روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الحادي عشر 11 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الحادي عشر 11 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الحادي عشر

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء الحادي عشر

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الحادية عشر

~… رحيل وغضب العاشق…~
تابعت ليلى عملها ….وهي تائهة بعض الشيء ….تفكر جديًا باقتراح جيهان …. طالما كانت هنا سيحاوطه ويحاوطها الخطر ….
لتجد خطوات تقترب إليها …رفعت رأسها ووجدت عنايات تقف بالقرب منها ….تنظر لها بنظرة فيها لمحة تهديد وعداوة واضحة …!
كأنها تضمر شيء وتنوي عليه !
قالت عنايات بصوتٍ عال:
_ أنتِ بطيئة في الشغل كده ليــه ؟! ما تخلصي بسرعة ياختي !!
كتمت ليلى رد غاضب …. ليس وقت أن تفتعل المشاكل وهي في غنى عنها ……قالت وهي تتابع عملها واسرعت يديها بشكل واضح :
_ بخلص …
غضبت عنايات من البرود والهدوء التي تستخدمه ليلى في الرد ….فكان أكثر استفزاز من أي رد منفعل !
ابتعدت قليلًا وهي تتمتم ويبدو أنها تلفظ الشتائم !!
نظرت لها ليلى بتعجب !! ….وشعرت أن موقف عنايات خلفه شيء !
وتذكرت ملاحظة بثينة بأن خلف عمل عنايات بالمشفى “جيهان” …..لربما كانت الرؤية واضحة الآن أمامها بعداوة تلك المرأة دون سبب مقنع !

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
عاد يوسف للوحدة البيطرية …وبيده الفطائر الذي التهم منها ما يقرب نصفها …..وفي خاطره يتسأل عن الموقف الغاضب لتلك الفتاة المجهولة …. التي يحاول يتذكر متى رآها ….!
وجهها مألوف إليه لدرجة كبيرة !!
فوجد رعد وآسر على حالهما في الخيمة ….يتجاذبون أطراف الحديث …. تعجبا من ما بيد يوسف …!
ولم يتعجبا بنفس الوقت ..!
اقترب يوسف منهما ووضع الفطائر على طاولة خشبية امامهما وقال بابتسامة مرحة :
_ جبتلكم فطير أنما إيه …..حاجة كده هتاكلوا صوابعكم وراها …..
مد رعد يده بشهية للفطير الطازج …اللامع بالسمن البلدي…ورائحته النفاذة اللذيذة التي تؤكد على أن جودته عالية …..اخذ قطعة صغيرة تملأ فمه ومضغها في نهم …..هز رأسه بابتسامة واعجاب ثم قال :
_ فعلًا جميل أوي …..بس جبته منين ؟!
جلس يوسف أمام الطاولة وهو يتابع أكل الفطير وروى لهما ما حدث …..قال آسر بعتاب :
_ أنت مش هتبطل تضعف بالشكل ده قدام الأكل ؟! ….ده مرض !
يعني هتبقى مبسوط لما يتقال عليك حرامي في مرة ؟!
قطب وجه يوسف في عبوس كالطفل المعاقب ….ثم قال بشيء من الندم :
_ كان نفسي في الفطير من زمان ….أنا أول مرة اعمل كده …على طول بستأذن ….بس البنت دي مش عارف ليه حسيت أني أعرفها ….كأني شوفتها قبل كده !
كأن بينا عشم والله …لكن أنا مش باخد حاجة من غير اذن صاحبها …. وعموما أنا اعتذرت ليها وهي قبلت وادتني فطرتين كمان وهي مبتسمة كده ….بس مش عارف ليه اتبدلت في ثانية !!
عاد رعد لمرحه بعدما فهم يوسف …..نظر لآسر الذي كتم ابتسامته هو أيضاً ويبدو أنه فهم سبب غضب الفتاة ……فقال آسر له بضحكة :
_ مش عارف ياغبي ؟! …… يعني فهمتها أنك دكتور في الوحدة البيطرية وعرضت عليها اقتراح استشارة وعايزها ما تزعلش ؟!
اكيد افتكرت أنها حمارة ولا معزة ….
انخرطا آسر ورعد في موجة من الضحك واتسعت عين يوسف في دهشة …. ثم قال وهو ينهض بقوة :
_ صح ممكن تكون افتكرت كده ….بس أنا مش أقصد والله ….
تابع بنظرة ضيق :
_ لو شوفتها تاني هعتذرلها ….كانت لطيفة وكريمة معايا أوي بصراحة …..
جلس مرةً أخرى وقال مبتسما وهو يتذكر :
_ صدفة غريبة ….بس جميلة …..اتمنى تتكرر تاني ….
قال رعد مبتسما بغمزة ماكرة :
_ هي السنارة غمزت ولا إيه يا چو ..؟! من أولها كده يا واقع !
اعترض آسر على حديث رعد وقال :
_ سنارة إيه وغمزت إيه يا أبني ؟! …هو لحق ؟! وبعدين دي بنت بسيطة يعني و…..
قاطعه يوسف بمقت وقال :
_ هو اكيد رعد مكبر الموضوع بس يعني يا آسر كلامك أنت الغريب …..هو يعني البنات هنا مايتحبوش ولا إيه ؟! ولا هتعمل زي جدك ؟!
صحح آسر رأيه وقال :
_ مش أقصد اللي فهمته …. بس مجرد رأي يا يوسف …. أنا عارف أنك مش بتفكر كتير في الفوارق ….. بس مهم تفكر ….. ده الواقع…
قال يوسف مبتسما بسخرية وقال :
_ أنت كبرت الموضوع اوي كده ليه يا أبني أنت ؟! …..أنت حسستني أني قولتلكم أني بحبها وعايز اتجوزها ؟!
عاد رعد بظهره للمقعد وقال لهما الأثنان بمكر :
_ تعرفوا بقى …..أنا مش بفكر في فوارق خالص …..أنا يوم ما اتجوز واحدة …..هختار واحدة تجنني ….. تطير النوم من عيني …..اخوكم عاقل …عاقل …عاقل …ومحتاج شوية جنان ….
نظر آسر له بضحكة ساخرة :
_ اتجوز واحدة من مستشفى المجانين …وبالمرة تجرب فيها ابحاثك في الطب النفسي ….
رد يوسف بابتسامة شاردة :
_ يابني هو الجواز ده صفقة تجارية ؟! ……الجواز يعني انسانة تكملك وتلاقي منها الطبطبة والحنية …… ويا حبذا لو طباخة هايلة ….. ده هتاخد قلبي وأبراج عقلي كمان ….
تنهد آسر بسخرية وهو ينظر لهما ورد عليهما :
_ انتوا خياليين بزيادة يا شباب …..بصوا لأرض الواقع شوية…..
وبعدين ما احنا حبينا خدنا إيه يعني ؟!
تبدلت نظرة آسر للألم فقال رعد بغيظ :
_ أنت اللي اخترت غلط …وغلطك الأكبر أن التجربة دي أثرت على نظرتك كلها !! ….اكيد التكافؤ لازم يبقى موجود بين الزوجين بس يعني يا آسر لو قابلت بنت بسيطة واعجبت بيها وقدرت تشدك …. لقيت فيها نصك التاني ….حسيت أنها ينفع تكون ام ولادك ….هتسيبها عشان أقل منك في الشهادات أو مش من عيلة غنية ؟! …….
تابع بسخرية :
_ يبقى كده الفقير يتجوز الفقيرة والغني يتجوز الغنية …..يخلفوا جيل أسياد وعبيد …..الحياة ابسط من كده بكتير والله… والزوجة الصالحة دي بالدنيا …
وافقة يوسف بينما آسر يبدو كأنه لم يقتنع بحديثهما …..

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
في الأرض الزراعية …..
خلع جاسر ملابسه المبتلة من ماء الترعة وفردها على أفرع أحدى الأشجار وهو يتلفظ الشتائم بغيظ …..لفحه البرد وقرص جسده فبدأ في موجة من العطاس …… لا يستطع العودة إلى زملائه بالفريق هكذا ولا السير بين سكان القرية بهذه الملابس التي تعتصر ماء …!
قال وهو يرتعش جسده من البرد :
_ بقى أنا يتعمل فيا كده ….بنت ال…..ماشي ….لو وقعت في ايدي تاني مش ……
انتبه جاسر لصوت رجل صادر من الطريق ….التفت له فوجده رجل يبدو أنه تخطى الخمسين من العمر…يرتدي جلباب أبيض وعليه عباءة رجالية سوداء تشبه الروب …..وبيده عصاه يتوكأ عليها …..قال العمدة “عبد السميع ” بتساؤل:
_ أنت مين يا أبني ومالك عامل كده ؟!
لاحظ الرجل ذلك الشاب العاري الصدر والذي يفرد ملابس على فروع الأشجار ….شكله غريب عن شباب القرية …..رد جاسر وهو يضغط على أسنانه من البرد :
_ أنا دكتور وصلت النهاردة ضمن القافلة الطبية ….
تعثر في قول الحقيقة …وبدأ عليه أنه ينتقي الكلمات فتابع :
_ اتزحلقت ووقعت في الترعة دي وهدومي غرقت …. قلعتها ومستنيها تنشف …..
نظر العمدة إليه في نظرة غامضة وسأله :
_ أنت اسمك إيه ؟!
أجاب جاسر :
_ اسمي جاسر الزيان …..
تأكد العمة من ظنه …ابتسم وهو يهز رأسه وقال كأنه يمزح :
_ الجو مغيم وكله شتا ….هتفضل مستني الهدوم تنشف كتير معلش ……تعالى معايا البيت احسن …نتغدا وأخلي أهل البيت يغسلوها وينشفوها ……
بدا العرض مرضيا لجاسر …خصوصا أنه يحتاج اليه بالفعل …..ولكنه نظر للملابس واحتار مجددًا كيف يسير وهو عاري الصدر هكذا …فهم الرجل حيرته وعرض عليه عباءته السوداء وقال وهو يخلعها من على كتفيه:
_ البس دي احسن ما تاخد برد يا دكتور …..
لملم جاسر ملابس واتجه ناحية الرجل …شكره بامتنان وهو يرتدي العباءة على صدره العاري ….كتم الرجل الكبير ضحكة لأن ليس المعتاد أن احد يرتدي هذا النوع من العباءة دون جلباب ولكن ليس بالأمر وسيلة أخرى ……
شعر جاسر أن مظهره مضحك ولكنه التمس منها الدفء فتجنب مظهره الغريب وسار بجانب الرجل الذي أتى إليه كالنجدة ….. واتجه بشدقِ القرية المؤدي لمنزل العمدة….
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
في حظيرة بمنزل العمدة ….جلس صبي في الخامسة عشر من عمره على حاجز طعام للماشية يسمى “طوالة” ….. قال وهو ينظر لعينيه واسعة جدًا …نظرته بها محبة فائقة وقال :
_ عارفة يا سكرة …..كلهم عايزيني أبيعك … بس أنا ممكن ابيع البت سمكة بذات نفسيها ولا أبيعك يا لهطة القشطة أنتِ …..
أطرفت ذات العينين الواسعة عدة مرات وهي تنظر له …ربت نعناعة على رأسها بحنان وقال:
_ كلها أيام وتولدي ….و….
قاطعه صوت خوار حاد ….ثم أتت سما على باب الحظيرة وهي تتحدث بغيظ :
_ واد يا نعناعة؟! …..أنت هتفضل تكلم في الجاموسة دي كتير ؟! بتحب جاموسة يا منيل ؟!
ربت نعناعة على رقبة الجاموسة الذي اطلق عليها اسم “سكرة” وقال بزهو:
_ وما أحبهاش ليه يابت ؟! دي بتخلف في السنة مرتين وساعات تلاته… بتجبلنا قشطة وجبنة مغرقة الدار وطول النهار تلهطي فيهم لما بقيتي شبه الكرنبة ….
حملت سما عقدة من البرسيم كانت من ضمن عقد كثيرة بجانب الحائط ودفعتها بوجه أبن عمها الذي يصغرها بسنواتٍ كثيرة وقالت بغيظ :
_ أنا شبه الكرنبة يا زرع البصل …..هم على المندرة أبويا العمدة بينادي عليك …. شكل معاه حد غريب….
تأفف نعناعة وقال بعصبية :
_ معرفش اقعد أنا وسكرة لوحدينا شوية يعني ؟! ….. القصد……قوليله جاي ….
غادرت سما الحظيرة بخطوات سريعة لتخبر خالها العمدة ……بينما نظر نعناعة للماشية التي تحرك فمها الواسع بالطعام وقال لها برقة :
_ ولا يهمك منها يا حبيبتي …دي بقرة ….أنما أنت ؟ِ…أنتِ جاموسة !
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وضع ملابسه المبتلة على “طبلية” خشبية تتوسط المكان ثم جلس جاسر بالمندرة على أريكة مقلمة من قماش التنجيد التقليدي ….وقال له الرجل :
_ بأذن الله انت وزمايلك معزومين عندي بكرة ….كده كده كنت محضر العزومة ومرتب كل شيء …زمان الخبر وصلهم كمان دلوقتي في الوحدة ……
تعجب جاسر من الرجل …. حتى دلف الصبي نعناعة وقال :
_ نعم يا بويا العمدة …
فهم جاسر الأمر …إذن هذا الرجل يكون عمدة البلد ….اتضح الأمر الآن …ليس بالغريب أن يجتمع بهم بترحيب …..
قال الرجل معنفا ابنه :
_ سلم على ضيفك الأول يا غبي !!
نظر نعناعة لجاسر الذي يرتدي عباءة سوداء على لحم صدره العاري الظاهر من ياقة العباءة ….كتم ضحكته واقترب له قائلًا :
_ شرفت وأنست ….
اغتاظ جاسر من ضحكة نعناعة ورد عليه من بين أسنانه …قال نعنناعة وفلتت منه ضحكة خفيضة الصوت :
_ أنت لابس العباية على اللحم كده ليه ؟! …… أنت زعلانة من حاجة ؟!
أصر جاسر على أسنانه بعصبية ليتحكم ويتجنب سخرية الصبي …والأكثر سخرية انه بالفعل يضيق مما فعلته الفتاة الريفية به …آه لو كانت أمامه الآن ؟!
مرت الخاطرة بعقله في غيظ …..
قال العمدة له في أمر :
_ شيل الهدوم دي وخلي أخواتك ينضفوها وينشفوها ….بسرعة خف رجلك ….
أخذ الولد الملابس المبتلة مطيعا أمر والده ……

 

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وقفت جميلة مع حميدة بمطبخ منزل خالها العمدة ….وشردت كلًا منهما بخواطرها ….. ضغطت جميلة على زر الخلاط الكهربائي وهي تُعد عصير الجوافة الطازج ….ثم تذكرت سقوط الشاب الوسيم بالترعة وضحكت رغما عنها …..
انتبهت لها حميدة وخرجت من شرودها متسائلة :
_ بتضحكي على إيه يا جميلة ؟!
ارتفعت ضحكات جميلة أكثر ثم قالت :
_ هبقى احكيلك بعدين لما نخلص العصير وابعته المندرة ….على ما نحضر الغدا كمان ….. بس مين هو الضيف اللي مع خالك ؟!
أجابت حميدة دون دراية بالأمر وبلا اكتراث :
_ مش عارفة ….بس عادي يعني ما ضيوف خالك كتير …أنتِ ناسية انه العمدة ؟!
قالت جميلة :
_ عندك حق ….. هخلص اللي في ايدي واجي اساعدك في الغدا ….
صبت جميلة العصير الطازج في كوبين كبيرين من الزجاج وأرسلته مع أبن خالها الذي كان متوجهًا وبيده لفافة من الملابس المبتلة متوجها اليهم ….
أتت سما بنفس اللحظة متسائلة عن الضيف فقال لها نعناعة بعجالة :
_ خدي الهدوم دي اغسليها ونشريها يابت ….وانا هاخد العصير ده اوديه للضيف …..
أخذت سما منه الملابس ومرت سريعا مبتعدة ….وقد أخذ نعناعة صينية العصير من يد جميلة التي نظرت للملابس بشك ….!
حاولت التذكر …..والوان الملابس وهي مبتلة تبدو الوانها أغمق من وهي جافة …..تمنت أن يكن شكها بغير محله والا ستتعرض لموقف محرج أمام خالها حتى وأن كان معها الحق ……
بعدت الفكرة عن رأسها …فكيف سيعرف ذلك الشاب أنها تقرب لعمدة القرية ؟!! ….بالتأكيد ضيف آخر …هكذا اقنعت نفسها وهي تعود للمطبخ ….
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وفي المنـــدرة ……
تحدث العمدة مع جاسر بعض الأحاديث ثم قال بمكر :
_ أنت قولتلي أن اسمك جاسر الزيان صح ؟
هز جاسر رأسه بالإيجاب …..تابع الرجل قائلًا بشيء من التحذير :
_ طب نصيحة ليك يا أبني …ده زي أبني برضو ….ما تقوليش اسم عيلتك لحد من البلد ….خالص …
اكد العمدة حديثه بنظرة مؤكدة ….تفاجئ جاسر من قوله وتساءل بدهشة :
_ ليــه ؟!
كان رد العمدة اجابة مفبركة وليست حقيقية ..اضطر على قولها :
_ أصل كان عندنا واحد هنا من نفس الاسم ده…وكان مكروه والناس مشته من البلد …مش لازم اقول تفاصيل يعني ربنا ستار حليم …..ولكن اسم عيلته شبيه لاسم عيلتك ….تشابه اسماء يعني ….خلي بالك عشان مايفتكروش أنك قريبه ولا حاجة ….
ضيق جاسر عينيه بضيق ….لم يعتاد قول اسمه غير هكذا ….ولكن يبدو أن العمدة لم يحذر هباءً….. ويبدو أن الأمر الذي أخفاه عن الرجل المطرود من القرية خطير…. هز رأسه بالإيجاب وقال :
_ خلاص مافيش مشكلة …..في كل الأحوال احنا مش هنستمر هنا ….يعني مدة القافلة ونمشي ….نقضيها بهدوء ومن غير مشاكل أفضل …..
أتى نعناعة بصينية العصير الطازج ووضعه أمام الضيف ….نظر جاسر بغيظ لعصير الجوافة الذي اتضح من رائحته ….وتذكر تلك الفتاة قاطفة الثمار …..ثمار الجوافة !
قال العمدة بترحاب :
_ اشرب يابني العصير …بل ريقك لحد الغدا ما يجهز …..
تنهد جاسر ورفع كوب العصير لفمه وقال قبل أن يرتشف منه :
_ مش لازم غدا يا عمدة ….كفاية العصير ده وهقوم أمشي لما هدومي تنشف شوية …واجبك وصل …..
صمم الرجل على ذلك وقال :
_ والله تبقى عيبة في حقي …..بقى تدخل بيتي وتخرج من غير ما تاخد واجبك ودي تيجي ؟!……طب على الأقل اعتبره ترحيب بيك وبزمايلك ……
مع أصرار الرجل وانتظار الملابس المبتلة لتجف ….جلس جاسر مضطرًا ……عابس الوجه لا يريد حتى الحديث …..
وحتى قاربت الملابس لتجف بعض الشيء كان طعام الغداء تم اعداده وأخذه الصبي نعناعة إلى المندرة …….

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
مرت ساعات وقارب قرص الشمس على المغيب ….
أتى الهواء رطب بارد لهذا المساء …..مُحمل بنذير شتاء ممطر يحوم بالغيوم ……
دخل وجيه لمكتبه أخيرًا بعدما انشغل طيلة نهار اليوم بالعمل …بدا عليه الأرهاق …..وقف أمام مكتبه وهو يضع بعض الأوراق ويرتبها….. ويتلهف لرؤية من أرسل في مجيئها حتى يتحدث معها بأمرًا ما كان قد قرره بخصوص ابديل عملها لعمل آخر…..
دخلت بعده بدقائق جيهان ….وبيدها طبق كبير بع كوب عصير وبعض السندوتشات السريعة ……قالت مبتسمة وهي تضع الطبق على المكتب :
_ ما اتغديتش خالص النهاردة ! ….بس أنا ما نسيتكش …..جبتلك الغدا لحد هنا على ما نرجع البيت …..
جاملها بابتسامة سريعة وقال :
_ مش بتغدا مرتين …خلينا لما نرجع البيت أحسن …..عشان ناكل كلنا مع بعض …..وما اسيبش بابا يتعشا لوحده ….
اقتربت منه جيهان بنظرة متدللة وقالت بنعومة :
_ بس ده حاجة بسيطة مش هتشبعك …..طب أشرب حتى العصير !
رفض وجيه بهدوء فأقتربت منه أكثر ووضعت يديها على كتفيه بنظراتها المتمايلة مكر ….وابتسامة تظهر ما بعينيها ….وكانت جريئة في الخطوة التالية حتى دقت على الباب ليلى بخفوت ثم فتحت الباب …..
كانت لهفتها هي أيضا في رؤيته أكثر من أن تنتظر تسمع صوته يسمح لها بالدخول …..ليتها ما تسرعت ….
كان وجيه يتذكر جيدًا أمر ليلى …..ترك جيهان تفعل ما يحلو لها ….لم يعرف لما أراد بقوة أن يرى رد فعل ليلى ….سيظهر على وجهها وعينيها تحديدًا ….أن كانت ستشعر بالحرج لمجرد مقاطعة انفراد زوجين …أم أنها ستتألم لرؤية رجل تحبه مع امرأة أخرى بموقف شاعري ؟
تسمرت ليلى بمكانها واهتز قلبها غضبا وألم ….ابعدت عينيها في اللحظة التالية بعدما رأته …..وبالأخص عندما قصد أن يرفع يديه ويضم زوجته اليه …حقها وحقه….لم يفعلا شيء محرم واذ كان المكان غير مناسب بالتأكيد …..
ماذا تفعل هنا غير تلقي الاهانة والألم ؟!
هكذا هتفت بقلبها الأحمق …..
اغلقت الغرفة سريعا ثم اسرعت باكية الى ابنتها …كأنها تلجأ إليها لتحتمي ببراءتها عن الكون …..
ابتعد وجيه عن جيهان وانتبهت الأخرى لحركة الباب ونظرت له قائلة بحيرة وكأنها لا تعرف انها ليلى :
_ مين اللي فتح الباب وقفله ….؟!
رد وجيه وهو ينظر للباب بنظرة عميقة :
_ مخدتش بالي …..
ابتسمت وتظاهرت بالخجل منه ثم قالت:
_ طب هسيبك تخلص الشغل …أنا في مكتبي …ماتنساش العصير …..
خرجت من المكتب وتوجهت لمكتبها ….
وفعل وجيه ذلك أيضاّ…..توجه للمكان الذي يعرف أنها ستذهب إليه ….غرفة الصغيرة ……
ربتت ليلى على رأس صغيرتها التي قاربت على الدخول بغفوة ….سقطت دموعها صامته دون آنين …..كي لا تزعج صغيرتها …..حتى اقتحم وجيه الغرفة فوجدها تجلس على الفراش بجانب الصغيرة الممددة وشبه نائمة….
صوت فتح الباب هلع قلبها ونهضت من مكانها بقوة…وفتحت الصغيرة عينيها وهي تعتدل ….
صوت أنفاسه اكد ظنونها …أنه هو ….رفعت يدها لتمسح عينيها سريعا قبل أن يراهما …..فأقترب إليها قائلًا بصوت حاد وكأنه يعرف أنها تبكِ :

_ ممكن افهم سبب دموعك ؟! ….
ابتلعت ريقها المر بقوة وكم ودت لو تصرخ بوجه …ولكن بأي حق ؟!
استجنمعت قوتها واستدار له وقد مسحت عينيها :
_ مكنتش بعيط !!
كانت الصغيرة تبتسم له ….مرر يده على رأسها بحنان ليطمئنها أنه يتذكرها ….. ثم اتجه الى ليلى وقال بنظرة ماكرة :
_ آه واضح ….في حاجة كنت هتكلم معاكِ فيها لما بعتلك ….بس أنتِ مشيتي ….
تعالى الغضب بداخلها من رنة كلماته ….التي تقصد إيذاء مشاعرها وكبريائها ……قالت بانفعال :
_ كنت عايزني أقف مكاني ؟!! ….
أجاب بهدوء وهو ينظر للصغيرة ريميه الذي عادت لتغفو وتمددت على الفراش واسفل الأغطية …قال بغموض :
_ مكانك كان ممكن جدًا يبقى مكانها ….بس أنتِ اللي أخترتي ….
هنا سقطت دموع ليلى وهتفت به باكية :
_ وأنت بتقصد تعمل كده قدامي ؟!
نفى وجيه الأمر وقال بصدق :
_ مقصدتش ….الصدف هي اللي بتقصد تظهر اللي بتخبيه …..
وعمومًا خلينا في الموضوع المهم …..
قاطعته ليلى باعتراض :
_ مافيش بينا مواضيع ….لو سمحت خليك فاكر ده !
نظر لها بعصبية وقال بتحذير:
_ وماتنسيش أني خيرتك وأخترتي تنفذي أوامري !
قاطعهم صوت دخول عنايا لغرفة ليلى وهي تطلق صوتها بغضب ولم تدرك أن وجيه بالداخل …..هتفت فور دخولها :
_ هو انا بقى شغالة عندك ولا ايه يا زفته أنتِ ؟!
نظرت ليلى إلى وجيه الذي استدار ونظر لعنايات بنظرة شرسة اوقفت الكلمات بحلقها …..يبدو أنها عندما نفذت أوامر جيهان كانت تدق مسمار طردها من هنا ……انتفضت الصغيرة بخضة من فراشها ….ربتت امها عليها ختى تهدأ وردت ليلى عليها بنظرة عاتبة الى وجيه :
_ لأ أنا اللي بشتغل هنا …
مرت ليلى من أمامه وخرجت من الغرفة ….اتجه وجيه ناحية عنايات التي شحب وجهها بتوجس منه حتى قال بحذر والغضب كالمطر العنيف بعينيه :
_ لو سمعتك بتغلطي فيها تاني اعتبري نفسك مطرودة من هنا ومحدش هيقدر يرجعك ….. ده أول وآخر تحذير ليكِ ……
هزت عنايات رأسها بالموافقة وعينيها يملأها القلق والخوف ….لم تدرك أن تمسك وجيه بتلك الفتاة سيكن صادم وشرس لهذا الحد !!
لم تتوجه ليلى إلى عملها بل إلى مكتب جيهان التي يبدو انها كانت تنتظرها ….بعدما خمنت شعورها الآن ….نظرت جيهان المبتسمة كانت منتصرة بخفاء ….قالت بلطف :
_ تعالي يا ليلى….واقفلي الباب وراكِ ….
اغلقت ليلى الباب وتحكمت بدموعها اخيرًا ثم اقتربت إلى مكتب جيهان قائلة :
_ أنا موافقة على العرض اللي قدمتيه ليا …..
نهضت جيهان من مقعدها وقالت بتنهيدة ارتياح :
_ أنا رتبت كل شيء …ما تستغربيش …تليفون بسيط مني كفاية يفتحلك أبواب كتير …..حجزتلك اوضة في فندق لمدة أسبوع على ما الشركة ترتب موضوع الشقة ده …..شغلك حتى اتحجز وتقدري من بكرة تبدأي فيه …..والدك بقا مش هينفع يتنقل على طول لأن دكتور العناية لما سألته رفض يتنقل ….الموضوع هياخد وقت بس هخلصه ما تقلقيش …..
صدمت ليلى من السرعة الفائقة التي رتبت بها جيهان كل شيء !! قالت بدهشة :

 

_ بالسرعة دي ؟!
ابتسمت جيهان لها وقالت بثقة :
_ أنا قولتلك ما تستغربيش …..الشركة اللي هتروحيها لصديق قديم جدًا لوالدي ….أنا وصيت عليكِ أوي….هتشوفي بنفسك الاستقبال وهترتاحي في الشغل…. هتمشي النهاردة بليل من المستشفى بعد ما أنا ووجيه نمشي…. لو رجعتي هنا يا ليلى أنا مش همنعك بس ااكدلك أنك مش هترتاحي لحظة واحدة …..
وطبعا أنا مش غبية عشان اسيب دليل ورايا أني كنت ورا شغلك …..يعني ما تحاوليش تفكري حتى أنك توقعيني …….
تأكدت ليلى من تهديدها الخفي فيكفي أمر عنايات ليجعلها تتأكد ……قالت :
_ أنا مش في دماغي أني اوقعك ….ولو عايزة مكنتش هطلب أمشي …. ووجودي هنا اكتر من كده عارفة أنه هيضايقك ومش هيريحك……الأفضل أبعد ….
اخفت جيهان غيظها من الثقة العالية التي تتحدث بها ليلى ….قالت ورسمت ابتسامة زائفة :
_ أنا اتعلمت في ادارة الأعمال أن الصفر له قيمة ….ماينفعش اهمشه ….. نهاية كلامنا …بتمنالك التوفيق والنجاح في شغلك بمنتهى الصدق ….وبتمنالك صفحة جديدة مع ناس جديدة ….. بالتوفيق …
ابتلعت ليلى تلك الأهانة …هي تعرف أن جيهان ما قدمت ذلك العرض الا عندما تأكدت أنها تشكل خطر بوجودها بالمشفى …..يكفِ شعورها بالخوف ….ومن التربص لكل نظرة من عين زوجها ……لو فكرت في أشياءً عدة لأشفقت على جيهان حقاً….
اعطتها جيهان عنوان الفندق واستمارة الحجز …وكارت بعنوان الشركة التي ستعمل بها …..
وغادرت ليلى مكتبها بعد ذلك…..
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
عاد جاسر الى مقر الوحدة بعدما ارتدى ملابسه التي لا زالت مبتلة ولكن ستفي بالغرض حتى يصل لحقائبه ويبدل ملابسه …..
تفاجئ الثلاث شباب بدخوله الخيمة وهو بهذا الشكل وقال يوسف بتعجب :
_ هي الدنيا مطرت عليك أنت بس ؟!
أشار جاسر له بتحذير حتى يصمت ثم تسأل :
_ هي الشنط بتاعتنا فين ؟! عايز أغير هدومي …
رد رعد بضيق :
_ المكان اللي اترتب للفريق مكفاش ….ناقص سريرين …بس بما أن انا عن نفسي مش بحب اكون بمكان انتوا مش فيه فأخترت افضل معاكم واضحي لأجلكم …..أولادي قرة عيني …..
رد رعد قائلًا بسخرية :
_ أنا اللي انسحبت في الأول يا كداب ….كداب ومفجوع !
رد يوسف بعدم اكتراث :
_ أنت خدت قرار الانسحاب من طراطيف إرداتي …كنت هعمل كده ….وكمان اكل الفطير براحتي …
لكمه آسر بضحكة :
_ قول انك خوفت على الفطير يا مفجوع …..
قال يوسف بحماس :
_ أنا متحمس اوي للعزومة بتاعت بكرة عند عمدة البلد …..يارب يكون فيها محضي وبط ….بحب البط أوي ….البلد هنا مليانة بط …..
تذكر جاسر شيء وقال بابتسامة ماكرة :
_ فعلًا …. فيها بط ماشوفتوش قبل كده ….. البط اللي شوفته كان عُصفر …بيبي خالص….أنما دي بطة زقة واحدة وقعتني في الترعة..! مش عارف كانت متغدية ايه ؟!
قال يوسف بتأكيد:
_ اكيد فطير…..
سومه رعد بنظرة ماكرة بعدما فهم نظرة جاسر الماكرة :
_ شكلك مش هتجيبها لبر …..
فتح جاسر حقيبة من حقائب ملابسه التي انتقلت للخيمة واناقى منها ما يناسبه ….رد بضحكة وهو يخلع ملابسه ويرتدي أخرى :
_ مكنتش ناوي …بس البط هنا شرس أوي يا ابن العم…حاجة كده تملا العين وتعميها بنفس الوقت …..
قال يوسف بحيرة :
_ أنت تقصد بطة بطة ….ولا بطة اللي هي بطة ؟!
غمز له جاسر بابتسامة خبيثة فنهض يوسف قائلًا بحدة :
_ ده اللي كنت عامل حسابه ….. ربنا يستر على البط اللي هنا منك يا ناقوس الخطر …… أنا اتوترت …فين الفطير ؟
أشار له آسر على طاولة جانبية فذهب يوسف اليه وبدأ يأكل منه للمرة العاشرة …..
قال يوسف مبتسما :
_ الشغل هيبدأ من بكرة …..حيث كده أنا مستني عزومة بكرة ….

 

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وفي المساء ….كان على ليلى أن تستعد للرحيل وخاصةً بعدما علمت أن وجيه غادر المشفى مع زوجته …… ذهبت لوالدها واطمأنت عليه ثم وعدته أن يلتقيا عن قريب ……كان والدها لا زال لا يعي شيء ولا يشعر بشيء حوله …..
أخذت ابنتها دون أن يشعر أحدًا وغادرت المشفى …..حتى عنوان الفندق ….
سألتها أبنتها طيلة الطريق عن سبب مغادرتها المشفى ولم تجيب ليلى ……وقبل أن تصل بها السيارة الأجرة أمام الفندق بكت الصغيرة ريميه وهي بين ذراعي امها وقالت :
_ يعني مش هشوف بابا وجيه تاني ؟! ….رجعيني هناك….
ربتت ليلى على رأس ابنتها وقالت بألم :
_ ما تعيطيش يا حبيبتي …..عشان خاطري بطلي عياط…..
رفضت الصغيرة وقالت وهي تضع يدها على وجهها ببكاء :
_ لأ أنا عايزة ارجع هناك ماليش دعوة …..
قالت ليلى كاذبة حتى تهدأ صغيرتها :
_ حاضر هنرجع ….شوية وهنرجع بس بطلي عياط ….
هدأت الصغيرة رويدًا بعد ذلك …حتى خرجت ليلى من السيارة واتجهت ناحية الفندق المقصود ….ثم تأكدت بالفعل أن الحجز تم ورافقها العامل حتى غرفتها …….

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وفي الصباح ……
دخل وجيه مكتبه …..ودخلت خلفه عنايات بنظرات فيها خوف شديد من أن يظن انها خلف اختفاء ليلى وبعدما حذرها بالأمس …..نظر لها وجيه بتعجب وقال :
_ مالك في إيه ؟!
تلعثمت عنايات في أخباره وبدا وجهها شاحبًا ….قالت :
_ بصراحة ….والله العظيم ما ليا ذنب ولا كلمتها تاني ….
شعر وجيه أن الأمر يخص ليلى فنهض من مقعده بلهفة قائلًا :
_ مالها ليلى فيها ايه ؟!
تلعثمت عنايات مرة أخرى واجابت ببطء:
_ مشيت من المستشفى……قالت لبثينة أنها هتسيب الشغل هنا …..
اتسعت عين وجيه بصدمة …..لا يصدق أنها فعلت ذلك !! لا يصدق أنها ابتعدت مرة أخرى ؟!
فراق آخر ..أيام ..شهور …وربما سنوات أخرى ….
اتقدت عينيه بغضب مميت …..

يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *