روايات

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم مريم محمد غريب

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم مريم محمد غريب

رواية وقبل أن تبصر عيناك البارت التاسع والثلاثون

رواية وقبل أن تبصر عيناك الجزء التاسع والثلاثون

وقبل أن تبصر عيناك
وقبل أن تبصر عيناك

رواية وقبل أن تبصر عيناك الحلقة التاسعة والثلاثون

_ هكذا ظننت ! _
كان ينتظره هنا، في تلك الزاوية المظلمة، وسط الرطوبة و الروائح الكريهة.. هنا حيث تصطف مجموعة من حاويات القمامة المعدنية !!!
المكان معتم و بارد، و لكن دون حتى أن يأبه لكثافة الرائحة البشعة، وقف ثابتًا بمحاذاة الجدار نصف المهدوم، لقد مر خمس دقائق حتى الآن، و هو يعلم يقينًا بأن الأخير لن يتأخر أكثر من ذلك الوقت.. إن هي إلا لحظات و سيظهر… ما من سبيلٍ آخر يسلكه ليصل إلى الوجهة التي كلفه أبيه أن يذهب إليها عاجلًا
حتى لو تأخر، فهو يدخر له صبرًا يفوق التخيّلات، صبر دام عشرون عامًا، لن يتزحزح من مكانه، إنه باقٍ، ليتصيّد فريسته الجديدة ….
بغتةً بينما يقف ساكنًا و كأنه قطعة من الظلام، سمع وقع خطوات خفيّ عمه و لمح ظله يقترب من الخلف
بالمباغتة نفسها، و في أقل من ثانية و قبل أن يتخذ العم خطوة واحدة أمامه، قبض على ياقة جلبابه و جرّه ملصقًا إياه بلحظة إلى جدار الحيّز المقفر و يُدعى بـ”الخرابة” …
يطلق العم سبّة غاضبة حين أن أُخذ بهذا الشكل، تلقائيًا تسللت يده إلى غمد سلاحه بالمخبأ الخفي تحت عباءته، كان يظن بأن الذي أوقفه ما هو إلا وغدٌ من أوغاد المنطقة أو المناطق المجاورة.. و بدون تردد كان قد سحب السلاح ليصوّبه نحو مهاجمه و يطلق عليه في الحال
لكنه جمد كليًا، عندما تبيّن فجأة من خلال ضوء الليل الشحيح وجه إبن أخيه المشدود و عيناه البرّاقتين …
-رزق ! .. هتف “إمام” مدهوشًا
-في إيه يابني مالك ؟
واقف هنا ليه و ماسكني كده ليه ؟ حصل إيه ألا تكون متعارك !!
ماتنطق يابنــي !!!!
غير مصغٍ لتساؤلات عمه، أمال “رزق” رأسه للجانب قليلًا و هو يقول بوداعة مريبة :
-خير يا عمي.. على فين العزم كده الساعة 2 الصبح. راجع المستشفى و لا رايح حتة تانية ؟
رفع “إمام” أحد حاجبيه مرددًا :
-إنت يابني مش معانا في الدنيا و لا إيه. ده انت كنت واقف ساعة إللي حصل.. مالك في إيه ؟
ثم رمقه بنظرة شك قائلًا :
-إوعك تكون شارب حاجة يا رزق. أبوك لو عرف حاجة زي دي حسابك معاه هايكون شديد أوي.. إوعى يابني إنت عارف هو مابيتهاونش في الحاجات دي بالذات …
لكن ما من رد أيضًا
ليضيق “إمام” ذرعًا به و يطلق زفرة مختنقة، ثم يحاول دفعه عنه مغمغمًا :
-إسمع يا رزق إنت ترجع البيت طوالي على شقة ستك دلال. إنزل تحت الدش كده و فوق.. إياك أبوك لما يرجع يشوفك كد آ اا …
لم يستطع إكمالها، حيث قبل أن يفلت منه تمامًا، أمسكه “رزق” من تلابيبه بقبضةٍ فولاذية و بقوة غير متوقعة ألصقه بالجدار أكثر من ذي قبل، و بمعصم يده الأخرى يضغط على رقبته بطريقة جعلت أنفاسه تختنق
ومضت عينا “رزق” بلمحة إجرامية من اللون الفضي المزرق و هو يركز جمّ إنتباهه على عمه، جحظت نظرات الأخير و هو يحدق فيه عاجزًا عن التنفس، و كل ما استطاع فعله هو الإمساك بكتفي إبن أخيه و بلطفٍ عساه يهدئ نوبة غضبه غير المفهوم بالمرة …
-أمي فين ؟
كلمتان فقط خرجتا على شكل سؤالٍ هادئ من فم “رزق” المتشنج إنفعالًا …
لوهلةٍ بدت الصدمة جليّة على وجه “إمام”.. لكنه قمعها فورًا قائلًا بصعوبة بصوت أشبه بالفحيح :
-أمك !
أنا مش فاهم حـ حاجة. تقصد إيه يا رزق ؟!
لم يكن “رزق” الآن في وارد أيّ مزاح، علاوةً على أنه أعطاه الجواب الخاطئ، ما اضطره لسحب سلاحه الأبيض و الأكثر فعالية.. مديّته الحادة القاطعة !!
و لكي يحثه على النطق الصحيح صعد بالنصل من بطن الأخير وصولًا إلى نحره، فضغط هناك حتى اخترق طبقة من الجلد و طفرت الدماء و سالت على صدر “إمام”… شعر بها جيدًا و تفاقم فزعه
مع ذلك حاول أن يستمر بادعاءاته الباطلة :
-يابني عيب إللي بتعمله ده.. أنا عمك يا رزق. و بعدين أنا مش عارف بجد ذنبي إيه و لا إيه علاقتي أصلًا.. أنا هاعرف مكان أمك منين بس !!!
-أنا سمعتك إنت و أبويا بتتكلموا !!!! .. صرخ “رزق” بوجهه كوحشٍ كاسرٍ
جف حلق “إمام” و هو يسأله مذعورًا :
-سمعت إيه بالظبط !!!
إستحكم به “رزق” الهائج كليًا و هو يهزه صائحًا :
-ماتلفش و تدور عليا و إنطق بسرعة. و الله صبري عليك نفد.. إنطــــــق أمي فـــين ؟؟؟؟؟
••••••••••••••••••••••••••••••••••
قبل ثلاثون ساعة >>>>
بعد المواجهة الساخنة بينه و بينها، بجسمٍ محموم و وجهٌ قاتم الحمرة بالكامل، هبط “رزق” الدرج وصولًا إلى شقة جدته، كان الباب مفتوحًا فدلف على الفور
لم يجد أحدٌ هنا مما أشعره ببعض الراحة، و لكن فجأة و من حيث لا يدري قفز صوت أخته الصغرى.. “سلمى” من خلفه …
-رزق !
إلتفت بلحظة فإذا بها تجلس وسط غرفة المعيشة، ما إن رأته حتى قامت ضامة يديها للأمام، و راسمة على ثغرها الممتلئ ابتسامة رقيقة
وسم على وجه “رزق” طابع الدهشة بادئ الأمر، ثم ما لبث أن تجاوزها هاتفًا :
-سلمى.. في حاجة يا حبيبتي ؟
مالك قاعدة لوحدك هنا ليه ؟ فين نينا و نوسا ؟!
أخذت تقترب منه مجيبة اسئلته :
-تيتة لسا مدخلاها تنام من شوية. و نسمة ماخرجتش من الأوضة خالص.. و بصراحة أنا كنت قاعدة مستنياك انت !
-خير يا حبيبتي ! .. استوضحها باهتمامٍ و قد استدار كليًا نحوها
مد لها يده، فأقبلت و أودعت كفها براحته الضخمة بلا ترددٍ، تطلعت إليه بنظراتها المتوترة و قالت :
-بص يا رزق. أنا عارفة إن أبويا بيسمع لك.. و أنا و الله مش قصدي أحطك قصاده في حاجة.. كنت ممكن أروح أقوله من نفسي. بس خايفة بصراحة !
عقد حاجبيه و هو يرفع كفه الآخر ليحتضن خدها الناعم قائلًا بقلقٍ خفي :
-خايفة ! من إيه يا حبيبتي ؟
إتكلمي و قوليلي. سيبك من أبويا لو في أي حاجة مضايقاكي و خايفة تحكيها لحد. قوليلي أنا و ماتخافيش خالص. أي مشكلة ممكن تواجهك. أنا أخوكي الكبير جمبك دايمًا و أحلهالك مهما كانت …
إبتسمت أمام محاولاته لكسب ثقتها و التي تمنحه إياها بالفعل، وضعت يدها الأخرى فوق معصمه ليصبحا متشابكين تمامًا الآن، ثم قالت بصوتها الحلو :
-انت قلقت عليا على الفاضي.. مافيش حاجة أطمن و أنا ماعنديش أي مشكلة الحمدلله
هز رأسه حائرًا :
-أمال طيب ! مابقتش فاهمك يا سلمى. عاوزة إيه بالظبط ؟!
صمت قصير… و أفصحت “سلمى” بتوجسٍ من ردة فعله هو أيضًا :
-بصراحة أنا عايزاك تكلم أبويا و تقنعه يسمحلي أروح المدرسة !
أعوزه الأمر لحظات ليستوعب الوجه الحقيقي للحديث، ثم عدل وضعيته الآن و بقى ممسكًا بيدها فقط و هو يقول مستوضحًا :
-هو إنتي مش في المدرسة يا سلمى ؟ انا فاكر إنك لسا خارجة من امتحانات بقالك كام شهر.. و لا حد خرجك من هنا و لا إيه !!
-لأ بص يا رزق أنا في مدرسة آه و كل حاجة. بس من أول يوم و أنا بدرس في البيت. عمري ما روحت المدرسة غير في الامتحانات.. زهقت بقى. خصوصًا إني شاطرة و بجيب الدرجات النهائية. نفسي أبقى زي كل البنات. حتى البنات إللي في الحتة هنا بيروحوا المدرسة إشمعنى أنا بس ؟؟!!!
-إمم.. خلاص فهمتك يا سلمى
-فهمتني يعني إيه. هاتكلم أبويا صح ؟
نظر لها مبتسمًا ببطء، ثم قال مفرجًا عن ضحة صغيرة :
-هاكلمه يا حبيبتي.. عمومًا ده حقك أصلًا. و أكيد لو فضلتي متفوقة كده مش بس هاقنعه يسيبك في المدرسة لأ. أنا بنفسي هساعدك تسجلي في الجامعة إن شاء الله
صرخت “سلمى” بابتهاجٍ غير مصدقة ما سمعته للتو، لتقفز على أخيها باللحظة التالية و تتعلق به كقردٍ فوق شجرة، يضحك “رزق” بانطلاقٍ و هو يحيطها بذراعيه متمتمًا :
-خلاص. إهدي يا سلمى ماحصلش حاجة …
و واصل الضحك عاجزًا عن إيجاد كلمات ليهدئها
أتت على ذلك من نفسها، فاستكانت نسبيًا بعد قليل و نزلت على قدميها ثانيةً ممسكة يديه بكلتا قبضتيها، و محدقة في ملء عينيها بسرورٍ جمّ …
-أنا مش عارفة أقولك إيه يا رزق. أنا يجد محظوظة عشان إنت اخويا.. مش عارفة حياتي و حياتنا كلها كانت هاتبقى إزاي لو انت مش موجود !!
رمقها بتعاطفٍ و ربت على رأسها بحنوٍ …
-حبيبتي.. إللي إنتي عاوزاه كله عليا. احلمي بس.. أنا عندي كام لوما ؟
و تعانقا مرة أخيرة، ثم أطلقها “رزق” لتصعد إلى شقة والدتها مجددًا موصيًا إياها بالاهتمام بنفسها و بدراستها.. و ها قد صار وحيدًا
ليس لوقت طويل، تأكد من غلق باب الشقة، اطفأ الأضواء، ثم جذ الخطى نحو الغرفة التي دفع بزوجته إليه ظهر اليوم، ولج بعد أن قرع مرتين
كانت الأجواء هادئة بالداخل، و زوجته كانت نائمة بالفعل، لكنها استيقظت بغتةً عندما أغلق باب الغرفة بهدوء.. تلك الحركة البسيطة كانت كافية لايقاظها …
-رزق ! .. غمغمت “نسمة” و هي تحاول القيام من أسفل الغطاء
إتجه “رزق” نحوها و شد الغطاء عليها مرةً أخرى مغمغمًا :
-زي ما انتي يا نوسا.. خليكي نايمة
عاودت إلقاء رأسها فوق الوسادة ثانيةً و هي تقول بصوت متحشرج :
-أنا كنت مستنياك. اتأخرت عليا يا رزق !
-معلش كان في كام حوار بنجزه.. أول ما خلصت جيت أهو
-طيب إحنا لازم نتكلم. أنا مش هقدر أستنى هنا كتير.. أنا خايفة أوي يا رزق …
بمهارةٍ نقلها “رزق” للجانب الآخر من الفراش دون أن تشعر حتى، ثم إتخذ مكانه إلى جوارها بعد أن خلع سرواله و حل أزرار قميصه
حمل جذعها بأحضانه و هو يهمس لها مهدئًا :
-خايفة من إيه و أنا جمبك ؟ أنا عمري خذلتك يا نسمة ؟!
شعر بها تهز رأسها سلبًا، فرد على نفسه و هو يهدهدها كطفلٍ :
-انتي بنتي و شايلة ابني او بنتي. مافيش أب يتخلّى عن ولاده و لا يسمح لحد يئذيهم.. إطمني خالص. طول ما أنا حي إوعي تشيلي هم !
رضخت “نسمة” و استسلمت لاحساسها باحتوائه دائم البعث على الثمالة، رغم إنها لم تستثيغ وصف علاقته بها بالبنوّة، لكنها كانت منهكة و بحاجة إلى وجوده هكذا إلى جانبها
فلم تفه بكلمة، إنما تركت نفسها له كما تفعل دومًا.. و ما هي إلا لحظات معدودات إلا و أستغرقت بنومٍ عميق تحت هدأة أمانه و مواطن حنانه اللا متناهي …
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
ظل الغضب مستبدًا بـ”هانم”… غضب يصاحبه الرهبة منه كلما وقفت أمامه هذا الموقف !!!
كلما عانت من مشاعرها تجاهه، خاصةً في هذه اللحظة، حين نطقت بكلمة الإنفصال و طالبته بها.. لعلها توقعت جزءً من ردة فعله
و التي تمثلت الآن في إنقلاب تعبير وجهه إلى أقصى درجات الشر و القتامة، لتجعلها ترتعش قليلًا و تشعر بمعدتها و كأنها تُعتصر بشدة.. بينما كان يطالعها “سالم” بنظراته الحمراء المنذؤة بعاصفةٍ قوية جدًا ستشهدها لأول مرة بحياتها
و بالفعل، لم يخيب ظنها، إذ طفا غضبه المتراكم كله من الجميع ليصبه عليها وحدها صائحًا بصوته المخيف :
-إيـــــــــه !!!!
قولتي إيه تاني كده سمعيني. قولي كمان أصلي ماسمعتش.. عايزة تطلّقي ؟؟؟؟
برغم الذعر الكامن باعماقها منه، برغم حبها له و كل شيء أجابت برباطة جأش دون أن تهتز :
-أيوة يا سالم. أنا عايزة أطلق.. خلاص. عشرتنا خلصت لحد هنا.
سالم برعونةٍ فجّة :
-لا يا شيخة. بقى عشرتنا خلصت فعلًا ؟
و ده سببه إيه في رأيك كده قوليلي !!
حدقت به و فد وجدت الشجاعة الآن لتقول له بتحدي :
-سببه إني ست يا سالم. ست عاشت طول عمرها محسوبة على راجل و هو مش طايق حتى يبص في وشها. راجل سابها و عاش مع واحدة غيرها و رماها حتى لما غيرها دي سابته. عاش ناسك على ذكراها.. بس أنا خلاص.. طهقت من العيشة دي. ماعنتش قادرة أستحمل. من حقي أعيش إللي باقي من شبابي و أكون مع الراجل إللي يقدرني بجد و يعرف بقيمتي و يـ آ ا …
لم تحسن إكمال الجملة، فإذا بها تتلقّى تلك الصفعة العنيفة التي توقعتها مئة بالمئة، بسببها إرتدت خطوة للخلف و قبل أن ترتد الثانية أحست بقبضته تطبق على رسغها و تجتذبها نحوه لتصطدم بصدره الصلب متأوهة
و تاليًا شعرت بشيءٍ بارد أسفل فكها، لتجاهد من أجل النظر بوضوح.. اكتشفت بأنه وضع فوّهة السلاح الذي كان ينظفه على عنقها
ثم سمعت صوته ذي اللهحة المستوحشة يهدر بنفس اللحظة و يغرس أصابعه القاسية بلحم ذراعها :
-خلاص فجرتي يا هانم. و بتقولي في وشي ؟؟؟
بقى عايزة تطلقي و تتجوزي تاني. بعد ما بقيتي مرات سالم الجزار إزاي جتلك الجرأة تفكري في راجل تاني. ده أنا أقتلك و أدفنك بإيديا !!!!
كانت الدناء تسيل على حافة فمها الآن و هي تحملق فيه دامعة العينين و بوجه متوّرد، بابتسامة مريرة ردت عليه بجرأة أكبر بينما صدرها يعلو و يهيط بسرعة :
-ده حقي. ده حقي يا سالم و ربنا سامحلي بيه.. لو على الطلاق أنا كنت ممكن أطلبه من زمان. لكن أنا الغبية فضلت ساكتة و صابرة و في الآخر هوا. و لا حاجة.. لا العبد و لا المعبود يرضوا بالظلم ده. إنت ظلمتني في حياتي معاك. و من إنهاردة أنا بطلت أظلم نفسي.. أنا مصممة على الطلاق يا سالم. يجرى إللي يجرى بس هاطلق منك بردو !!!
كانت كلماتها مثل البنزين فوق النار، جعلته مجنونًا من الغضب و هو يلقى بالسلاح من يده، لينشغل بالاعتداء عليها ممزقًا ثوبها عن منطقة الصدر …
-لا و على إيه. أنا مايرضنيش. خراب البيوت. إثبـــتي كـده !!!
و عمد إلى إقحام يديه بأكثر المناطق الحساسة بجسمها معيثًا فيها فسادًا و قاصدًا إهانتها بالمقام الأول، صرخت مما يفعله بينما يطغى صياحه المرعب على كل احتجاجاتها :
-مش إنتي عاملة كل ده عشان كده.. و بتطلبي الطلاق عشان محتاجة راجلك. كنتي تعاليلي من الأول و قوليها بصراحة. قوليلي إنك تعبانة كده و أنا أريحك.. مش صح بردو. مش إنتي على آخرك و مش قادرة زي ما بتقولي. مش كـــده ؟؟؟؟؟
هذه المرة قاومت بشراسة، بالأخص و هي تستمع إلى كلماته المهينة، ظلت تتخبّط باهتياجٍ بين ذراعيه صارخة :
-إووووووعـــى.. شيـــل إيدك عنـــي. إنـت حقير.. إنت حــيـواااااااااان. سيبـــــنـي بـقولـك …
تركها “سالم” تفلت.. عندما أدرك بأنها إستهلكت جهدها كله
و قد استعادت “هانم” حريتها، تقهقهرت بضعة خطوات، لم تهرب مثل المرة السابقة، بل وقفت في مواجهته مشعثة الشعر و بالثوب الممزق فوق جسمها
بقيت تلهث و خفقات قلبها المتسارغة تضج بشرايينها قاطبةً، صرخت بوجهه بقهر بينما ترتجف ساقاها و يداها معًا :
-بكرهـــــك. بكرهك يا سالم يا جزار. و من اللحظة أشوف عزرائيل و لا أشوفش وشـــــك !!!
و استدار منطلقة إلى الخارج بأقصى سرعتها كأنما الاشباح في إثرها …
بينما ظل “سالم الجزار ” بمكانه، هذه المرة وقف يراقبها حتى إختفت بطرفة عينٍ، كان ذهولًا يعتريه، و قدرٌ من الندم.. لعل كل شيء مشوّشًا الآن
لكنه واثقٌ من أمرٌ واحد فقط.. لا شيء بعد هذه اللحظة سيغدو كما كان …
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
مساء اليوم التالي …
عادت “ليلة” برفقة “رزق” إلى الحي، بعد أن ذهبا ليطمئنا على صحة زواجهما، تبين أن فسد تمامًا، لكن لحسن الحظ كانت هناك إمكانية للرجعة
بشروطٍ من ضمنها أن يعقدا القران من جديد، و هذا ما فعلاه دون أن يخبرا أحد، ثم قفلا راجعين إلى بيتهما، تحت أنظار أعين القوم الفضولية مشيا جنبًا إلى جنب، و قد علّقت “ليلة” رسغها بذراع زوجها المتراخِ دلالة على عدم إكتراثه
و هكذا دخلا معًا إلى المنزل، وضعا قدم على بداية الدرج، بل و نصف القدم الأخرى.. إنما قبل أن يصعدا تمامًا إنبعث نداء “سالم” من داخل شقة أمه بالطابق الأرضي …
-رزق !
ألقى “رزق” نظرة على أبيه، ثم نظر إلى “ليلة”.. أبدت الأخيرة بعض الامتعاض بالبادئ، لكنها تخلّصت منه سريعًا و هي تدنو لتكبع قبلة فوق شفاه زوجها هامسة أمام وجهه :
-ما تتأخرش عليا !
و غمزت له بشقاوةٍ، ثم استأنفت صعودها قفزًا …
أطلق “رزق” نهدة عميقة و استدار متوجهًا إلى حيث أبيه، وجده يجلس بالداخل يحتسي فنجان القهوة واضعًا ساق فوق ساق، و قد كان بمفرده، فتساءل “رزق” بغرابةٍ و هو يتلفت حوله :
-مافيش حد هنا و لا إيه ؟!
أجابه “سالم” بفتورٍ آخذًا رشفة جديدة من فنجانه :
-الست نوسا بتاعتك جوا في مع ستك في أوضتها بتغيرلها هدومها
اومأ “رزق” مودعًا يداه بجيبه و قال :
-آه.. طيب. نادتلي كنت عاوز حاجة ؟
-أيوة.. أقعد عشان عايزك في موضوع !
-ماينفعش يتأجل لبكرة ؟
-وراك الديوان يعني.. أقعد في كلام مهم هقولهلك !!
مغتاظًا تململ “رزق” و إنصاع إلى كلمة أبيه، جلس مقابله و هو يقول نافذ الصبر :
-نعم ! خير يابويا ؟!!
ببرودٍ تأخر “سالم” بالحديث، ثم قال فجأة و هو يحدق بعينيّ إبنه الزرقاوين :
-روحت فين إنت و مراتك يا رزق ؟
بجرأة رد عليه كعهده :
-و هل ده شيء يخصك يعني ؟!
سالم بحدة : ما تحترم نفسك يالا !!
-لما تحترم خصوصيتي إنت الأول. أنا حر.. أروح المكان إللي يعجبني أي وقت. مش من حق حد يحقق معايا حتى لو إنت
شد “سالم” على فكيه مجبرًا نفسه على الصبر، ثم صاغ سؤاله بطريقة أخرى :
-طيب. بلاش روحت فين.. ممكن أقول مبروك ؟
رزق ببلاهةٍ : مبروك على إيه !!
إستحال هدوء “سالم” الآن إلى سلسلة من الانفعالات و هو ينفجر به منتفضًا بمكانه :
-ماتستعبطش عليا.. أنا عارف إللي فيها. و هرشت النمرة إللي عملتها ساعة دخلتك على ليلة.. قولي يالا دخلت و لا لسا ؟؟؟
كانت عيناه جاحظتين غضبًا في هذه اللحظة و هو يجوب المكان ليتأكد بأن ما من أحد سمع تصريحات أبيه …
لحظة و أخرى، ثم عاود النظر إليه مغمغمًا عبر أسنانه :
-إنت عاوز تفضحنا. إيه يا معلم إللي إنت بتقوله ده عيب.. و مايصحش
-واد إنت.. قسمًا بالله أطلع أنحرها فوق دلوقتي. مش على آخر الزمن شرفنا يتلعب بيه في الأرض.. أديك شوفت أخوك عمل إيه ليلة دخلتوا و كان سوء تفاهم. إنت بقى هانلبسك طرحة و لا إيه ؟؟!!!
-إنت عاوز إيه دلوقتي ؟
-أشوف بعيني الامارة الحقيقية.. غير كده أنا حالف لاقتلها بإيدي. و مالكش فيه إنت. دي بنت أخويا أنا و أنا بس إللي في إيدي حكمها
فتح “رزق” فمه ليعترض، إلا أنه تفاجأ بثورة أبيه المندلعة بعنفٍ و هو يثب واقفًا مرةً واحدة و يصيح بصوته القوي العميق :
-بقولك إيـــــه
الله في سماه. لو جاتلي الدنيا كلها. لو طلعوا الميتين من القبور بمن فيهم أبوها و حد حاول يمنعني ماهرتجع.. يا الامارة يا موتها. و دي كلمتي الأخيرة. و إنت عارف الوش ده كويس !
حقًا …
كان يعرفه جيدًا، كان يعرفه إلى ذاك الحد الذي أبقاه عاجزًا عن مجادلته أكثر من ذلك.. لينتهي به الأمر واقفًا قبالته، و مانحًا إياه وعدًا مقتضبًا :
-ماشي.. بكرة الصبح الامارة الحقيقية هاتكون عندك
اومأ “سالم” و هو يذكّره بلا أدنى تهاون :
-و خليك فاكرها. يا الامارة.. يا موتها. فاهمني ؟
لم يسعه الرد هذه المرة …
إذ صدح صراخ من الأعلى، و قد تبين بأنه صوت “سلمى” تستغيث بأبيها :
-يا باباااااااا. يا باباااااا إلحقني يا بابااااااااا …
في نفس اللحظة، إنطلقا كلًا من “سالم” و “رزق” معًا باتجاه الأعلى، و أيضًا عندما وصلا كان الجميع قد أتوا على إثر صراخ إبنة البيت الصغرى …
-في إيه يا سلمى ؟؟؟ .. تساءل “سالم” بقلبٍ مخلوع
سلمى و قد كانت هيأتها المنهارة باعثة على الذعر، ردت من بين دموعها الغزيرة :
-ماما !
ماما من إمبارح قافلة على نفسها الأوضة و ماكلعتش خالص.. و دلوقتي جاية أخبط عليها مش بترد. مش بترد عليا خالص …
كان “سالم” قد إنتقل إلى الداخل قبل أن تتم إبنته عبارتها، صارت الشقة مزدحمة الآن بافراد العائلة كلهم، بينما “سالم” يقف أمام باب غرفة زوجته، يقرع عليه بقبضة حديدية و هو يهتف بصرامةٍ :
-هــــانـم !
إفتحي يا هانم. إفتحي لو سامعة صراخ بنتك و صوتنا كلنا.. إفتحي يا هانم بقولك و إلا الباب ده هاكسره دلوقتي !!!
بدأ القلق يساوره فعليًا مع عدم ردها، ليعقد قراره في الحال و يرجع خطوة للوراء، و بركلة واحدة من قدمه حطّم الباب …
ليلج باللحظة التالية و تنزل عليه الصدمة، حين شاهد زوجته ملقاة فوق الأرض هناك بجوار السرير و قد قطعت معصميها بالطول !!!!
كان منظرًا فظيعًا جعل “رزق” الذي يقف خلف أبيه يلتفت بسرعة متلقفًا أخته الصغرى قبل أن تبلغ عتبة الغرفة و يغطي عينيها بكفه كي لا ترى هذا أبدًا.. بينما “عبير” زوجة الأخ الأوسط “عبد الله” إنكلقت صرختها الملتاعة و فورًا سقطت و قد أغشى عليها لولا زوجها الذي لحق بها و نقلها إلى أقرب مقعد
الآن توافد إلى الغرفة “سالم” و أولاده من “هانم”.. “مصطفى” و “حمزة” كلاهما و قد أبيضت وجوههما من شدة الشحوب و الهلع على والدتهما …
صاح “سالم” فيهما آمرًا بينما يحمل زوجته بسهولة :
-مصطفـــــى. إنزل بسرعة هات العربية قصادم البيت. حمـــــزة.. هاتلي حاجة نحطها على أمك. عباية بطانية أي حاجة. يلااااا بسرعـــــة !!!!!!
كانا مجمّدين كالأصنام بفعل الصدمة، لولا صراخه فيهما ما تحركا.. و خلال لحظة كان “حمزة” قد أتى له بعباءة أمه السمراء… افترشها فوق جسمها نصف العاري حيث كانت لا تزال في ثوبها الذي صعدت به إلى شقة زوجها بغية اغرائه
شق “سالم” بها الطريق للأسفل، خلفه تصاعد نشيج “سلمى” التي راحت تتوسل أخيها الأكبر :
-عشان خاطري يا رزق أروح مع ماما. عشان خاطري خدني معاكوا.. عشان خاطررررري …
جاوبها “رزق” و هو يحاول بأقصى استطاعته ليهدئها :
-حاضر حاضر.. حاضر يا حبيبتي. إهدي بس. هاخدك بس إهدي.. هاتبقى كويسة. صدقيني يا سلمى …
اومأت له، ثم ألقت برأسها فوق صدره، بينما هو لم يكن واثقًا من كلامه.. لكنه لم ينفك يهون على الصغيرة و يلقى على مسامعها مزيدًا من الوعود فقط لكي تهدأ !
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
كان شرطه حتى يذعن لها و يأخذها للمشفى حيث نقلوا والدتها أن تهدأ أولًا، و ألا تصاب بالذعر أبدًا مهما حدث.. و إن كان هذا كلفها جهدًا مضنيًا… لكنه أصر أن يجعلها تتحكم بهذا
حتى نجحت بالفعل و تغلّبت على خوفها، إنطلق بها إلى المشفى الخصوصي، أمرها باستبقائه بينما يأخذ سيارته ليضعها بالجراج… ثم تبعها متسائلًا عن مكان عائلته بقسم الطوارئ
و سيرًا على الارشادات، إتخذ المصعد إلى الطابق الثاني، و كان عليه أن يبحث عن قسم الفحص المتطور، لكنه لم يحتاج وقتًا طويلًا.. إذ إلتقطت مسامعه صوت والده من الجوار.. حيث لم يكن يفصلها سوى حائط مؤدي للرواق المؤدي للوجهة المنشودة… إلا أنه تجمد فجأة
ذلك عندما ميّز إسم أمه وسط نزاع دائر بين أبيه و عمه “إمام”.. لم يفعل شيئًا إلا أن وقف و أرهف السمع …
-بص يا سالم.. أنا بقولك أهو. هانم لأ.. سامعني ؟
هانم لأ !!
-إنت واخد بالك إنك واقف تهددني بمراتي يا إمام. فوووووق. إيـــــه !!!
-لما توصل للوضع بتاع إنهاردة ده أهددك يا سالم آه. هانم دي مننا. و تبقى أم عيالك و ست البيت بعد أمي.. شالتنا كلنا و لا ناسي ؟
طول عمرك ممرمكها في البيت و مع العيال و في الآخر تدفع تمن كل ده حياتها !!!
لا و ألف لا. إنت إللي محتاح حد يفوقك ياخويا
-إنت يعني شوفتها ماتت !!
ما الدكتور قال لحقوها. و بعدين تعالى هنا.. هو حد قالك مثلًا إن أنا إللي عملت فيها كده ؟؟
-و أنا مش هاستنى لما إنت أو غيرك يوصلوها لكده. الست دي جمايلها على راسنا. الست دي من بيت و عيلة. و في احترامها و أدبها مش هاتلاقي لو لفيت الدنيا يا سالم.. و أنا بتلكم باسمي دلوقتي. مش هاسمحلك تحولها للنسخة التانية من كاميليا !
-إمـــــام !!!
ماتنطقش إسمها على لسانك تاني. سامع ؟؟؟
-هأ.. مع إنك مابتفوّتش يوم منغيرها. مش بس بتنطق إسمها !
عند إستماعه للعبارة الأخيرة شحب كليًا، و خال بأنه وزنه قد خف كالريشة على مستوى الأرض، لولا أن تشبث بالحاجز المعدني من خلفه لترنح مكانه و ربما سقط
بعدها لم يجرؤ على الظهور بالوسط، و ظل محله، إلى أن سمع أبيه يعطي أمرًا لعمه بالمرور إلى البيت ليأتي له ببعض المال.. حينها مشى في إثر “إمام” و بقى ينتظره بمكانٍ ما قرب المنزل… حث لم يسعه الرحيل من الحي إلا بالمرور عليه !!!!
____________
الآن …
أخذ “إمام” ينظر إليه هازًا رأسه و هو يقول بوهنٍ :
-يابني مقدرش.. أبوك لو عرف إني قولتلك هاتبقى حريقة. البيت ده كله هايبقى حريقة يا رزق !
غرس “رزق” نصل المديّة بعنقه أكثر صارخًا بوحشية :
-لآخر مرة بسألك أمــي فـــــــيـن ؟؟؟؟؟
أصدر “إمام” صيحة متألمة و خشى على نفسه من بطش إبن أخيه الجنوني، ما دفعه إلى القول مجبورًا :
-خلاص. خلاص.. هقولك.. هاقول …
و اومأ له ليقترب، ثم همس عند أذنه تمامًا بالجواب الذي بث في جسمه رجفة زلزلته.. و أسقطت من يده تلك المديّة… ثم أسقطته هو على ركبيته فوق الأرض الترابية القذرة !
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية وقبل أن تبصر عيناك)

‫4 تعليقات

اترك رد

error: Content is protected !!