روايات

رواية في حي الزمالك الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك البارت الحادي والأربعون

رواية في حي الزمالك الجزء الحادي والأربعون

رواية في حي الزمالك الحلقة الحادية والأربعون

قَرَارٌ لاَ رَجْعَةَ فِيهِ🦋✨🤎

“ميرال..” تمتم نوح بصدمة وبنبرة صوت مُرتجفة بينما مازالت يده تتحسس موضع ضربة أفنان، اقتربت ميرال وكانت الإبتسامة تُزيين وجهها لكن سرعان ما أختفت فور وقوفها أمامهم مباشرًة وهي تستفسر عن الآتي:

“هو.. هو في حاجة ولا أيه؟ مالك يا نوح ماسك خدك ليه؟” نظر نحوها نوح بفاه فارغ لبضع ثوانٍ وهو يحاول أن يعرف منذ متى وهي تقف بالقرب منهم ويا ترى ما مدى ارتفاع نبرة صوتهم فيما دار بينه وبين أفنان من حديث..

“أنتِ.. أنتِ واقفة هنا.. من أمتى؟” كان يسأل نوح بتقطع وتلعثم شديد منحته ميرال ابتسامة غير مفهومة تنم عن الحيرة ثم تُجيب على سؤاله بإجابة جعلته يهدأ نسبيًا:

“لسه جاية، في أيه بقى؟”

“مفيش.. تعالي نشوف.. نشوف الحاجات اللي اخترناها نشوف هنوصل لسعر كام مع الراجل.”

حاول نوح تغير الموضوع وهو يتحاشى النظر نحو أفنان، كان يظن بغباؤه أن أفنان ستجعل ما حدث قبل قليل يمر مرور الكرام لكنه أدرك أنه مخطئ تمامًا حينما أردفت أفنان بحزم شديد:

“ميرال ممكن تنادي بابا، عايزاه في حاجة ضروري.”

“هتقوليله أيه؟ أحنا محتاجينه جوا عشان العفش.”

سأل نوح بتلعثم وبنظرات مرتعبة لم تراها أفنان من قبل لكنها لم تهتم فحنقها وغضبها لم يجعلها تصب تركيزها على أي شيء غير إخبار والدها بما حدث قبل قليل، طالعته بإزدراء قبل أن تقول بنبرة لا تخلو من الإنفعال:

“عايزة اقول كلمتين لأبويا! هتدخل كمان بيني وبين أبويا؟! حاجة عجيبة جدًا بجد!”

“في أيه يا أفنان؟!” سألت ميرال بعدم استيعاب وقبل أن تُجيبها أفنان سبقها نوح وهو يقول:

“خلاص يا ميرال سيبيها، ممكن حضرتك تسمحيلنا نحجز بس وبعدين عمو هيخرجلك.”

“صدقني مفيش داعي يا نوح.” تمتمت أفنان مع ابتسامة جانبية ساخرة، امتعض وجه ميرال قليلًا وهي تسألهم بحيرة:

“مفيش داعي لأيه؟ أنتوا مالكوا بتتكلموا بألغاز كده ليه؟”

“مفيش يا ميمي، تعالي ندخل سيبي أفنان عشان شكلها مش مضبوطة دلوقتي.”

“هاجي معاكوا.”

تمتمت أفنان بإصرار وهي تتجه نحو الداخل ليبتلع نوح الغصة التي في حلقه متسببه في تحرك ما يسمى بتفاحة آدم، وبمجرد اقترابهم من باب المعرض وجدت أفنان والدها يهرول نحو الخارج مسرعًا وقد ارتسمت علامات الهلع والرعب على وجهه، هرولت أفنان نحوه وهي تحاول أن تستفسر عن ما حدث.

“جدتك تعبت جامد بيقولوا غيبوبة سكر!”

“يا ساتر يارب، يلا يا عمو عالعربية بسرعة.. هي في أني مستشفى؟” سأل نوح بقلق لم تعرف أفنان هل سببه ما قاله والدها أم بسبب ما كانت تنوي هي قوله.

“هقولك العنوان لما نركب يلا بسرعة.”

“طب يا بابا متعرفش تفاصيل حصل أيه؟”

“مش عارف حاجة.. ربنا يستر..”

“متقلقش يا حبيبي إن شاء الله هتبقى كويسة.”

كان نوح يقود بقلق متقمصًا دور البطل المغوار الشجاع، في الواقع لم يكن لتوتره أي علاقة بمرض جدة أفنان بل كان القلق ينهش روحه نهشًا لأنه واثق تمامًا أن أمره سيُفتضح هذه المرة وأن أفنان ستخبر الجميع بما حدث وأنه سيخسر كل شيء لا محاله، فحتى وإن لم يصدقها أحد فسيندلع شجار كبير بينها وبين ميرال وعلى آثره سيتفرق شمل الأسرة وستتخلل الضغينة قلب الأختين.

ياله من أحمق ثرثار لو استطاع فقط حبس كلماته داخل جوفه لما حدث ما سيحدث، زفر بضيق وهو يُطالع أفنان في المرآة، كان يظن أنها سوف تتحاشى النظر نحوه لكنها كانت ترمقه بنظرات حادة واثقة فهي تعلم أنها على حق تمامًا، وأثناء سير نوح بالسيارة توقفت آخرى أمامهم فجاءة وكاد نوح أن يصطدم بها ليجد نفسه يخرج رأسه من الشرفة ويسب السائق الذي أمامه بدون وعي.

“خلاص يا نوح يا ابني اهدى وركز في الطريق قدامك عايزين نوصل بخير.”

“اه لو سمحت كفاية تيتا في المستشفى مش هنبقى كلنا.” علقت أفنان متعمدة إثارة غيظه أكثر وأكثر.

بعدة مدة ليست بطويلة توقفت السيارة أمام المستشفى ليترجل الجميع منها متجهين نحو الداخل وفي أثناء ذلك قامت أفنان بإبطاء خطواتها قليلًا كي تواكب سير نوح والذي اقتربت منه قليلًا وهي تُردف بتحدٍ شديد:

“أوعى تفتكر إن الموضوع عدى يا نوح، أنتَ بس حظك حلو إن تيتا تعبت.. اعتبره تأجيل حكم بالإعدام لكن مش إعفاء.”

كان نوح يرتشف المياه من زجاجته لكنه سعل على الفور حينما سمع ما قالته، منحته ابتسامة جانبية ساخرة قبل أن تتقدم لتواكب خطواتها خطوات شقيقتها والتي كانت هادئة وساكنة بشكلًا مبالغ فيه، وضعت أفنان ذراعها حول رقبة شقيقته لتُحيطها بلطف وهي تسألها:

“مالك؟ أكيد زعلانة عشان ملحقتش تجيبي العفش، متقلقيش كل حاجة بميعاد والنهاردة مكنش الميعاد.”

“أنا بس.. زعلانة عشان تيتا وكده..”

“إن شاء الله هتقوم بالسلامة متقلقيش، تلاقيها بس لغبطت في الأكل ونسيت تاخد الأدوية بتاعتها.”

في مساء ذلك اليوم وبعد أن تأكدوا من سلامة جدتها عاد الجميع إلى المنزل بعد أن قام نوح بإيصالهم، لم يضطر أحد للبقاء مع جدة أفنان لأن عمتها قد تكفلت بالأمر، كانت أفنان تراسل رحيم بينما تتناول بعض المقرمشات أما ميرال فجلست على سريرها تتأمل السماء من الشرفة في سكون تام.

“ميرال هو حصل حاجة ولا أيه؟ سكوتك النهاردة مش طبيعي.”

“حاسة أني مرهقة شوية.”

“من الشغل طبعًا ربنا يعينك.”

“ياريته عالإرهاق الجسدي يا أفنان كان هيبقى للموضوع حل.. برشامة مسكنة والموضوع يخلص، لكن الإرهاق النفسي بناخدله أيه؟”

كانت تتحدث ميرال بشرود وهي تتحاشى النظر إلى عيون أفنان التي اقتربت لتجلس إلى جانبها، جذبتها أفنان في عناقٍ دافئ لتنهمر دموع ميرال على الفور..
ساد الصمت لبرهة فلم تجد أفنان ما تقوله لكن بداخلها كانت تتوعد لنوح لما تسبب به من جراح في قلب شقيقتها.

مر يومان على ما حدث، كانت أفنان كلما حاولت التحدث إلى والدها وجدته منشغلًا بأمر جدتها، لم تتحدث بالطبع إلى والدتها فهي تعلم أنها لن تُصدقها على أي حال والوضع سيزداد اضطرابًا..

“أنا نازلة مع نوح عشان ندفع عربون العفش.” أردفت ميرال بعد أن بدلت ثيابها، رمقتها أفنان بصدمة وهي ترمش عدة مرات متتالية قبل أن تُعلق بتلعثم قائلة:

“متأكدة؟ قصدي يعني متأكدة إن الحاجة عجباكي؟ لو مش مقتنعة أوي ممكن نأجل..” كانت أفنان تحاول إيجاد حجة مُقنعة لمنعها من فعل ذلك لكن لم يبدو على ميرال الإقتناع بتاتًا كما لم يبدو عليها الحماس تجاه الخطوة التي على وشك أن تُقدم عليها.

“مفيش وقت.. مينفعش أجل تاني يا أفنان، أنتِ عارفة خلاص فاضل كام شهر عالفرح.. أحنا اختارنا الأجهزة وناقص بابا يشوف مع نوح هنقسطها ازاي وأدينا هنجيب العفش أهو.”

“طيب، خدي بالك من نفسك.. هو بابا فين؟”

“عند تيتا.” أجابت ميرال وهي تتجه نحو باب المنزل لتتنهد أفنان بضيق.

كان نوح ينتظر ميرال أمام المعرض في الميعاد المتفق عليه، كان ينظر في ساعة يده حينما جاءت ميرال، تسير نحوه بخطوات بطيئة ونظرات عيناها لا تخلو من التردد وكأنها على وشك فعل كارثة ما.

“أيه يا ميمي ده؟ تأخير ٣ دقائق، بعد كده هدفعك غرامة.”

حاول نوح ممازحتها لتبتسم هي له بهدوء قبل أن تتجه نحو الداخل، أخذت جولة أخيرة مع نوح في المعرض قبل أن يستقر كلاهما على الأثاث نفسه الذي وقع عليه الإختيار برفقة عائلتها، توقفت ميرال عن السير فجاءة ووقفت تنظر إلى نوح داخل عيناه وهي تسأله بتعابير خاوية:

“نوح هو أنتَ بتحب الغوامق؟”

“مش أوي يعني، قصدك عشان لون الأنترية يعني؟ ده عشان الفواتح بتتبهدل أنتِ أكيد عارفة.”

“هو ده السبب بس يعني؟”

“اه، كمان الألوان لايقة مع لون الدهان وكده..” أجاب لتومئ هي في صمت، منحها ابتسامة صغيرة ومن ثم أمسك بحقيبة يده السوداء الصغيرة وهو يخرج حزمة من المال ويقوم بالتأكد من المبلغ الذي بحوزته.

“نوح..” همست بصوتٍ متجف ليرفع عيناها مانحًا إياها نظرة خاطفة قبل أن يُردف بنبرة مُبتذلة:

“قلب نوح.”

“أنا مش هشتري.” وقعت الكلمة كالصاعقة على أذن نوح، صدرت ضحكة صغيرة منه بغير استيعاب دنًا منه أن ميرال تمزح لكن حينما رفع عيناه ليواجه خاصتها أدرك أنها جادة.. جادة كما لم تكن من قبل، ابتلع الغصة التي في حلقه وهو يسألها مستنكرًا:

“أيه؟ بتقولي أيه؟ مش عاجبك الحاجة ولا أيه؟ لو كده نشوف حاجة تانية.”

“لا عجباني بس مش هشتري..”

“ميرال أنتِ مُدركة أنتِ بتقولي أيه؟ مش وقت دلع ده! أحنا هنتجوز كمان كام شهر يعني لازم نجيب الحاجة بسرعة.”

“أنا مش هجيب الحاجة ومش هتجوز يا نوح، أنا حبيتك يا نوح.. حبيتك من كل قلبي، بس أنا مش هقدر استحمل يوم كمان بالوضع اللي أنا فيه ده.. مش هقدر استحمل أنك تبقى في حضني وقلبك وعقلك مع حد تاني، مش هقدر استحمل إهانات وزعيق وتهزيق على كل تصرف بعمله بقصد أو من غير قصد، أنا أسفة..”

نبست ميرال بهدوء تام عكس العاصفة التي اعتصرت قلبها من الداخل بينما تخلع خاتم الزواج من يدها المُرتجفة.. وينخلع معه قلبها، تُمسك بكف نوح وتضع بداخله الخاتم ومن ثم ترحل..

ترحل تاركة إياه يقف بثغرٍ فارغ، بقلب يشعر بالتحطم الحقيقي لأول مرة.. شعور غريب يراوده، ثِقل على قلبه لم يشعر به من قبل.. ضحكة غير مفهومة صدرت منه تبعها صمتٍ طويل، حرقة في عيناه.. هل حقًا يبكي؟! نوح ذو الطبع البارد يبكي؟ ومن أجل من؟ ميرال؟! أم أنه يبكي رثاءًا على حياته التي تزداد سوءًا في كل مرة يحاول إصلاحها..

لم يستطع أن يتبعها، أبت قدمه الحراك وهو يعلم جيدًا أنه لا يملك أي حق في التبرير أو محاولة إصلاح الأمر، وهل تُصلح الأمور بهذه البساطة؟ هو لم يكسر كوبًا ولم يُفسد مُركب كيميائي بل حطم قلب فتاة أحبته بصدق وحول حياة الفتاة التي أحبها إلى جحيم… لكن أكثر ما كان يشغل باله هو ما حدث لتنقلب أحوالها بهذا الشكل؟ أم ربما.. ربما سمعته وهو يتحدث إلى أفنان؟! مؤكد أنه لن يعرف الإجابة على هذا السؤال..

كان المشترون في المعرض والبائعين يُطالعون نوح بشفقة ويتهامسون فيما بينهم، بالطبع يشفقون عليه فمن يرى المشهد من بعيد سيرى الفتاة الجاحدة ذات القلب القاسي التي تترك زوجها المستقبلي أمام الجميع وأين؟ في المكان الذي من المفترض بهم أن يشتروا ما يحتاجونه من أجل عُشهم الصغير، لكن نوح استاء لتلك الفكرة فهو يريد أن يصرخ في وجه الجميع أن ميرال لم تكن سوى ملاك وهو فقط لم يستطع معرفة قيمتها والآن على ما يبدو أنه خسر كل شيء..

كانت ميرال تسير بتيه في الشوارع، لا تدري أين هي ولا تدري ما وجهتها.. لا ترى أمامها سوى طريقٍ طويل مُبهم مُشوش بفعل الدموع التي انهمرت بقوة من عيناها، تشعر بنيران تحرق قلبها، يديها ترتجف وأناملها باردة بالرغم من حرارة الطقس.. تسير لمدة لا بأس بها وهي تشعر بخدر تام في جسدها فلا تشعر بأي تعب كادت تُكمل على هذا النحو حتى جاءها اتصال من شقيقتها الوحيدة.

“أيه يا ميرال اشتريتوا الحاجة؟”

“لا.”صدرت الكلمة بنبرة أقرب للحشرجة لكن أفنان لم تنتبه بسبب الضوضاء التي أحاطت بها لذا سألت شقيقتها بصوتٍ عالٍ لا يخلو من الضيق:

“ليه؟ علي صوتك شوية الدنيا دوشة مش سمعاكي.”

“هو أنتِ فين؟” لم تكرر ميرال ما قالته بل سألت أفنان عن موقعها وهي تدعو بداخلها أن تكون أفنان في مكان قريب فميرال تشعر بالوحشة ووحده العناق خاصة أفنان هو ما يستطيع منحها شعور بالطمأنينة والدفء..

“كنت زهقانة في البيت لوحدي قولت انزل اجيب لبس للجهاز، بقولك أيه لو خلصتي ما تخلي نوح يوصلك عندي.”

“ابعتيلي اللوكيشن طيب.” نفذت أفنان ما طلبته ميرال وانتهت المكالمة على هذا النحو، قامت ميرال بطلب سيارة أجرى وتوجهت نحو الموقع الجغرافي الذي أرسلته أفنان.

“ما لسه بدري، بقالي نص ساعة واقفة في الشمس مستنية ساعدتك..”

تذمرت أفنان فور رؤيتها لوجه شقيقتها، لم تلاحظ أفنان أثر البكاء على وجه شقيقتها لإرتدائها نظارة شمسية، اقتربت ميرال قليلًا من أفنان وهي تخلص النظارة بواسطة يدها اليًمنى وقبل أن تستوعب أفنان عدم وجود خاتم الخطبة في يد ميرال فتحت الأخيرة فمها لتُردف بثبات تام:

“أنا سيبت نوح.”

“عملتي أيه؟!!” سألت أفنان بعدم استيعاب، مخها يأبى ترجمة ما تقوله ميرال لتسألها مجددًا بعدم تصديق:

“ميرال أنتي مستوعبة أنتِ بتقولي أيه؟ أنتِ فاضل كام شهر على فرحك.. أحنا جهزنا معظم الحاجة تقريبًا..”

بالطبع لم تكن أفنان تحاول إقناع ميرال بالعودة إلى نوح إطلاقًا لكن ذلك لم يمنع كون الأمر صادم بالنسبة إليها، فميرال التي تعشق الهواء الذي يستنشقه نوح قد قررت بكامل إرادتها وكامل قواها العقلية أن تنهي علاقتها بنوح وأن تُنهي فصل الخطبة البائس من تاريخ حياتها..

ساد الصمت لبرهة قبل أن تأخذ ميرال نفسًا عميق وهي تحاول مسح دموعها التي انهمرت وكي لا تمنعها الغصة التي في حلقها من التحدث، نظرت إلى داخل عين أفنان ثم أردفت الآتي:

“نوح بيحبك يا أفنان.. مهما حاولت أشغله عنك ومهما حاولت أعمل نفسي عبيطة هو بيحبك! فاضل أقل من ٦ شهور على فرحنا ولسه بيتلغبط في اسمي وبيندهلي بإسمك! بيختار الألوان اللي بتحبيها وبيستخدم نفس ألفاظك في وصف الحاجة، بيسرح فيكي كل مرة بتتقابلوا! ده حتى وأحنا بنجيب الشبكة يا أفنان كان بيسألك عن رأيك وكأنك أنتِ اللي هتلبسيها.. أنا كنت غبية لما أفتكرت أنه هيحبني.. هو عنده حق أنه يحبك، أنتي أحلى مني وشخصيتك أحسن.. شخصيتك؟ على الأقل أنتي عندك شخصية لكن أنا..”

كانت تتحدث ميرال بإنهيار شديد، نبرتها تنم عن صدق شعورها، الآلم يفوح منها والكلمات الصادرة من فمها كانت بمثابة خنجر يطعن قلبها وقلب أفنان في الوقت ذاته.

“ششش! بس يا ميرال اسكتي.. متكمليش!” صاحت أفنان وهي تضم شقيقتها بين ذراعيها في عناقٍ قوي بينما تُجبر ميرال السكوت بإغلاق فمها بواسطة كتفها.

“أنتي أجمل واحدة في الدنيا يا ميرال، وأنتي مش عديمة الشخصية وأوعي تقولي كلامي زي ده تاني! هو اللي غبي ومعرفش يقدر قيمة الحاجة اللي معاه وأنا وربنا لأجبلك حقك منه يا حبيبتي.”

أردفت أفنان من بين دموعها وهي تشعر بقلبها يحترق من أجل شقيقتها، لم تُجيب ميرال على ما قالته أفنان بل اكتفت بإخراج بعد الشهقات دلالة على بكائها ولكن بدون أي سابق انذار هدأ صوت بكائها لم تستوعب أفنات ما حدث حتى شعرت بثقل شديد في جسد ميرال، لقد فقدت ميرال الوعي.

شهقت أفنان بقوة وهي تحاول حمل جسد ميرال.. لكنها فشلت لكن لحسن الحظ انتبهت لها فتاة تعمل في محل بقالة هرولت نحوها لتساعدها على حمل جسد ميرال ووضعها على أحدى الكراسي، حاولت أفنان أن تضرب وجه شقيقتها بخفة لكن الأمر لم يجدي نفعًا ومن هول الموقف لم تستطع أفنان التفكير في أي حلًا آخر سوى الإمساك بالهاتف ومهاتفة أول رقم هاتف ظهر أمامها.

“رحيم.. ألو.. رحيم ألحقني.” صرخت أفنان بمجرد أن أجاب هو من الجانب الآخر، لم تنتظر سماع صوته وتفوهت بجملتها المثيرة للفزع تلك وكانت تنتظر أن يأتيها صوت رحيم من الجانب الآخر لكن لم يكن هو من أجاب.

“أيوا يا أفنان أنا أنس.. رحيم بيسوق مش عارف يرد في حاجة ولا أيه؟”

“أنس ألحقني ميرال أغم عليها في الشارع.. مش عارفة اعمل ايه..”

“أنتوا فين طيب قوليلي بالضبط؟”

“هبعتلك اللوكيشن.”

أنهت أفنان المكالمة وانتظرت مدة قصيرة حتى توقفت سيارة رحيم أمامهم وفي ذلك الوقت كانت ميرال على وشك استرداد وعيها.

“أيه يا أفنان حصل أيه؟” سأل رحيم بجدية وقلق مُناديًا أفنان بإسمها كاملًا وليس بلقبها المُعتاد، استغرقت بضع ثوانٍ قبل أن تُعلق دون الإجابة على سؤاله:

“مش وقته، هحكيلك لما نطمن عليها.”

أدخلت أفنان ميرال إلى داخل السيارة بمساعدة الفتاة، شكرتها أفنان ودلفت إلى داخل السيارة سريعًا ومعها رحيم و وبمجرد أن فعل كليهما تحرك أنس بالسيارة مُسرعًا وهو يُردف مُتذمرًا من حظه السيء:

“يادي الوكسة هو مفيش مرة أوصلك أنتِ وميرال غير وهي فطسانة كده؟ بتعملي أيه في البت؟”

“بطل رغي وبص قدامك لا نترمي كلنا في المستشفى.”

“بت أنتِ كلميني حلو، أنا ممكن اسيب الدريكسيون وأمسك في خناقك عادي ولا يهمني.”

علق أنس بإزدراء على حديثها وهو يترك عجلة القيادة ويلتفت ليتحدث إليها، لتتسع أعين رحيم وهو يُمسك عجلة القيادة بدلًا منه بينما يوبخه بجدية قائلًا:

“أنس! مش وقته الهبل اللي بتعملوه ده، وسوق عدل بدل ما نموت كلنا.”

“معنديش مشكلة عن نفسي.”

بعد مدة ليست بطويلة توقف أنس أمام أحدي المستشفيات الخاصة والتي يعمل بها بضع من أصدقائه هو ورحيم، طمئنهم الطبيب وأخبرهم أنه فقدان في الوعي نتيجة انخفاض ضغط الدم والنباع عن إرهاق شديد وعدم تناولها الطعام لمدة طويلة، سبت أفنان نفسها في داخلها.. كيف لها ألا تنتبه أن ميرال كانت بالكاد تأكل في اليومين الماضيين؟!

“هو أيه اللي حصل لكل ده؟” سأل رحيم بقلق وقبل أن تُجيبه أفنان سبقها أنس وكان توقعه صحيحًا بالفعل.

“أكيد بسبب سبع البورمبة بتاعها.”

“ميرال فسخت خطوبتها على نوح من ساعتين..”

“هو مش المفروض They were getting married this year ‘كانوا سيتزوجون في هذا العام’؟!”

“اه.. مفهمتش منها تفاصيل الموقف بالضبط.. هي قالتلي ووقعت مني، أنا قلقانة عليها أوي يا رحيم.. على أد ما أنا عايزاها تفوق عشان اطمن عليها على أد ما أنا خايفة من اللي هنقوله لبعض وحاسه قلبي واجعني أوي عليها من الكسرة اللي هي فيها..”

“هو ممكن لما تفوق اقعد معاها في الكافتيريا بتاعت المستشفى نتكلم قبل ما أي حد تاني يكلمها في أي حاجة؟”

طلب أنس طلبه الغريب مُخرجًا أفنان من نوبة التأثر والحزن لتنظر نحوه بحنق وهي ترفع أحدى حاجبيها بإعتراض واضح بينما تسأل مُستنكرة:

“وأنت هتقولها أيه بقى يا عم المصلح الإجتماعي أنت؟”

“خليكي في حالك، وكلمي باباكي قوليله أنها تعبت شوية وأنكوا معانا عشان ميقلقش.”

“حاضر لما نشوف آخرتها معاك.” نفذت أفنان ما طلبته، وبعد بضع دقائق أخبرتهم الممرضة أن ميرال قد استيقظت وأنهم بإمكانهم الإطمئنان عليها.

“طيب ممكن بعد إذنك تاخديها وتنزليها الكافتيريا، لو هي تقدر تتحرك يعني.”

“حاضر.”

بعد خمسة دقائق كانت ميرال تجلس بحيرة على أحدى الكراسي بحديقة المستشفى، لا تتذكر ما حدث ولكنها توقعت بالفعل ولكن لا تدري أين أفنان؟ ومن تنتظر الآن؟ لقد أخبرتها الممرضة أن تنتظر هنا.

“مساء الفل.” صدرت هذه الجملة من أنس لتنتفض ميرال وهي تلتفت حولها بحثًا عن مصدر الصوت، منحها ابتسامة صغيرة وهو يذهب للجلوس أمامها.

“أنس؟ أنتَ أيه اللي جابك هنا؟”

“أيه ده أيه الإحراج ده؟ أنا اللي انقذتك يا ستي، أغم عليكي مع أفنان وطبعًا عشان أنا شجاع جدًا ومغوار أفنان استعانت بيا عشان اجي ألحقك.”

أعلن أنس بنبرة درامية مُتقمصًا دور البطل الشجاع لتبتسم ميرال ابتسامة صغيرة وهي تسأله:

“بيك ولا برحيم؟”

“متدخلنيش في تفاصيل دلوقتي، المهم مش هتحكيلي حصل أيه؟”

“بإختصار كده أنا كنت مخطوبة لنوح، ابن خالتي.. أنت أكيد عارفه.. كنت بحبه من زمان كان حلم حياتي من وأنا طفلة.. لما اتقدملي مكنتش مصدقة نفسي وكنت طايرة من الفرحة، مكنتش واخدة بالي أنه عمل كده غصب.. غصب على نفسه وخطبني مع أنه بيحب أفنان..”

كانت تسرد ميرال ما حدث بشرود، تتحاشى النظر إلى عيون أنس فهي متوقعة ردة فعله.. إما سيطالعها بشفقة أو بإزدراء بسبب حماقتها الواضحة.

“كملي أنا سامعك.”

تمتم أنس بإهتمام حقيقي وبنبرة لم تحمل في طياتها أيًا مما توقعته ميرال، لتأخذ ميرال نفس عميق ثم تتابع حديثها مُفرغة كل ما في جعبتها.. ساد الصمت لبرهة بعد أن فرغت من حديثها قبل أن يُقاطعها أنس وهو يسألها بسخرية:

“دي ستوكهولم سيندروم دي يا بنتي ولا ايه؟”

“دي شتمية؟” سألته ميرال بجدية.

“Stockholm Syndrome”

أعاد تكرار المصطلح بلغة إنجليزية صحيحة لتنظر نحوه ميرال بالبلاهة ذاتها ليقهقه قبل أن يُتابع مُفسرًا:

“لا ده مرض نفسي..” عبس وجه ميرال وهي تعبث في يديها تتحسس موضع خاتم الخطبة لتتذكر على الفور أنه لم يعد هناك وجود للخاتم، حمحم أنس بضيق وهو يحك مؤخرة عنقه قبل أن يسألها بقليل من الذنب:

“أيه ده قلبتي وشك ليه؟ أنا مش قصدي حاجة.. استني هشرحلك المصطلح ده جيه منين.. بصي يا ستي كان يا مكان كان في مكان زمان اسمه ستوكهولم ‘منطقة في السويد’ كان في بنات هناك بيشتغلوا في بنك، اتعرضوا للخطف من حرامية عملوا سطوا على البنك.. والبنات دول حبوا اللي خطفوهم ومن هنا جت فكرة إنك تحبي الشخص التوكسيك اللي بيأذيكي، دي طبعا حالة مرضية لكن للأسف الناس صورتها على أنها حاجة رومانسية فظهر أمثالك بقى.”

كان أنس يشرح المصطلح وفي الوقت ذاته كان يعصر قلب ميرال عصرًا حينما ازداد إدراكها لمدى حماقتها وأنها بالفعل كانت ترى الأمور من منظور قاصر للغاية..

منظور خاطئ تمامًا، منظور قد صوره المجتمع، الأفلام الهابطة والروايات الفاسدة على أنه الحب، الحب والكرامة لا يجتمعان.. يالها من سخافة.. فما معنى الحب دون كرامة؟ كيف للإنسان أن يُحب أحدٍ آخر قبل أن يُحب نفسه؟ كيف للإنسان أن يحافظ على كرامة ومشاعر شخصٍ آخر إن لم يحافظ على كرامة نفسه أولًا؟

رمشت ميرال عدة مرات متتالية وهي تخرج من شرودها، ومن ثم تُطالع أنس بإبتسامة ساخرة وهي تهمس:

“ربنا يكرم أصلك.”

“أنتِ زعلتي ولا أيه؟ أنا مش قصدي ازعلك..”

“لا مزعلتش ولا حاجة، وحتى لو زعلانة مش هيبقى منك هيبقى من نفسي.. أنا اللي وصلت نفسي للمرحلة دي.”

“بقولك أيه يا ميرال أنا عازمك عند ال Psychiatrist ‘الطبيب/ة النفسية’ بتاعتي.”

“يااه عزومة ولا أروع بصراحة، وبعدين لا يا عم أنا عارفة أن الدكاترة النفسيين كشفهم غالي أوي.”

“هي دي حقيقة، بس أنا عازمك.”

“لا معلش مش هينفع.”

“طب بصي أنا هدفعلك وأنتِ قسطي المبلغ على عشر سنين، كل سنة جنية ونص مثلًا..”

“اتفقنا.. طب أيه أنت مش هتحكيلي زعلان ليه؟”

سألت ميرال بتلقائية تامة ليحاول أنس اخفاء ضحكته ويحاول التحدث بجدية لا تتماشى مع حديثه الساخرة مُردفًا:

“زعلان؟ بصي يا ستي أبويا كان مدمن، أمي كانت في مصحة للأمراض النفسية والعقلية وأختي كانت في غيبوبة بسبب أبويا، بس فزعلان شوية.”

قهقهت ميرال على حديثه ظنًا منها أنه يمزح لكنها وجدت تعابير وجهه جادة تمامًا فيما عدا ابتسامة منكسرة ظهرت على جانبه فمه، اعتدلت في جلستها وهي تسأله بجدية:

“هو أنت بتتكلم جد؟”

“اه.. للأسف يعني.” نبس أنس ببعض الحرج وهو يُعدل من جلسته دلالة على عدم شعوره بالراحة، ضحكة ساخرة صدرت من ميرال قبل أن تتفوه مُستنكرة:

“وأنا اللي كنت فاكرة إن مشكلتي هي أكبر مشكلة في الدنيا..”

“هي فعلًا أكبر مشكلة في الدنيا.. دنيتك أنتِ، مش معنى إن في ناس تانية بتعاني أو أنك بطريقة ما شايفاهم بيعانوا أكتر منك أنك تتفهي من مشكلتك، يعني أنا لو في وضع شبه بتاعك وسيبت البنت اللي بحبها لو بحبها بجد يعني هبقى منهار وفي نوبة اكتئاب.”

“أنا بصراحة مش قادرة اتخيل نفسي مكانك.. حاسه قلبي مش هيستحمل الفكرة أصلًا..”

“بعد فترة بتتأقلمي مع الوضع مهما كان سيء.. بعد الشر عنك طبعًا ربنا ما يحطك في وضع زي ده.”

“طيب وليه متحاولش تغير الوضع ده؟ أنا عارفة إن طبعًا الكلام من برا سهل.. أنس هو اللي أنت حكيته ده بجد؟”

كانت ميرال تتحدث بجدية تامة ولكنها عاودت السؤال بحيرة عما إن كان حديثه صادقًا أم لا، ضحكة رجولية عالية صدرت من أنس سمحت بظهور أسنانه البيضاء اللامعة وإن كانت ميرال في غير وضع وفي غير زمان لو قعت في حب ابتسامته تلك بدون جهد يذكر، بعد أن انتهى أنس من نوبة الضحك خاصته فرك عيناه قبل أن يُحمحم ويُردف بجدية:

“هاتي مصحف أحلفلك عليه لو مش مصدقاني.”

“لا خلاص مصدقاك مصدقاك.. أيه ده أفنان ورحيم ومعاهم بابا..”

“اه ما أنا اللي قولتلهم يجيبوه.”

“بابا ميعرفش حاجة صح؟ هقولهم أيه عن الدبلة اللي مش في إيدي؟”

“عادي أفنان شالتها في شنطتها لما أغم عليكي عشان خافت لحد يسرقها والناس بتساعدك.”

“صح برافو عليك.”

“أيه يا ميرال يا بنتي أنتِ كويسة؟”

“اه يا بابا متقلقش أنا بس مكنتش واكلة كويس.” كذبت ميرال بنبرة مرهقة لكن من شدة قلق والدها لم ينتبه لكونها غير صادقة، زفر بضيق ومن ثم انتبه لشيء هام ليسألها الآتي:

“وفين نوح؟ ازاي يسيبك في الوضع ده؟”

“ما هو أصل.. هو ميعرفش.. أحنا كنا مع بعض وجاله شغل فجاءة ووصلني لأفنان و.. ومشي وكده.”

“طيب يا بنتي، أنا هروح الحسابات وأجي ونروح البيت ترتاحي.” أعلن والدها لتومئ له ميرال بصمت، يستقيم أنس من مقعده ويتبع والدها ورحيم ولكن قبل أن يذهب يُلقي نظرة أخيرة نحوها وهو يهمس بصوتٍ منخفض:

“أنا هقوم أشوفهم بقى.. متنسيش العزومة ها.” ابتسم ميرال ابتسامة صغيرة وهي تومئ برأسها ب ‘نعم’ ليبتسم أنس وهو يغمز لها بإحدى عينيه.

“عزومة أيه؟ أنا مش فاهمة حاجة..”

“هبقى اشرحلك بعدين..”

“ميرال ممكن تقوليلي أيه اللي خلاكي تاخدي القرار ده فجاءة.. ليه بعد ما استحملتي المدة دي قررتي تنهي كل حاجة؟ أنا مبسوطة وفخورة بيكي طبعًا بس عندي فضول.”

“أنا سمعتكوا وأنتوا بتتكلموا.. من الصدمة معرفتش أدي رد فعل.. فضلت تلات أيام مش بنام، مش عارفة أفكر.. مش عارفة أخد قرار..

كانت ميرال تُفسر ما حدث بحزن شديد، كانت أفنان تستمع إليها في ذهول واستياء قبل أن تسألها الآتي:

“ليه مقولتليش؟”

“كرامتي وجعتني أوي يا أفنان، فرق كبير أوي لما الحاجة تبقى محسوسة وبين لما تتقال بشكل صريح.. أنا تايهة ومتلخبطة ومش عارفة أعمل أيه.. “أنا مش عارفة هقول لبابا ازاي.. والفلوس اللي دفعها في الجهاز والحاجة اللي اتجابت عالفاضي.. ولا ماما.. علاقتها بخالتو..”

“هتقوليلهم أيه يعني أيه؟ هتقوليلهم كل شيء قسمة ونصيب، والحاجة اللي اتجابت هنشيلها عندنا لحد أما يجي ابن الحلال اللي يستاهلك بجد وماما وخالتو اكيد هيتصالحوا يعني وبعدين أنتِ مش هتكملي في علاقة فاشلة عشان ماما وخالتو ميزعلوش.”

“ياريت الموضوع كان بالسهولة اللي بتتكلمي بيها دي.. أنتِ عارفة ده حتى مفكرش يتصل بيا ولا حتى جري ورايا وحاول يلحقني.. سابني أمشي كأني ولا حاجة..”

“بني آدم برأس.. ولا بلاش أشيل ذنب واحد زي ده، بصي يا ميرال يا حبيبتي كل حاجة بتبقى صعبة في أولها.. ومع الوقت بنتخطى اللي حصل أو بنتعافى نسبيًا عالأقل، وبعدين ازاي تبقي زعلانة كده وماما عاملالنا صنية مكرونة بشاميل عالغداء؟”

قهقهت ميرال على سخافة شقيقتها لتستقيم أفنان وتضمها في عناقًا دافئ تنهمر بسببه دموع ميرال مجددًا لكن أفنان لا تطلب منها التوقف عن البكاء، بل تدعها تُفرغ كل ما في جعبتها من حزن وطاقة سلبية، بعد ساعتين كانت ميرال تجلس برفقة أفنان ووالديها على طاولة الطعام، وُضع الطعام أمامهم وساد الصمت..

لم يأكل أحد ولم يتحدث أحد وقد كان الوضع مُريب بدرجة غير مفهومة بالرغم من عدم معرفة والديهم بما حدث إلا أن والدهم كان يعرف أن هناك خطبًا ما يتعلق بميرال، إن ابنته الكُبرى منطفئة.. زال بريق عيناها وغلف السواد أسفل عيناها بسرعة غير معقولة، كيف لم يلاحظ ذلك في الأيام الماضية؟! شعر بالخزي تجاه نفسه لكن ماذا عساه يفعل؟ لقد كان منشغلًا بمرض والدته، العمل، المتجر واخيرًا تجهيزات زواج ميرال.

“ما هو يا تتكلموا يا تاكلوا مش معقول كده.” أردفت رانيا والدتهم؛ بفراغ صبر.. حمحمت ميرال وقد فتحت ثغرها لكن الكلمات قد غادرتها، منحت أفنان نبرة تطلب المساعدة لتتحدث أفنان بدلًا منها.

“ميرال سابت نوح.”

“مش وقت هزارك البايخ ده يا أفنان! ولا.. أنتِ بتتكلمي جد؟ دبلتك فين يا ميرال؟” كانت والدة أفنان تظن أنها مجرد مُزحة سخيفة من أفنان لكن هدوء أفنان غير المعتاد قد أثبت عكس ذلك، لم يقبل عقل رانيا ما سمعته من ابنتها ولكن جاء صوت زوجها حازمًا وهو يُردف:

“اهدي شوية يا رانيا وخلينا نفهم!”

“نفهم أيه يا أحمد؟ الناس هتقول علينا أيه؟ وأختي هقولها أيه؟!”

“رانيا أنا قولت اهدي من فضلك! خلينا نسمع منهم الأول.. بنتي أهم من أي حد ومن أي حاجة.. أختك سابت خطيبها ليه يا أفنان؟”

“عشان نوح بيحبني أنا يا بابا، كان طول الوقت بيلمح وحاولت أقولكوا أكتر من مرة وحذرت ميرال أكتر من مرة ومحدش سمع مني.. كنت بطلع أخت شريرة ووحشة، لحد ما البيه قرر أنه يصارحني ويقولي وش وبكل بجاحة أنه بيحبني وميرال سمعته، لا وأيه قالي في يوم كلكوا كنتوا فيه معايا ومعملش احترام ولا اعتبار لأي حد!”

بصقت أفنان كلماتها وهي تشعر بغصة في حلقها بينما تجمعت الدموع في عيناها هي ايضًا، لقد كان الموقف غاية في الصعوبة والآلم بالنسبة إليها كما الأمر بالنسبة لميرال.. ساد الصمت لبرهة قبل أن تُتابع أفنان حديثها وهي تُخبرهم عن كل شيء وكل ما فعله نحوح وتسبب فيه من آلم الفترات الماضية.

بعد الإنتهاء من حديثها وبعد مناقشات عديدة وجدال، اتخذت رانيا قرار بأن تبقي علاقتها بشقيقتها كما هي بعيدة تمامًا عن ما حدث بين ابنتها وابن شقيقتها، أعادت والدة أفنان ‘الشبكة’ إلى شقيقتها وطلبت من ألا يتحدث نوح إلا ابنتيها مجددًا بل وألا يتحدث إليها هي شخصيًا، وذلك الوغد الجبان لم يقوى على المواجهة ولم يقوى على الإعتذار..

كانت ميرال تحاول التعافي من أسوء فترات حياتها وإن كان وجود نوح إلى جانبها يسبب لها آلمًا يفوق آلم بعاده لكن ذلك لم يمنع صعوبة إقناع نفسها بأن كل شيء قد انتهى وأن العُش الذي أخذت تبنيه بمساعدته الشهور الماضية قد هُدم قبل حتى أن تخطو قدمها داخله، ولم تستطع كبح نفسها من السؤال الذي لطالما سأله معظمنا في مثل هذه الأوقات:

‘لماذا أنا؟ ولماذا على كل شيء أقع في أحبه أن يرحل عني بهذه القسوة؟ لماذا جاء من الإساس إن لم يكن مقدر له البقاء؟ لم على كل أحلامنا أن تندثر بهذه الطاقة ولم مقدر على الدوام ليسقف توقعاتنا أن يتحطم فوق رؤوسنا في كل مرة؟’

لكنها لم تجد قط جوابًا واحدٍ يُرضيها.. ومرت الأيام ببطء شديد لم يكن يساعدها على تجاوزها سوى دعم عائلتها وإنشغالها بالعمل ورسالة أو اثنتين يُرسلها ذلك المعتوه اللطيف المُدعو: أنس فريد، بعد أن أرسل إليها طلب صداقة على أحدى مواقع التواصل الإجتماعي.

ثلاثة أسابيع مرت منذ ما حدث، كانت أفنان منشغلة كثيرًا بشقيقتها ورحيم منشغلًا بعمله لذا لم تُقابله غير مرة واحدة في منزلها وكانت جلسة عائلية لطيفة وفي الزيارة التي تليها جاء رحيم ومعه الخيرات كالمعتاد لكن كان هناك شيء مختلف حوله، استطاعت أفنان أن تستشعر ذلك بسهولة.. متوتر ربما عقله منشغل بأمر ما.. يود أن يخبرهم شيئًا يجول في خاطره؟

“هو بصراحة.. أنا كنت عايز أكلم حضرتك في حاجة..”

“اتفضل يا ابني، أنا سامعك.”

“أنا أسف طبعًا يا Uncle لو الظرف مش مناسب بس كنت عايز اطلب من حضرتك طلب.” تمتم رحيم في حرج قاصدًا مرض والدة والد أفنان المتكرر وكذلك ما حدث مع ميرال منذ ثلاثة أسابيع فقط..

“تحت أمرك يا رحيم يا ابني.”

“أنا عايز نكتب الكتاب.. أنا وأفنان يعني.” تفوه رحيم ببعض التردد لتتسع أعين أفنان وهي تستقيم من مقعدها بفزع بينما تسأله مستنكرة:

“أيه؟ عايز نعمل أيه؟ أنتَ يا ابني أنتَ مش المفروض..”

“ششش اسكتي شوية ممكن؟ ها يا Uncle حضرتك رأيك أيه؟” أردف رحيم متجاهلًا ردة فعلها المبالغ فيها والتي قد توقعها مسبقًا وما كان يهمه أكثر الآن هو رد والدها.

“والله يا ابني اللي أنتوا تشوفوه، أنا عن نفسي يعني بقلق لما كتب الكتاب بيبقى قبل الفرح بمدة كبيرة عشان لو لقدر الله يعني..”

كان والد أفنان وبالرغم من حبه الشديد لرحيم إلا أنه كان يشعر بالقلق من انفصال رحيم عن أفنان بعد عقد قرانهم، ففي تلك الحالة ستصبح مُطلقة من قبل أن تطأ قدمها عش الزوجية.

“متقلقش إن شاء الله مفيش حاجة زي كده هتحصل، عمتًا لو حضرتك قلقان أحنا ممكن نقدم ميعاد الفرح لو أفنان معندهاش مانع، أنا بس عايز اعمل كده عشان لما ننزل نجيب حاجات للشقة لو خرجنا حضرتك متقباش قلقان ومنبقاش بنعمل حاجة غلط برضوا..”

قام رحيم بشرح وجهة نظره والتي كانت صحيحة تمامًا، أخذ والد أفنان يُفكر لثوانٍ قبل أن يسأل أفنان عن رأيها:

“أنتِ أيه رأيك في الكلام ده يا أفنان؟”

“والله يعني يا بابا لو حضرتك موافق ورحيم موافق فأنا هضطر أني.. أرفض طبعًا أيه التهريج ده؟”

“ده بجد؟”

“بجد أيه أنتَ كمان؟ أنا عندي استعداد نكتب دلوقتي.” أردفت أفنان بنبرة شبة جادة لينظر نحوها رحيم بحيرة لثوانٍ قبل أن تنفجر هي على ردة فعله ثم تُضيف:

“أنا معنديش مشكلة يعني بس الفرح يفضل في ميعاده، أنتوا عارفين أن دي آخر سنة ليا في الكلية وعايزاها تخلص على خير ومش عايزة حاجة تشغلني.”

“ممكن نخلي كتب الكتاب بعد شهر أو شهرين من دلوقتي ونجهز البيت براحتنا ونتجوز بعد امتحاناتك على طول.”

“طب ما هو كده برضوا مش هبقى فاضية لتجهيزات البيت.”

“يا أفي أنتِ اختاري أي حاجة تعجبك وهما هيجيبوها ويعملوها زي ما أنتِ عايزه يعني مش هتتعبي في حاجة، هاتيجي كل أسبوعين مثلًا تشوفي اللي اتعمل في البيت والحاجة اللي اتحطت وترجعي تذاكري عادي.”

فسر رحيم ما يدور في خاطرة لتمنحه أفنان ابتسامة صغيرة لكنها لم تُعلق على ما قاله بل نظرت إلى والدها أولًا نظرة ذات مغزى محاولة الإستفهام عن رأيه، يسود الصمت لثوانٍ بينما يحك والدها ذقنه بإبهامة مُفكرًا قبل أن ينظر نحو والدة أفنان ليسألها عن رأيها:

“أيه رأيك يا حجة؟”

“أنا عن نفسي مش ممانعة طالما هما مبسوطين وأنت راضي.”

“خلاص يبقى لو والدك ووالدتك مش ممانعين يبقى على بركة الله.”

انتفضت أفنان من مقعدها وهي تتطلق زغرودة عالية تهرول على اثرها شقيقتها نحوهم.

“خير يا جماعة أفنان بتتخطب تاني ولا أيه؟”

“لا هتجوز!” فسرت أفنان لتُطالعها ميرال بعدم استيعاب، تقهقه أفنان على رد فعلها ومن ثم تُخبرها بإختصار بما حدث.

بعد بضع دقائق استأذن رحيم ليجلس مع أفنان في الشرفة على مسافة ليست بعيدة عنهم لكي يثرثروا قليلًا.

“أنا عايزة اعرف بس فكرة كتب الكتاب دي جتلك مين.”

“يعني أيه جتلي منين؟ ما أحنا أكيد هنكتب الكتاب يا أفي.” تمتم رحيم دون أن يفهم قصدها لتضحك ساخرة من سذاجته قبل أن تقوم بإيضاح مقصدها قائلة:

“أيه يا رحيم الذكاء ده ما أكيد يعني، قصدي أننا نكتب بدري.”

“بصراحة أنس نبهني لحاجة وده شيء غريب جدًا يعني بس هو قالي إن مينفعش أفضل داخل خارج عليكوا هنا في البيت وأنا خطيبك بس وعشان نتقابل برا لازم نستأذن uncle أحمد وبيجي يوصلك وبيبقى في إحراج للكل وتعب فلما نكتب الكتاب هنبقى بننزل لوحدنا عادي.”

“يااه الواد أنس ده ساعات ربنا بيفتحها عليه كده وبيقول حكم، هو ده بقى اللي أقنعك؟”

سألته أفنان ليومئ رحيم وهو يضحك قبل أن يحمحم بحرج لتستنتج أفنان أنه يُريد أن يُضيف شيئًا على ما قالته، صمت رحيم لبرهة قبل أن يقول بخجل واضح:

“بصراحة؟ He told me that i will be able to hold you your hand and I always wanted to do that ‘لقد أخبرني أنه سيكون بإمكانني الإمساك بيدكِ، ولطالما أردتُ فعل ذلك’.”

“يالهوي أنتَ سُكر بجد.” همست أفنان وهي تضحك مُشاركة رحيم الخجل ذاته وبداخلها تدعو أن تمر الأيام سريعًا حتى يحين موعد اليوم المنتظر واللحظة المنتظرة حينما تُصبح زوجته رسميًا..

أعلم رحيم والديه بما قرر فعله، كانت والدته معترضة بالفعل فهي مازال عندها بعض الأمل في إنهاء تلك العلاقة الفاشلة من وجهة نظرها لكن ذلك لم يكن خيار بالنسبة لرحيم.. لكن والدته أخبرته بأنه لا راجعة فيما ينوي فعله ففي حالة أي خلاف سيحصل كلاهما على لقب مُطلق ومُطلقة.

بعد مرور أسبوعين بدأ رحيم وأفنان في اختيار المسجد الذي سيتم فيه عقد القران، ترتيبات جلسة التصوير التي سيقومون بها بعد عقد القران، ثوب أفنان والذي أصر رحيم أن يتم تفصيلة خصيصًا من أجلها، أما أنس فكان منشغلًا مع أروى والتي رفضت أن تتحدث إليه وقد حبست نفسها في حجرتها بعد أن علمت بوفاة والدها منذ أكثر من شهرين وإخفاء أنس الأمر عنها..

“يا أروى افتحي بقى مش هقعد كل يوم اتحايل عليكي.. يا أروى من فضلك بقى بقالي يومين بنام جنب باب أوضتك وبرضوا مصعبتش عليكي.. طيب طمنيني أنتِ بتاكلي ولا لا؟ عندك أكل في التلاجة بتاعتك على فكرة ومايه..”

لم تُجيب أروى على أخيها الذي يجلس على أرضية الرواق وهو ينتحب، لقد حاول كبح دموعه كثيرًا لكن انتهى به الأمر يبكي كطفلًا صغير فقد والدته، لم يجد أمامه حلًا سوى مهاتفة رحيم وميا لكي يأتوا لمساعدته على إقناع أروى بالخروج من قوقعتها والتحدث إليه..

“أروى أنا رحيم.. معايا ميا ومامي.. ممكن تفتحي من فضلك؟ بصي طيب.. أنا هخلي أنس يمشي من هنا واطلعي أتكلمي معانا.” كانت أروى تستمع إلى ما يقوله رحيم، اقتربت بالكرسي خاصتها لتنظر من خلال ثقب الباب وبمجرد أن تأكدت من رحيل أنس قامت بفتح الباب سامحة لميا ورحيم بالدخول إلى حجرتها.

“تعالي نقعد في ال Balcony ‘الشرفة’ نتكلم.”

لم تُعلق أروى وأكتفت بالإيماء قبل أن تُحرك الكُرسي خاصتها جهة الشرفة في منتصف الطابق، بدأ رحيم في الثرثرة محاولًا إقناعها بمسامحة أنس.. فركت أروى عيناها المنتفخة من البكاء بتملل وهي تستمع إلى حديث رحيم بعدم إقتناع قبل أن تُردف:

“رحيم أنت عايزني اسامحه ازاي بعد ما خبى عليا كل ده؟!”

“كان خايف عليكي يا أروى! مش خايف بس.. مرعوب! أنس ما صدق إن ربنا كرمك وفوقتي وبقيتي تتكلمي وتتحركي.. ازاي كنتِ متوقعة منه أنه يضحي بكل الحاجات دي ويخاطر ويقولك خبر زي ده؟”

“أنا بس.. كان نفسي أشوفه لآخر مرة يا رحيم.. أنا عارفة إن هو دمرني، عايشني طفولة قاسية لسه تأثيرها مستمر عليا لحد النهاردة.. خلاني متعقدة من الرجالة كلهم ورفضت ارتبط طول السنين اللي فاتت وآخر حاجة كان هيموتني أنا وأنس بس.. كنت عايزة أشوفه يمكن كان قلبي يتحرك ناحيته ولو لمرة واحدة ، حتى أحس بشفقة ناحيته.. لكن دلوقتي أنا هفضل طول حياتي بكرهه.”

” مش هقدر ألومك على أي حاجة يا أروى، لكن صدقيني أنتِ وأنس ملكوش غير بعض وهو.. يعني أنا مش المفروض أقول كده.. بس بعد الحادثة بتاعتك أنس اتحول لشخص تاني.. He became miserable, he did a lot of bad stuff.. But at the end of the day he didn’t cause harm to anyone but himself ‘أصبح تعيس، لقد فعل الكثير من الأشياء السيئة، لكن في نهاية المطاف هو لم يؤذي أحدٍ غير نفسه..’.”

كانت أروى غاية في الحساسية في تلك اللحظة، وكلمات رحيم تلك زادت حالتها سوءًا فلقد شعرت بالذنب تجاه أخيها الأصغر ربنا تحاملت عليه بشكلًا زائد لكن في الوقت ذاته كان الأمر برمته غاية في الصعوبة كي يستوعبه عقلها..

“ده أنا كنت في رحمة ومعرفش.. سيبت أنس يواجه كل ده لوحده وكنت أنا في عالم موازي أساسًا..”

“مكنش عندك اختيار ده قدر، يمكن ده الأحسن.. أنتِ كنتِ دايمًا بتواجهي uncle فريد لكن أنس لا لحد أما جيه اليوم اللي مكنش عنده حل تاني غير المواجهة.”

“هو أنس فين؟” سألت أروى بشرود وكأنها لم تسمع ما قاله رحيم قبل ثواني، ألتفت رحيم حوله بحثًا عن ميا لكنه لم يجدها.. ألقى نظرة مجددًا ليجد ميا تتحدث في الهاتف في حديقة المنزل.

“مش عارف.. ميا.. Can you tell Anas to come upstairs please ‘هل يمكنكِ أن تُخبري أنس أن يصعد إلى الطابق العلوي من فضلك’؟”

“.’Anas is gone’ لقد رحل أنس”

صاحت ميا من حديقة المنزل ليستقيم رحيم من مقعده بضيق بينما اضطربت معالم أروى وقد بدأ الشعور بالذنب يسيطر عليها كُليًا..

“متقلقيش، شوية وهيرجع.” تمتم رحيم محاولًا طمئنة المسكينة بينما في داخله يدعو ألا يكون ذلك الأحمق قد عزم على اكتراث خطأ ما كالعودة إلى الشرب مثلًا أو القيادة بجنون والأسوء مقابلة إحكى أولئك الفتيات المُريبات!

على الجانب الآخر كان أنس يقود سيارته بجنون وبكل تأكيد قد قُيدت عدة مخالفات نتيجة تجاوزه للسرعة المسموح بها، قام بإيقاف السيارة أمام ‘الفيلا’ المنشودة ومن دلف إلى الداخل مُقتحمًا باب العيادة وهو يصيح في وجه الطبيبة بأعين مُحمرة ويد مُرتجفة:

“أنا محتاج أتكلم معاكي دلوقتي حالًا!”

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (في حي الزمالك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *