رواية لأجلها الفصل السادس 6 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها الفصل السادس 6 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها البارت السادس
رواية لأجلها الجزء السادس

رواية لأجلها الحلقة السادسة
لم أكن ضعيفة حين احتجت، كنتُ فقط امرأة تتوق إلى يدٍ تُمسك بها، لا قيدٍ يُكبّلها.
سقطت، نعم، لكنني نهضت وحدي.
واليوم… لا أبحث عن من يُنقذني، بل عن من يسير بجواري.
حبٌّ صادق، لا يُطفئني، بل يزيدني ضوءًا.”
الخاطرة والمراجعة من الجميلة( سنا الفردوس ) الف شكر يا قلبي
***********
بالغرفة التي تقبع داخلها الآن تحت أيدي الطبيب المعالج والممرضات، يتخيل ما يحدث معها وكأنه في الداخل، بجوار خالها وشقيقته التي ترافق والدتها.
وفي كل مرة تصل إليه أصوات التوجع والهمهمات المؤلمة منها، ينتفض مفزوعًا، وتتجه أبصاره نحو باب الغرفة بلوعةٍ وعدم احتمال.
ولولا وجود ذلك الذي كان منتبهًا لكل حركة منه، لكان اقتحمها دون أدنى تفكير، وقد هتف به محذرًا حينما فاض به الأمر:
– اهدي بقى وارسى على حيلك مش عايزين فضايح.
تشدق يخاطبه باستعطاف:
– مش قادر يا واد ابوي، عقلي بيوزني اقوم اكسر باب الاوضة اللي مانعني عنها ده، اطبطب عليها، ولا احضنها اخفف من وجعها، يا اما اضرب الدكتور واجبرلها كسرها انا بنفسي .
سمع منه حمزة، قاطبًا حاجبيه بدهشة شديدة، معلّقًا:
– يخرب مطنك كل ده؟ شكلك مش هتجيبها لبر، انا بجول تلم الدور وتروح احسن، انت ايه اللي مجعدك هنا اصلا؟ لا البت ولا أهلها يخصوك بشيء، والكلام اللي ف دماغك بدري جوووي عليه، على ما ربنا يعدلها، جوم يا معاذ انا مليش خلق ليك قوم.
بعنادٍ متأصّل، طالعه المذكور مقارعًا:
– رجلي على رجلك، ما انت كمان ملكش دخل بيهم، ولا يمكن في صلة قرابة وانا معرفِش؟
– ياااا….
كادت أن تخرج من فمه سُبّة نابية ردًا على استفزازه، لكنه تمالك نفسه مردفًا:
– يا سخام البرك انت، يا عديم المفهومية، انا جاعد وبعمل الواجب اللي عليا، بعد اللي حُصل امبارح وهما عرفوني وانا عرفتهم، انما يعرفوك انت منين عشان تدخل لبتهم تسألها عن صحتها؟ دا هي نفسها استعجبت من جرأتك، انا مقدر لهفتك، انما هما هيفهموا ايه من تصرفاتك دي؟ اعجل يا واد ابوي، وروح شوف مصالحك، اختك منى جايمة بالواجب مع البت وامها، وأنا براعي من بعيد لبعيد، وكله في مصلحتك، كل ما كانت علاقتنا بيهم متينة، كل ما سهلت الأمور ما بينا ، فهمت بقى يا غبي؟
أومأ رأسه بتفهّم، نفاه بعد ذلك سريعًا.
– حتى لو كان، برضو مش هسيب مكاني ولا همشي من غير ما اطمن على ليلى، انا الاحق برعايتها دلوك بعد اللي سمعته النهاردة والليلة الواعرة اللي مرت عليها هي وأمها، بسبب الزفت ابوها اللي كان عايز يجوزها غصب ويحرمني منها، دلوك والله ما افرط فيها ولا اتوانى لحظة عن نجدتها.
كزّ حمزة على أسنانه، يحجم نفسه بصعوبة عن الانفجار فيه؛ فهذا الأحمق مصدر خطر عليه وعلى نفسه بأفعاله المتهورة ورأسه اليابس.
– ماشي يا معاذ، بس عليا النعمة لو عملت اي غلط لااكون مهزقك جِدامهم، وجاطع عليك اي فرصة بعد كدِة مع ليلى .
سمع منه، قبل أن يأتي صوتها عن قرب، فانتفض واقفًا، مثيرًا الرعب في قلب شقيقه مرة أخرى.
– هتعمل ايه؟ البت طالعة مع خالها وامها مش ناقصة فضايح.
رمقه معاذ مترقبًا بتحفز لخروج ليلى من الغرفة، في ظل الأصوات التي تصل إليه، قائلاً:
– هحاول اسيطر على نفسي، المهم اطمن عليها.
قالها، وانفتح باب الغرفة ليخرج أولهم، وصفي، الذي كان يضم رأسها إليه وهي تتوجع بصوت عالٍ، ووالدتها تساندها من الجهة الأخرى، ومن خلفهم منى التي اشتركت معهم في تلك اللحظات العصيبة بمسؤولية ليست بغريبة عنها، رغم عبثها الدائم.
همّ معاذ بالتحرك نحوها، ولكن الآخر لحق به ليذكره محذرًا بصوت خافت:
– هااا، احنا جولنا ايه؟
زمجر بضجر، مجبرًا نفسه على طاعته:
– طططيب، هترزع مكاني اها، اما اشوف ايه اخرتها.
تنهد حمزة ببعض الارتياح، وتقدم نحوهم بخطوات بطيئة مخاطبًا إياهم:
– حمد الله على السلامة يا بنيتي، ايه الاخبار دلوك؟
أجابه وصفي وهو يجلس بها على أحد المقاعد:
– الحمد لله اللي جات على كد كدة؟ بكرة تخف وتبجى ايام واتنست .
ردت ليلى بصوت مختنق بدموعها:
– أنسى كيف يا خالي بس؟ دا وجعه عِفش جوي.
جاء التعقيب المباغت من والدتها التي تدعي التحلي بالقوة والبأس امامهم:
– والله كله بيتنسي يا بتي، كسر العضم أسهل بكتير من كسر الروح، على الاقل دا بيلم ويخف، انما الروح…..
ما أصعب كلماتها! هذا ما دار في نفسه، وعيناه انصبتا عليها بتركيز تام، وقد تناسى وضعه والظرف وكل شيء. تلك الجميلة التي رأى طليقها بالأمس، ترى ماذا فعل بها ليصب المرار في حلقها هكذا؟ وقد أخذها طفلة لا تعي من أمور الحياة شيئًا.
– الف سلامة يا آنسة ليلى، لما انتي موجوعة جوي كدِة، ليه الدكتور الحمار ده معطاكيش حاجة تخفف عنك الوجع ده شوية؟
– يخرب مطنك
غمغم بها حمزة داخله بعدما اجفله هذا المتهور بقوله، ليأتي الرد الغاضب من الطبيب المعالج، الذي كان خارجًا من غرفته بالصدفة:
– الدكتور لو حمار كان زود عليها البنج وضرها، انما احنا بندي الجرعة حسب الحالة، المسكن لسة واخداه حالا يعنى لسه شوية على ما يشتغل.
سارع حمزة بالاعتذار لتخفيف وطأة الموقف الحرج، وقد عمّ الصمت بين الباقين.
– معلش يا دكتور هو مش قصده حضرتك، اللي ما يعرفك يجهلك………
– ولا يعرف حتى، عن إذنك.
هتف بها الطبيب مقاطعًا بحدّة، ثم تحرك مغادرًا دون استئذان، مما ضاعف من حنق حمزة تجاه ذلك المجنون الذي لا يسمع إلا لصوت رأسه الأحمق، والذي تجاهل الأمر وكأنه لم يفعل شيئًا، مستمرًا في الحديث إليهم:
– انا نازل تحت اجيبلي علبة عصير اشربها، حد عايز حاجة اجيبهاله معايا؟
لم يأتِه ردّ من الثلاثة المذهولين، وقد كانت أبصارهم منصبّة عليه بعدم استيعاب لأفعاله، فصرفتهم عنه منى بفطنتها، متفكهة رغم غيظها هي الأخرى:
– روح يا حبيبي إحنا ريحة المستشفى اصلا نفخت بطونا، يارب بس نعرف ناكل ولا نشرب لما نروح.
أومأ لها، ثم التفت مجبرًا ليغادر حتى لا يفسد الوضع أكثر من ذلك، فتابعت هي:
– بس العضم عايز وكل ودهن عشان يقوي من تاني يا مزيونة، انا بستأذنك اخدها عندي، على الاقل اكل على حسها والنعمة اخليهالك بطة بلدي .
تبسمت لها مزيونة، تشكرها بامتنان على مشاركتها لها تلك اللحظات الماضية ودعمها، فنهض وصفي من جوارهم:
– طب حيث كِدة بجى، ، استأذنكم انا خمس دقايق قبل ما نقول ياللا.
عقّب حمزة على قوله، وقد أدرك وجهة الرجل:
– ماشي وانا مستنيك عشان اروح بيكم
إليه وصفي يودّ الاعتراض، لكن حمزة أخمد رفضه منذ البداية.
– روح خلص اللي وراك عايزين نروح.
……………….
في القرية
كان جالسًا على مقهى يبعد قليلًا عن منزله، قريب من الأراضي الزراعية، يستنشق الهواء النقي، لعلّه يصادف رؤيتها أيضًا.
كان يُقيد قدميه بصعوبة عن الذهاب إليها وتكسير رأسها، بعد أن فضحته بالأمس. لن يتنازل عن حقه أبدًا، لكن عليه أن يتريث قليلًا. يكفيه ما ناله من خزي وتوبيخ، فوق ما يشعر به من صداع.
لن يتركها تهنأ بعيدًا عنه؛ يكفيه حماقاته في السنوات الماضية حين نفّذ شروطًا ووعودًا غبية بابتعاده عنها، رغم أنها كانت تحت سقف منزله.
والآن، بعد أن استعادت صحتها وحيويتها، تتركه؟
أقسم أنه لن يسمح بحدوث ذلك.
– جاعد لوحدك ليه يا عرفان؟ سرحان وشارد في ايه يا عرفان؟
تمتم بها أحد الرجال من أبناء عمومته، الذي نال نصيبه من الشماتة به بالأمس، رغم إنكاره لذلك.
– افندم يا عطوة، وما اسرح يا سيدي ولا اجعد لوحدي، انت مالك؟
تبسم المذكور بسماجة، يعقب على كلماته بنوع من العتاب.
– اخص عليك يا عرفان، مالك بتعاملني كده ايه وترد عليا بكلام ناشف، كأني بشتمك، مع ان ربي العالم، انا كل غرضي مصلحتك.
– مصلحتي!
تمتم بها عرفان، يطالع الرجل بتوجس لا يخلو من ضيق، فتجاهله الآخر ليصل إلى غرضه، مرددًا:
– ايوة مصلحتك، ما انا شوفت اللي حصلك ورجال العيلة اللي كانوا عاملين عليك رباطية وكأنهم منزهين عن الغلط، محدش فيهم مقدر النار اللي أنت كنت فيها، يجوا يشوفوا المحروسة اللي عملوا عمايلهم عشانها، وهي راكبة العربية مع الراجل اللي ضربك، وواخدة معاها بتها كمان .
انتفض عرفان فجأة، ممسكًا إياه من تلابيب ملابسه:
– انت واعي للي انت بتجوله دا يا واد؟ دا كلام تطير في رقاب
أومأ عطوة على خوف، مبددًا صمته، ليخبره الحقيقة كاملة:
– يا عم عرفان انا مش قصدي حاجة عفشة، انا بس استغربت لما شفتهم في العربية ومعاهم وصفي اخو المدام.
– وصفي!
– اه والله وصفي، تفتكر راحوا فين؟
ضاق بعرفان، فدفعه عنه، ثم نهض مغادرًا من أمامه، بهيئة لا تبشر بالخير.
ليغمغم عطوة في أثره بحقد:
– جاك ضربة لما تاخدك، في حد يسيب مزيونة لهطة الجشطة ويجعد على صفا، والله ما كنت تستاهلها من اساسه، دي ما تستاهلش غير راجل زيي، يعرف يقدر الابطال صُح.
…………………….
أمام موظفة الاستعلامات في المشفى، وقف وصفي مشدوهًا، يردد خلف الفتاة باستفسار:
– بتجولي إيه؟ كيف يعني الحساب ادفع من ساعة ما وصلنا؟
ردت الفتاة بعملية، مشيرة إلى الحاسوب أمامها:
– يا فندم اهو مسجل قدامي، مبلغ كبير اتحط تحت الحساب للمريضة ليلى عرفان، يعني انا هكدب ليه مثلا؟ حتى بالامارة….. استنى حضرتك
توقفت فجأة، مومئة بذقنها للأمام نحو من انتبهت إليه وهو يسير بالقرب منهم في الناحية الأخرى:
– حضرتك الراجل اللي هناك ده، هو اللي دفع.
التفت وصفي نحو الجهة التي تقصدها، ليمسح بكفه على جبهته المتعرقة بحرج، محدثًا نفسه:
– يا دي الكسوف يا ولاد، ودا هعرف اتعامل معاه كيف دلوك؟
استجمع وصفي بأسه ليذهب نحو حمزة، متحفزًا بكل جهده. كان يريد ان يرجع له مال المشفى الذي دفعه، لكن الآخر استطاع بحنكته وإصراره أن يجعله يقبل مجبرًا، مستغلًا نقطة ضعف الرجل في أدبه المبالغ فيه.
ثم توقف على مسافة بعيدة عنهم، تمكنه من الرؤية، ليتابع رد فعلها الرافض وانفعالها نحو شقيقها الذي بدأ وكأنه يبرر لها كي تتقبل الأمر بعدما أخبرها بما تم. حتى كادت أن تتحول لمشاجرة، ليسارع هو بالخروج من المشفى، يسبقهما إلى سيارته قبل أن ينتبهوا لوجوده، فينقلب الأمر عليه.
❈-❈-❈❈-❈-❈
بداخل السيارة التي ستقلهم للمغادرة، جلست منى مخرجة رأسها من النافذة تتابع الحديث الحامي بين شقيقيها العزيزين بانتباه شديد، تستشعر شيئًا ما غير مفهوم.
– طب انا مش بقولك روح يا معاذ، عايزني اتعصب عليك دلوك في الشارع العمومي ونلم علينا الناس.
– وتلم علينا الناس ليه بس يا عم حمزة؟ أيه اللي يوصلها للخناق اصلا؟ دا كله عشان بقولك اروح معاكم في العربية.
دفعه فجأة ليصطدم ظهره بالسيارة، محذرًا إياه كازا من بين أسنانه:
– ياض إنت كام مرة اقولهالك من الصبح؟ شغل عقلك دا اللي مسحته بأستيكة، اجعدك معانا فين والاربع أماكن معايا في العربية محجوزه، اخوها هيجعد جاري، والحريم ع الكنبة اللي ورا، ازوقك جمبيهم مثلا؟
– لع زوقني جمب عم وصفي من جِدام. فيها حاجة دي
قالها بسهولة ليهدر به:
– ونتحشر احنا التلاتة جمب بعض، ليه من قلة العربيات، معاذ يا واد ابوي حل عني انا على اخري.
سمع منه الأخير، ليتجه إلى سلاحه الأخير في استعطافه، عله يشفق عليه:
– عايز احس بقربها يا حمزة، اطل علي عنيها في المراية، واشوفها ان كانت هتتعب من مشوار الطريق، ولا تعوز حاجة اجيبهالها.
تدخلت منى في هذه اللحظات، وقد تأكدت من ظنها، لتشاكس بخبث الاثنين:
– حبيبي يا حنين، انا عندي حل يا حمزة، أيه رأيك تتصرف انت وتسيبه هو اللي يسوق بينا العربية ويرجعنا البلد.
سمع منها المذكور، ليطالعها فاغرًا فمه بدهشة، ثم نقل نظره نحو الآخر الذي أشرقت ملامحه بالأمل، والتمعت عينيه تمسكًا بحلها:
– طب والله فكرة حلوة، ايه رأيك توافق يا حمزة، على الاقل تخدم اخوك.
– اخدمك!
قالها حمزة بسخرية، ليجذبه من قماش قميصه مبتعدًا به عن السيارة، مردفًا بنفاذ صبر:
– دا انت مش عارف تمسك نفسك وانا واقف جمبك، هتعرف تتصرف وانا مش معاك، امشي من هنه ياض، امشي لاحلف على موضوعك ده ما انا داخل في ابدا، امشي ياض.
– يووووه
تمتم بها معاذ، يضرب بقدمه على الأرض، يبرطم بسخط وكلمات غير مفهومة، مغادرًا على غير إرادته، ليبحث عن وسيلة مواصلات تقله للذهاب. أما حمزة، فقد حطت كفه على وجه تلك المشاكسة، يدخل رأسها عنوة مرددًا:
– وانتي خشي خشي، وارحمينا من أفكارك الجهنمية اللي تودي اللومان دي.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈
وفي داخل البلدة، عاد خليفة حاملاً حقيبة الملابس التي خرج بها في الصباح مع شقيقه، قبل أن يتركه المذكور داخل المحافظة التي كانوا على وشك مغادرتها، ليلغي فكرة السفر من الأساس. قرار مفاجئ كاد أن يطيح بعقله وهو يفكر في السبب بعد ذلك.
– حمد على السلامة يا خليفة، راجع بشنطة اخوك ليه؟
صدر السؤال من حسنية التي كانت في استقباله، جالسة في مكانها المعروف وسط المنزل. ليتبسم لها ساخرًا، يجيب:
– اصل البرنس لغى فكرة السفر، زي ما قرر فجأة يسافر، لغى كمان فجأة واحنا كنا على وشك نطلع خلاص، ولدك دِه مجنون يا امه.
تلقت قوله بعدم استيعاب، تطالعه وهو يضع الحقيبة على الأرض، ثم يحط بجسده على أقرب أريكة، متكئًا عليها. فأتى التعقيب من زوجته التي جاءت هي الأخرى على الصوت:
– شنطة معاذ بتعمل ايه معاك يا خليفة؟ هو سافر من غيرها؟
ضحك بخفة خلف قولها، فتولت والدته الرد متهكمة:
– لع يا حبيبتي بيقولك المحروس مسافرش اصلا بعد ماجضوا نص اليوم برا ، كأنهم خدوا الشنطة يفسوحها .
– وه يا امه.
تمتم بها خليفة باستياء، ليردف نحوها عاتبًا:
– وانا ذنبي ايه بس؟ ولدك جطع من مخه واحنا في نص الطريق وسابني لوحدي، عايزاني افر وراه يعني؟ انا خدت جعدتي على القهوة، ريحت شوية وشربتلي حجرين شيشية على امل انه يرجع لكن محصلش، اعمل ايه بجى؟ افر ادور عليه بمكروفون.
– ايوة يا حبيبي لكن ليه؟ دا اللي احنا عايزين نعرفه؟ عايزين نعرف السبب.
تدخلت هالة بتحقيقها المعتاد في كل أمر لا تعلمه، لا تستريح أو يغمض لها جفن حتى تلملم جميع المعلومات التي تريدها. ولمعرفته الشديدة بطبعها، أمعن هو في مراوغتها، لينتفض فجأة قائلاً:
– وانا مالي يا ابوي ما تسألوه انتوا لما يرجع، وافهموا منه لو اتكلم، أو اسألوا حمزة!
قال الأخيرة بصوت خفيض، وقد ابتعد بمسافة كافية مكنته من صعود الدرج سريعًا كي يختفي من أمامهن. فتبادلت الاثنتان السؤال بدهشة:
حمزة؟!
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈
أما هو، وقد استقر في مكانه ينتظر خروج الأم وابنتها وشقيقها ليُوصِلهم.
كما توقع داخله، فوجئ بها تطل أمامه بمفردها، تسبقهم. ولم يكن السبب غريبًا على شخصيتها، رغم معرفته القصيرة جدًا بها.
فقد كان يعلم أنها ستأتي. العزيزة الحرة لم تتقبل ما أجبر شقيقها عليه بالخدعة.
راقبها وهي تقترب منه بخطوات يزينها الحياء، تلتف حول وجهها البردة التي تحجبها عن أعين البشر وتحميها من مكرهم.
هي الفتنة بحق، امرأة كاملة بحق، تخفي ذاتها عن النفوس الطامعة. وهو، أخيرًا، قد وجد ضالته فيها.
اعتدل في وقفته فور أن اقتربت منه، فتخاطبه بصوت بالكاد يخرج من فرط خجلها:
– سلام عليكم، انا كنت جاية اااا
– مش هقبل……
– نعم….
صدرت منها نظرة لتقابل عينيها الجميلتين خاصتيه، تلك التي لم تفارقهما طوال الوقت. وتلك الهالة من الغموض التي تحيط به، جعلته يطالعها بجرأة تثير حقًا دهشتها، رغم حديثه العادي.
– بوفر عليك يا ست مزيونة، عشان منكررش نفس الجدال اللي تم مع استاذ وصفي.
هبت روح الاعتراض فيها، ترفض بعنف:
– كيف يعني؟ انا مرضهاش الله يخليك مت…
– الله يخليكي انتي متزعلنيش
قاطعها بها ليواصل بحنكته:
– ياريت متخدهاش على كرامتك او عقلك يصور حاجة ابعد من قصدي، انا اتحطيت في موقف امبارح بالصدفة وشوفت اللي كان السبب في اللي حصل لليلى، تصرفي تم كنوع من الاعتذار ليها، عيلة صغيرة ودي حاجة اكبر طاقتها.
– تمتمت بغصة مؤلمة في حلقها.
بس الكلام ده يتسئل عنه ابوها مش انت .
– ميخصنيش بيه لانه ميستاهلش، انا بتكلم عن احساسي، البنية شوفتها زي ولدي ريان، على فكرة الفرق ما بينهم مش كبير.
أحرجها بذوقه ، لتردف بحرج:
– ربنا يخليلك ريان يا ابو ريان، بس برضو……
“ما أجمل نطقها بلقبه المحبب، مما يعزز إصراره، حتى وإن اضطر إلى أن يترجاها.”
-ارجوكي يا ست مزيونة تجبري بخاطري في الموضوع دِه، الحكاية اصلا مش مستاهلة والله.
– لا طبعا مستاهلة.
“تمتمت بها بضعف، وقد تأثرت من رجائه، قبل أن تنتفض فجأة، إذ خرج صوت من داخل السيارة قبل أن يطل رأس صاحبته من النافذة المجاورة لها.”
– لا مش مستاهلة يا مزيونة، ولميها بقى وخلينا نروح، قبل ما اتحمص في العربية وجوزي ما يعرفنيش.
“شهقة مباغتة خرجت منها، ويدها امتدت غريزيًا إلى موضع قلبها، ما لفت انتباه ذاك المتربص بها، ليغمره الامتنان تجاه شقيقته التي تسببت في ذلك.”
– بسم الله الرحمن الرحيم، خلعتيني يا منى.
“ابتسامة خبيثة ارتسمت على شفتي الأخيرة تأثرًا بما رأته من رد فعل على وجه شقيقها، الذي انفضح أمره أمامها كالصغير الذي غادر.”
– اسم الله عليكي من الخلعة يا حبيبتي، ما تسمعي الكلام بجى يا روح جلبي، اخويا دماغه جزمة جديمة، هتتعبي نفسك في اللت معاه على الفاضي، روحي هاتي ليلى الله يهديكي، جوزي هيطلجني يا بت.
همست الأخيرة بصوت مبحوح بفكاهة، لتجعلها تضحك على غير إرادتها حتى أظهرت الصف الأمامي من أسنانها البيضاء، قبل أن تستأذن مغادرة من أمامهم بخجل.
ارتسمت ابتسامة على وجهه في أثرها، وقد فرقعت البلونات حوله ورفرفت في معدته الفراشات، بعدما فاز أخيرًا برؤيتها باسمة وضاحكة. ولكن منى انتشلته من عالمه الجميل، وهتفت به:”
– خلاص يا خوي لمها، مش هنجضى احنا باقي اليوم في جو صلاح ذو الفقار وشادية.
❈-❈-❈❈-❈-❈
طلت برأسها نحو باب الشقة المغلق منذ الأمس، ويدها تضرب على ذراع الأريكة التي مرت بجوارها، وهي تقطع مسافة المدخل ذهابًا وإيابًا دون هوادة. كم كانت أمنية تتمنى أن تتحقق، بمغادرة غريمتها وابنتها عن المنزل وعالمها كله. ولكنها فقدت فرحتها بفضل هذا الأحمق، زوجها، الذي جعل سيرتهم كالعلكة على الألسنة بعد فعلته. وبعد أن كسبت هي شوطًا كبيرًا في نشر ما حدث أمام الغريب والقريب والجيران، ليعرف الجميع طباع تلك المتمسكنة التي تستقطب عطف الجميع ومحبتهم على مدار سنوات، وهي في الحقيقة قليلة الأدب والحياء، لم تراعِ كرامة زوجها، بل أهدرتها أمام الغرباء، ولا حتى قدرت إكرام الضيوف.
– اه يا ناري.
صدرت منها بعمق ما تحمله داخلها من نيران وغليل نحو تلك المزيونة وابنتها، وقد خرجت من المنزل رافعة رأسها منتعشة، وكأنها خرجت لحريتها. لم ترَ بعينيها الذل الذي كانت تتوقعه بعد طردها شر طردة أمام كل من يعرفها. والأمر من كل ذلك، هو ما حدث من هذا الأحمق آخر الليل ليجعلها فضيحة أمام العائلة. لقد أفسد كل شيء، وبدا واضحًا أنه يريد إرجاعها إليه، حتى لو أنكر أو هي رفضت. يريد إخضاعها ونيل ما حرمته عليه عدد لا بأس به من السنوات. هي أعلم الناس بطبعه. تبا له إن فعلها واستطاع إعادتها إليه مرة أخرى.
– المرة دي هجتلها بيدي
قالتها بصوت مسموع، وقد أفصح اللسان عما يدور برأسها وتتوعد به داخلها.
…………………………….
ها قد وصلوا أخيرًا، فوقف بالسيارة أمام المنزل القديم. نظر حوله في الأراضي الزراعية الممتدة، ليغمره شعور بعدم الارتياح. كيف له أن يتركهما وحدهما هنا، خاصة مع إصابة ليلى الصغيرة؟
هو انتوا متربيين هنه بالفعل جوه البيت دِه؟
توجه بالسؤال نحو الشقيقين، فأوقفهما عن الترجل، قبل أن يتكفل وصفي بالرد ضاحكًا:
اااه يا سيدي متربيين هنه وعمرنا ما خوفنا اننا وحدينا،، البيت على ارضنا، يعني كنا نطلع الجاموسة تاكل في الزرعة من غير ما نحتاج نحش لها البرسيم ولا نتعب نفسنا، تشرب من حوش الميا اللي بنسجي منه الزرعة، وترعى هي وعيالها وتجيب احلى لبن تحلبه امي طازة نشربه والباقي نعلمه سمن وجبن ونعيش عليه، ياااه يا عم حمزة فكرتنا بأحلى ايام، ياريت بس يرجع نصها.
صدرت الأخيرة بشجن حقيقي، ارتد على مزيونة التي غامت عيناها بتأثر واضح، تجلى في نبرتها.
مش بس احلى ايام، دي العمر الحقيقي اللي يتحسب من كل السنين اللي عشناها……
توقفت لتخرج تنهيدة خافتة، ثم همّت بتحضير ابنتها للترجل من السيارة، فتابع هو مستفسرًا:
يا جماعة انا بسأل عن البنت العيانة، لامؤاخذه يعني هي عايزة وكل زين ونضافة، والبيت بالاكيد لسة متوضبش للسكن ف….
قطع كلامه بتردد وتفكير فيما إذا كان من المناسب عرض ما يدور في ذهنه، لكن وصفي وفر عليه ذلك بقوله:
لا في دي متشلش هم، الجماعة جات من الصبح هي والعيال، وضبوا البيت بما يؤدي الغرض، وحضروا وكل لليلى كمان.
-اااه طب “الحمد لله”، تمتم مدعيًا الارتياح، ليغلق فمه عن الجدال. وفور أن انفتح باب المنزل، خرجت منه ثلاث فتيات صغيرات لاستقبالهم، وقد بدا عليهن رهبة تلاشت بمجرد أن ظهرت أمامهن ليلى حين ترجلت من السيارة.
ليلى ليلى، مالو دراعك يا ليلى؟
براحة عليها، لا تؤذوها…
وصل إلى أسماعه الصوت المألوف، وبداخله يتمنى تكذيب أذنه، لكن مع تجمد الفتيات ورقابهن التي توجهت للخلف، تأكد بالفعل من ظنه. ليترجل من السيارة، مًغلقًا الباب خلفه بقوة، ومتوجهًا بأبصاره نحو هذا الأحمق الذي كان قريبًا منهم، يسارع بالتلطيف:
معلش انا تبع الجماعة مش غريب، انتو اتأخرتو ليه يا جدعان، بقالي ساعة مستنيكم؟ تجاهل وصفي الرد عليه، ليسحب ابنة شقيقته ويتحرك بها نحو المنزل بصحبة بناته. أما ليلى، فقد اكتفت بنظرة حائرة نحوه، لا تقل استغرابًا عن والدتها التي ظلت على تجهمها حتى أشرق وجهها بخروج آخر فرد من أبناء أخيها، فتى في العشرين من العمر. استقبلهما ضاحكًا، وألقى بنفسه داخل حضن عمته التي قابلته باشتياق.
حازم باشا بجلاله قدره مستنينا يا جدعان.
حبيبتي يا عمتي والله وحشتيني.
وانت كمان يا قلب عمتك.
عبس حمزة لرؤية ذلك العناق الذي استفزه، وقد نسي أمر شقيقه الذي انعقد حاجباه بضيق واضح، وهو يراقب الفتى يمازح ليلى ويتحدث معها بود، بينما تستقبله هي بتباسط وابتسامات تخالف تمامًا ما اعتاد أن يجده منها.
انا صلحتلك سرير جدي المرحوم بنفسي ، وامي فرشته ووضبته عشانك يا ليلى.
“يارب ينكسر…” غمغم بها معاذ في داخله، قبل أن يجفل على صوت دعوة وصفي.
واقفين ليه محلكم يا جماعة، تعالوا جوا نشرب حاجة ونتغدى، وبالمرة تشوفوا البيت.
همَّ أن يتحرك سريعًا مستجيبًا للدعوة، لكن يدًا غليظة أوقفته بحذر، يعكس يقظة صاحبها، ليعتذر بعدها نحو الآخر قائلًا:
تشكر يا ابو حازم يا ابو الواجب، مرة تانية ان شاءالله.
مرة تانية ليه بس يا عم حمزة؟ الدنيا واسعة والله ومفيش كسوف، حتى تجرب معايا جعدة المسطبة اللي تحت شجرة التين اللي جدامك، احلى كوباية عصاري والله تشربها تحتها.
تطلع إلى ما يقصده برضا، ثم نقل بصره نحو شقيقته التي بدأ النعاس يغلبها، فعدل عما كان يبتغيه، مؤجِّلًا الأمر:
ان شاءالله يا عم وصفي، الايام جاية كتير، عن اذنك بقى اوصل الحاجة منى لبيت جوزها، الا مقولتليش صُح، هي ارضكم فين بالظبط هنه؟
اعتلى الحزن ملامح وصفي، وأشار بذقنه إلى الأمام قائلًا:
“الزمام اللي في وشك دا على طول… بس دا كان، قبل ما نبيعه وتروح معاه الأيام الحلوة. أمال إحنا هجرنا بيتنا من شوية
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈
في ناحية أخرى
بعيدة إلى حدٍّ ما، أسفل إحدى الأشجار، وقف عرفان يراقب بتركيز شديد، وداخله يتوعد ويحلف بأغلظ الأيمان، بعد أن تأكد من صدق ما أخبره به عطوة، عن ذلك الرجل الذي أقلّ زوجته وابنته. أيًّا كان السبب الذي جعلها توافق على ذلك، حتى في وجود شقيقها عديم الرجولة، لا شيء يشفع لها، أن تجيب حتى لو حدثها هذا المحتال الذي استغلّ هفوته وباغته بضربات متتالية علي رأسه والتي سقط علي إثرها، ليسقيه كأس الذل أمام عائلته، وأمامها، وأمام ابنته.
ليته كسر ذراعي الاثنتين، علّه يبرد شيئًا من نيرانه… لن يكون عرفان الأشقر إن لم ينتقم.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈
في طريق عودتهم إلى المنزل،
لم يتوقف معاذ عن اللغو والعتب على شقيقه، الذي ظل صامتًا دون أن يتفوه بحرف، رغم حنقه عليه ورغبته الأكيدة في لكمه على وجهه عدة مرات حتى يكفّ ويصمت. ولكن طاقته قد نفدت، ومجهود الأمس واليوم كادا أن يقضيا عليه.
حين وصلوا بالقرب من منزل شقيقته، توقف متجاهلًا الآخر، مخاطبًا إياها:
– بس وصلنــااا، اصحي يا منى، وصلنا بيتك، منى…
– خلاص يا حبيبي، سمعت، هي غينوة.
تمتمت بها لتفاجئهم بوعيها، فيعلّق معاذ ساخرًا:
– يعني صاحية يا حلوة وكنتي بتمثلي علينا؟
لملمت حقيبتها تخاطبه بتحدٍ:
– أيوه، كنت بمثل، وإنت طلعت “دوهل”، بقالك ساعة كلت دماغي عن ليلى وأم ليلى وبيت ليلى، دا أنا حفظت تاريخ البت، يخرب مطنك.
ضحك حمزة ليعلّق في أثرها هو الآخر وهي تغادر السيارة :
– آه يا سوسة…
جعدت ملامحها تغيظه بطريقتها، فزادت ضحكات حمزة، لتقترب فجأة من النافذة المجاورة له، وتميل بكتفها من خارج السيارة، تضع ساعدها على ذراعه، وتعطيه دوره هو الآخر:
– وإنت عامل نفسك تقيل ومش راضي تتكلم، على أساس مكشفتكش، دا انت كل أفعالك فضحاك.
تجمّدت ضحكته وهو يخاطبها بتحذير:
– لمي نفسك يا منى، مش عايز أتعصب عليكي.
تبسمت تغيظه:
– وإن ملمّتش هتعمل إيه؟ مش من مصلحتك أصلًا تزعلني دلوك.
عضّ على شفته بحنق شديد، فالملعونة تعرف ما يدور برأسه، وتلاعبه على هذا الأساس، وليس أمامه سوى مهادنتها:
– امشي يا منى، وروحي لجوزك وعيالك، منصور على آخره أصلاً منك.
تبسمت بدلال وهي تبتعد عنه مرددة:
– لا يا حبيبي، ما تشيلش هم، ماي هسبن منص حبيبي، مفيش أهدى منه أساسًا…
– منى.
أتى الصوت الجهوري من شرفة المنزل، لتنتبه على وجوده، بوقفته المتحفزة وهو يلوح بالتحية لشقيقيها، بوجه متجهم وحاجبين معقودين
، فتهرول هي من أمامهم مرددة:
– يا لهوي، دا متعصب صُح! أروح أهدّيه، جاتكم نيلة، عيلة ما يجيش من وراها غير الهم!
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-
بعد قليل
وفور أن خطت السيارة داخل البوابة الحديدية، انتفضت هالة التي كانت تطل من شرفة الغرفة الأرضية للحاجة حسنية، لتهرول نحوها مرددة:
– وصلوا ياما، وصلوا! الاتنين وصلوا مع بعض في عربية واحدة، يبقى خليفة كان عنده حق.
توقفت حسنية عن ارتشاف اليانسون الساخن بإجفال، لتضع الكوب على الصينية النحاسية بحرص، قائلة:
– هما مين يا جزينة؟ خلعتيني!
اقتربت منها تعيد عليها بلهفة:
– حمزة ومعاذ ياما، راجعين في عربية واحدة، يبقى أكيد في مصلحة بينهم. شوفي بقى، جضّوا يومهم كله فين؟ وإيه الحاجة المهمة اللي تخلي معاذ يلغي سفره عشانها؟!
أومأت حسنية تراضيها، رغم ضجرها من إلحاحها واصرارها على معرفة كل صغيرة وكبيرة داخل المنزل، وحتى عن أولادها:
– حاضر يا هالة، روحي لجوزك، ليكون عايز حاجة منِكِ.
اعترضت برفض تام:
– هيكون عايز إيه يعني؟ هو أساسًا نام.
أومأت حسنية مرة أخرى، لعلمها الأكيد أنها لن تصمت حتى تعرف كل شيء، فاضطرت أن تُذعن لرغبتها، وانتظرت حتى اقترب أبناؤها من مدخل المنزل، فهتفت تناديهم بأسمائهم:
– معاذ، حمزة.
التفّ الأول نحوها، وكاد أن يذهب إليها، لولا حمزة الذي انتبه لوجود هالة، فضغط على كفه محذرًا بخفوت:
– تطلع دوغري على أوضتك وتنام، إياك تجيب سيرة أي حرف من اللي حُصل النهاردة، ولا الموضوع إياه، غير لما أنا أقولك.
– طب وإمتى هنفاتحها؟
سأله بريبة، ليشدد عليه الآخر:
– مالكش دعوة، أنا هتصرف. المهم تسمع كلامي.
أومأ له بطاعة، ليرتد بخطواته متخذًا طريق المدخل، هاربًا من والدته. وتكفّل حمزة بالقدوم إليها، حتى الشرفة المنخفضة المقابلة للغرفة الأرضية، ليجيبها مبتسمًا:
– نعم يا ست الكل، عايزانا في حاجة؟
عبست ملامحها بضيق، تجيبه:
– أخوك طلع على طول ومعبرنيش!
برر متجاهلًا النظر إلى هالة:
– أخويا هلكان ياما، النهاردة كان يوم صعب وفي مية حاجة. أنا كنت جاي أحكيلك.
وضح التحفز على الاثنتين، فجاء الرد من حسنية ليصدم هالة:
– طب مستني إيه؟ ما تيجي. قومي يا هالة، اعملي لواد عمك كوباية شاي.
سمعت منها، لتبرق عيناها بصورة كادت أن تضحكه، لكنه تماسك، وواصل مراوغته:
– خليكِ مكانك يا هالة، أنا بجولك هحكيلك ياما، بس دلوك هلكان والله، سبيني أرتاح، وبكرة إن شاء الله هريحك.
– ماشي يا نور عيني، تصبح على ألف خير.
وهكذا استطاع بحنكته أن يُراضي والدته… ولا عزاء لهالة.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-
وإلى مزيونة وقد حلّ المساء،
واختفى الضجيج والزحام، ولم يبقَ سوى صوت الليل من حولهم، بعد مغادرة الجميع.
رغم إصرار شقيقها على المبيت معهما أو أخذهما إلى منزله، إلا أنه في النهاية أذعن لرغبتها، وغادر إلى عمله المسائي، لتبقى هي مع ابنتها وواحدة من بنات شقيقها التي غلبها النوم بعد العشاء، فخلا الجو بين الأم وابنتها.
وقد تحسّن الوضع اليوم عن الأمس، فهما نائمتان على السرير، لا على الحصيرة كما في البارحة.
حتى وإن كان الفراش قديمًا، لكنه نظيف ودافئ بحضنها لصغيرتها، والحديث يدور بينهما:
“فرحتي يا ما لما اتخطبتي لأبويا؟”
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي مزيونة، وأجابتها:
“والله ما فاكرة إن كان عجبني ولا معجبنيش، فرحت بعريس الهنا ولا ما فرحتش، كل اللي فاكراة إني كنت مبسوطة بالفستان، والدهب اللي اتحط في يدي، ومباركة الجيران والقرايب وفرحتهم بيا، إني هتجوز قبل الكل، وإني هبجى أحلى عروسة.”
“وبجيتي أحلى عروسة.”
“بجيت أحلى عروسة يا قلبي، لكن بعدها ما شفتش الفرح. كان مقلب وشربته. أبوي نفسه ندم، وفضل عمره كله يطلب مني أسامحه… وأنا سامحته، بس دِه عمره ما هيرجع اللي راح.”
أنهت مزيونة حديثها كأنه عرض صغير يلخّص تجربة عمرها، لتحصل على الرد من ابنتها:
“أنا عمري ما هتجوز صغيرة يا ما.”
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأجلها)