روايات

رواية الأربعيني الأعزب الفصل العاشر 10 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب الفصل العاشر 10 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب البارت العاشر

رواية الأربعيني الأعزب الجزء العاشر

الأربعيني الأعزب
الأربعيني الأعزب

رواية الأربعيني الأعزب الحلقة العاشرة

أنسام المساء كانت ثقيلة، تبحر مع النسيان وتلك الليلة الطويلة حالكة السواد، فى محراب البوح تسقط كل الأقنعة، تنادي لا تحرك أشواقك الراكدة ، غادر أيها الطيف ، لا توقظ الحلم وتغفو بين الغيوم ثم تبحر لأعلى نقطة سكون
هل أخبرتك عن ذاك الشق الذي يناجي همسة اللقاء، خفق قلبها ألماً وهي تنتظر خارج غرفة العمليات باكية لساعاتٍ طويلة، تأكدت فيها من المشاعر التي تكنها إليه، نعم لم تكن محبة له بل عاشقة حد الجنون، رفعت “لوجين” يدها أمام وجهها فرأت الدماء مازالت تلطخها، فوخز صدرها لمجرد تذكرها لجسده الغارق بدمائه حينها انقبض فؤادها حينما صاحت به بأن ينهض ولكنه تلك المرة كان متخشباً كمن فقد الحياة، فحاولت أن تسانده بمعاونة البواب لتتحرك به للمشفى، انسدلت دمعاتها ويدها تتشبث بحافةٍ الأريكة المعدنية من خلفها وهي تردد من بين نشيجها الباكي:
_يا رب أنا مش هستحمل لو جراله حاجة بسببي، أنا مش هقدر أتحمل.
_أنا بحبه أكتر من نفسي.
مازالت تمتم وهي مغمضة العينين، فكيف ستحتمل العيش بذنبه طوال عمرها؟
ليته آذها هي وتركه، ليتها لم تعرفه يوماً ولم يعرفها..
أفاقت “لوجين” من جلدات السواط القاسي الذي يجلد روحها على صوت “غيث” اللاهث وهو يتساءل بلهفةٍ:
_أيه اللي حصل وفين عاصي؟
رفعت عينيها الباكية تجاهه، فوجدت “عمر” يلحقه فور أن علم بما حدث، ليقترب منها هو الأخر، وهو يتفحص ضوء غرفة العمليات :
_هو خرج ولا لسه؟
أتاه صوتها الشاحب يجيبه:
_لسه محدش خرج من جوه.
مرر يديه على خصلات شعره وهو يهمس بتوترٍ:
_ربنا يستر.
اشتعلت حدقتي عين “غيث” غضباً، فردد بنبرةٍ جافة بعد أن خمن من الفاعل :
_أكيد قاسم الكلب اللي ورا اللي حصل ده وكله بسببك وبسبب مساعدته ليكي.
صدم “عمر” مما تفوه به “غيث”، يعلم بأنه حينما يسيطر عليه غضبه يجعله كفيفاً، متبلد المشاعر، فسلط نظراته عليها ووجدها تشتد بالبكاء، فاقترب منه وهو يشير إليه بصوتٍ منخفض:
_مالوش لزمة الكلام في الموضوع ده دلوقتي يا “غيث”، لما نتطمن عليه الأول نبقى نتكلم.
طبقت شفتيها على صرخة كادت أن تغادرهما، وأنياب الحقيقة تنتزعها من جنة خيال عشقها إليه، فهي تعلم جيداً بأن قاسم هو من فعل ذلك، لم تكن بحاجة لسماع غيث يخبرها بذلك، نهضت “لوجين” وإتبعت قدميها التي ساقتها لنهاية الرواق، فوجدت مكان مخصص للصلاة، في تلك اللحظة وضعت أمامها مرآة عكست لها ما ترتديه، فرفعت يدها تتحسس خصلات شعرها المتمردة من خلفها بحرجٍ تشعر به للمرة الأولى، كانت تود اللجوء إلى الله حتى يحمي من أحبه قلبها بصدقٍ، فهوت دمعات حملت قهراً وخذلان لما وضعت نفسها به، تمنت لو تمتلك أي حجاباً بحقيبتها لتتمكن من الدخول لمكانٍ عظيم هكذا، باتت حائرة، مترددة بالعودة، تشعر بأنها على مقربة من لقاء ربها، لتطالبه بإنقاذ حياة محبوبها، فشعرت بربكتها إحدى الفتيات التي خرجن من المسجد بتلك اللحظة، فوقفت بإحدى الغرف المستقلة ثم خلعت حجاباً من الحجابين التي ترتديه، لتقدمه لها بإبتسامةٍ صافية، منحتها “لوجين” بسمة صغيرة رسمتها بصعوبةٍ، ولكنها كانت كتفية لتخرج ما بداخلها من صفاء ومحبة لما فعلته، فحاولت ارتدائه ثم ولجت للداخل بخطواتٍ مترددة، شردت بتأمل المسجد من الداخل، فعلى الرغم من صغر مساحته الا أنها شعرت بسكينةٍ يصعب وصفها، استقرت أخيراً بأحد الصفوف حينما وجدت نفسها آمنة بين أربع جدران، لتستحضر تعليم جدتها ووالدتها لها بتلك اللحظة، إنتهت من صلاتها ودعواتها التي لم تكن لأحداً سواه، وحينما انتهت جلست تحتضن ذاتها بيديها المرتعشة، وحينما أصبحت وحيدة بالمسجد تفجرت كل دموعها التي حبستها، لتغرق وجهها كالطوفان، خاضت بتلك الساعات حرب قادها عقلها وهو يستحضر خبراً قد لا تود سماعه أبداً، وقد إتخذت قراراً هام سيتوقف على إفاقته، فلن تسمح لما حدث بأن يتكرر مرة أخرى، وخاصة بأنها سبب العداء بينهما، إتكأت “لوجين” بمعصمها على السجاد المفروش من أسفلها، ثم خرجت لتطمئن عليه، فوجدت الممرضة تدفع السرير المتحرك به، و”غيث” يساعدها في نقله لأحد الغرف المستقلة، خطفت نظرة تعمقت بملامح وجهه، وكأنها تختمها بداخلها، ثم أسرعت تجاه “عمر” بعدما أنهى حديثه القصير مع الطبيب، فقالت بلهفةٍ لم تستطيع إخفائها:
_طمني يا عمر، الدكتور قالك أيه؟
حيرة جعلته يلمس الحب بعينيها هي الأخرى تجاه صديقه، فصمت للحظات قبل أن يصلها صوته:
_الحمد لله الإصابة كانت في كتفه وسطحية، شوية وهيفوق.
ثم رفع الروشتة أمامها وهو يردف:
_هنزل أجيب الأدوية دي وراجع.
أومأت برأسها بإيماءة خفيفة، ثم جلست على المقعد القريب منها ويدها تتحسس نبض قلبها المذبذب، كانت تخشى أن تستمع ما لا يعجبها، فإنقلب حزنها لسعادةٍ وهي تهمس بصوتها الخافت:
_الحمد لله.
شعرت وكأنها عادت مجدداً للحياة، فوصل إليها صوت “غيث” الهادئ بعض الشيء:
_أنا مقصدتش أضايقك بكلامي، بس اللي عمله الكلب ده مش هيعدي بالساهل.
التفتت إليه وأنفاسها تتلاحق رغماً عنها، فوجدته على بعدٍ قريب منها ونظراته تقصفها بقصف غير رحيم، حتى وإن كانت نبرته لطيفة، فنهضت لتقف مقابله، ثم قالت بلهجةٍ أتبعتها دمعتها قصراً:
_بس كلامك صح، اللي حصل لعاصي كان بسببي.
ضغط بحدة أسنانه على شفتيه، وكأنه يعنف نفسه على طريقته بالحديث معها، فاقترب منها قليلاً ثم قال باتزانٍ:
_لا مش بسببك، اللي حصل ده كان مقدر ومكتوب.
وتابع دون أن يغير وضعه:
_وبعدين أي حد كان مكان عاصي كان هيعمل كده، مهو مش رجولة تشوف بنت بتتجوز غصب عنها لحقير زي ده وتقف مكانك كده.
انخرطت فجأة ببكاءٍ هيستري وهي ترد عليه بنبرتها الساخرة:
_وأخد جزاته على اللي عمله معايا.
وأزاحت بأطراف أصابعها العالق بأهدابها قبل أن تستطرد بوجعٍ:
_كنت فاكرة إن هيجي وقت وقاسم يمل من هروبي، بس للأسف الانسان ده مريض وهيفضل يطاردني طول العمر.
همس إليها عاتباً بهذة النبرة الخبيرة كأخ صارت حقاً تفتقده وسط تلك الحرب التي تخوضها:
_مش هيقدر يعمل كده تاني يا لوجين، لانك بقيتي مسؤولة مننا من اللحظة اللي عاصي قرر فيها إنه يساعدك.
نجح في أن يرسم إبتسامة ممتنة على وجهها الحزين، فمنحها بسمة صغيرة قبل أن يعود لغرفة عاصي مجددًا، اسندت لوجين رأسها للخلف وهي تحاول الإنتصار على إحساسها بالذنب الذي يهاجمها، فنهضت لتلحق بغيث حتى تطمئن عليه بنفسها، فانقبضت أنفاسها حينما شعرت بأن هناك من يلاحقها، حتى أنها تعمدت التباطئ بمشيتها علها تبالغ بظنونها، فخاب أملها حينما وجدت من بتبعها يبطئ من خطاه عن عمدٍ، استجمعت لوجين شجاعتها ثم استدارت بعدما كانت المواجهة هي إختيارها، فوجدت رجلاً من رجاله يتبعها، وقبل أن تصرخ للاستغاثة، ضغط بيديه على زر هاتفه، فانطلق مكبر الصوت ينقل لأذنيها صوت المتصل:
_كنتي فاكرة إن الموضوع خلص يا لوجين! قولتلك ألف مرة وهرجع أقولهالك تاني أي حد هيفكر يقرب من حاجة تخص قاسم خلدون هتبقى دي نهايته، ومتفكريش إن عاصي نجا من الموت، زي ما قدرت أوصلك أقدر أخلي راجل من رجالتي يخلص عليه وهو في المستشفى بمنتهى السهولة..
تمزق فؤادها، فكانت تظن أنها ستحظى أخيراً بحياةٍ طبيعية مثل باقي الفتيات، ظنت بأنها إمتلكت الحق في أن تختار شريك حياتها، ظنت بأن قلبها تحرر من القيود وصار حرًا طليقًا لن يعيقه أي شيء حتى قاسم خلدون بنفسه.
ربما لم يتغير شيئاً بالنهاية المتوقعة سوى إنها باتت امراءة ناضجة، يضخ قلبها بالعشق لذاك الأربعيني، لذا ستحارب ذلك الشيطان بكل قوتها حتى لا تعرض حياته للخطر، تود أن يظل قلبه يخفق حتى وإن لم يكن لها، وإن لم يقدر القدر أن يجمعها به يكفيها ذكرياتها الضئيلة التي احتفظت بها بداخل جوارحها، فلم تتردد باتخاذ قرارها الأخير، وجذبت الهاتف من يديه لتقربه منها وهي تخبره بكرهٍ وحقد زرع بداخلها تجاه شخصه البغيض:
_أنت بني آدم حقير..
بترت كلماتها في محاولةٍ مستميتة منها بأن تسيطر على إنفعالاتها الثائرة، فقالت بهدوءٍ بدى زائف ومصطنع:
_مش مضطر إنك تقتله أو تأذي أي حد ، لإني هرجع البيت وحالا.
وأغلقت الهاتف ثم ناولته لمن يقف أمامها، وهي تحاول حبس دمعاتها خلف ذاك الحاجز القاسي الذي صنعته لنفسها، فأجبرت قدميها على التحرك للأسفل، ولكنها خذلتها مثلما خذلها قلبها، خذلها بوجعٍ جعل صدرها يتمزق كلما بعدت خطوة عن محبوبها، فصعدت الخطوات التي نزلتها وهي تشير إليه بحدةٍ:
_انزل أنت وأنا شوية وهحصلك.
بدى حائراً بتركها، فخشى أن يتعرض للتوبيخ من رب عمله، فأخبره برسالة نصية بما قالته، فوجده يطالبه بأن يتركها تفعل ما تشاء، وكأنه كان يريد عودتها أن تكون بإرداتها هي حتى لا تختار الهروب مجدداً.
*******
وقفت تراقبه من خلف تلك النافذة الصغيرة، عينيها غائرتين بالدموع، وقلبها ينازع، ليته لم يقرب مدائنها ولم يقتحم سياجها العالية، ليته تركها طفلة تداعب فراشتها في مروج عالمها البعيد،فحينها لم يكن جرحاً يمسها ولما باتت تخبئ تدوبها خلف قناع الإبتسامة المزيفة، فرغماً عنها وجدت قلبها يهديه غراماً وتركها تعاني سكرات الحنين في دروبها المنسية، وها هي تجبره على نسيان ما عاشه لأجله هو، تدفقت دمعاتها الساخنة على وجهها لتكويه بنيران الفراق الذي كُتب عليها، فرفعت يدها لتضعها على اللوح الزجاجي الذي يفصلهما، وهي تهمس بحروفٍ متقطعة:
_غصب عني، لازم أبعد عشان بحبك.
وقبل أن تضعف وتتراجع عن قرارها ابتعدت عن النافذة لتتبع خطواتها السريعة، حتى وصلت لأسفل المشفى، ومن ثم صعدت في السيارة التي كانت بانتظارها، لتتحرك بها لجحيمٍ فرض عليها واختارته بتلك اللحظة بكامل ارادتها!
********
بشقة “عائشة”.
قضت يومها بأكمله على الفراش، فمع اشراقة شمس الصباح وهناك ألم حاد يضرب أسفل بطنها، فاعتدلت بجلستها وهي تحاول جذب الهاتف الموضوع لجوارها على الكومود، فجحظت عينيها وهي تتفحص الوقت فرددت باستغرابٍ:
_غريبة أن غيث لسه مرجعش من الشغل لحد دلوقتي!
كادت بأن تجري إتصالًا هاتفيًا به، ولكنها توقفت حينما استمعت لصوت جرس الباب فظنت بأنه قد عاد، نهضت”عائشة” عن الفراش ثم اتجهت لتفتح الباب قائلة بابتسامةٍ أشرقت وجهها الشاحب:
_نسيت مفتاحك زي عادتك.
تلاشت ابتسامتها تدريجياً وعينيها اتسعت لأخرها حينما رأت بوضوحٍ من تقف أمامها، دفعت “سمية” الباب الموصود بيدها ثم قالت بلهجةٍ فظة:
_مش هتقوليلي إتفضلي ولا أيه!
ابتلعت ريقها الجاف عدة مرات، ثم رددت بارتباكٍ:
_البيت بيتك اتفضلي.
منحتها نظرة قاتمة لا تنذر بالخير قبل أن تدلف، ثم اتجهت لأقرب مقعد،وقالت دون أن تنتظر حتى إنضمامها إليها:
_أنا جاية عشان أقولك كلمتين حطيهم حلقة في ودانك.
افترس الخوف معالمها رويدًا رويدًا، ومع ذلك حاولت أن تلتزم بثباتها، فجلست على الأريكة المقابلة لها وهي تسيطر على انطباع وجهها جراء ما شعرت به من وجعٍ حاد، فبدأت الأخيرة بإلقاء ما أتت لأجله:
_أنتي نجحتي إنك تفرقي ابني عني طول الفترة دي، وخلتيه يدوس عليا ولأول مرة يقاطعني بسببك.
_بس يا ماما والله أنا م… آآ….
قاطعت دفاعها عن نفسها بما ستقوله حينما رفعت كفها لتوقفها عن مقاطعة حديثها مرة أخرى ثم استطردت بحدةٍ:
_وفري على نفسك كلامك اللي هتقوليه لإني مش هقتنع بيه ولا هصدقه، إنتي عملتي كل ده عشان توقعي بينا وتوصلي للي أنتي وصلتيله دلوقتي، بس متتهنيش كتير لإني مش هتخلى عن ابني بسهولة.
واستقامت بوقفتها وأنفها مرفوع بشموخٍ غريب:
_أنا جيتلك النهاردة عشان أقولك إن كل اللي حصل ده مأثرش معايا في حاجة أنا لسه عند وعدي لو نفذتي اللي طلبته منك ساعتها هتلاقيني مامتك بجد ويمكن الأمور ترجع زي الأول بينا.
وكادت بالمغادرة، ولكن لحقتها “عائشة” فأوقفتها وهي تردد بصوتها الباكي:
_أنا عايزة أعرف إنتي ليه ظنة فيا السوء أيه اللي شوفتيه مني وخلاكي تحسي إني ممكن أرتكب الذنب ده؟
إبتسامة ساخرة ارتسمت على وجهها المجعد وهي تخبرها باستهزاءٍ:
_اللي أعرفه إن البنت اللي متلاقيش حد يقولها ده غلط وده عيب تعمل أكتر من كده.
استهدفتها موجة قاتلة من الآلآم، اللي يكفيها ما تتعرض له من ضغطٍ نفسي حاد، وضعت “عائشة” يدها على بطنها وهي تجابه وجعها، لتجيبها بنبرةٍ متقطعة:
_لو مفيش أهل يعيبوا على أولادهم في اللي أكبر منهم، ربنا اللي خلقني وخلقك، أنا مستحيل أخون غيث ولا أرتكب أي ذنب يغضب ربنا زي اللي بتتهميني بيه دلوقتي..
وكزت على أسنانها في محاولةٍ للتحمل وهي تستطرد:
_إزاي متوقعة إني سعيدة وفرحانة بوضعي ده وأنا شايفة غيث حزين وقلبه مكسور بسبب اللي حصل؟
عقلها متسخ بما تحمله من أفكاراً سودوية، وضعتها بنفسها لتلك الفتاة المسكينة، فصاحت بوجهها بشراسةٍ:
_قولتلك المسكنة بتاعتك دي مش هتاكل معايا.
احتد بها الألم حتى أصبح بدرجة غير محتملة، فتمسكت ببطنها وهي تصرخ بوجعٍ، ارتبكت “سمية” مما تراه، فلو لم ترى المياة التي تتساقط من بين ساقيها لكانت ظنتها تتدعي ذلك لإستعاطفها، فألقت حقيبة يدها ثم هرعت إليها لتتمسك بيدها قائلة بخوفٍ:
_شكلك بتولدي.. هو ده معادك؟
صرخت “عائشة” وهي تمتم بألمٍ:
_مش عارفة، حاسة إني هموت من الوجع، أرجوكي ساعديني هموت.
لم تحتمل “سمية” رؤيتها تنازع هكذا، فبالنهاية هي إمرأة مثلها وزوجة ابنها، لذا أسرعت للهاتف لتطلب مساعدة البواب في نقلها للسيارة التي أتت بصحبة سائقها، لتنتقل بها سريعاً لأقرب مشفى، فحملوها الممرضات على السرير المتنقل، ومن ثم دفعوها لغرفة العمليات والأخيرة تلحقها دون وعي منها، فلم تتوقف الا حينما وقفت أمامها إحدى الممرضات فأخبرتها بعمليةٍ:
_مش هينفع تدخلي جوه، استني هنا.
أومأت برأسها عدة مرات ثم وقفت تراقب ابتعادها عنها بتخبطٍ، كانت مشتتة الفكر، فما أن اهتدت بعد جلسة استراحة تمكنت منها بالتفكير المنطقي تجاه هذا الموقف المحسوم، فجذبت هاتفها لترسل برسالة لغيث بعنوان المشفى وختمتها بجملة واحدة
«مراتك بتولد!»
**********
كانت رسالة مبهمة تطرح خلفها ألف سؤالًا، وأهمهما كيف اجتمعت والدته بزوجته؟ وكيف وصلت عائشة للمشفى؟ وما الذي حدث بالتحديد بينهما ليستدعي الأمر المشفى وخاصة بأن الطبيبة كانت قد أخبرتهما بأنها ستلد بعد أسبوعاً على الأقل، وجد غيث بأن التفكير بالأمر لا يصب في مصلحته فعليه الذهاب ليطمئن عليها أولاً، وحينها سيعلم ما الذي حدث بالتحديد، لذا وضع هاتفه بجيب سرواله، ثم اقترب من عمر الذي غلبه النوم على مقعد خشبي قريب من فراش عاصي، فهزه برفقٍ ثم همس إليه فور أن فتح عينيه:
_ عائشة بتولد وأنا لازم أمشي حالا.
اعتدل بجلسته وهو يتساءل باهتمامٍ:
_هجي معاك.
رد عليه بصوتٍ منخفض وهو يراقب وجه عاصي:
_لا أنت لازم تخليك هنا جنب عاصي، محدش ضامن الكلب ده ممكن يعمل أيه تاني!
هز رأسه باقتناعٍ، ثم قال:
_طيب بس إبقى طمني.
ربت بيديه على كتفيه وهو يجيبه:
_تمام.
وغادر غيث للعنوان الذي تلاقاه برسالة والدته.
***********
طال ظلامه الكحيل الذي يبتلعه، ليجد طاقة نور صغيرة تأتي من خارج ذاك الكهف المخيف الذي يسكنه، فتحامل على يديه حتى نهض بصعوبةٍ وهو يتتبعه، حتى وصل لأخره، فوجد النور يتتبع ردائها الأبيض، ليحاوطها فحاول الإقتراب منها ولكنها كانت كلما يقترب تبتعد، حتى وجهها كانت تخفيه عنه، فلم يتمكن سوى من رؤية ظهرها، وردائها الطويل يلامس الزهرات التي تطوق المكان بأكمله، استجمع عاصي قوة بدنه الضعيف، فركض وركض حتى انقطعت أنفاسه، ولكنه لم يستسلم فمازال يعافر للوصول إليها، فما أن لامست يديه كتفيها حتى همس بشوقٍ:
_هنـد
عقد حاجبيه بدهشةٍ حينما رآها تقف أمامه باكية، منكسرة، فردد حروف إسمها ببطءٍ:
_لوجيـن!
عينيها اللاتي أغرقتها الدموع، حكت لغات سيدها الحزن، فبالرغم من حوارها الصمت الا أن عينيها تحاكيه بعتابٍ، رفعت يدها لتتمسك بيديه فانتفضت أصابعه فجأة مما جعل عمر يسرع إليه وهو يتفحص ما به.
عاد ليراها من جديدٍ، أصابعها تمررها بخفةٍ على أصابعه، وكأنه تتوسل إليه بأن ينهض ليحميها مما ستلاقاه، من ذاك اللعين الذي سيغتصب روحها، وسيجعلها بائسة طوال عمرها، تخبره بنظراتها العميقة كم عشقته وتمنته زوجاً لها، تناشده بكل لغة عهدها العشق وختمها بين عشاق خلد إسمائهم بتاريخ الرومانسية بأن ينهض لأجلها هي، لأجل تلك المجنونة التي اقتحمت عالمه المنظم فأحدثت به جلبة وفوضوية راقت له..
سمح لذاك الضوء بأن يتسلل إليه، ففتح عينيه على مهلٍ، حتى أصبحت رؤياه المشوشة أكثر وضوحاً، فأول من رأه كان عمر الذي إستقباله بابتسامةٍ واسعة:
_حمدلله على السلامة.
منحه ابتسامة صغيرة، قبل أن يحرر لسانه فنطق بكلماتٍ ثقيلة:
_الله يسلمك.
ثم رفع عينيه يتفحص الغرفة، فخاب أمله برؤياها ليتساءل بفضولٍ:
_فين لوجين؟
أجابه عمر بسعادةٍ لاستعادته وعيه:
_كانت تحت هنزل أناديها بس إرتاح أنت بس.
وبالفعل تركه وتوجه للطابق السفلي، فأغلق عاصي عينيه لينال قسطاً من الراحةٍ لحين عودة عمر الذي خمن بعد أن هبط للأسفل ولم يجدها بأنها عادت للقصر لتبدل ثيابها وربما ستعود قريبًا.
*******
فتح باب الفيلا أمام السيارة، فشعرت “لوجين” بأنها تقترب من عش أفعى كريهة ستفتك بها، ذاك المكان المفترض أن يكون محبب إليها بات نقمة بعدما وجدت ذاتها تنجبر على فعل أشياء رغمًا عنها وأخرهما زواجها من هذا الشيطان، فأي منزل هذا الذي ستشعر به بالأمان وحريتها بإتخاذ قرارت خاصة بها مسلوبة لغيرها، أغلقت عينيها بضيقٍ حينما لفحتها نسمة هواء باردة، وكأنها لا تود أن يلامسها وهو يعبق منزل كريه هكذا، كان طريقها طويلاً فانتهت حينما ولجت لباب الداخلي، لتجده يجلس على مقعد يتوسط باحة المنزل، ودخان سجاره ينفثه بشراهةٍ، وهو يترقب تلك اللحظة التي ستعود إليه مهزومة، فما أن رآها تقترب حتى نهض ليفتح ذراعيه قائلاً بسخرية لاذعة:
_الأميرة الهاربة أخيرًا رجعت لقصرها ولأميرها!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الأربعيني الأعزب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *