روايات

رواية ضبط وإحضار الفصل الثامن 8 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الفصل الثامن 8 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار البارت الثامن

رواية ضبط وإحضار الجزء الثامن

ضبط وإحضار
ضبط وإحضار

رواية ضبط وإحضار الحلقة الثامنة

انتمت إلى هذه الفئة الناعمة الهشة من النساء الرقيقات، تلك التي تتأثر بأقل دفقةٍ من الضغوط المتواترة، فتصبح كغصنٍ طري عاجز عن مواجهة الرياح العاتية، لهذا فشلت “بسنت” في تحمل ما لا تقدر عليه ببساطةٍ، وانهارت في أحضان رفيقتها، تخامر نوعًا من الإغماء. لم تتركها “بهاء”، واحتوتها بخوفٍ غريزي، لتصرخ في جزعٍ وهي تضمها بشدة:
-“بسنت”، حبيبتي، فوقي، ردي عليا، أنا جمبك.
دون أن ينتظر السماح له بالتدخل، أخبرها “عمر” في جديةٍ، رغم هدوء نبرته:
-عنك، أنا هوديها عند مركز الخدمات الطبية اللي هنا، في فريق دكاترة متخصصين شغالين معانا، هيشوفوها ويطمنونا.
لامته بحدةٍ، وهي ترمقه بنظرة نارية مغتاظة:
-إنتو السبب في اللي حصلها ده.
مرر “عمر” ذراعيه أسفل جسد “بسنت” تمهيدًا لحملها، واستطرد على نفس الوتيرة الهادئة:
-خلينا نتكلم بعد أما تفوق، هي دلوقتي أهم من الخناق.
لم تستمر في جدالها المحتدم معه كثيرًا، وأفسحت له المجال ليمرق أولًا، ثم سارت من خلفه وهي تفرك معصمها الذي بدأ الألم يتفشى فيه، لتمر بجوار “أنس” حيث كان لا يزال ممددًا على الأرضية نتيجة تأثر جسده بهذا النوع الجديد من الطلقات الكهربية. سددت له نظرة حانقة للغاية، ورأت كيف يبادلها نظرة ناقمة حاقدة، لتبتعد عنه وهي تلعنه في سرها:
-ربنا ينتقم منك يا مفتري.
………………………………………
بداخل المركز الطبي، وقفت على مسافة قريبة من الفراش الذي تتمدد عليه رفيقتها، لتتابع بكثبٍ ما يقوم به الطبيب من فحصٍ روتيني لها، للاطمئنان على حالتها العامة. تجاهلت “بهاء” عن قصدٍ ذاك الواقف بجوارها، وكأنه والعدم سواء، رغم إحساسها بأن نظراته المهتمة لم تفارقها، ظلت تدلك معصمها برفقٍ، لتخفف من حدة الألم المتفشي فيه، بالكاد نظرت إلى “عمر” من طرف عينها عندما سألها في هدوءٍ:
-إنتي كويسة؟
توقفت عن دعك رسغها، لتقول بوجومٍ واقتضاب:
-أيوه
انتبهت بعدئذ إلى ساعة يدها الذكية، لاحظت ذلك الشرخ الكبير في زجاجها، فغامت تعبيراتها أكثر، حاولت تشغيلها؛ لكنها لم تستجب، فتضاعف العبوس في تقاسيمها، لتهمهم في ضيقٍ رغم خفوت نبرتها:
-يا خسارة، مرات عمي هتزعل، دي لسه جيبهالي!
تابعها “عمر” في صمتٍ، وتفرس بإمعانٍ هذا التبدل الظاهر في تعابير وجهها في أقل من ثوانٍ، ليوجه بصره نحو أحد الأطباء عندما لمحه وهو يلج إلى الداخل، حيث ناداه بعدما انتصب في وقفته:
-دكتور معلش شوفلي إيدها.
تفاجأت بما فاه به، وهتفت محتجة:
-أنا كويسة، مش بشتكي من حاجة.
أعطاها هذه النظرة الغامضة ليخاطب الطبيب تحديدًا بصرامةٍ:
-نفذ الأمر يا دكتور.
بالطبع لم يجرؤ الطبيب على الاعتراض عليه، وتحرك صوب “بهاء” طالبًا منها:
-إيدك يا آنسة.
ضمت معصمها إلى صدرها رافضة التجاوب مع أمره، وأصرت على عدم طاعته:
-أنا مافياش حاجة.
رمقها بنظرة حازمة مماثلة لنبرته:
-هو اللي يقول مش إنتي!
بامتعاضٍ منزعج اضطرت أن تتخلى عن عنادها، ومدت ذراعها تجاه الطبيب على مهلٍ، لتنفلت منها صرخة صغيرة مصحوبة بتحذيرٍ جاد بمجرد أن ضغط بأصابع يده على معصمها:
-أي، أي، بالراحة، الحتة دي بتوجع.
ترك الطبيب يدها، ليطلب منها بعدما نظر تجاه “عمر” الذي أومأ برأسه ليتعامل مع وضعها الطارئ:
-تعالي معايا شوية.
قبل أن تفكر في المجادلة أمرها:
-اسمعي كلام الدكتور.
رغم علامات التبرم الظاهرة على محياها إلا أنها سارت خلف الطبيب صاغرة لتعالج رسغها لئلا يتفاقم به الألم. ظل “عمر” يرمقها بنظرته المراقبة لها إلى أن جاءه الاستدعاء من قائده، فغادر مضطرًا، وباله مشغولٌ عليها.
……………………………..
قام الطبيب بالكشف على موضع إصابة يدها، وطمأنها بأن ما بها مجرد تورم خفيف، يسهل علاجه؛ لكنه أوصاها بضرورة لف ذلك الرباط الضاغط ليومين حول رسغها، بجانب وضع الدواء المسكن، وتجنب السقوط أو ممارسة أي نشاط رياضي عنيف، والتزام الحذر أثناء الحركة، لتتعافى سريعًا، فشكرته على متابعته، وعادت إلى رفيقتها التي صارت أفضل حالًا عن ذي قبل، ومع هذا استمرت “بهاء” في احتضان رفيقتها لتشعرها بالأمان، وأنها موجودة دومًا إلى جوارها حتى في أضعف حالاتها. تراجعت عنها لتنظر إليها بمحبةٍ، وهي لا تزال تكرر عليها نفس السؤال:
-فيكي حاجة تعباكي تاني يا حبيبتي؟
هزت رأسها مجيبة إياها بجديةٍ تحولت في غمضة عينٍ إلى بكاءٍ:
-لا يا “بيبو”، أنا بقيت أحسن، بس خلاص مش عايزة أكمل التدريب ده.
تفهمت أسباب اعتذارها، وردت وهي تحتضنها مجددًا:
-اللي يريحك يا حبيبتي، مش هضغط عليكي.
أراحت “بسنت” رأسها على كتف رفيقتها، وواصلت شكواها وهي تبكي:
-أنا حاسة إن المرة الجاية مش هطلع منه حية…
ثم تنفست بعمقٍ لتثبط من نوبة البكاء المسيطرة عليها قبل أن تستكمل شكايتها:
-هيعملوا فينا أكتر من كده إيه؟
أبعدتها عنها لتقول:
-معاكي حق.
توقفت كلتاهما عن الثرثرة عندما أتى ذلك الغريب إليهما، تجمدت نظراتهما الذاهلة عليه عندما تنحنح قائلًا بابتسامة صغيرة لبقة:
-مساء الخير…
بقيت الاثنتان على حالة الدهشة، وهو مستمرٌ في تقديم نفسه:
-أنا “أمير”، اللي كنت عامل دور الخاطف في التدريب.
مالت “بسنت” على رفيقتها تهمس لها في قلقٍ:
-هو جاي يكمل باقي دوره هنا ولا إيه؟
في التو، ودون انتظار أي تفسيرٍ آخرٍ منه، هتفت “بهاء” تحذره وهي تشير بسبابتها:
-بص حضرتك التدريب خلص، واحنا زي ما إنت شايف بيرممونا.
أطرق رأسه قليلًا للحظةٍ، ثم استطرد بندمٍ صادق في نبرته:
-أنا جاي أعتذر عن اللي حصل مني، مش حابب يكون في أي سوء تفاهم.
استغربت الاثنتان مما قال، وحملقتا فيه بشيءٍ من الصدمة، ليستكمل بابتسامةٍ صغيرة عادت لتظهر على ثغره:
-وفي النهاية احنا غرضنا مصلحتكم، تطلعوا باستفادة من التدريب في المجمل.
استهجنت “بهاء” تبريره بنبرة شبه صائحة:
-استفادة إيه وكل مرة حالنا بيبقى أسوأ من اللي قبله؟!!
أتى رده لطيفًا مثله:
-علشان بس مش متعودين…
ضاقت عينا “بسنت”، وتدلى فكها للأسفل أكثر، خاصة حينما أضاف بثقةٍ غير قابلة للتصديق:
-بكرة تلاقوا الموضوع سهل.
استطال وجهها، وهتفت مستنكرة:
-الحقي يا “بيبو”، بيقولك في بكرة!
حاولت “بهاء” تهدئة انفعال رفيقتها، وخاطبت “أمير” في حزمٍ:
-حضرتك مش وقت الكلام ده، هي متوترة خلقة، وأعصابها مش مستحملة.
ظل محافظًا على صفاء بسمته، وقال في تهذيبٍ:
-تمام، وحمد لله على سلامتك مرة تانية يا آنسة.
ما إن تحرك بضعة خطواتٍ، حتى تكلمت “بسنت” في ذعرٍ محسوسٍ بصوتها:
-هو أنا هيتحط عليا من جديد؟ أنا تعبت ومبقاش فيا حيل.
ردت عليها مؤكدة لتبدد مخاوفها الملازمة لها حاليًا:
-ده بيهزر بس.
تشبثت أكثر بذراعها، وطلبت منها بإلحاحٍ:
-أنا مش عايزة أفضل هنا أكتر من كده، خلينا نروح بيتنا.
تجولت بعينيها في أرجاء المركز باحثة عن الطبيب وهي ترد:
-حاضر، أنا هشوف الدكتور فين علشان نمشي.
……………………………………….
بعد استطلاع كافة الملحوظات التي وردت أثناء تطبيق عملية اختطاف وتحرير الرهائن، والوقوف عن نقاط القوة، وكذلك مواطن الضعف والقصور، أشاد القائد بالجهود المبذولة لإنجاح المحاكاة والتأكد من اختبار ما تم طرحه خلال النقاشات الجادة في مثل هذه الأوقات الحرجة، وأيضًا قام بتوجيه النقد إلى “أنس” الذي تجاوز في بعض تصرفاته، ووبخه أمام جميع من بغرفة الاجتماعات، ليشعر بالاستياء من إحراجه علنًا، بدلًا من الإثناء على مجهوداته في إتقان دوره، وكأنه طاغيــة داهية، لا يعرف الرحمة مع ضحاياه. اكفهرت ملامحه، وهسهس في حقد بعدما انصرف القائد:
-ما ناس ليها الحلو، وناس ليها الطين تاخده.
رد عليه “أمير” مشيرًا بسبابته:
-إنت من الأول اللي غلطان، وأنا حذرتك، الموضوع مش تار شخصي.
اعتبر “أنس” رده غير محايدٍ بالمرة، فغمغم في حنقٍ واضح:
-ده تلاقي حبيبك ملى دماغ القائد بكلمتين ضدي خلاه يقلب عليا…
انخفضت نبرته بعدئذ وهو يتم جملته، بما لا يليق:
-ما هو متعود يمسح جوخ.
من ورائه جاء “عمر” مرددًا في جديةٍ ممزوجة بالمزاح:
-مش تخليك جدع وتكلم في وشي بدل ما الكلام كده كله من ورا ضهري!
تفاجأ بحضوره، وتلبك لهنيهة قبل أن يتدارك نفسه ويلتفت ناظرًا إليه ليعقب في ضيقٍ:
-وإنت عاجبك إنه يهزقني قصاد الكل؟
ضاقت عينا “عمر” إلى حدٍ كبير، وكأنه غير راضٍ عن تبريراته الواهية، بينما أكمل “أنس” في تبجحٍ، وبما استفزه:
-ده شغل، ولو حصل بجد مش هيبقى هزار ولا دلع عيال، يعني ممكن رقبة المحروسة تطير فيها، ولا تتصفى.
حدق “عمر” في عينيه قائلًا بثبات:
-بلاش تجمل اللي عملته، لأنك غلطان من الأساس.
ثم تحولت نظرته إلى شيء من الاستحقار قبل أن يردف وهو يهم بالحركة، متجنبًا الجدال معه في شيءٍ لن يجدي أو يفيد بعدما انقضى:
-أنا اتأخرت، أشوفكم بعدين.
هتف “أمير” بنبرة شبه عالية مشيرًا بيده ليستحثه على التمهل وانتظاره ليصطحبه إلى خارج غرفة الاجتماعات:
-استنى أنا جاي معاك.
انتفخت عروق “أنس” وهو يرنو بنظرته النارية إليهما، ليستطرد مدمدمًا مع نفسه:
-عمومًا الجايات أكتر من الرايحات!
……………………………………………..
بعد أن سمح لها الطبيب بالمغادرة، تأبطت “بسنت” ذراع رفيقتها غير الملفوف بالرباط الضاغط، لتستند عليها بثقلها أثناء سيرها حتى أصبحت الاثنتان عند بوابة الأكاديمية، عاونتها “بهاء” على المشي بتؤدةٍ، لتشرع في سؤالها:
-هنعمل إيه دلوقت؟
أخبرتها “بسنت” بإرهاقٍ بائن على كامل جسدها قبل نبرتها:
-أنا مش قادرة أسوق، شوفيلنا أوبر ولا InDrive، أي حاجة قريبة توصلنا.
قامت بإخراج هاتفها من حقيبتها وهي ترد:
-حاضر، هحاول أحجز رحلة أهو.
في تلك الأثناء، كان “عمر” مستقلًا سيارته –وبجواره “أمير”- عندما لمح من موضع قيادته الشابتين وهما تسيران بخطواتٍ شبه متمهلة على رصيف الأكاديمية، تشاور مع رفيقه مقترحًا عليه توصيلهما، فأبدى ترحيبه بالفكرة، وخفض من زجاج نافذته ليناديهما بنبرة مسموعة:
-يا أساتذة!
أوقف “عمر” المحرك، ونظر عبر مرآته الأمامية ليرى انعكاسهما فيها .. ما إن سمعت “بسنت” الصوت الرجولي الذي ينادي عليهما حتى تخشبت في مكانها، نظرت أمامها فرأت سيارة الدفع الرباعي السوداء المألوفة لها، و”أمير” يطل برأسه من نافذتها، فهتفت في توجسٍ مشوب بالذعر:
-“بيبو” هو بينادي علينا ليه؟
كانت “بهاء” مثلها متفاجئة برؤية من بالسيارة، تطلعت إليه في ذهولٍ حائر، لتقول باقتضابٍ:
-مش عارفة.
راحت صديقتها تردد في تخوفٍ أكبر:
-لأحسن يكون ناوي يحطنا تحت كوتشات العربية المرادي…
تملكها الارتياع، فأتمت جملتها بخوفٍ آخذٍ في التزايد:
-أنا عضمي مش هيستحمل الدهس.
آنئذ استدارت “بهاء” لتنظر إليها هاتفة:
-هو مش أهبل علشان يخوفنا!
جاء تعقيبها معبرًا لما تشعر به:
-معدتش في حاجة مضمونة في التدريب ده، واحنا متكسرين خِلقة!
ترجل “أمير” من السيارة ليقترب منهما، فعاملته “بهاء” بجفاءٍ وجمود ظهر خلال حديثها إليه:
-خير؟ في حاجة؟
أشار بيده نحو السيارة قائلًا بلباقةٍ:
-اتفضلوا معانا نوصلكم في طريقنا.
ردت بتجهمٍ، وبملامح صارمة:
-شكرًا، احنا هنتصرف.
أصر عليها موضحًا أسبابه:
-لأ مايصحش، وبعدين مش هتلاقوا مواصلات السعادي، ده توقيت خروج موظفين، والدنيا زحمة موت.
أخبرته في نفس الصوت والملامح الجادة:
-معلش، دي مشكلتنا.
من خلال متابعته لما يدور عبر مرآة سيارته، أدرك “عمر” أن “بهاء” رافضة بشكلٍ قطعي عرضه، لذلك ترجل من موضعه متجهًا إلى ثلاثتهم، فاستطرد “أمير” مخاطبًا إياه:
-كلمهم إنت يا “عمر” لأحسن رافضين.
تحولت “بهاء” بعينيها نحوه لتردف:
-شكرًا على اهتمامك، احنا خلاص طلبنا عربية.
بدت نبرته إلى حدٍ ما مزيج بين الحزم والأمر وهو يكلمها:
-كنسلي الرحلة، وتعالوا معانا.
تعقد جبينها في استهجانٍ، وردت بإصرارٍ:
-لأ مش هينفع.
وقف قبالتها مبديًا هو الآخر تصميمه:
-وأنا مش هقبل بالرفض، ده حتى عم “سليمان” موصيني عليكي.
تلميحه غير المفهوم في ختام جملته جعلها ترتبك، فما الذي يريد الإشارة إليه بشكلٍ مبطن؟ انتصبت شعيرات جلدها عندما تابع:
-ولا تحبي أطلبه بنفسي اسأله؟
برقت عينا “بهاء” توترًا، بينما تشبثت “بسنت” في ذراعها لتميل عليها هامسة بتوجس:
-احنا نسينا إنه يعرف عمك!
خاطبهما “أمير” مبتسمًا وهو يشير بيده مجددًا نحو السيارة:
-اتفضلوا.
ظلت الاثنتان في حالة من التردد، وقبل أن يحسما رأيهما بالرفض، استطرد “عمر” فجأة بنبرةٍ ذات مغزى مشيرًا بإصبعه نحو “بسنت”:
-أنا شايف إن صاحبتك تعبانة، تحبي أشيلها؟
تدلى فك “بسنت” للأسفل، وصاحت في صدمة جلية معكوسة على كامل ملامحها، وأيضًا نظراتها:
-نعم، تشيل مين؟
في استهجانٍ أكبر، صاحت “بهاء” ملوحة بيدها:
-إيه اللي بتقوله ده؟
رمقها بهذه النظرة الجادة معلقًا:
-ليس على المريض حرج.
من طريقته الواثقة أدركت أنه لا يمزح، لحظتها فقط صاحت “بسنت” رافعة يدها للأعلى:
-أنا هركب بنفسي.
كادت تتحرك تجاه السيارة في طاعة كاملة؛ لكن “بهاء” استوقفتها قبل أن تخطو للأمام محتجة على استسلامها:
-استني بس، نركب مع مين؟
كزت على أسنانها هامسة في توترٍ كبير:
-إنتي مش شايفة شكله، بدل ما نبص نلاقيه شايلنا احنا الجوز على كتفه، وده قادر ويعملها!
أمام نظرات رفيقتها المتوسلة، وقلقها البائن على تعبيراتها، اضطرت “بهاء” للرضوخ، وسارت مرغمة تجاه السيارة، لتجلس بالمقعد الخلفي. أغلق “أمير” الباب بعدما تأكد من استقرارهما قائلًا بابتسامة صغيرة لطيفة:
-نورتوا العربية.
بينما ضبط “عمر” المرآة لتصبح على وجه “بهاء” تحديدًا، فالتقت الأعين ببعضهما البعض خلال انعكاسها، ليتبادلا نظرات متناقضة جمعت بين الضيق والاهتمام.
لا يعرف إن كان ذلك لسوء حظه أم لحسنه حينما تواجد في نفس الوقت أثناء حدوث ما وصفه بالتجاذب والانسجام بين أربعتهم. حك “أنس” مؤخرة عنقه معقبًا بانزعاجٍ:
-هي بقت كده، أنا طلعت وحش في الآخر؟
ظل في مكانه رغم رحيل السيارة، ليتابع مع نفسه في شيءٍ من الوعيد:
-ماشي، هنشوف هتخلص الليلة دي كلها على إيه! والشاطر اللي يضحك في النهاية.
…………………………………….
قام بإيصـــال رفيقتها أولًا إلى عنوان مسكنها، قبل أن يستعلم عن مكان بيتها ليوصلها إليه، أرشدته إلى المنطقة التي تقطن بها، فلم يجد أدنى صعوبة في بلوغها. دار “عمر” ببصره في المكان، وكأنه يحفظ معالمه، ليسألها باهتمامٍ رغم جدية نبرته، وهو يبطئ من سرعة السيارة بالتدريج:
-ده بيتك؟
أجابته وهي تشير بعينيها:
-أيوه، اللي عند الناصية.
هز رأسه معقبًا باختصارٍ:
-تمام.
أدار “أمير” رأسه في اتجاهها ليكلمها:
-لو عوزتي أي حاجة اطلبيها على طول، احنا في الخدمة.
لم تبتسم له وهي ترد:
-شكرًا.
تصلبت أصابعها على مقبض الباب عندما خاطبها “عمر” بعبارته الغامضة:
-سلامي لعم “سليمان”.
التفتت تناظره بعينين متسائلتين عن سبب تلميحه المتواري خلف التطرق لسيرة عمها؛ لكنها لم تنطق بكلمةٍ، فترجلت عن السيارة مسرعة، لتتلاحق خطواتها حتى بلغت مدخل بنايتها. لم يرحل “عمر” في التو، ظل ماكثًا لبرهةٍ، وكأنه يتأكد من صعودها للأعلى، تبسم له “أمير”، وسأله في شيءٍ من المكر
-شكلك تعرفها كويس؟
سكت لثوانٍ، وأعطاه ردًا دبلوماسيًا:
-مش بالظبط، بس أبويا الله يرحمه يعرف عمها.
هز رأسه معقبًا:
-أها، علشان كده.
عكر الأجواء الصافية رنين الهاتف، وازدادت عكارة مع قول “أمير”:
-ده “أنس” بيتصل.
من جديد أعاد “عمر” تشغيل محرك سيارته ليحركها قائلًا بعدم مبالاة:
-عايز ترد عليه براحتك.
ضغط على زر إنهاء الاتصال مرددًا:
-لأ بعدين، أنا محتاج أرجع البيت أخد دش وأرتاح.
تنهد “عمر” مليًا، ليتمتم:
-كلنا.
……………………………………….
لم تغفل عن ذكر أهم أحداث يومها لعائلتها بعد انقضاء وقت تناول الغداء، بداية من التعرض لحادثة الاختطاف الوهمية، وانتهاءً بقيام “عمر” بتوصيلها للمنزل. في قلقٍ مفرط سألتها زوجة عمها وهي تحتضن يدها براحتيها:
-حبيبتي، طب نروح نعمل عليها أشعة؟!
أخبرتها “بهاء” مؤكدة:
-والله أنا بخير، هما في المركز طمنوني، يومين، وهبقى تمام.
تحدث “سليمان” في تذمرٍ، وعلامات الاستياء بائنة على محياه:
-ده اللي خدناه من الدراسة ووجع الدماغ.
لحظتها ردت عليه “فادية” متخذة موقفًا دفاعيًا عن ابنة شقيقه:
-ما تكبرش الحكاية يا “سليمان”، هي قالتلك إنها كويسة، وكمان ابن صاحبك وصلها مع “بسنت”.
للغرابة مدح عمها معروفه معها قائلًا:
-فيه الخير الشاب ده، ما يتخيرش عن أبوه في جدعنته.
قوست “بهاء” شفتيها في غير رضا مرددة بصوتٍ خافت:
-أومال!
تذكرت أيضًا ما حدث للهدية العزيزة التي تلقتها من زوجة عمها، فاعتذرت منها وهي تشير إليها، متوجسة خيفة من ردة فعلها:
-طنط “فادية” مش عايزاكي تزعلي علشان الساعة اتكسرت!
على عكس ما توقعت، لم تحزن منها الأخيرة، بل قالت في حنوٍ:
-فداكي مليون ساعة يا “بيبو”، المهم إنك بخير.
ثم ربتت على كتفها، وتساءلت في مكرٍ، وهذه النظرة العابثة تتلألأ في حدقتيها:
-شكله إيه الشاب ده؟ هو كان اسمه “عمر”، صح كده؟
فهمت ما ترمي إليه من طريقتها في الاستفسار عنه، وكأنها تجمع معلومات ثمينة عن العريس المنشود، فزفرت مطولًا قبل أن تباعد نظرتها المزعوجة عنها، لتهمهم بتبرمٍ:
-أنا مش هخلص النهاردة!
……………………………………….
اتفقت مع رفيقتها على عدم الذهاب إلى الأكاديمية، والاستراحة ليوم أو اثنين لاستعادة طاقتهما المفقودة، وللتعافي أيضًا من آثار المغامرات العجيبة التي فُرضت عليهما. استغلت “بهاء” فرصة تواجدها بالمنزل لمساعدة زوجة عمها في إعداد الطعام، وتنظيف الغرف، وأيضًا تجهيز الملابس غير المستعملة للتبرع بها لإحدى المؤسسات المهتمة بالعمل الخيري. كانت في أوج انشغالها بكي الثياب وطيها عندما قرع جرس باب المنزل، لم تبدُ مبالية بفتحه، وتجاهلت الرد لولا أن طلبت منها زوجة عمها بصوتٍ شبه مرتفع:
-افتحي الباب يا “بيبو” لأحسن إيدي مش فاضية، هتلاقي البواب جه، اديله كيس الزبالة.
انتزعت “بهاء” السلك الكهربي الموصل للمكواة لتشغيلها من القابس، وهي ترد:
-حاضر يا طنط.
ثم اتجهت إلى المطبخ لتحضر كيس القمامة من الصندوق، لتعود إلى صالة المنزل لتفتح الباب، بلا أدنى مبالاة بمظهرها العام، فقد كانت ترتدي ملابسها المنزلية المعتادة، من كنزة واسعة ذات لونٍ برتقالي، وسروال قماشي مزركش. أدارت المقبض، ومدت يدها بالكيس في تصرف عفوي قائلة بتلقائية:
-اتفضل، الزبالة جاهزة.
لم تتخذ حذرها، لهذا لم تتحرَ الدقة وتنظر أولًا من العين السحرية للباب لتعرف هوية الضيف. انفرجت شفتاها عن صدمة حرجة عندما رأت “عمر” واقفًا عند عتبة المنزل، يُطالعها بنظرة مطولة غريبة، هربت الكلمات من على طرف لسانها، وبقيت على حالها مذهولة مصدومة، ليتدارك الموقف من تلقاء نفسه، ويستهل كلامه معها بهدوءٍ:
-سلام عليكم ………………………………… !!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *