Uncategorized
رواية ندبات الفؤاد الفصل السادس والعشرون 26 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل السادس والعشرون 26 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل السادس والعشرون 26 بقلم زيزي محمد |
رواية ندبات الفؤاد الفصل السادس والعشرون 26 بقلم زيزي محمد
همست شمس ليزن الجالس بالكرسي المجاور لها:
– أنا خايفة من سليم، هيطق مني كده.
رفع يزن حاجبيه وهو يشير لها بخفة ممازحًا إياها:
– لا اجمدي كده هو قلم من هنا على قلمين من هنا والدنيا هتبقا زي الفل.
زمجرت فيه بضيق:
– أنت بتهزر يا يزن وأنا بتكلم بجد، أنا فعلاً خايفة عليه ومعنديش استعداد اخسره ويكون بسبب ضغطي عليه أنا هقوله يطلع ينام في شقتنا وكفاية كده بُعد ما بينا.
– لا يا شمس ده انا ما صدقت يلين شوية معانا ويقعد وكمان النهاردة بخطط انه ينام مع زيدان في نفس الاوضة يمكن يتكلموا، أنا عارف إن بضغط عليكي وإن استغليت حته الخطوبة دي بس في الاخر كله لمصلحته.
زمت شفتيها بضيق وهي ترمقه بتفكير:
– بس هو قالي في العربية أنه عايز يطلع فوق ينام لانه بقاله كام يوم مبينامش كويس وأنا الصراحة معنديش استعداد ازعله.
قالتها بصدق تزامنًا مع توغل الاشتياق بداخلها ملهبًا أروقة قلبها النابض من أجله، لم تقدر على هدم ذلك التفكير المسيطر على هواجسها بعودة الجفاء بينهما، أو يصيبه الملل منها، بعدما بدأ في شق طريقه بإعترافه لعشقه علنًا بعدما كان شيئًا مستحيلاً يخرج من فمه وكأنه سر من أسراره العظيمة!.
تنهدت بعمق بعدما لوح لها يزن برجاء حتى تسانده في اتفاقهما، وبالنهاية هي تفعل ذلك لأجله بعدما قررت هدم أسواره العالية المحاطة بفؤاده الجريح.
نهضت بخفة نحو المطبخ حيث كان يقف مع أنس الطالب لوجبة العشاء الخاصة به قبل أن يصعدا لشقتهما..شاورت لأنس بالخروج..فامتثل الصغير وهو يحمل طعامه متجهًا صوب الخارج، أما هي فتقدمت تحت نظراته المتعجبة والتي لم يستطع كتم نبرة تعجبه فخرجت من فمه المتذمر:
– كنتي سيبه يا شمس يخلص عشان نطلع.
وقفت أمامه مباشرةً وكادت أن تفتح فمها فقال محذرًا:
– يمين الله لو نطقتي خطوبة تاني أنتي حرة، ايه هو أنا هفضل حياتي كلها في نفس المستوى ده، الناس كلها بتنجح إلا أنا بسقط وبعيد.
مدت يدها تداعب ياقة قميصه في دلال، تحاول كتم ابتسامتها، فاقترب برأسه يهمس أمامها وأنفاسه تلفح بشرتها الناعمة:
– أنتي واعية بتعملي إيه في شقة أبويا.
هزت رأسها بإيجاب وهي تحاول أن تجد كلمات مناسبة لتحجيم عاصفة غضبه التي ستطلق بوادرها في وجهها الآن.
– سليم أنت عارف إني بحبك صح.
رد في فتور منتظرًا كلامها المحمل بشيء سيفقد أعصابه بسببه، فواصلت بحذر:
– نهى اتخانقت مع مامتها في التليفون ووالدك قال تبات هنا النهاردة.
رد خلفها ببرود:
– ايوا ما يتحرقوا وأنا مالي.
عضت فوق شفتيها كناية عن محاولتها في تهذيب قوله، فغامت عيناه بوميض العشق لتصرفها التلقائي والذي الهب نيران الحب بصدره، وبالتأكيد لن تطفأه سوى بقبله من ثغرها ينهل منه خمره المسكر لعقله والمحبب له.
فغابت هي تحت سطوة مشاعره والتي انطلقت كالشهب تصيب قلبها وتشعله بالاشتياق لحبيب لم يفشل أبدًا في تلقينها دروس الحب والغرام حتى وإن كانت بطريقته الصارمة.
ابتعدت عنه والخجل يغزو ملامحها، ثم حاولت التشبث بأخر ذرة عقل لديها قبل أن تنهار أمامه تعترف مجددًا بحبه الهالم لقلبها المسكين ضاربة بإتفاقها مع يزن عرض الحائط.
– يلا نطلع بيتنا، وجودنا هنا غلط.
قالها بصوت متهدج يجاهد مشاعره المندفعة نحوها في وله فاقت محاولاته بالتمسك بثباته أمامه، فاستمع لصوتها المتلعثم بسبب عاصفة حبه التي هاجمت شفتيها في لحظة غاب عقليهما بها:
– نـ..نـ نهى هتبات فوق عندي.
وبصوت هادئ سألها بعدم فهم:
– تبات فين يا ماما؟!
حمحمت محاولة منها البحث عن هدوئها وقوتها التي تتبدد أمامه حينما يغرقها بعشقه المنبعث من عينيه قبل همساته اللطيفة التي أصبحت مؤخرًا تداعب أذنها دون أن يرأف بمسامعها حيث لم تعتاد على سماع مثل هذه الكلمات التي لم تكن تحمل اعترافات كثيرة ولكنها لطيفة محببة لقلب عاش لسنوات في ظمأ لم يروي عطشه.
– مينفعش تنام هنا واخواتك موجودين، وبعدين دي كلها ساعات وتمشي بكرة، معلش تعال على نفسك علشان خاطري أنا.
رد بخشونة وتجهمت ملامحه:
– أنا استحمل علشان خاطر أهلي، بس مش عشان بنت ميرڤت.
– يا روحي دي بنت في النهاية، هي بس ساعات بقولك.
زفر حانقًا وهو يبعد يده عن خصرها الذي كان يحيط به بامتلاك، استمرت هي بكلماتها التي كانت لها واقع قوي عليه، فهي الوحيدة المالكة لمفاتيح شخصيته، حتى وافق على مضض وانطلق خارج المطبخ بوجهه الحاد الناطق بكرهه لميرڤت وابنتها وكل شيء يخصها.
***
مرت ساعات الليل على سليم وهو يجلس فوق الأريكة بالصالة، ورغم إجهاده وحاجة جسده للنوم إلا أنه عاد يختفي عنه بمجرد جلوسه هكذا كالمشرد الفاقد لاحتواء.
التقطت مسامعه صوت يزن المنادي له، فنهض بتكاسل وذهب نحو غرفة زيدان، فوجد يزن يحشر نفسه رغمًا عن زيدان الرافض لوجوده.
– تعال اقعد معانا.
كاد أن يرفض كعادته ولكن مشاهد الصباح تكررت أمامه شاعرًا بحنين لطيف داعب جفاف قلبه في أحقيته بالجلوس معهم حتى وإن كانت ميولهم مختلفة، انتبه على صوت زيدان الحانق وهو يحاول إبعاد يزن عنه:
– بتبص في تليفوني ليه يا متطفل.
ابتسم يزن بسماجة وهو يتابع النظر في هاتفه بوقاحة:
– اديك قولت متطفل، وبعدين أنا حاسك جلنف ومتعرفش تتعامل مع البنات، يا جماعة انتوا ليه رافضين تاخدوا عصير خبرتي.
تقدم منهما سليم وهو يضع يده في جيب بنطاله، مردفًا بنبرة غاصت أحباله الصوتيه في الاشمئزاز:
– أنت عصير خبرتك ده تكبه في الزبالة، ومالك فخور كده ده كلهم بنات مش حلوة.
توسعت أعين زيدان ونهض يجلس على الفراش، مطلقًا صفيرًا عاليًا:
– ايوا يا سليم يا جامد اديله على دماغه ابن شوكت باشا ده.
لأول مرة يرى سليم تشجيع زيدان له وحماسته وهو يشير له بالجلوس معهما على نفس الفراش، جاهد كبريائه وراح ينطلق معهما في الحديث بإريحية مبررًا أنه مجرد وقت لتسلية حتى تقضى ساعات الليل الطويلة، ناقمًا على سيف الذي يمر بألف ليلة وليلة، أما هو فيجالس اخواته الذي بدأ عراكهم اللفظي مجددًا.
– بس يا لوسي أحسنلك.
اخشن صوت زيدان وهو يرمق يزن بقسوة مهددًا إياه:
– وله احترم نفسك أصل واقسم بالله هديك على دماغك.
– ولا تقدر تعمل حاجة وتستاهل المصايب اللي بعملها فيك.
وبمناسبة المصائب ارتفع صوت سليم يسأل بوجوم:
– ليه عزمت نهى تيجي الفرح يا يزن؟!
حك يزن أنفه مبررًا بتعاطف:
– البت بتصعب عليا من معاملة ميرڤت بتعاملها معاملة جاحدة اوي يا جماعة.
ردد زيدان خلفه وهو يعاود بجسده للخلف:
– عمتك لو تربية قريش مش هتكون بالطريقة دي.
ابتسم سليم عقب حديثه، ولم يكن يتخيل أن تشق الابتسامة محياه الصلب وخاصةً بعد حديث زيدان تحديدًا، فالظلام الدامس لأرواحهما مازال يعيق حياتهما الأخوية.
وعندما لمح أعين زيدان المراقبة له أخفى ابتسامته قائلاً بصرامته المعهودة:
– حاول متجمعهاش كتير، عشان اللي مسكتني عن عمتك هو أبوك، خليهم في حالهم واحنا في حالنا.
اومأ يزن بتفهم ولم يجادله، بينما تآمرت مشاعر زيدان ضد ذاته الراغبة والموافقة لحديثه ولكن العناد المسيطر على عقله كاد أن يدفعه لجدال، وبعد تفكير بسيط منه قرر أن يصمت ولا يفسد تلك اللحظة الذي بادر فيها سليم بخطوة مهمة من ناحيته.
انطلقت الاحاديث الجانبية بعد لحظات من الصمت، وأحيانًا كان تفاعل سليم مُرضي ليزن، وأحيانًا كان يداعب جنون زيدان لتسلطه في الحديث كعادته دومًا.
أما سليم رغم صرامته إلا أنه كان مستمتعًا لدرجة أنه أحس نفسه طفل صغير يسعد لجلوس عائلته حوله بعدما قرروا ألا يتركوه وحده قبل نومه.
***
انتفض جسد ليال فجأة فور لمسة سيف لها بعد أداء صلاتهما، فتعجب سيف مردفًا بحماقة:
– ده انتي لسه مقلعتيش السدال.
ابتعدت ليال في خجل عنه، وخرجت كلماتها الجامدة تصيب وجهه بقسوة كاندافع الهواء البارد لملامحه في ليلة دافئة:
– أنا حاسه اننا محتاجين هدنة ناخد على بعض فيها، تصور اكتشفت فجأة
إن معرفتكش كفاية، مش يمكن مثلاً تطلع فيك حاجة مبحبهاش.
– بشرب مخدرات.
توسعت عيناها بصدمة لوقاحة حديثه الساخر منها، فردت بعدم تصديق:
– بجد فعلاً أنت كده؟!
– أكيد امال هتجوز واحدة زيك ازاي، لازم يكون مغيب عن عقلي.
– نعم نعم يا سيف، قصدك إيه بقا.
ارتفعت نبرة صوتها تحمل التهديد له، فجذبها في لمح البصر نحوه دون أن تشعر، وقربها منه مراوغًا إياها بنبرة صوته التي أخفت مشاعره الملتهبة لقربها منه:
– إيه رأيك ننام وبكرة نتخانق براحتنا للصبح.
ضيقت عيناها تحاول كشف خبايا حديثه، فقالت بسعادة حاولت إخفائها كي يلا يتذمر:
– هنام بجد ولا كده وكده.
توسعت عيناه في تمثيل ليقول بصدمة زائفة:
– يا قليلة الأدب انتي تقصدي إيه، أنا لسه صغير على الكلام ده.
– سيف.
قالتها بتحذير، فزفر بحنق:
– هنام يا ليال أنا تعبان أصلاً، وبعدين في حد باصص في أم الليلة دي.
راحت تتحسس بشرته وهي تهتف بابتسامة انفجرت منها ينابيع التشفي:
– يا حرام اتحسدت يا سوفه، بعد ما رقصت بالمطوة في الفرح.
قلبت شفتيها رغمًا عنها تزامنًا لحديثها الساخر له، فراقب انقلاب شفتيها الوردية بطريقة أثارت مشاعره التي حاول لجمها كي لا يفقد أعصابه على تلك البربرية التي تحاول كسر ليلة زفافهم الفريدة بخجلها الماسخ هذا، وتساءل بحنق لِمَ ينحسر الخجل في بقعته هو فقط؟!
جذبها بيده خلفه وخفف من إضاءة الغرفة قائلاً بشقاوة احتلت صوته:
– أنا هقفل عيني وانتي اقلعي السدال يلا.
رفعت حاجبيها ساخرة وهي تخلع ” الاسدال” عنها ببجاحة صدمته، وخاصةً حينما رآها ترتدي منامة حريرية سوداء بأكمام طويلة، حتى أخر زر اغلقته بإحكام وكأنها تخشى دخول الهواء لصدرها.
– وتغمض عينك ليه ما أنا الحمد لله لابسه هدومي.
تجهت صوب الطرف الاول ترقد به تحت نظراته المصعوقة منها، وبابتسامة سمجة أخبرته:
– اطفي النور بقا يا سوفه علشان عايزة أنام.
استمعت لصوته المغمغم لكلمات جهلتها ولكنها يبدو أنها نابعة من صميم غضبه بعدما تخيل ليلتهما الاولى التي من المفترض أن تعج بالمشاعر الدافئة الرومانسية ولكنها تحولت لصمت فاتر بينهما بسبب خوفها المسيطر عليها، فلم تجد الأم التي تحاول أن تخفف من رهابها في تلك الليلة ولا الصديقة الممازحة لها، بل كانت وحدها تصارع بعض من أفكارها العقيمة، حاولت حقًا أن تسيطر على اضطرابها ولكن هناك قيود خفية فرضت نفسها عليها، كمثل تلك القيود التي تحاوط جسدها الآن من الخلف في غفلة منها، والتي كانت تتمثل في يده المحاوطة لها في تملك أربك معدتها استعدادًا لأمورًا هي تجهلها بل لا تعلم حتى بدايتها حاولت أن تنغمس معه في مشاعره التي لم تتعدى سوى كلمات بسيطة بثها بأذنها محاولاً أن يكتنفها من خوفها بوعيه وإدراكه لحالتها الطبيعية والتي من الممكن أن تمر بها أي فتاة، وأخر ما استمعت له قبل أن تغلق عيناها باستسلام وحب:
– نامي يا حبيبتي..نامي ومتخافيش من أي حاجة أنا معاكي لغاية اخر نفس في عمري.
تمسكت بكفه المحاوط لخصرها بقوة تخشى فقدان تلك الهالة التي حاوطها بها بعد أن عاشت وحدها خاوية في فراش بارد ينافي ذلك الدفئ المحاصر لها الآن.
****
صباحًا…
مسحت ليال دموعها المنبثقة كالشلالات فوق وجهها تمنع نفسها من النظر إليه، ورغم محاولاته في الاعتذار إلا أنها أغلقت حاسة السمع لديها كي لا يذكرها كم كانت مستسلمة له في لحظة جنونية في الصباح الباكر حينما قبلها بلطف كي يوقظها، كانت مجرد قبلة عابرة تمادت لدرجة أنها مرت بمراحل من المشاعر التي لأول مرة تتصادف معها، فكانت تسري قشعريرة في جسدها قاسية في بدايتها ولكنها تتلذذ بها رغمًا عنها، لم لا يراعي حينها حالتها الجاهلة للإبحار معه في عشقهما الذي فرض نفسه كالحصار حولهما، ورغم يده المساعده لها لم تستطع عبور أمواج غرامه المتضاربة بها من كل تجاه، فغرقت في دوامته مستسلمة للموت بين يديه التي ترفض التخلي عنها وبنبرة هامسة اخترقت كيانها قال:
– انتي زعلانة مني في حاجة، مكنتش اقصد ازعلك بس غصب عني مشاعري اللي حركتني.
تبرير يشبه الطفل الصغير الذي اقدم على فعل شيء هو جهل أهو صوابًا أم خطأ، فردت بعفوية:
– لا مش زعلانة بس مخضوضة.
تفاجئ من قولها الذي أربكه، هل أخطأ في التمادي معها حتى تصل لتلك المرحلة التي غزت روحه بدموعها، كان حريصًا معها لدرجة أنه كان يعاملها كقطعة ألماس، وحينما أحست به يفك قبضته عنها، راحت تقول في حنق من بين دموعها:
– بيقولوا طبيعي يحصل كده، سيبني أعيط بقا.
وبابتسامته الصافية أخبرها بمكر:
– طالبة معاكي نكد يعني.
لا حنان.. احتواء كانت تريد أن تتفوه بهذا الرد الذي داعب طرف لسانها ولكن الخجل المسيطر عليها منعها وراحت تدفن وجهها في صدره العاري تستشنق عبيره المخدر لخلايا جسدها استعدادًا لقسط من الراحة بعد رحلة جاهدت أن تبقى بها ثابته تتمسك بقواها التي فجأة كادت أن تتخلى عنها.
أما هو أدرك حاجتها وأدخلها في أحضانه جاذبًا الغطاء فوق جسدها يخفيه أسفله وداخل يده المحاوطه لها فكادت أن تختفي ملامح وجودها، وأخيرًا ارتاحت ملامحه من إمارات القلق على وجهه فظهرت بسمة سعيدة لإنهاء عاقبة قابلته في بداية حياته معها، متخيلاً هيئتها الساكنة وهي تتلقى جرعات حبه باندفاع مرة واحدة دون أن تتذمر أو تعارض وكأنها كانت تنتظر ولكن الخوف كان يمثل عائقاً أمامها.
أغلق عيناه هو الأخر لنوم داهم جفونه بعد ركضه في الوصول لنهاية طريق أنهك قواه به، كي يحصل على جائزته الثمينة التي لن يفقدها ابدًا بل سيحاوطها بأسواره العالية.
***
دخلت نهى غرفتها تحت سخط من والدتها وملامحها القاسية والتي كادت تقسم لها بوعيد تغاضت عنه، فحتمًا سيشبه قبله، وهي اعتادت لدرجة أنها كانت تنتظر ذهاب خالها من منزلهم كي تبدأ رحلة الاهانة بالالفاظ والصفعات المتراطمة بوجهها.
أما بالخارج كان محمد يحاول أن يمتص غضبها فقال بنبرته الهادئة والتي كانت تمثل إزعاجًا واضحًا لها:
– محصلش حاجة غريبة يعني يا ميرڤت راحت مع خالها وولاد خالها الفرح واتأخرت شوية، وبعدين منامتش في بيت حد غريب ده في بيت خالها.
– لا حصل يا اخويا، هي تروح مع ولادك ليه مكان أصلاً، وتقعد عندك ليه وأنا محرمة عليها كده.
نفذت طاقتها في تحمل وجوده من الأساس وخاصةً بعدما تلقت خبرًا من زوجها في محاربة سليم لهم في السوق التجاري حتى توصلت إلى أن خسروا محل في منطقة هامة كانت تسعى للحصول عليه وبالأخير علمت بشرائه لزوجته ورفع كعادته شعار عائلة والده عليه، انتصار جديد أقسمت على أن ترده الصاع صعين له.
لمس نبرة الكره بوضوح في صوتها لأول مرة بعد أن كانت تتوارى خلف طبيتها الزائفة معه هو بالأخص.
– هو أنتي بتكرهي عيالي ليه، عملوا فيكي إيه!.
سؤالاً لوحت به منال كثيرًا وكان يتجاهله غير مصدقًا تفكير زوجته حيال أخته الوحيدة، ولكن عندما اندفع الكره في وجهه كتيار هواء بارد في شتاء قاسي جعله يستفيق مقررًا التخلي عن صمته، فردت هي بنبرة حاقدة لم تستطع السيطرة عليها بعدما كانت تسجنها بين ضلوع صدرها لأعوام طويلة منذ أن قررت والدتها بأن تتزوج من أبيه وانجابه في سعادة قهرت فؤادها بعدما كانت تتلقى وحدها الحنان والاهتمام:
– مش ولادك بس ده أبوهم كمان، تعرف يا محمد أنا عمري ما اعتبرتك أخ، الغريب عنك يبقالي أخ وأنت لأ.
انتشر السقيع أوردته لدرجة أنه تجمدت أطرافه وهو يستمع لحديثها المحمل بذرات الكره الدفينة، ولم تصمت عند هذا الحد بل انطلقت تقطع حبال الود بينهما، كي تشن حربها التي أخرتها كثيرًا في محاولة منها لاسترداد حقوقها:
– مش بس كده، أنا بكرهك من يوم ما أمي اتجوزت أبوك الخاين اللي كان بيمثل أنه صاحب أبويا..وأول ما أبويا مات اتجوز امي وخد مكانه في السوق وكله بمجهود أبويا وكبر اسم عيلة الشعراوي اللي محدش كان يعرف عنه حاجة، ومسكتش على كده كان بيورط أمي فيه أكتر لما حملت منه وخلفوك…جابوا حتة عيل مالوش أي لزمة خد مني الاهتمام وكل حاجة كانت من حقي، أنا بكرهك من أول لحظة شوفتك فيها وأنت حتة عيل صغير.
– أبويا عمره ما عاملك وحش كان بيعاملك أحسن مني، وبيهتم بيكي قبلي ليه تكرهيه، وبعدين ده مجهوده هو مين اللي كبر المحلات بعد ما كانت بتغرق في ديون أبوكي اللي سابها ومات.
– حتى لو بيعاملني حلو بردو كنت بكرهه، أنا كنت عايزة أمي وبس جيتوا أنتوا تشاركوني حياتي ليه..تاخدوا حاجة مش بتاعتكوا ليه؟!
صدحت نبرة صوته المرتفعة يجاهد آلام صدره القاسية:
– فوقي أنا اخوكي مش واحد غريب عنك جه وسرق منك حاجة، احنا بيربطنا دم أمك..
– اللي أهملتني علشان خاطر الننوس الصغير اللي جه وشرف وكأنها مخلفتش، اللي كل ما تغلط كانت تبررلك وأنا تحط عليا وعلى اللي خلفوني، اللي سلمت محلات ابويا لابوك على طبق من دهب وسابتك أنت تتحكم فيا.
كانت تخرج مشاعر دفينة أعوام مرت بها، لم تقدر على التخلص منها بل كانت كالندوب التي ترفض التخلي عن الأنسان حتى بعد مرور الزمن به، ميرڤت ليست سوى شخصية نتاج مشاعر الكره والحقد تولدت بعدما فقدت فجأة الدلال والاحتواء ليحصل عليهم من لا يستحق وجوده من الأساس من وجهة نظرها.
– أنا عمري ما جيت عليكي، حقك كنت بتاخديه أول كل شهر، أرباحك كانت بتوصلك وبزيادة عمري ما اتأخرت عليكي حتى في عز زنقتي وقفتي ضدي وطلبتي فلوسك وادتهالك من غير تفكير أو زعل، ليه تكرهني بعد ده كله.
– مش بكرهك بس ده وأنت في المستشفى كنت بتمنى تموت واخلص منك عشان احس إني حققت انتصار عليك في حاجة حتى لو كانت بسيطة، بس بعد ما شوفت الزفت سليم ابنك بيكمل اللي انت عملته، بقيت اتمنى موتكوا انتوا الاتنين.
غرست حروف كلماتها كالأشواك في قلبه مسببه جروح كثيرة تناثرت بروحه كالشظايا، تزامنًا مع آلام صدره الذي لم يعد قادرًا على الصمود أمامها، فنهض دون أن يتحدث بكلمة أخرى، غادر شقتها بتعب هدم قدرته على التحمل ولكنه ثابر وأكمل طريقه بالذهاب لسليم بعمله لحاجته الملحة لذلك.. وعندما وصل بعد فترة قصيرة ودخل بعجز طال روحه وكأنه سيفارق تلك الحياة الآن وبعد جلوسه مع سليم لفترة لا يعلم مدتها وكأن روحه تشبع منه ومن صوته وملامحه..راح يُملي كلماته عليه في رجاء أحس سليم به بدفا نبرته التي كانت ليست سوى وصية تُلقى فوق عاتقه:
– اخواتك يا سليم خلي بالك منهم، خليك معاهم استحملهم واوعى تكرههم فيك، خليك سندهم وضهرهم، خليكوا ذريتي الصالحة علشان محسش إن فشلت في تربيتكوا.
انقبض قلب سليم فجأة وقال بقلق:
– انت بخير يا حج؟!
– بخير وكويس…
صمت لبرهة يرسم بسمة صغيرة تنافي آلام صدره المتفاقمة وكأنها تقطع من شراين قلبه وتضغط عليه في قسوة جعلت من نبضاته وكأنها في سباق للركض، ولكنه تحامل على نفسه وراح يهدأ من ذعر ابنه:
– أنا عارف بحملك فوق طاقتك بس خوفي عليهم وعليك بيخليني اقولك كده، قلبك الابيض ده هيكون هو سكنهم يا بني، حاوط عليهم وعلى أمك وحط مراتك في عينك.
– مش محتاح توصيني عليهم أو عليك أنتوا عيلتي، ليه بتتكلم وكأني هتخلى عنكم، هو أنا كنت تخليت قبل كده!.
على قدر ما كان كلامه يحمل جزءًا يهدأ به خوف والده البادي عليه، إلا أنه كان يحمل عتابًا طفيفًا، فقال محمد في شرود حينما تردد بداخله كلمات ميرڤت القاسية:
– العيلة مفيش زيها، هتحاوط عليها هتكون سندك زي ما هتكون أنت سند ليهم، الدفا منهم بالدنيا وما فيها، خليهم حواليك وتحت طوعك حتى لو هتيجي على نفسك.
وبما زاده كلمات والده شيء، هذا ما يفعله بالفعل، يضغط على جروحه ويدفن قسوة إهمالهم أحيانًا من منطلق عائلته والتضحية الأزلية التي ألقيت فوق كاهله.
وبعد أحاديث جانبية حاول فيها سليم تخفيف القلق المنبعث من والده، قرر محمد أن يغادر بعد إصراره بالذهاب لوحده، تحت سليم المتعجبة والمتوترة لهيئته التي بثت الخوف بداخله على والده الذي رفض إخباره سبب مجيئه المفاجيء وتحجج بأمورًا لم يقتنع بها.
***
تزايدت آلام محمد وهو يصعد درجات السلم البسيطة وصولاً لشقته الذي فتح زيدان بابها بالصدفة، ورأى حالة والده غير المبشرة بالمرة، فأمسك به بعد أن كان يستند بنصف جسده على الحائط ممسكًا بصدره ضاغطًا عليه وكأنه يخفف من آلامه.
– مالك يا بابا؟.
– أنا كويس يا بني.
قالها بصوت مختنق حارب لإخراجه من جوفه.
– طب إيه خرجك وأنت تعبان، كنت فين؟.
– عند أخوك سليم.
أخبره بصوت صاحب ألم خرج سهوًا عنه، فتوسعت أعين زيدان بخوف وذعر بينما كان يحاول محمد أن يلقي بوصيته على زيدان هو الآخر فخرجت حروفه متقطعه لعدم قدرته في تخفيف ذلك الألم القاسي الذي كان يقطع عليه أنفاسه، منذرًا بنهايته لدرجة أنه طول الطريق كان يردد الشهادة:
– سـ…سـليم..مايس…
وفجأة سقط فاقدًا لأنفاسه الأخيرة، وصعدت روحه لسماء بين يد زيدان المصعوق مما يحدث لوالده الذي فجأة سكت صوته وأغلقت عيناه في استسلام أيقظ غفلته، فصاح بأعلى صوته:
– يزن…الحق ابوك.
انطلق يزن من غرفته بعد أن كان يبدل ثيابه وحينما رأى والده مغشيًا عليه بين يد أخيه، وصراخ منال التي خرجت من المطبخ، اندفع يحمله بقوة هربت منه ولكنه تحامل على نفسه مع زيدان ووضع أبيه في الفراش وانطلق سريعًا نحو الطبيب المجاور لهم..تاركًا منال وزيدان وشمس التي تحاول الوصول لسليم تخبره بما حدث لوالده.
دخل الطبيب سريعًا لغرفة والدهم وبعد أن قام بعمله الذي استغرق لدقائق كان سليم بها يندفع للغرفة بأنفاس لاهثة من فرط قلقه، فجأة وقعت كلمات الطبيب فوق رؤوسهم في صدمة جلجلت كيانهم.
– البقاء لله، إن لله وإن إليه راجعون.
أُلقيت عليهم غلالة سوداء حاوطت روحهم المذبوحة لواقع كلمات بشعة لن يستفقوا منها بسهولة بعد أن غاب رب الأسرة وعمود البيت.
قاسي ذلك الزمن حين يرغمنا ويدفعنا في متاهات الحياة الخادعة التي قد تظن أنك حاربت من أجل الوصول لبر الأمان!، فتجد نفسك في مواجهة عواصف ثائرة وأنت تقف فوق حافة هاوية مدببة والهلاك يحيط بك في دوامة لم ولن تنتهي إلا بنهايتك اولاً.