روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الأول 1 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الأول 1 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الأول

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء الأول

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الأولى

“النسيان ”
“التناسي ”
“الذكريات”
أن كان النسيان قوة لا ترهقنا بالتفسير وتحمل عنا أثقالنا ……فالتناسي مثل الضباب الذي يخفي كل شيء..
يرتفع ويرتفع…ويحجب عن أنظارنا الأشياء جميعها
نتوهم بالتجاوز …!
ننخدع مؤقتـًا …!
نغتر بقوة زائفة لا نحملها..!
ومن ثم الهدوء الهدوء…ونرى الذكريات ضاحكة ساخرة، وتفتح الصفحات من جديد لتخبرنا فقط أننا لازلنا على قيد التمنّي..والشوق والحب…!
اللعنة !
والذكريات أكثر وفاء من أصحابها…رثاء ليوم ابتسمنا أو بكينا فيه يومًا من قلوبنا..
كأن الذكريات طفلة متمردة، صارخة، عاصية، لا تكبر لتعقل ، ولا تلين لترحم ! …..
كل ما تنعم به علينا..هو أن تغفو مؤقتـًا ثم تعود إلى صحوتها المفزعة وتصرخ من جديد!
ومن بين مائة رجل ستجد رجل واحد لا تفلح معه الإغراءات..ولا يستميل قلبه بسهولة…ولا تلفت نظره إلا امراة مميزة….استثنائية……لا يرى غيره استثنائها!
وغالبـًا لا يحب سوى مرة واحدة….مهما مرت السنوات..سيبقى على العهد قائمـًا مقام المحارب…المقاتل في عشقه.
نوعية نادرة من الرجال….. لا تُقدم قلوبهم سوى تجربة واحدة بالحب… يسخرون من التنقل بالقلوب.
وقلوبهم تأبى الزحام…ولا تتخطى المشاعر بسهولة!
قلوب دقة الحب فيها… گ الموت!
لا يحدث إلا مرة واحدة.
فماذا لو أحب هذا الرجل بمنتهى الصدق، وقُبلت كل مشاعره وعشقه بالغدر ؟
منتهى الصدق يواجه منتهى الخيانة !
النقيضان !
لوحة شطرنج على منضدة الحب…كل شيء متوقع !
أيا النسيان أين أنــت ؟!!
يبدو أن عشر سنوات لم تكن كافية ليأتي النسيان على حصانه الجامح، ويبتر نبته الحزن والضجيج المؤلم بالقلب !
ذاكرة القلب أكثر شراسة من ذاكرة العقل!
ونتحلى بالصمت عند منتهى الألم…
فأصبح هو كل هذا…رجل الصمت الأسود….
الفصل الأول
~… رجل الصمت الأسود …~
لا يأخذ منا النسيان إلا ما تجاوزناه وتخطيناه ببساطة ولم يرهق قلوبنا …بينما التناسي إرادة وليدة من بقايا قوة كنا عليها…
والأمس..واليوم …وغدًا ؟!
هم مراحل العمر..
گ مراحل الألم..تمامـًا
عبرت السيارة البورش باناميرا السوداء بوابة منزل كبيـر….عريق الأصل…تحاوطه حديقه يملؤها أشجار الزيتون.
منزل يخطف الأبصار ليس ببنائه الحديث!
بينما لذلك المعمار الذي يرجع لأعوامٍ كثيرة ماضية كأنه باقي من العصر الفيكتوري……
بقايا من تاريخ أحدى كبرى العائلات.
تملئه الحكايا…تملئه البقايا..من كل راحل ..ومن كل ما زال على قيد الحياة.
نهبت السيارة الطريق برشاقة… كالمرأة الفاتنة التي تتبختر بغرور وتغنج، كأنها تدرك أنها الوحيدة التي يليق عليها الإغراء..
وذلك الذي يجلس في المقعد الخلفي من السيارة..تحاوطه هالة الرجولة والغموض… سيطر الغموض على سيمائه.
رجل لا يتحدث كثيرًا…كأن كثرة الحديث ستخطف جزءً من عمقه وهيبته….ومن سنواته الأربعين.
ينظر للنافذة بجانبـه في شرودٍ تام…
صمت غارق في شيء هو وحده يفهمه…ويواريه…يُخفيه عن تلصص الفضول.
ولا معرفة حتى ما خلف نظراته المشفرة بتلك النظارة السوداء التي تخفي عمق عينيه…وجسارة نظراته القوية الثاقبة…
رجل الصمت الأسود !
مثلما أطلق عليه !
” ماليش أمل في الدنيا دي…غير أني أشوفك متهنّي…حتى أن لقيت أن بعادي..راح يسعدك أبعد عني….”.
أنطلق صوت الحب “ليلى مراد” من المذياع المُلحق بالسيارة..
انتفض رماح الشوق بخاطره ، بعد كبحٍ كاد يدميه أنين! رغم أنه لم ينسى مطلقـًا !
وانتفضت عروق فكيه من ضغطه على أسنانه بعصبيـة مكتومة…
هذه المقطوعة مجددًا ؟!
يا الله
تلاحقه گ أيام العمر !
…ليست بالنسبة له كما الجميع !
مقطوعة غنائية…استطاعت تشكيل ونقش عينيها على سجادة ضبابية للفراغ الناظر إليه بشرود..
عينيها التي لم ترحل من ذاكرته..ومن ابسط الأشياء التي كانت تخصها …ومن بقاياها.
كان يتذكرها غامرًا بالحنين والأشتياق والغضب…
وبهجرها هجره أمتياز الحب.. وتخضبت جميع الاختيارات بالأسود بعد ذلك….ولكن الحب دائمًا يحمل الاستثناءات.
ارتفعت ضربات قلبه بالتدريج…صاح الألم بمرارة الريق وغصة لم تفارقه منذ سنوات…
كل مرة كان يُصيح عندما تتردد تلك المقطوعة بالخطأ في أي مكان يتواجد فيـه…كان يغضب ويأمر أن يتم أغلاقها في الحال…
اليوم لم يستطع هذه المرة…وأن أعترف وترك هذا الكبرياء جانبًا ولو لبرهة…سيعترف أن جنونه بها فاق الاحتمال والطاقة على صبر الفراق….

 

 

وللحنين عودة!
“عشر سنوات يا قاسيتي! ”
دق قلبه بالعتاب لمكانٍ مهجور بزاوية معتمة بروحه..مكان بالقلب غارق بالدموع على امرأة ….
امرأة قلبه الأبدية.
الذي لم يتخطى حتى ذكراها ولو بعض الشيء!
انتهت المقطوعة…وضجت المصادفة الأكثر إثارة لمشاعره…عندما نطق صوت أنثوي إذاعي باسم المطربة…
لا يخصه بالأمر شيء سوى الاسم الأول فقط….
ضجيج المشاعر صاح باسم ” ليلى”
ليلى من بين جميع الليالٍ ..فكر بسخرية أنه “قيس” النسخة الجديدة..والأكثر عذابـًا..والأتعس حظـًا!
نطق بصوته الأجش المليء بالشجن والحنين قائلًا للسائق أن يذهب به….. لذلك المكان الذي زاره مراتٍ كثيرة خلال سنواتٍ ماضية..ولكنه امتنع عن زيارته لأكثر من شهرين مؤخرًا…وأعتقد أنه يتداوى!
ظن وهمي بالشفاء …
وكأن الذكريات شفاءها الابتعاد عن أماكن التصقت بها بعض المشاهد الساكنة بسير الوتين…
تساءل السائق في تعجب:
_ « طب مش هتروح المستشفى يا دكتور وجيه ؟ »
رد وجيـه وهو يعود بنظرته للنافذة وأكتفى بالقول :
_« لأ …»
وكما عاهده السائق…قليل الكلام…إجابته بأقل عدد من الكلمات !
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وقفت السيارة السوداء أمام محل قديم..له باب معدني فضي يجّر من أعلى لأسفل للأغلاق والعكس إذا فُتح…
نظر إليه وجيه للحظاتٍ، ثم ترجل من السيارة بخطواتٍ يبدو عليها التردد!
گ الذي أصابه الإدمان لشيء يبغضه ولكنه مرغم عليه حتى يستعيد هدوئه.
وقف بجسده المنيف الذي يغطيه معطف طويل أسود يناسب فصل الشتاء الراهن العنيف..
قطرات مياه المطر تنزلق من بين كلمات مكتوبة باللون الأبيض من تلك اللوحة الزرقاء الشاحبة المتقشرة…المدون عليها اسم المكان ( محل الزهور )
قال وجيـه للسائق بنظرة متمعنة للوحة… وبإشارة من أصبعه… ودون الاستدارة :
_ « أرجع أنت يا علي….»
تسـاءل السائق “علي” وهو ينظر للرجل الموالي ظهره في ثبات :
_« أسيب العربية ولا أرجعها البيت يا دكتور ؟ »
رد وجيه باختصار :
_ « سيبها…أنت أجازة النهاردة…»
استدار وجيه هذا المرة ليخرج شيء من جيبه ثم وضع عدة أوراق نقدية بيد السائق ….ابتسم علي بخفاء، وراقه تلك الإجازة التي لم يطلبها والمدفوع ثمنها أيضاً وغادر عائدًا لمنزله…أوقف سيارة أجرة وأختفى من الطريق…
أقترب وجيـه من الباب الفضي ثم أخرج ميدالية مفاتيحه الخاصة التي من ضمنها المفتاح الخاص بهذا المكان…
والذي أصبح ملكه بعد عامٍ واحد من الفراق، أي من تسع سنوات…عندما أعلن المالك هذا المحل للبيع لضرورة السفر…وتم البيع
انحنى وفتح القفل الحديدي الذي تآكل من الصدأ بعض الشيء… بسبب مياه الأمطار الغزيرة لسنواتٍ عدة….جرّ الباب للأعلى ليتضح أمامه….. “ملف الذكريات”
طاولة زجاجية مستطيلة عليها بعض أصُص الزرع لعدد من سلالات الزهور التي ذبلت حتى الموت…وجرَّ أخرى بكل الأرفف الزجاجية التي تملأ الجدران ذي اللون الازرق… المليئة بأحواض فارغة من النباتات…وأطلال زهور اللافندر والريحان …وخلف الطاولة ماكينة كهربائية لتصوير الأوراق والمستندات…بجانب أصُص زهور اللافندر.
يستطع رغم ذلك استنشاق رحيقها…الماضي يأتي بكل ما فيه… حتى الروائح تأتي من الحنين إليها !
وعلى يمينه أهم شيء …الأقرب إلى قلبه
المقعد الهزاز من خشب الباولونيا…. الثابت بجانب أرفف صغيرة مكتبية…بها عدد من دواوين الشعر والقصص الرومانسية العالمية منها والعربية….التي كانت تعشقها.
أقترب بخطوات متزنة…تنقلت نظرته بين الكتب المائلة على بعضها بفوضى عارمة…المكان يغط في الفوضى ورغم ذلك يبقيه على ماضيه…فهو امتلكه لذلك الهدف …
لمست أنامله الكتب وكأن ذلك كان إشارة لإثارة فوضى أكبر… فوقع أربع كتب مندسة بغلظة بقلب الرف المكدس..
كانت المفاجأة الذي لم يكتشفها سوى اليوم…كتاب كان أهداه لها منذ عشر سنوات!
كان يتجنب ذلك الرف تمامـًا…لما حرك المياه الراكدة اليوم؟!
يا لغبائه!
ولكن المُفجع حقـًا
أنها لم تأخذه معها !! حتى هذه الذكرى تركتها ولم تريدها ؟!
ماذا فعل لكل تلك الكراهية الغير مبررة !!
أزدرد ريقه بمرارة وهو يرفع الكتاب من الأرض حتى أستقام بطوله ونظر إليه في دقة، ونظرات تنثر بريق عاتب وغاضب ومتألم..
كان ديوان شِعر ….” لن أبيع العمر ”
وكان إهداء الشاعر “فاروق جويدة” بأول صفحات الكتاب
هو ملخص عشر سنوات من الألم والهجر.
” يغمرنا العشق فنغرق فيـه ولا ندري هل نحمل عشقاً…أم موتاً..
فبعض العشق يكون الموت…وبعض الموت يكون العشق ! ”
أغمض وجيه عينيه بمرارة غاصت في حلقه، وللحظة لم يحتمل فكرة أنها حتى تخلّت عن كل ما يذكـّرها به!
جلس بجسد ثقيل على المقعد الهزاز وعينيه تحجب الألم عن كل شيء…..ثم رجع بظهره للمقعد وأسند رأسه للخلف على حافته العلوية…. وعينيه مغلقتان في عذاب رجل غليظ الكبرياء…داهمته لحظات الحنين والضعف القاتل في الاشتياق لخائنة!
كان صدقه واستثنائية محبته لعنة عليه…
ليته بائع لأحاديث الهوى…
مرت ساعتين وتتهاوى علي قلبه سيوف قاتلة تنهش النبض به …خرج من المكان ونظر إليه لبضع دقائق…في وعد وثائقي بينه وبين نفسه…أن يتخلص من هذا المكان ويعرضه للبيع….حتى لا يستطع المجيء هنا حتى لو أقتحمه الحنين رغماً عنه…وبالتأكيد سيحدث ذلك.
لم يستطع الذهاب لعمله….قرر أخذ عطلة سريعة لعدة ساعاتٍ فقط..
لبدنه عليه حق…فقد انغمس كليـًا في العمل بالسنوات الماضية وما كان يأخذ عطلة إلا نادرًا….فقرر العودة إلى لمنزله وقرر استئناف العمل عند مطلع الغروب….

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
بمنزل العائلة….
دلفت ممرضة إلى غرفة الجد “رشدي” وبين يديها دفتر ملاحظات…وبعض الادوية…
استقبلها الجد رشدي بابتسامته المرحة المعهودة وقال :
_ « صباح الخير يا كتكوته …»
ابتسمت الممرضة “سمر” وهي تتوجه إليه، ثم جلست على مقعد خشبي بجانب فراشه وقالت بعدما وضعت ما بيدها على طاولة جانبية عدا دفتر الملاحظات تمسكت به:
« صباح الخير يا جدو رشدي..صحتك عاملة إيه النهاردة؟ »
ضيق الجد عينيه بثقة وبشكل مضحك ثم قال :
_ « صحتي بخير يا قمر…بفكر اروح الجيم كمان »
اتسعت ابتسامة سمر بضحكة سريعة…ثم قالت بنظرة امتنان :
_ « أنا عارفة أن حضرتك اخترعت حكاية المذكرات دي عشان تعلّي مرتبي…لما عرفت أني يتيمة وبجهز نفسي وهتجوز قريب….مش عارفة أشكرك أزاي….»
قال الجد رشدي بابتسامة راضيــــــة :
_ « ولا اخترعت ولا حاجة….أنا فعلًا كنت محتاج أفضفض واتكلم لحد برا العيلة…. عارفة يا سوسو لو مكنتيش مخطوبة كنت جوزتك لواحد من أحفادي التحف دول…»
ابتسمت سمر بمرح ثم قالت بحماس :
_ « حصل خير…أنا جيبت الدواء الناقص عشان لما تتغدا تاخده من غير تأخير…بس دلوقتي بقى نبدأ ….جاهز للإجابة يا جدو ؟ »
هز الجد رأسه بثقة ورد :
_ « جاهز يا روح جدو…اسألي …..»
فتحت سمر الدفتر ثم قالت وهي تشير بقلمها إليه :
_ « اسمك بالكامل ؟ وعدد أولادك وأحفادك…ياريت بقى مع نبذة عنهم ..»
تنهد الجد رشدي وتاهت ابتسامته قليلًا…نظر بعينيه التي تجمعت حولهما التجاعيد وخطوط الدهر…ثم أجاب :
_ « رشدي مصطفى محمود الزيان….خلفت أربع صبيان…تلاته ماتوا ومفضلش منهم غير وجيه…أصغرهم… ربنا يباركلي فيه….»
ملأ الحزن عينيه وهو يتابع :
_ « واحد مات من أربع سنين …” مصطفى” كان متمرد على كل أوامري …ساب كل شيء وراح أتجوز بنت ريفية وأتحداني…معرفتش عنه حاجة غير لما وصلني خبر موته بسكته قلبية مفاجئة…»
ابتلع ريقه بحزن شديد وأضاف :
_« والاتنين التانين …كانوا برضو مش بينفذوا أي حاجة أطلبها…إلا حاجة واحدة…لما طلبت منهم يتجوزوا بنات صديق ليا كان مصري بس عايش في هولندا من سنين طويلة…كان تعبان ولما سافرتله وصاني عليهم… رغم أن…»
صمت الجد عن الحديث وكأنه أرهق من الذكريات المؤلمة… فحسته سمر على المتابعة فقال :
– « رغم أن البنات ما اتربوش في مصر ولا حتى معاهم الجنسية وبيتكلموا عربي مكسر… بس حبتهم وجوزتهم لولادي… “چيلان” جوزتها لأبني الكبير ” كمال” وخلفوا جاسر ويوسف وبنت صغيرة كانت لسه رضيعة …و”ريما” جوزتها لأبني التاني ” صلاح ” وخلفوا رعد وآسر ”
جاسر الكبير فيهم وبعدين رعد..وآسر ويوسف……»
قالت سمر بنظرات مشفقة على العجوز المسكين :
_ « وبعديـن؟ …»
تنهد الجد في تنهيدة ثقيلة… وقال بنبرة ملؤها الألم :
_« بعد جوازهم بكام سنة قرروا يسافروا لندن في أجازه يشوفوا أصحابهم هناك…ولادي الاتنين سافروا معاهم…كانت سفرية لأيام قليلة… عشان كده سابوا أحفادي إلا الطفلة..امها مقدرتش تسيبها فخدتها معاها ….الطيارة وقعت بيهم في البحر…الله يرحمهم كلهم..»
حوقلت الممرضة سمر بعطف ورثاء…. ثم صمتت عن أي أسئلة… فقال الجد بنظرة حزن شديدة :
_ « خايف يكون ده ذنب أبني مصطفى من قسوتي عليه …تفتكري ده عقاب ؟ »
كانت نظرته تتوسل الإجابة… فقالت الفتاة برقة :
_« ده قضاء وقدر…كل واحدة مكتوبله هيموت أمتى وفين…ما تعذبش نفسك ….»
تابعت لتغيّر هذا الموضوع المأساوي …فقالت :
_« في حاجة غريبة والكل مستغرب ليها….حضرتك ليه خليت كل احفادك دكاترة ؟…… دي صدفة ولا كانت إرادتك في الأساس ؟ حتى أبن حضرتك دكتور وجيه ..دكتور …..!»
تقبل الجد تغيير مجرى الحديث برضا، ثم أجاب وعادت تلك اللمحة المرحة بحديثه :
_« بصي …أنا مش هكدب علي كتكوته زيك …أنا في شبابي كنت فاشل..ما بحبش الدراسة ولا الشغل حتى !
كملت تعليمي بالعافية لحد الثانوية….والدي كانت مكانته كبيرة…. وكان عار أن ابنه يكون واخد الثانوية بس!
خصوصا أني كنت الوحيد على بنتين….كان دايمـًا بيقارني بشباب العيلة اللي بقى مهندس واللي بقى دكتور واللي واللي…بس أكتر واحد قارني بيه كان أبن عمي الكبير…دكتور ممدوح الزيان الله يرحمه بقا….»
فهمت سمر الأمر فقالــــت :
_« آآه….يعني عوضت اللي ما حققتوش في أحفادك مش كده ؟ »
أجاب الجد بتوضيح أكثر :
_« مش بس كده… خوفت يتقالهم زي ما كان بيتقالي ويطلعوا معقدين….يمكن خلتهم كده بسبب عقدتي..مش أنتِ مكسوفة تقوليلي أني معقد؟ »
قال ذلك بابتسامة فضحكت سمر قائلة بمرح :
_ « دايمًا كاشفني كده….!»
تحدث الجد بنبرة ضاحكة :
_« كنت معقد من كل شيء إلا الحسناوات…»
رددت سمر بابتسامة واستغراب :
_« حسناوات!! والله أنت راقي جدًا يا جدو….دول دلوقتي بيقولوا علينا نسوان وغفر ! »
أطلق الجد ضحكة من فمه الذي ينتشر حوله الشعر الأبيض ثم قال بنبرة تحمل الفكاهة :
_« رجالة الزمن ده مايعرفوش حاجة عن الإتيكيت واللباقة…بقى في حد يقول على نعمة ربنا ” غفر ” …. ولما يدلعها يقولها يا بت !!!
ده جدك كان عليه واحدة ” تسمحيلي يا مودمزيل” تهز قلب أجمل بنت في مصر….البنات كانت بتعشقني….»
وضعت سمر يدها على فمها لتكتم ضحكات من حديثه…
مرت ثلاث ساعات بين الحديث والتذكر وتدوين ما يقوله الجد الطيب…الذي يبدو أن قسوته ما كانت إلا غطاء عقدته القديمة….
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وقف الشباب الأربعة بغرفة الجد الكبيرة والتي تضم أثاث كلاسيكي ولكنه فخم رغم ذلك… وأنظارهم تقف على العجوز الممدد على الفراش وينظر للممرضة بابتسامة مشاكسة….. حتى قال الجد رشدي لها بمزاح ليغيظهم :
_ « سنك كام يا كتكوته ؟ لأ قوليلي اسمك الأول ؟ »
مط جاسر شفتيه بسخرية وقال:
_« أصغر من أحفادك الأربعة يا زعيم الجدود….اسمها سمر ، خطيبة دكتور زميلنا….خطيبة إيـــــــه ؟ دكتور زميلنا…يارب ما تنسى تاني…»
كتمت الممرضة سمر ضحكتها من نظرة العجوز الغاضبة لأحفاده عندما هتف قائلًا :
_ « أنا بهزر معاها مالك أنت؟! هي السكر دي تتنسي ؟!
وبعدين أنت بتتكلم ليه يا شامبو ؟! لما اسمحلك أبقى اتكلم …»
نطق يوسف بابتسامة وقال بمحبة وبعض المرح:
_ « أخبار صحتك إيه دلوقتي يا جدي ؟ طمنا على أمعائك..»
أجاب الجد بنظرة ثابته على يوسف :
_« أنا بخير يا يوسف، أنت اللي فيهم يا بلوتوث، يا موصلي أخبارهم القذرة يا حبيبي…»
زفر رعد بتعجب وتساءل :
_ « ليــه بتقصد تقلل مننا ؟! عندك هيموجلوبين التهزيق لينا مرتفع ليه! …»
خرجت الممرضة سمر من الغرفة وتركتهم ….
تكلم جاسر كي يغيظ جده :
_« على فكرة بقا…اللي بيهزقني البنات بتكرهه..»
تطلع الجد به بثقة وقال بمكر بغمزته المعروفة والتواء رقبته بشكل مضحك :
_ « تكره مين يا شامبو أنت ! ، جدك ده كان واخد نوبل في خطف قلوب ملكات جمال المعادي يا جربان…»
نطق جاسر بضحكة ساخرة :
_ « ده كان القرن الماضي…وبعدين من شابه جده فما ظلم…طالعلك في كل حذفوره من حذافيرك يا رشدي باشا….»
توجه إليه الحفيد الرابع “آسر” محاولًا تلطيف الأجواء وجلس بجواره على الفراش قائلًا:
_ « صحتك بتتحسن الحمد لله…بس بلاش سجاير عشان خاطري…»
هتف الجد بعصبية وهو ينفض عنه غطاء السرير:
_« اسمها سيجار يا جاهل، دكتور بس لسه حمار…»
قال جاسر بابتسامة خبيثة:
_ « مش موجود غير سجاير وفرط كمان، السيجار أنقرض من سنة ١٩٨٠….إيه رأيك يا جدي؟ »
زمّ الجد شفتيه بغيظ… وقال متراجعـًا عن نبرة الثقة بحديثه:
_« زي بعضـه يا رعاع ، عايز سجاير بقا…»
دلف بهذه اللحظـة…من يعتبره الجميع منقذ العائلة الأول.. وفخرها.. العم….”وجيه الزيان”
دلف وجيه وهو بأبهى طلته وبحلّة سوداء أنيقة بعدما ابدل ملابسه المبتلة بمياه المطر…. ويفوح منها عطره المميز الباهظ الثمن …ابتسم والده له فأقترب وجيه منه وقبّل رأسه قائلًا بأدب:
«صباح الخير يا بابا…رجعت تاني ..هروح المستشفى بليل »
ابتسم له والده وقال :
_ « صباح النور يا وجيه، كويس أنك جيت وهتنقذني من الرعاع دول………أطردهم بس براحة…»
ابتسم له وجيه ابتسامة خفيفة… وأشار للشباب للخروج، فتمتم جاسر بنظرة ماكرة لجده:
_ « مستنيك على الفطار يا جدي…»
نظر له الجد بابتسامة منتصرة حتى خرج الشباب من الغرفة وأطمئن وجيه على والده…. ثم بادر الأب بالحديث وقال ببعض التردد :
_ « أنـا مش عاجبني حالك يا وجيـه، بتضيع عمرك سنة ورا سنه ومش عارف هتفضل كده لحد أمتى؟! »
شعر وجيه ببعض الملل في تكرار هذا الأمر بذات الموضوع كلما أنفرد بوالده للحديث…حتى بهذا الصباح!
ابتعد وجيه للنافذة ونظر للطقس الشتائي من النافذة الزجاجية وقـال:
_ « مش مستعد أكرر التجربة تاني، أنـت عارفني كويس وعارف أن الفشل مش بعرف أتقبله بسهولة…ثم أني كبرت ومش بفكر أتجوز خلاص …نسيــت الموضوع ده….»
أعترض والده بشدة وتحدث بعصبية :
_« سنك 42 سنة!! معجزتش زيي يعني عشان تيأس كده!
قول أنك أنت اللي مش عايز تتجوز وأنا هقتنع أكتر!
بس أنا عارف..»
ضيق وجيه عينيه بحدة واستدار بذهول لوالده وقال:
_ « عارف إيه؟! ….»
قال والده بنظرة متفحصة لانفعاله الواضح وكأن أحد كشف سره العظيم:
_ « دايمـًا كنت بحس أن في واحدة مستخبية ورا كل اعتراضك للجواز….حتى أنها ورا فشل جوازتك الأولى اللي مكملتش 6شهور!….مستخبية دايمـًا في نظراتك لما بتسرح وتروح لبعيد…
ما تخبيش عليا أنا عارفك وحافظك.. ؟ »
توترت نظرات وجيه….ونظر لوالده بصمتٍ وبريق عينيه يفضح الكم الهائل من الحنين الذي أخفاه لسنواتٍ من العذاب مرت عليه… وأقسم أن لا يحب مرةً أخرى…بعدما تلقى صفعه الهجر دون سبب أو مبرر…
وتلقى وقتذاك خنجر الغدر في خشوع وكبرياء
وكأن هذا الخنجر الغاشم جعل أكنه على قلبه اتجاه…الحب
حتى بعد تجربة زواج أعتقد أنها ستنسيه ما مر به…..ولكنها جعلته يتأكد أنه لن يستطيع تقديم قلبه لامرأة مرة أخرى….مهما

 

كانت فاتنة
قال في نظرة عاتبة لوالده :
_ « جوازتي الأولى كانت اختيارك مش اختياري…وبسبب حزنك على أخواتي الله يرحمهم… مقدرتش أعارضك …»
قال والده في نظرة حزينة :
_« أنا عارف أني فرضت عليك زي ما عملت مع أخواتك…بس كمان فاكر أنك في الفترة دي كنت تايه وحزين لشيء مش راضي تقوله لمخلوق!…..أنت الوحيد اللي مكنتش هجبرك…لو رفضت مكنتش هعترض ….! »
رد وجيـه بتنهيدة حارة مثقله بالهموم:
_ « أنا مش عايز اتكلم في اللي فات….كفاية لحد كده…»
ارتاح والده لأغلاق هذا الحديث الذي يغمره بالندم …وتساءل في أكثر شيء يشغل باله مؤخرًا :
_ « عملت إيه في الموضوع اللي قولتلك عليه ؟ »
وضع وجـيه يديه في جيب بنطاله في ثقة ، ثم استدار قائلًا وهو يستند بظهره على الحائط :
_ « تصريح القافلة الطبية جاهز….بس لسه الشباب مايعرفوش عنه حاجة…أتمنى ما يكشفوش اللي ورا موضوع القافلة …»
عبس وجه العجوز وقال بقلق :
_ « بنات أبني مصطفى الله يرحمه لازم يجوا يعيشوا معايا هنا بأي طريقة …. ويسامحوني…ده حتى رفضوا مقابلة حد فينا السنين اللي فاتت… إلا أنت يا وجيـه »
تنهد بأسى وهو يزم شفتيه بوجوم…. ثم أضــاف:
_« وكل اللي عرفته أنهم سابوا البلد اللي كانوا عايشين فيها وراحوا قرية جانبهم…عند خالهم العمدة….أنا متفق مع خالهم في الخباثة عشان لما يوصلوا الشباب يستقبلهم عنده وكده يعني….»
تخيل وجيه للحظات كيف سيكن وقع الخبر الغير معلن للآن على شباب العائلة …يبدو أن الأمر سيتخلله بعض المرح ….خصوصاً أن الفتيات تربوا بالريف وهذا نقيض مع البيئة المرفهة التي نشأ بها الشباب بهذا المنزل…..قال بجدية :
_ « خلال أيام هيكون الشباب عرفوا موضوع القافلة والسفر للأرياف…بس تعرف يا بابا…هيوحشوني على ما يرجعوا…»
قال ذلك بابتسامة طفيفة وهو ينظر لساعة معصمه…. فابتسم الأب قائلًا بمرح :
_« وأنا كمان….مش متخيل شكلهم لما يعرفوا اللي اتفقنا عليـه أنا وأنت…بس المهم دلوقتي أنهم مايعرفوش غير أنهم هيسافروا ضمن قافلة طبية للأرياف وبس….وميعرفوش حد أنهم من عيلة الزيان وإلا كل ده هيروح على فشوش…»
انتهى ذلك الحديث بخروج وجيه من غرفة أبيه وصعوده…
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
ومرت ساعاتٍ كثيرة حتى هلّت أول ساعات الغروب….
استعد للذهاب…
وبهدوء غرفة بالطابق الثاني والآخير من المنزل الكبير ….البعيدة عن جميع الغرف الأخرى…الخاصة برجل العائلة الأول..والأهم..
” وجيــه الزيان”
أمطرت ذاكرته الحمقاء سيل هائل من المشاهد مجددًا …
وهو ينظر للنسخة الأخرى من الكتاب….
” لن أبيع العمر ”
ومن أعنف قصائده…” ولأن الشوق معصيتي ”
ويقف أمام المدفأة النارية بالغرفة والتي يلتهب بها الجمر للتدفئة ..
وأي اختلاف يُطلق بين أجيج صوت اللهب المسترسل من نيران المدفأة… وبين نيران تستعر بداخل قلبه منذ سنوات؟!
يرفع خاتم كان يخص والدته قديمـًا..وبلحظة جنونية ساذجة وضع اسمـًا آخر عليـه…
كـان ذلك منذ عشرة أعوام…ولم ينسى لحظة!
كانت ذكراها تُجسد العذاب إذا ابتسم!
وولادة الظــلام!
وهجر الربيع إلى بكاء المطر!
ربما أراد قطار الذاكرة أن يقف عند تلك المحطة…
محطة موحشة كانت كفن سعادته!
سعادة أنتظرها عمرًا … ولم يربحها
گ الفرس الرابح دائمـًا وهزم عند نهاية السباق!
وإلى الآن ينتظرها….بقلبـه الأربعيني!
تطلع بعينيه الرماديتان إلى ذلك الخاتم الذي احتفظ به حتى بعدما حفر عليه حروف اسمها….ليـلى !
هذه ليلتـه…عذبته!
كان بعيدًا عن الحب….ولكنها أجبرته!
كاد أن يسحق أسنانه من فرط الضغط بعصبية وغضب من رنين الحب الذي كافح كي يقتله بقلبه… ولكنه فشل فشلًا ذريع !
وتاهت عينيه بحروف اسمها….”ليلى”
يبدو أنه لن يفلح قط في نسيانها…..
ولكن سيكتب ختام هذا العذاب اليوم…كفى لهذا الحد…
القى الكتاب بعصبية على فراشه ودفن ذلك الخاتم بمكانه المعتاد في خزينته الخاصة….ثم غادر غرفته ..وغادر المنزل بأكمله إلى عمله بالمستشفى…
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وكان قد أقبل الليل في ضجيج زئير اسود المطر والرعد الغاضب….
وفي الطابق الرابع من المشفى….
خرجت “ممرضة” بزيها الممزوج بين الأبيض والوردي الفاتح من غرفة الانعاش…..لتجد تلك المُتشحة بالسواد ، الباكية في صمتٍ بعيد عن ما حولها…والتي تلف يديها حول طفلة صغيرة لا تتعدى الخمس سنوات…
قالت الممرضة بلطف :
_ « تقدري تشوفيه بسرعة قبل الأشراف ما يجي…بس دقيقتين بالعدد..هدخلك بس عشان عياطك ده، لكن أرجوكِ ما تتأخريش ومتجبليش الكلام..ده مش وقت زيارة أصلًا….»
انتفضت “ليلى من جلستها وبين يديها طفلتها الشبه نائمة …فاعترضت الممرضة وقالت :
_« لأ سيبي البنت هنا عشان ما تعملش صوت جوا وحد يشتكي من المرضى…بسرعة وتعالي…»
نظرت ليلى إلى ابنتها على ذراعيها وقالت برجاء ودموع:
_« بنتي زي ما أنتِ شايفة كده…مقدرش أسيبها لوحدها …»
هزت الممرضة رأسها برفض وأسف :
_« في مرضى جوا مع والدك…مقدرش أجازف ، لو حابه تدخلي يبقى لوحدك …أنا آسفة…»
امتلأت عين ليلى بالدموع والحيرة حتى بدأت الطفلة تدمع بأنين خافت بين ذراعيها…ربتت على ظهرها بحنان وقالت بهمس :
_ « خليكي هنا يا حبيبتي ومش هغيب عنك….»
تمسكت الطفلة بملابس أمها وبدأت تصيح وتبكِ بشدة..وضعتها ليلى على المقعد التي كانت تجلس عليه منذ لحظات وقلبها ينشق لبكاء صغيرتها…ولكن ما باليد حيلة.
ربتت الممرضة على رأس الصغيرة ثم ذهبت لعملها مرة أخرى.
دلفت ” ليلى” للغرفة ووقع على ناظريها عدة أسرّة لمرضى …منهم المستيقظ بإعياء ومنهم التائه في نوم أو غيبوبة، وتفصل بينهم ستائر زرقاء صافية اللون سميكة..
وقع نظرها على والدها المغمضة عينيه، فتوجهت له في بكاء ولهفة….ارتعشت أصابعها وهي ترفعها على رأسه وتمررها بحنان، وسقطت دموع عينيها على غطاء السرير الطبي وهي تقول :
_ « أنت اللي باقيلي ….أقوى عشاني ما تسبنيش لوحدي …»
وضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها المعذبة الصارخة بالدموع وهي تراه لا يستجيب لدموعها بادنى حركة…..ظلت تنظر له بحزن صامت حتى أتت الممرضة لتحذرها من البقاء….
استجابت ليلى لتحذير الممرضة وتوجها الاثنان نحو باب الخروج …حتى سألت ليلى الممرضة بقلق ونظرة خائفة :
_ « هو ممكن تستنوا بس اسبوعين لحد ما ادبر فلوس وادفع مصاريف المستشفى؟ أصل حد جالي من شوية وطلب مني أروح الحسابات…»
تنهدت بخوف ودموع طفرت من ضعفها وقلة حيلتها…تابعت:
_ « والدي حالته ما تسمحش أن يتنقل تاني من المستشفى…المستشفى اللي روحتها امبارح قبل ما أجي هنا رفضوا استقباله…طب اعمل إيه واروح فين ولا أسيبه يموت؟! »
أشفقت الممرضة على حالة ليلى وقالت بأسف :
_ « بصراحة مش عارفة أفيدك لأني لسه جديدة هنا…بس أنصحك تروحي الإدارة وتتكلمي معاهم…لو ظروفك صعبة أوي ممكن يتساهلوا معاكِ ….»
قالت ليلى بعيون حمرا باكية يلتهب فيها الدمع :
_« ظروفي أصعب مما تتخيلي…أنا بِعت بيتنا بسبب المستشفيات…يعني حتى أنا مش عارفة لو خرجت هروح فين ! »
أطرفت عينا الممرضة بظلال شفقة وأسى على حالة تلك المرأة ذات الرداء الأسود ….قالت بلطف :
_« طب عندي اقتراح يمكن يساعدك…ما تروحيش لحد…استني دكتور…»
قطع حديث الممرضة شهقة من فم ليلى عندما نظرت بالصدفة لمدخل الباب المفتوح ولم تجد أبنتها كما تركتها !
ركضت بالممر الخارجي تنظر بجميع الاتجاهات بقلب كاد يتوقف من الذعر…وصاحت :
_ « بنتي فيـــــن ؟! …»
ثم صاحت تنادي بجميع الاتجاهات بخوف شديد :
_ « ريميـــــــــــــه ! ….»
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
خرج من المصعد ذلك الوجيه بالطابق الثالث بتعابير وجهه الجليدية القاسية….بعدما تعهد بنسيانها…ملأ قلبه من الذكريات قبل المغادرة نهائيـًا من براثنها الباقية…
كفى ألم…كفى عذاب…لما يظل على العهد بينما خانت أغلى ذكرى كانت بينهما؟!
ليته رأى ذلك الكتاب منذ زمن!
توجه إلى مكتبه بآخر الممر حتى أوقفه شيء وجعله شاخص البصر في صمتٍ….!
طفلة صغيرة تستند على الجدران ويبدو من ذراعها الممدود للأمام لتستكشف أي عثرة لتتفاداها أنها …كفيفة !
ظل يتأملها في دقة قلب غريبة..هل بسبب حالتها هذه أم لشيء يجهله؟! مضى إليها برشاقة حتى وقفت الطفلة ووضعت أصبعها في فمها بملامح عابسة ونظرات خوف عندما شعرت بخطوات تقترب.
قال وجيه بصوتِ هادئ عادةً لا يخرج بذلك الهدوء إلا مع المرضى :
_ « بتعملي إيه هنا وجاية مع مين ؟! »
صدقت ظنونه عندما وجد الطفلة ترفع رأسها ذو الجديلة السوداء الطويلة على جسدها الصغير… وتنظر بعيدًا بعض الشيء عن اتجاهه الصحيح…أجابت بصوت ضعيف به تهدج البكاء:
_ « مع ماما …»
انحنى لمستوى طولها القصير ….. ليسمع صوتها بشكل أوضح ولكن هزه شكل عينيها العسليتان المماثلة لعينان كعينان الريم… محفورتان بقلبه للأبد …عميقة العينين بلونهما العسلي ذو البريق الأخاذ…تنهد بعمق ونفض تلك الخاطرة بالكاد…

 

وقال بخشونة:
_ « وفين مامتك ؟ …»
ارتعشت ملامح الصغيرة، وبكت عندما تذكرت ترك أمها لها …قالت وهي تمسح عينيها بقبضتيها الصغيرتان :
_« سيبتها …عشان سابتني …»
رق قلب وجيه للصغيرة فقال بلطف :
_ « تعالي معايا المكتب وقوليلي سابتك ليه…هبعت اجيبهالك..»
اطرفت الصغيرة عينيها عدة مرات…. وكأنها تفكر بالعرض المطروح… فابتسم وجيه ابتسامة بسيطة لحيرتها الواضحة… ثم حملها بخفة حتى مكتبه…
وبداخل مكتبه….. وضعها على المكتب الخشبي العريض من خشب الزان المنقوش بحرافية… ثم جرّ مقعده الجلدي وجلس أمامها قائلًا باستفسار :
_ « اسمك إيه الأول ؟ …»
كانت الصغيرة لا تزال تضع أصبعها بفمها….رفعت أصابع قبضتها الأخرى ومررتها على وجهه برقة لاكتشاف منحنيات ملامحه مثلما اعتادت مع كل غريب تراه…. وتصرّ مع كل غريب أنه ذاك الغريب… البطل الخارق ” لحكايات قبل النوم ” التي سردتها لها والدتها مؤخرًا……. ثم ابتسمت وكأنها تذكرت شيء !!
تعجب وجيه من أمرها فكرر سؤاله… وعندما نطقت الطفلة أجابت بشيء غير متوقع :
_ « الشاطر وجيه ….»
حملق وجيه عينيه في دهشة ! حتى اتسعت ابتسامتها بعينيها الدامعتان …وأجابت على سؤاله أخيرًا وهي تنظر بعيدًا عن عينيه :
_« اسمي… ريميــه..»
انتفض وجيه من مقعده ووقف متيبس الحركة أمامها… “ريميــه..!! ”
ذلك الاسم الغالي أيضاً…الذي كان من المفترض أن يسمي به ابنته المستقبلية…
اتفاق ساذج مع امرأة غدرت به وتركته يتلوى بألم الفراق وحده !….”ريميـــــــــه”
صفة وصف عينيها الخائنة…ريمية العينان الممثلتان للعسل الصافي…اوقعان قلبـــه مع أول رمقة..!
نطق أخيرًا وشيء يعتصر قلبه من ذكرى ليلته التي تأبى مفارقته حتى بالصدف!….تساءل بحيرة :
_ « عرفتي اسمي منين ؟! …»
توترت ملامح الصغيرة من نبرته الحادة وقالت بخوف :
_ « من الحدوته …»
” حدوته ! ”
كرر الكلمة بعدم فهم…لا يستطع فهم ما يحدث … وقف أمامها كالتمثال لا يستوعب شيء …حتى كاد يتحدث ويستفسر منها عن بعض الأشياء التي شك بها..لتأتي فجأة امرأة الرداء الأسود …. مثلما رآها أول مرة…
رمزها رمز الأسود التي تخضبه بقلب من يجترأ على الاقتراب….هي..نعم هي….!!
راكضة..
صارخة…
باكية…
بقلب مُلتاع على أبنتها الصغيرة التي لم تتركها بمفردها ولو لدقيقة منذ ولادتها…هرولت إلى أبنتها دون أن تكتشف من هو الرجل الذي يواليها ظهره بجسده الضخم…
هتفت باسم ابنتها…ضمتها …معتذرة ، متأسفة، باكية
كل هذا أمام عينيه الذي ضج الرعد منهما وهو ينظر لها بنظرات نارية گ الجمر المتأجج بنار وحشية….
القلب جانبـًا أم أنه سيد الموقف ؟!
استقامت ليلى لتسأل الرجل الغريب عن سبب وجود أبنتها هنا ….
اتسعت عينيها في ذعر عندما رأته ووقعت نظراتها عليه بصدمة..
عشر سنوات مرت أمام عينيها في لحظة واحدة!
لو النظرات تخترق لكانت نظراته القاتلة اخترقت قلبها وماتت في الحال …
نظراته تتنقل على عينيها بشراسة وعاصفة آتية لا محال….
جف حلقها عن جميع الكلمات بينما قابل ذعرها منه …بتحرك عصب فكيه بعصبيه مفرطة واضح أنه يكبتها…
واسوداد عينيه بنار ملتهبة بتلك الثورة من الغضب.
ارتعش فمها وجسدها بأكمله بقوة كأنها محمومة !
حتى اسودت الرؤية أمام عينيها وسقطت على الأرض في نوبة اغماء لحقت بها جراء الوهن الذي اصاب جسدها من فرط التوتر وقلة التغذية بالأسابيع الفائتة بسبب حادث والدها.
من المفترض أن تحمد ذلك الأغماء الذي أنقذها من براثنه…كان ذلك المعتقد بأول أفكاره وهو ينظر لها في صمته الأسود …وجحيمه الذي يفتح ذراعيه من جديد إليها…بعدما كان جنة مزهرة من الحب والأمان…
لم تهتز عينيه المظلمة حتى لحالتها التي يرثى لها !
كان ذلك أقل الأشياء المنتظرة منه…طالما أتت من جديد….
داخل عرينه…..!
ويلها…..
« يتبــــع……..»»»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *