدّ إيده لها عشان يقومها، وصوته فيه رجاء:
– خليكي ضهري زي ما كنتي دايمًا…
.
اقتربت “مهرة” منه بخطوات مترددة، عينيها متسعة برعب حقيقي، صوتها مهزوز من الخوف اللي بيهز قلبها:

– طب… سيبني أروح بدالك يا نديم…
أنا ماليش غيرك!
نظر إليها بعينين فيها وجع الدنيا كلها، وصوته كان حاد لكنه مكسور من جوه:
– أسيبك تروحي؟! ليه؟! “مرة” مش راجل؟
يا مهرة…والله ما خايف،بس لو مُت… يمكن الكل يرتاح.سيبيني… مش قادر أرجع خطوة.
سكت لحظة، وبص في عنيها وكأن بيحفر فيها آخر نظرة:
– حضّري أختك يا مهرة…أنا رايح أرجّع لها اسمها وكرامتها…حتى لو تمن ده دمي.
ثم استدار بعزم، خطوته تقيلة كأنها بتشد الأرض وراه،وسابها واقفة في المكان،
قلبها بيقع من الرعب،عارفة إنهم… هيقتلوه
من غير ما يرمش لهم جفن.
دخلت “مهرة” على “شجن”، فوجدتها جالسة على الأرض، تتفحّص صورها القديمة مع “براء”،
ملامحها شاردة، كأنها بتحاول تمسك بلحظة حب هربت منها…أفضل الهدايا لأحبائكم
لكن ما إن رأت “مهرة”، حتى أخفت الصور بسرعة، وارتبكت.
ظلت “مهرة” واقفة تنظر إليها بصمت، نظرة كلها وجع وحسرة،
حتى قالت “شجن” وهي تهرب من عينيها:
– إيه؟! بتبصيلي كده ليه؟
تنهدت “مهرة” بمرارة، بصوت مبحوح وجع:
– لسه بتحبيه، صح؟وإنتي عارفة… إنه هيتجوز غيرك.
أحنت “شجن” رأسها، كأن الكلمة كسرتها، وسالت دموعها من غير صوت،بس “مهرة” ما سكتتش، قربت منها، لمّت حنانها وغضبها في جملة واحدة:

– قومي.هنسافر.
رفعت “شجن” عينيها بدهشة وارتباك:
– نسافر؟ فين؟!
قالت “مهرة” بجمود يخبي وراه رعب الدنيا:
– هنروح لعيلتك المصونة…أخوكي رايح يمنع الفرح.
شهقت “شجن” وانهارت:
– لااا! هيموتوه! هو اتجنن؟!
تنهدت “مهرة”، ودمعة حُبست في رمشها:
– ربنا يستر…قومي يا حبيبتي.
هزت “شجن” رأسها، كأنها بتترجى الدنيا تمشي أسرع من وجعها:
– لا… سيبوني هنا. مش هقدر.
هنا انفجرت “مهرة”، مسكتها من إيديها بقوة، نفضت عنها الضعف:
– لا!هتقدري.عشان تبقي قوية… لازم تشوفي وجعك بعينك، تدوسي عليه، تبيني إنك مش مكسورة.لازم تبطلي تبقي ضعيفة…دا مش زمن الضعف!
ثم تركتها، وقامت واقفة، وخطوتها كانت بداية المعركة.
كانت “وجد” تجلس في المنتصف…
الكل يزيّنها، يبتسم لها، يلقّنها كلمات الفرح…وهي كالميّتة.لا تشعر بشيء، لا تميّز من حولها…بلادة غير عاديّة،كأن الروح هجرت الجسد، وتركته يتأرجح في الزيف.
كلماته وحدها كانت تدور في أذنيها،
ترتجّ داخل عقلها كنبض لا ينقطع:”وِجد بتاعة نديم… وجد روح نديم… أنا جُوزِك، أنا جاي!”
كانت تبتسم أحيانًا بلا وعي،بين ضجيج النساء، وزينة الخُدّام، وزغاريد لا تصل قلبها.

ليدخل أبوها، يُمسك بيدها…يجلسها وسط النساء،ثم يتركها… ويدخل إلى مجلس الرجال.
هناك، كان الجمع مكتملًا…الرجال على مقاعدهم،الجد في صدر المجلس، والوجع واضح في قسمات وجهه.يعلم أن “وجد” لا تحب “براء”،ويعلم أن ما يحدث… لا يمتّ للحياة بصلة.
جلس “أسمر” بجوار أخيه،وجلست الكراهية متربعة بين “براء” و”جابر”،والمأذون بدأ يرتّل كلمات العقد،كأنها طلاسم تُغلق أبواب الرحمة.
– قول ورايا يا حاج جابر…
أُزَوّجك بتي، البكر الرشيد، “وجد جابر أبو الدهب”، على سنة الله ورسوله…
قال “جابر”، مترددًا، صوته ثقيل:
– أُزَوّجك بنتي… “وجد جابر أبو الدهب”… على سنة الله ورسوله…
وفجأة…صوتٌ صَدَحَ في المكان، شقّ الهواء،
جَمَدَ القلوب،وأوقف الزمان…عندما….

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية عودة الذئاب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock