روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل التاسع و الخمسون 59 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل التاسع و الخمسون 59 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت التاسع و الخمسون

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء التاسع و الخمسون

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة التاسعة و الخمسون

~… اليوم المنتظر ؟!…~
هناك أشخاص غيابهم كان أكثر شراسة من أهمال الحضور … نفتقد حتى عبوسهم الدائم بوجوهنا … !
بذلك المساء دلف د.أمجد لمكتبه ليتفقد بعض أوراقه قبل أن يغادر ويُنهي دوام عمله لليوم، وبدا كل شيء باهتا بلا حياة أو روح بدونها !
أين هي ..؟!
ولماذا اختفت فجأة بعدما عادت لتستأنف عملها !
لم يحب أن يبادر بالسؤال عنها ويثير التساؤلات حوله … فهي الآن زوجة رجل آخر ، وأي أشارة منه تخصها فذلك سيثير الظنون والأقاويل … لن يفعل ذلك بها… فراجع أفكاره وتراجع.
تنهد بهم ثقيل جدًا جاسم على قلبه ولم يكن بمزاج جيد أو طاقة لمزيد من التمهل والصبر للمكوث أكثر من ذلك.
وعند مغادرته لمكتبه سار بالممر تائه وزائع العينين، يكاد لا يرى شيء حوله ولا تعنيه الأصوات من الزوار والمرضى … حتى وجد د.وجيه يخرج من مكتبه وهو يودع امرأة تستند على عصا ومعها صبي لم يتعدى الخمسة عشر عاما …. وبعد قليل ابتعدت المرأة مع الصبي الذي صاحبها بخطوات توازي بطء خطواتها.
وقبل أن يعود وجيه أدراجه بداخل مكتبه لمح أمجد الواقف على بُعد خطواته وتبدو بعينيه اسئلة مُلحة …. فتطلع وجيه به لدقيقة مفكرا بشيء … ثم أشار له ليأتي إليه.
لم يصدق أمجد للحظة أن وجيه أشار له ليدخل مكتبه، كأن وجيه سمع نداء أمجد الصامت ولبى رغبته الصامتة بالحديث.
وجلس وجيه أمام مكتبه مرةً أخرى بهدوء وهيبة، حتى دلف أمجد ووقف ناظرا لوجيه بتوتر … فقال وجيه له بنظرة متفحصة تدرس تعابيره :
_ اقعد يا دكتور أمجد … حاسس أنك عايز تتكلم معايا !
جلس أمجد بعينان أزدادتَ توتر، وللحظة أراد لو يذهب من هنا قبل أن يدرك وجيه سبب حيرته هذه …. حتى هربت دقة

 

التراجع وقال بصدق :
_ دي حقيقة يا دكتور … دايمًا كنت بتفهمني .
قال وجيه له باهتمام وتمنى لو يكون ما يجول بفكره هو ذاته سبب حيرة ذلك الطبيب الشاب :
_ طب نطلب حاجة نشربها وعلى ما توصل تكون قولت اللي عندك.
وطلب وجيه فنجانين من القهوة، وبعد ذلك بدأ أمجد يتحدث وكأن الكلمات تُنتزع من فمه انتزاعا، وقال بتلعثم وقلق وجمل متقطعة:
_ بصراحة … مش عايز حضرتك تفهمني غلط، بس يعني ….. أنا ملاحظ أن … أن آنسة سمر بقالها كام يوم مش بتحضر.
ابتسم وجيه وقد تأكد من ظنه فقال بتعجب ولو كان يخفي بعض المكر :
_ أنسة سمر ! … أنت ناسي أنها اتجوزت ولا إيه ؟!
رفع أمجد أطار نظارته الطبية بتوتر شديد وقال وبدا على وجهه الشحوب والثقل من صفعة نطق الإجابة المؤلمة:
_ أسف… أصل اتعودت أقولها كده … ونسيت.
ولم يكن أمجد يقول الصدق، فكم كان شاقا عليه أن يتذكر أنها اصبحت زوجة لرجل آخر … لذلك تجنب منادتها بعدما عادت من عطلة شهر العسل.
هز وجيه رأسه متفهما تمامًا ما يمر به أمجد، وللحظة شعر وكأن أمجد هو صورته منذ عشر سنوات …. كان يتهرب من نفس هذا الألم المميت … فقال بهدوء:
_ حصل خير … بس بتسأل عنها ليه ..؟!
وهنا الرد كان صعب الكذب فيه، فوجيه يعرف مدى محبة أمجد للممرضة سمر، فصمت أمجد وارتخى جفنيه للأسفل في حرج وحزن كبير لم يستطع هزمه وأخفائه ….. ولم يحب أن يراوغ أكثر من ذلك فقال وهو ينهض ويفض هذا الحديث :
_ أسف يا دكتور … أنا عارف أن ماينفعش وعارف أني غلط ومايصحش اسأل عنها … اوعدك مش هتتكرر تاني.
تطلع به وجيه للحظة ثم قال وهو يدقق النظر بردة فعله الآتية:
_ سمر سابت المستشفى يا أمجد … مش هتشتغل هنا تاني.
رفعت الصدمة وجه أمجد لوجيه ، وانسحبت الدماء من وجهه بالتدريج حتى بات شاحبا …. ثم ابتلع ريقه بقوة كأنه يبلع مرارة الفراق وعينيه تتوهج الم …. فسأل وجيه سؤال كان لا يقل صدمة عن الصدمة الاولى :
_ لسه بتحبها ..؟!
التمعت عينان أمجد بحزن شديد وقال له :
_ هتصدقني لو قولتلك أن كل يوم بيعدي بحبها وبحتاجلها أكتر ؟!
مكنتش عايز غير بس أني أشوفها ولو من بعيد …. بس معقول يكون ده السبب اللي خلاها تمشي ؟!
نهض وجيه من مقعده ووقف أمام أمجد ناظرًا له بثبات ثم قال :
_ لا مش ده السبب …. بس عايز اسألك سؤال وترد عليا بصراحة …
لم يشغل عقل أمجد أي تعجب أو استغراب من أحاديث وجيه … فقال والحزن ينهش عينيه :
_ اكيد..
أتمم وجيه صيغة السؤال بعقله في ثوانٍ ثم طرحه قائلًا :
_ شايف في عنيك أن لو سمر اتطلقت ممكن تتقدملها تاني ؟! …. معقول يكون احساسي حقيقي ؟!
ابتسم أمجد بمرارة .. ابتسم سخرية من مجرد الحلم بهذا الشيء فقال :
_ احساسك حقيقي يا دكتور … بس أنا مش بالأنانية اللي تخليني اتمنالها تطلق ! …. هي اختارت واحد تاني واتجوزته برضاها محدش أجبرها … وأنا عايز أشوفها مبسوطة.
لم ترضي وجيه تلك الأجابة فكرر حديثه:
_ ولنفترض أن ده حصل … هتعمل إيه ؟
وهنا بدأ أمجد يشعر بغرابة السؤال، ولكن سرقه أمل الإجابة وقال :
_ هتقدملها واتجوزها …. بس لو حسيت فعلا أنها بدأت تحس بيا وبمشاعري ناحيتها … مش وخداني دوا نسيان !
ابتسم وجيه ابتسامة بسيطة ثم قال بجدية:
_ لو ده حصل يا أمجد ما تفكرش أنها هتاخدك دوا نسيان، أي واحدة بتنهي تجربتها الأولى بتبقى حريصة تتفادى الأخطاء في أي تجربة بعد كده …. يعني لو اتطلقت واختارت تتجوزك مش هتتجوزك عشان تنسى بيك واحد تاني! …. هتتجوزك عشان تعوضها عن اللي شافته ووجعها، لأن لو كانت باقية عليه مكنتش اتطلقت … الست بالذات يوم ما بتطلب الطلاق بإرادتها بتبقى عارفة أنها قادرة تنساه وتكمل من غيره.
لو ده حصل اعتبرها فرصة تانية معاها … وفرصة أخيرة كمان… واتمسك بيها.
لمح أمجد نظرات غامضة بعين وجيه، يتحدث وكأنها بالفعل انفصلت عن زوجها ! …. هكذا فكر أمجد وقال بحيرة:
_ مش فاهم يا دكتور حضرتك بتقولي كده ليه ؟!
ابتسم وجيه له بمكر وقال :
_ فكر في كلامي كويس … محدش عارف بكرة ممكن يحصل إيه …. يمكن اللي بتتمناه يتحقق … مين عارف ؟!
ضيق أمجد عينيه بحيرة شديدة حتى أنهى وجيه حواره بنظرات ماكرة وتركه وغادر المكتب … وحقق غرضه من تلك المقابلة وجس النبض دون افصاح عن ما يخفيه.
وتوجه مباشرةً إلى غرفة والده حيث العناية المركزة.
********
كانت رضوى تقف بجانب سرير جدها الطبي بغرفة العناية وعينيها أغرورقتان من الدموع أسفا … فنظرت لها أمها التي أتت منذ دقائق ومعها الصبي وقالت :
_ هيقوم بالسلامة أن شاء الله …
قبلت رضوى رأس جدها النائم وقالت بتمني ودموع :

 

_ يارب.
وكانت أمها على رغم حزنها بحالة والد زوجها الراحل، ولكن تلهفت أن تعرف ردة فعل أبنتها من قرار عمها الحاسم …فقالت وداد :
_ أنا اتكلمت مع عمك قبل ما نعناعة يجبني هنا …. وبصراحة كلامه أقنعني … ماتنشفيش دماغك يابنتي ووافقي … أنا عايزة أطمن عليكم قبل ما يجرالي حاجة.
ابتلعت رضوى تلك الكلمات القاسية وسقطت الدموع من عينيها ثم قالت :
_ مش وقته الكلام ده يمّه … هنتكلم بس مش هنا.
فقال الصبي لها بلطف وهو يقدر ما يجول بخاطرها :
_ والله رايدك وشاريكي يابت يا رضوى …. ده هيموت ويتجوزك وأنتي ادبتيه بما فيه الكفاية … وماتنسيش أن قرارك بالرفض هيأثر على أخواتك كمان …
تنهدت رضوى بألم شديد …. وايقنت أن لا أحد سيشعر بالعواصف التي تأرجحها يمينا ويسارا … يبدو أن ما فعلته كافيًا ليقدر قيمتها … وبلحظة أخرى تشعر أن كل هذا ليس بكافِ وتريد المزيد والمزيد ليهدأ كبريائها الجريح!
حتى دخل وجيه الغرفة بخطوات هادئة … وتجنب رضوى تمامًا وهي التي انتبهت لدخوله أولًا وانتظرت بلهفة أن يشير لها ولو بإلقاء السلام السريع.
ولكنه لم يفعل !
بل القى السلام مرةً أخرى على وداد والصبي وتوجه لوالده مباشرةً يتفحص الأجهزة الطبية الموصولة بجسده … فوجد أن الحالة الآن بدأت في الاستقرار فعليًا، فتنفس الصعداء ببعض الأطمئنان وقال :
_ الحمد لله ..
فسألته رضوى بقصد جر الحديث معه وقالت :
_ طمني يا عمي ؟
تنفس وجيه ثم أجابها باحتصار وبجفاء ولم يلتفت لها حتى فقال:
_ اتحسن … الحمد لله.
ووخزها جفاء رده فأنفطرت دموعها وهي تقول بصوتً متهدج :
_ حتى أنت يا عمي مش فاهمني وحتى كأنك مش عايز تتكلم معايا ! …. طب أبويا الله يرحمه أكتر حد كان بيفهمني من غير حتى ما اتكلم …. لكن أجيبه منين دلوقتي يشرحلكم اللي جوايا … !
لما رجعنا لجدي افتكرتك هتكون مكانه وتضيع مرارة اليتم من جوايا … بس أنت اثبتلي فعلا أن محدش هياخد مكان أبويا أبدًا ….
ولم تتابع بكلمة أضافية، بل ما كانت تستطع نطق كلمة أخرى وبحلقها تلك الغصة المتكورة والعالقة من المرارة والألم والدموع، وكل ما استطاعت فعله أن تركض وتخرج من الغرفة.
وتجمد وجيه لوقع تلك الكلمات عليه ! …. ما كان يظن أن بذلك التجاهل سيؤلمها لهذا الحد !
بل كل ما أراده هو عتابها ولو بالصمت وبعض التجاهل …. ولكن يبدو أنه كان مخطئ … فانتفض وأسرع خلفها ليصحح لها ظنها به.
وبالرواق الطويل التي كانت تسير فيه رضوى باكية أتى خلفها وجيه وأوقفها ممسكا معصمها بقوة … فالتفتت له وظنت أنه رعد وكادت أن تصرخ به … ولكن توقفت بنظرات عتاب شديدة لعمها وجيه … فأخذها من معصمها برفق وقال لها بهدوء :
_ عايز اتكلم معاكي شوية يا رضوى …. في مكتبي.
وذهبت معه بالفعل وبكائها يشتد حتى ادخله مكتبه واغلق الباب …. ووقف ناظرا ليديها التي تمسح دموعها المنهمرة بكثرة …. فأخذها بين ذراعيه بحنان أبوي وقال معاتبًا :
_ مش هعاتبك على اللي أنتي قولتيه دلوقتي ، بس أنا كنت زعلان منك شوية وماسمحتش لنفسي اخرج عصبيتي عليكي …. بس تفتكري أن كل اللي بعمله ده بعمله عشان مين ؟!
بكت رضوى بقوة فربت وجيه على رأسها بحنان شديد ثم قبّل رأسها معتذرا وقال :
_ حقك عليا ماتزعليش …
وبعد لحظات بدأت تهدأ تدريجيًا … فسكن وجهها بين راحتي يديه وقال ناظرا لها بابتسامة أبوية رقيقة :
_ أنا خدت القرار عنك عشان عارف أنك بتحبيه ورحمت كبريائك يا رضوى وخليتها ولو ظاهريا بالإجبار …. ورعد أنتي لسه ماعرفتيهوش … وقراري ده هو اللي هيعرفك حقيقته عاملة أزاي …. وكمان عشان أخواتك … اوعي تفتكري ولا تظني فيا أني ممكن أجبر واحدة فيكم على شيء ضد رغبتها !!
لو دلوقتي قولتيلي مش عايزة الجوازة دي هوقف كل حاجة وأنسي أي قرار خدته … ده جواز يابنتي مش لعبة !
تلألأت عينيها بحياء شديد ودموع تتساقط ، وتهربت من نظراته التي تنتظر إجابتها وصمتت عن الرفض ، بل عينيها كانت تؤكد موافقتها…. فابتسم وقال بمشاكسة:
_ شوفتي بقى أن قراري مش ضد رغبتك وأني عارف اللي جواكي من غير حتى ما اسألك !
أنتي عايزة توافقي ونفسك توافقي بس كبريائك مانعك …. وأنا اتصرفت كده عشانك أنتي بالذات ….
أنا خدت الخطوة عنك ومتأكد أن سوء التفاهم اللي بينكم هيتحل.
قالت رضوى بدموع :
_ سوء تفاهم ! … ده لما عرف أننا ولاد عم أسلوبه اتغير معايا ! ، ولما عرف نية جدي واللي ناوي يعمله سافر وسابلي كلام كسرني ووجعني … قلل مني يا عمي ! ….مهما كانت مبرراته مش قادرة أنسى الكلام اللي قال في حقي !
هز وجيه رأسه متفهما ما تشعر به فقال :
_ أنا عرفت اللي قاله، وعذرتك …. لكن مش هدافع عنه، بس هحكيلك حاجة خاصة بيا أنا شخصيًا، والحاجة دي بقولها ليكي وده سر ما بينا مايطلعش….
أطرفت رضوى أهدابها بتأكيد ونظرات فضولية … حتى بدأ وجيه قائلًا :
_ لما رجعت لجيهان كان عشان انتقم من ليلى … ليلى اللي هي حب عمري كله ومحبتش انسانة غيرها … كنت بقولها هنساكي وأنا متأكد أني مش هقدر، وقولتلها بكرهك وأنا بموت حتى في الهوا اللي بتتنفسه … وده لما حسيت أنها بتجبرني أبعد عنها …. اجبرتني لشيء ضد اللي عايزه حرفيًا … غضبت وما ادراكي شدة الغضب ! …. عملت اللي اكتر بكتير وكارثي من اللي رعد عمله … اتجوزت واحدة غيرها !
ولما عرفت السبب الحقيقي ورا كل تصرفاتها اتمسكت بيها واجبرتها نتجوز … وكنت عارف أني مش بجبرها … بس مكنتش قادرة تاخد القرار خاصة في الظروف الصحية بتاعت أبوها …. وجوازنا قطع شوط كبير من طريق طويل كله سوء فهم ومشاكل ….
تفاجئت رضوى بما قاله وجيه بما يخص علاقته بزوجته ليلى، حتى استطرد وجيه حديثه:
_ رعد شاف في قرار جده اجبار …. مكنش عايز يشوفك في الزاوية دي أبدًا، كانت لحظة غضب مش المقصود بيها أنتي أبدًا… لو قرار جدك اتأجل شوية كان رعد اتقدملك واتخطبتوا من غير أي مشاكل وكان هيفرح جدًا لما كان هيعرف أنكم ولاد عم …. بس قراره بيكي كان هيسبق أي شيء تاني وقتها … مكنش هيفرق معاه أي حاجة بعد كده….
قالت رضوى بحيرة ملأت عينيها :
_ قولي اعمل إيه يا عمي وأنا هعمله.
مسح وجيه دموع عينيها وقال مبتسما وقد ادرك أنها تستحي أن تعلن موافقتها:
_ تفرحي … اللي عايزه أنك تفرحي بجد…. وأنا متأكد أنك ذكية وهتكسبي الجولة دي في أقرب وقت بطريقتك …
ابتسمت تدريجيًا وتلونت وجنتيها بحمرة شديدة من الحياء ….
فأضاف في الختام :
_ ارجعي مع أخواتك للبيت، جدك بخير الحمد لله ويومين بالضبط وهيرجع هو كمان … هخلي يوسف يوصلكم.
وافقت رضوى على مضض وعادت تخبر شقيقاتها بقرار العودة للمنزل.

 

*********
انتظرت جيهان وجيه بمكتبها الإداري حتى أتى إليها بعدما ترك رضوى تعود شقيقاتها …. وعندما دخل المكتب وقفت وقالت باستفهام :
_ استنيتك كتير … عندي فضول أعرف سبب الرسالة اللي بعتهالي من شوية استناك هنا!
أشار لها لتجلس ثانيا وخلع معطفه بارهاق ثم جلس قائلا :
_ السبب هي سمر …
تعجبت جيهان وقالت بغرابة:
_ مالها سمر ؟!
شرح لها وجيه أمر أمجد والحوار الذي دار بينهما .. ثم أضاف قائلا :
_ اتكلمي مع سمر بوضوح وجسي النبض كده …. لو لقيتي قبول منها بلغيني عشان أبدأ أخد الخطوة دي ….
فقالت جيهان بابتسامة وحماس :
_ طب ما أوصلها اللي قاله وده هيشجعها أكتر تفكر !
قال وجيه ببعض الحيرة :
_ مش صح ده يحصل دلوقتي غير لما أوصل لأمجد خبر طلقها فعليًا وأشوف رد فعله …. مكنش ينفع أقوله الخبر لأن ده يعتبر في الوقت الحالي سر محدش يعرفه …. فلو عندها قبول هقوله واتأكد أن كان كلامه جد ولا كان مجرد كلام …. مع أني حاسس أنه فعلًا هينفذ اللي قاله … بس برضو محبتش اتسرع وأقوله…. يعني اتكلمي معاها بنفس الاسلوب اللي كلمت بيه أمجد كده …. وشوفي رد فعلها…. لو كان كده يبقى على الأقل نتفق لحد ما يعدي وقت ونفسيتها ترتاح من اللي حصل وبعدين ربنا يتمملهم بخير.
قالت جيهان وهي تحمل حقيبتها وتنوي الذهاب لمنزل والديها الرحلان :
_ هنفذ دلوقتي حالًا واروحلها …. أنت ماتعرفش فرحت بكلامك أزاي ..
أشارت له جيهان بابتسامة واسعة وخرجت من المكتب … وفك وجيه زر قميصه العلوي ليستنشق الهواء بحرية أكبر … حتى تفاجأ بدخول ليلى وهي تنظر له بنظرة ضيقة وتتفحصه بدقة ….فتعجب من نظراتها له وقال :

 

_ بتبصيلي كده ليه ؟!
قالت ليلى بغيظ :
_سألت عليك قالولي في مكتب جيهان، جيت لمكتب جيهان لقيتها خارجة ومشاء الله باين عليها مبسوطة ….
ودققت ليلى النظر بعصبية في زر القميص المفتوح ومعطفه المُلقى على المقعد … فرمقته بغيظ وتمتمت بكلمات غير مفهومة وهي تلتفت لجهة أخرى وتحدث نفسها بصوتٍ خافت بعصبية…
اقترب منها وجيه بنظرة ضيقة ودهشة ، وحاول أن يسمع ما تقوله فاستدارت فجأة لتجده خلفها محاولا استراق السمع …. فقال بحيرة :
_ أنتي بتكلمي نفسك ليه يا ليلى ؟!
قالت بتلعثم :
_ عادي يعني .. !
تجاهل الأمر ثم تحدث بجدية :
_ الأسبوع الجاي هيكون عندنا حفلة عائلية كده عشان كتب الكتاب … حضري نفسك انتي وريمو واستعدوا ….
قالت ليلى بحيرة حقيقية :
_ مش هقدر اقعد كتير للأسف … أنا مش هقدر اسيب بابا أكتر من كده يا وجيه، زيارتي ليه كل يوم مش مكفياني…. وكنت ناوية اتعالج وانا هنا جانبه … أنا عارفة أن الفترة دي هتكون صعبة علينا بس قلبي بيوجعني طول ما أنا بعيد وهو في الحالة دي.
قال وجيه متفهمًا :
_ الموضوع مش هياخد أكتر من ساعتين، وبأذن الله هجيبك هنا بعد ما نخلص وتقعدي مع والدك زي ما أنتي عايزة …. والصبح هزوره لنفسي وأطمنك عليه …. أنا حابب تكوني جانبي اليوم ده يا ليلى … أنتي بالذات.
ابتسمت ليلى ببطء وتذكرت نصيحة طبيبتها النفسية فتجاوزت شعورها بالغيرة القاتلة …. وليتها تستطع كل مرة أن تتجاوز الأمر دون ادراج شجار بينهما.
***********
واعتبر زايد أن مكوثه كالسجن بتلك الغرفة التي رغم رحبتها ولكنها تضيق أنفاسه ثقل وخنقة … فقد تسللت إليه الأخبار بأن بمدير المشفى هنا منذ الأمس وهناك حالة طوارئ بالمشفى بسبب حالة والده الصحية.
وذلك أثر بالسلب على ذهابه للأطمئنان على فرحة … فقد حذرته الممرضة بأن لا يثير انتباه المرور الأمني المكثف منذ الأمس لكي لا يُمنع تمامًا حتى من الأطمئنان عليها ولو من خلف النافذة الزجاجية…
وعليه أن يتحلّى ببعض الصبر لعدة أيام … وليت الصبر كان يعرف له طريقا !
وسخر بينه وبين نفسه للحظات.
المال لا يستطيع شراء كل شيء! …. بل أن المال لا يستطيع غير شراء الشيء الزهيد فقط !
أما اكثر ما يحتاجه البشر بالحياة مثل الأمان والحب والصحة والعافية، والسعادة … كلها أشياء ليس لها صكوك مالية.
كل ما سيستطيع فعله أن يجري اتصال مرة واحدة يوميًا عليها مثلما أخبرته الممرضة بتحذير..
فامسك هاتفه واعتدل بفراشه ثم أجرى الأتصال …. لتمر دقيقة ومثيلتها ولم يجيب أحد …وكرر الأتصال ثانية.
فأجابت فرحة بصوتٍ مبحوح من السعال … وقالت بثقل المرض :
_ مافيش داعي وجودك هنا … لو سمحت ابعد عن المستشفى عشان الفيرس ده متعب جدًا ….
ووجد في صوتها يأس والم …. وقلق أن يكون اتصاله ثقيل عليها أيضا فأجاب:
_ أنا قولتلك مش همشي غير وأنتي معايا !
فنفد صبر فرحة من كلماته المؤكدة وقالت بعصبية وعينيها تتلألأ بالدموع:
_ لو بتعمل كده عشان اسامحك فأنا سامحتك …. مع أني مكنتش ناوية اسامح يوم ما..
ولم تتابع … ولكنه فهم أنها تقصد ذلك اليوم الذي تم اختطافها فيه … فقال بندم حقيقي :
_ مأذتكيش ولا كنت ناوي أاذيكي، ولو عايز مكنتش هسيبك تمشي بالسهولة دي …. ولو تفتكري أنا فعلًا معملتش حاجة غير أني مكنتش عايز أشوفك مع اللي اسمه أمجد ده تاني .. حتى لو اعتبرتيه تهديد … لكن ده أقصى شيء كنت هعمله.
غضبت فرحة عندما تذكرت، ولكن ما جعل غضبها يهدأ حينما تذكرت أيضا أنها جرحت قدمه بعنف بواسطة سلسلة حديدية ولم يقدم على إيذائها رغم نزيف قدمه الشديد … فلو أراد لكان فعل بسهولة …
فصممت ولم تعطي تبرير لفعلته لنفسها أكثر من ذلك … حتى اعترف بشيء لم يكن يريد الاعتراف به … وهو ذلك الشيء اللذي جعله مثل المجنون بذلك اليوم تحديدا … ونطق والمرارة تملأ حلقه:
_ اليوم ده مكنتش تقريبًا في وعيي من الغضب والتوهة … تاريخ وفاة أمي …
لم يخبرها بكل شيء …. ولم يخبرها أنه بذلك اليوم صباحا لم يفكر في مخلوق يبعد عنه ولو بعض هذا الألم النفسي سواها!، ورؤيتها والتحدث معها حتى لو كانت غاضبة كعادتها….
ولكنه بذلك الصباح وجدها تقف مع أمجد تبتسم بحياء والأعجاب يطل من عينيها … ونظر إليها وقتذاك بعاصفة قهر تنهش روحه …. وزاد الطين بلّة عندما تركته يقف وسارت مع ذاك الطبيب جنبا إلى جنب دون أي اكتراث لوجوده…. وهو من أراد أن يتحدث معها فقط ….
وبعدها جن جنونه وكأنه عاد لسنواته المظلمة وهو حبيس غرفة ضيقة بمستشفى للأمراض النفسية والعصبية…
فأمر بخطفها في لحظة من الغضب الأعمى ولكنه ما أن رآها لم يستطع سوى التحدث بصوتٍ منفعل …. ولم يكن ينوي بأكثر من تهديد لكي تبتعد عنه … ومنذ ذلك اليوم وهو يندم على هذا التصرف الغبي والحقير منه.
وصمتت فرحة وتفاجئت بالأمر بعض الشيء… فهي تعرف شعور أن يمر تاريخ يوم رحيل أحد الوالدين … ولكن ليس عذرا كاف أيضا فقالت له بصوتً على ضعفه ولكنه غاضب:
_ رغم أن مش مبرر اللي بتقوله … لكن سامحت وبحاول أنسى.
وكان يشعر أن شق كبير من انفعالها هذا سببه المرض، فأكتفى بهذا القدر المناقشة لليوم … ربما الغد تخبرها الأيام وتؤكد لها صدقه.

 

 

*******
ومر بعض الوقت حتى وصلت سيارة يوسف أمام المنزل الكبير …. وترجل من السيارة وخرج الفتيات واحدة تلو الأخرى … حتى قال لهنّ:
_ رعد وصل أمكم ونعناعة واكيد هما وصلوا قبلنا بكتير …
توجهن الفتيات نحو المنزل حتى قال يوسف مجددًا لحميدة وسما تحديدًا :
_ عايز اتكلم معاكم شوية يا بنات …. بعد أذنكم يعني.
نظر الفتيات لبعضهن حتى قالت جميلة بتعجب :
_ طب ما اتكلمتش واحنا في الطريق لهنا ليه ؟!
أوضح يوسف وقال:
_ مكنش ينفع وأنا سايق العربية اتناقش معاكم بهدوء …. هسيبكم شوية على ما ترتاحوا ونتعشا سوا كلنا وبعدين نتكلم ….
قالت حميدة بموافقة لعلمها أنه بالتأكيد سيقول شيء هام وضروري قوله للفتيات :
_ خلاص يا يوسف … بعد العشا نتكلم …
قالت سما ببعض الشرود :
_ أنا مش جعانة …. وعايزة أنام
رد عليها يوسف بوضوح:
_ ماهو الكلام بخصوصك أنتي بالذات يا سما ..
قالت جميلة بفضول :
_ خلاص يا يوسف نتكلم الأول على ما العشا يجهز للي عايز ياكل …. حاسة أن في حاجة مهمة عايز تقولها.
أكد يوسف بإيماءة من رأسه وقال:
_ مهمة جدًا … هتغير ولو شوية من نظرتكم لأخواتي ..
نظر الفتيات لبعضهن في اهتمام وترقب ثم دخلوا جميعا للمنزل بعد ذلك الحوار السريع.
*********
وفي مكتب العم وجيه اجتمع الرباعي من الفتيات ويوسف … حيث قالت جميلة :
_ قول اللي عندك يا يوسف ..
أخذ يوسف نفسا عميقا قبل أي كلمة ثم بدأ يتحدث بجدية:
_ أولًا أنا اجلت الكلام اللي هقوله دلوقتي عشان لو كنت قولته من فترة مكنش حد هيصدقني فيكوا، وكنتوا هتقولوا بعمل كده عشان اكسب حميدة وبس !
بس بما أني كنت شاهد على كل اللي حصل في البلد وعارف كل واحد في دماغه إيه بالضبط فبقولكم أنهم والله العظيم صادقين معاكم وأن قرار رعد أساسه جدي مش انتوا خالص..
ثم نظر لسما وأشار لها بالحديث :
_ واللي عايز أوضحه لسما أن مافيش أي حاجة بين آسر وبين البنت اللي جاتله العناية الصبح .
قالت سما بسخرية تخفي كثير من المرارة:
_ الدكتورة حبيبة ! …. حبيبته القديمة لو مكنتش غلطانة !
ضيق يوسف عينيه وتأكد من ظنه ثم قال:
_ يبقى شكي كان في محله، أنتي سمعتي كلام آسر لما لقيناكي بليل على السطح واحنا في البلد مش كده ؟!
وجهت سما وجهها لجهة أخرى وعينيها يُضنيها الغضب … حتى أضاف يوسف بهدوء:
_ هي فعلا حبيبته القديمة أنتي مش غلط… بس اللي أنتي مش عايزة تشوفيه هو أسلوبه معاها ! …. حبيبة اتطلقت واتحايلت على آسر عشان تشتغل في المستشفى … وهو ساعدها تشتغل فقط ومش في نيته أي شيء لأنها أصلا مش في باله ولا فاكرها ….. بس هي من وقت ما اشتغلت وهي بتحاول بكل الطرق توقع في شباكها تاني زي ما انتي شايفة كده … أنما هو مش باله غيرك أصلًا وعايزك أنتي.
التفتت سما له بصدمة من قوله … رغم أن الأمر ليس مفاجئا لها … ولكن أن يأكده يوسف فهذا شيء آخر …. فقال يوسف متابعا:
_ آسر كتوم ومش بسهولة يخرج اللي جواه … وبيخاف يقول حاجة ويلاقي صد … بيخاف من الرفض جدًا … أظن كلامي ده هيوضحلك كتير من تصرفاته.
ابتلعت سما ريقها بتوتر وبدأت تفكر في حديث يوسف بجدية ….
وبعدها توجه لرضوى وقال بصدق :
_ أنتي لو تعرفي رعد بيحبك أد إيه هتفتحي صفحة جديدة معاه …. وبكرة الأيام تثبتلك… ونصيحتي ليكي كأخ أنك تعيدي حساباتك وتحاولي تتأكدي من حبه … مش تعندي وخلاص والمشاكل تكبر أكتر …
وبعدها نظر لجميلة وابتسم ابتسامة جميلة وقال:
_ عايز أقولك ياجميلة أن جاسر عمره ما فكر حتى يخطب مش يتجوز ! … ومن يوم ما رجعنا القاهرة وهو قطع كل علاقاته مع أي بنت وللحقيقة هما اللي باردين وبيجروا وراه …
قالت جميلة سؤالها بلهفة كشف حقيقة خوفها:
_ علاقاته دي وصلت لفين يا يوسف ؟….

 

 

اعترف بصدق:
_علاقات عابرة وسطحية وشوية كلام … مش اللي في دماغك والله…. ولو كنت أعرف عنه كده كنت قولتلك الحقيقة، أنتي أختي زي ما هو أخويا … ولو كان لسه بيكلم أي بنت برضو كنت قولتلك … وزي ما قولت هو عمره ما فكر في الخطوبة حتى … فكونه انه ملهوف بالشكل ده يتجوزك فهو حبك بجد وعايز يستقر.
وقال بابتسامة ماكرة :
_ بس قوليلي الأول … أنتي أهلاوية ولا زملكاوية ؟
دهشت جميلة من سؤاله العجيب هذا وقالت :
_ زملكاوية !
ضحك يوسف وقال :
_ يا خسارة …. فات علينا ضحك كتير ، أصل هو زملكاوي متعصب جدًا….ده بيحبسنا وينزل فينا ضرب لو الزمالك اتغلب في أي ماتش ! …. كان نفسي تاخدي حقنا منه المفتري ده.
ضحكت جميلة للحظات ثم قالت بنظرة ماكرة :
_ طالما كده … فأنا أهلاوية من النهاردة.
ضحك يوسف مجددًا وأضاف :
_ كده أنا عملت اللي عليا ..
وانتظرت حميدة أن يخصها ببعض الكلمات أيضا …. ولكنه ابتسم لها بمحبة شديدة وقال :
_ كتب كتابنا بعد كام يوم يا حميدة … مستني اليوم ده اكتر من أي شيء استنيته في حياتي ..
وتخضبت وجنتي حميدة بحمرة شديدة من الحياء فقالت جميلة بابتسامة مشاكسة :
_ نحن هنا على فكرة !
وابتسم الجميع للارتباك الذي اصبغ وجه حميدة بحمرة شديدة …. حتى قال يوسف بسعادة :
_ الحمد لله .. خلينا بقا نرتب لكتب الكتاب.
*******
وأتى اليوم الموعود بعقد قران الفتيات …. وذلك عقب خروج الجد رشدي من المشفى بعدة أيام وتحسن حالته الصحية جزئيًا …
وكان قد حضر العمدة وزوجته منذ يوم الأمس ….
وبصباح هذا اليوم الموافق يوم الجمعة …. اجتمعت عائلة الزيان حول مائدة الافطار … وعلى رأسها الجد رشدي كعادته … ولكن اليوم كان مميزا بحضور “وداد” وشقيقها العمدة وزوجته الذي لقوا ترحاب كبير من العائلة بجميع أفرادها …
وكان بالأجواء بهجة الافراح … تتسلل عبر الأنفاس بارتياح ونشوة …. وبركة الحلال.
فقال العم وجيه بابتسامة للشباب :
_ بعد الفطار عايزكم في المكتب يا شباب ….
ولم تنقطع نظرات جاسر المشاكسة عن جميلة التي كانت تتجاهله، ولكنها سرا تضحك على تصرفاته …. فقال جاسر بمرح :
_ أنت رجعت في قرارك ولا إيه يا عمي ؟! ….
قال وجيه بضحكة خافته :
_ لا يا لمض …. بس عايزكم في حاجة كده.
قالت ريميه بابتسامة واسعة :
_ ماما جابتلي فستان جميل أوي وهلبسه النهاردة يا بابا …
وضمت الصغيرة قطتها بسعادة وهي تجلس على قدمي أمها …. فقبلتها ليلى من رأسها بحنان وهمست :
_ هتكوني فراشة صغنونة قمر …
تطلع بها وجيه بمحبة شديدة وفعل مثل ليلى وقبلها على رأسها وهمس قائلا :
_ أميرتي الصغيرة …. الأميرة ريمولينا.
وتدخل جاسر لها للصغيرة وقال :
_ الفستان اللي هتلبسيه يوم الفرح بقا هيتصمم مخصوص ليكي يا ريمو… هتبقي قمر.
سعدت الصغيرة بقوة ثم همست لأمها قائلة بتساؤل:
_ ماما هو أنا قمر ؟
فسمعها يوسف وقال بتأكيد :
_ أنتي أجمل من القمر نفسه …
دفنت الصغيرة وجهها الضحك بجسد قطتها وتطلع بها الجميع بمحبة …. ثم قال الجد رشدي للعمدة :
_ بعد الفطار يا عمدة نقعد في الصالون نتكلم شوية بخصوص ترتيبات الفرح …. قدامنا شهر نخلص فيه كل حاجة.
قالت زوجة العمدة :
_ بأذن الله نقدر نخلص كل حاجة.

 

 

رد عليها وجيه بتأكيد :
_ ما تقلقيش … كل شيء هيخلص قبل المدة دي كمان .. والبيت كبير وفي الوقت ده هيكون خلصنا كل التجيهزات …
وكان وجيه بدأ بالفعل منذ أيام بترتيب الطابق الثاني بأكمله وتنظيمه لأربع غرف واسعة جدًا، وكل غرفة أقرب إلى شقة صغيرة بكل احتياجاتها ومرافقها….
وبعد انتهاء الأفطار الصباحي أخذ الجد رشدي العمدة والصبي وزوجة العمدة للصالون …. واخذت جيهان وليلى الفتيات وأمهن ليستعدن لعقد القران عقب انتهاء صلاة الجمعة ….
أمام وجيه فقد أخذ الشباب لمكتبه مثلما أتفق معهم…
وفي المكتــــب …..
وقف وجيه أمامهم بثبات … ثم قال بجدية :
_ النهاردة كتب الكتاب …. والفرح فاضله شهر على ما نجهز كل حاجة ….. مش عايز أعرف أن واحد فيكم تعدى حدوده …. مش عايز أي مشاكل وخلوها تعدي على خير … من النهاردة لازم تتعلموا تستخدموا العقل والحكمة قبل العصبية والتسرع …. ماينفعش بعد النهاردة تعتمدوا عليا في حل مشاكلكم ! …. والبنات ان كانوا وافقوا فمنسيوش لسه اللي حصل في البلد …
قال جاسر بابتسامة ماكرة :
_ هنسيها كل اللي حصل ماتقلقش خالص يا عمي .
اقترب وجيه بنظرة تحذيرية جدية لجاسر وقال بشبه تهديد:
_ أنت بالذات يا جاسر لو وصلني وعرفت أنك عملت حاجة تضايق جميلة أو تقصر رقبتي قدامها وقدام امها وخالها مش هرحمك …. اتأدب لحد ما تبقى مراتك ومعاك ….
قال جاسر بغيظ :
_ ما النهاردة كتب الكتاب يا عمي !
رد وجيه بحدة :
_ في أصول وأدب حتى لو كاتب كتابك عليها …. وعمومًا أنا واثق فيها … مش هتسمحلك اصلًا تتعدى حدودك معاها لحد يوم الفرح.
اكد يوسف وقال وهو يكتم ضحكته على غيظ جاسر :
_ كده صح يا عمي … ده أنا خايف بعد كتب الكتاب ياخدها ويسافروا شهر العسل ! ده مجنون ويعملها !
نظر وجيه ليوسف بابتسامة وقال :
_ أنت مايتخافش منك يا يوسف …. بتفكر صح وعارف حدودك
قال جاسر بسخرية وضحكة :
_ ده مكار وخبيث يا عمي هو بس اللي شكله أهبل كده !
عبس وجه يوسف وقال له بحدة :
_ مكار وخبيث في الصح وفي الوقت الصح … مش زيك متهور ! ، كل حاجة في وقتها حلوة…. متقعدش جميلة معاه النهاردة ياعمي لتصبح خائفة من شيء ما !
ضحك الجميع على نظرات جاسر المتوعدة بالانتقام ليوسف … حتى قال وجيه بضحكة :
_ دي اللي هتعيد تربيته من أول وجديد متخافش عليها …
وافقة يوسف وقال ضاحكا :
_ عندك حق …. ده مابيقدرش يتنفس قدامها !
وعندما نظر وجيه لآسر قال له بهدوء :
_ أنا واثق في عقلك يا آسر …
فقال جاسر بسخرية مرة أخرى بتمتمة :
_ بس ربنا يبعد حبيبة وريهام عنه وهيبقى زي الفل .
ابتسم آسر لعمه وقال بتأكيد :
_ مش هتعدى حدودي يا عمي متخافش ….
ولاحظ رعد أن عمه قليل الكلام معه بالآونة الأخيرة … فانتظر حتى انتهى حديثه مع آسر ثم مضى اليه وضمه فجأة معتذرا وقال :
_ أنا عارف انك زعلان مني لسه ومابقتش تتكلم معايا زي الأول …. بس متأكد أن الحضن ده هيصالحنا على بعض .
ابتسم وجيه وهو يعانقه بمحبة أبوية وقال بصدق:
_ مقدرتش اعاقبك … واللي قدرت اعمله بعدت شوية.
ابتعد رعد قليلًا ونظر لعمه بمحبة شديدة وقال :
_ يمكن اللي حصل للعيلة من وقت ما البنات ظهرت كان كله مشاكل …. بس كانت احسن مشكلة واجهتنا عشان تضيع أي زعل محدش عارف يقوله ويعترف بيه … دلوقتي يا عمي نظرتي لقرارات جدي اتغيرت …. بقيت بعمل كل اللي بيقوله بحب ومتأكد أنه في مصلحتي …. حتى بقيت بحب شغلي واهتميت بيه أكتر …. وفرحان أوي لأول مرة أفرح كده … كمل فرحتي وقولي أنك مش زعلان مني ؟
انشرح صدر وجيه للسعادة الملتمعة بأعين الشباب بقوة وقال بابتسامة صادقة :
_ محدش بيزعل من ولاده …. الف مبروك يا حبايبي .
والتف الشباب الأربعة بين ذراعي بضحكات وتهنئة وسعادة تغمرهم بصدق ..
*********
أدت وداد فرض صلاة ظهر الجمعة وهي جالسة بمكانها … وفعلن الفتيات مثلها … وكانت ليلى مؤخرا تعلم أبنتها حركات الصلاة … فما أن بدأ ليلى تصلي حتى تذكرت الصغيرة ما علمتها أمها بالأيام الفائته وبدأت تصلي … كانت حركاتها سريعة وهي تحرك شفتيها بالفاتحة … وتأملت جيهان صلاة الصغيرة في استحياء من تقصيرها بعمرها الفائت في أداء الصلاة …
وما أن انتهى الفتيات من الصلاة حتى استعدوا للتزين بمساعدة جيهان وليلى …
وكانت وداد تتأمل بناتها في دعوات ودموع وابتسامة لم تنقطع من شفتيها طوال اليوم….
كل فتاة منشغلة أمام المرآة بوضع أشياء رقيقة من مساحيق التجميل ويساعدن بعضهن ويضحك أحيانا على جهلهن بأسماء مساحيق التجميل…
وتخلت كل فتاة اليوم عن ضيقها وما تخاف منه …. وتركن السعادة تأخذ مكانها اليوم …. وبينما اعلنوا الفتيات الأربعة انتهائهن من التزين ارتفعت زغرودة مفاجئة من فم الأم …
اتسعت اعين الفتيات بدهشة وسعادة ….. فأمهن لم تفعل ذلك منذ رحيل زوجها بأي مناسبة تخص الجيران والأقارب بالبلدة الريفية …
ومضوا اليها في عناق ومحبة وقابلتهن بدموع الفرحة ….. حتى فتح وجيه الباب بعد عدة طرقات وأخذ كل واحدة في عناق حنون ودافئ وقبلة على الرأس …. ثم قال :
_ تعالوا معايا عشان تمضوا على القسيمة … ربنا يتمملكم بخير …
وطلت الفتيات الأربعة بفساتين من نفس اللون “السيمون” اللامع برقة …. يشهبن الزهور بأشد أوقات الربيع … اما الصغيرة كان ردائها يشبه الفراشة الزرقاء الصغيرة … فحملها وجيه وهمس لها وأثنى على مظهرها فضحكت بزهو …
وبعدها ارتفعت أصوات الزراغيد مجددًا والفتيات يهبطن مع العم درجات السلم حيث التجمع العائلي بالطابق الأرضي …
*********
وترك الشباب الأربعة الاربعة زاوية المأذون وتحركوا اتجاه السلم … ووقفوا الاربعة في خط واحد وبدا عليهم أناقة شديدة وكل واحدًا منهم يرتدي حلّة سوداء جعلته بأوسم طلة ظهر بها، ووقفوا بأنتظار الفتيات بشوق عاصف …. فهمس يوسف وقال بابتسامة سعادة:

 

 

قال جاسر بضحكة :
_ وحشتني بغباء بنت اللذينا … يمكن عشان بقت مراتي !
فقال رعد بشوق ضج بعينيه :
_ محضرلها كلام النهاردة كتير …
حتى قال آسر بنظرة يغمرها اللهفة لرؤية سما التي ستصبح زوجته بعد لحظات :
_ محستش بالفرحة دي قبل كده … نفسي أشوفها أوي.
حتى طل الفتيات من بعيد وعمهن يتقدمهن وهو يجمل الصغيرة وحولهن نساء العائلة …. اتسعت ابتسامة جاسر وهو يرمي غمزة لعينان جميلة من بعيد وقال:
_ الشبح ظهر أهو …. دي بتنزل على قلبي مش على السلم !
حملق يوسف عينيه بقوة وقال وهو ينظر لحميدة بتفحص :
_ الله … شكلهم حلو أوي كده ليه … ؟! …
ابتسم رعد بنظرة ماكرة لرضوى التي تخضب وجهها حمرة عاصفة …. وقال :
_ كنت عارف أنها حلوة … بس مش للدرجة دي !
بينما صمت آسر شاردا بابتسامة بتلك العينان التي يملأها الحياء وتتهرب من عينيه بارتباك شديد.
أتى الصبي نعناعة وقال لهم بضحكة ليفصحوا الطريق للفتيات :
_ كتفك كده يا دكتور أنت وهو خليهم يعدوا ! … وسعوا الطريــــق !
ومر الفتيات تحت أنظار الشباب المدققة بقوة فيهن … حتى جلسن بزاوية خصصت لهن وتم توقيع وثيقة الزواج لكلا منهن … وتم اتمام عقد القران مع أصوات الزراغيد والمباركات من بعض الأصدقاء والأقارب …. سوى عائلة عاصم هم من لم يحضروا حفل عقد القران … ومر الوقت حتى ذهبت ساعات النهار ببطء وانصرف المدعوون من الحضور ..
واستأذن الشباب من العم وجيه والجد رشدي الذي جلس يضحك بقوة مع الفتيات … بأن كل واحدا يأخذ زوجته ويتحدث معها على انفراد لبعض الوقت … ووافق وجيه والجد ولكن تحت نظرات وجيه المحذرة والمذكرة لما قاله بالصباح ….
فأخذ رعد رضوى من يدها برقة شديدة وتوجه بها اتجاه الحديقة … وفعل مثله الشباب الثلاثة واتخذ كل ثنائي زوجته لمكانً ما ليتحدث معها ….
وبالحديقة ….
كانت الشمس قاربت على المغيب …. إلا سحب بعيدة قرمزية تودع الضياء بطقسا بارد بعض الشيء ….
وكانت رضوى تحاول سحب أصابعها من قبضته ولكنه تشبث بها بقوة … ولم يخفى عليه رجفتها وارتباكها الشديد …. وحينما وقف في زاوية بعيدة عن الأعين كادت أن تسحب يدها وتعترض على شيء …. فجذبها اليه فجأة وكليًا وضمها بقوة وابتسامة تشق تعابير وجهه وعينيه ….
تخشب جسدها للحظات بصدمة … وبصعوبة حتى انتزعت نفسها من ذراعيه … ولكنه لم يضيق بل امتلأت عينيه بالدفء والعشق وقال بهمس :
_ مكنتش هعمل أكتر من كده ما تقلقيش مني … أنا وعدت عمي .
التمعت عينيها بدمعة لخيانة مقاومتها لها واستجابة قلبها له … حتى اقترب مجددًا وقبّل رأسها ببطء وبرقة جعلت جسدها يرتجف بشدة …. ثم نظر لعينيها البندقيتان وقال هامسا :
_ مستحيل كنت اسيبك تبقي لحد تاني …. أنتي ليا انا وبس …. حبيبتي وكل حاجة ليا …
ابتلعت ريقها الذي جف تقريبًا … حتى ابتسم بعشق قائلًا :
_ رضوى …. أنا بحبك بجنون.

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *