روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثامن عشر 18بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثامن عشر 18بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الثامن عشر

رواية يناديها عائش الجزء الثامن عشر

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثامنة عشر

“لا تجعل فوضى الحياة تُقلقك؛ فالله يتولى ترتيبها ‏بطريقة مبهرة.
…..
–أنا هموت من الرعب ياهاجر.. أنا كل ده كنت في غفلة.. معرفش إني هخاف عليه كده.. أنا كنت بدعي عليه يموت.. خايفه يروح مني ياهاجر
“قالتها عائشة بعيون ذابلة من كثرة النحيب والبكاء وهي تحتضن هاجر بشدة والآخيرة تواسيها متألمة”
عجزت هاجر عن مهدهدتها؛ فظلت تُربت على ظهرها وتمسد على شعرها كما لو أنها والدتها.
وبعد مرور خمسة عشر دقيقة تقريبًا، نظرت الإثنتنان لبعضهما البعض بمعالم وجه خالية من أي تعبير سوى تعبير الدهشة، الدهشة فقط التي اجتاحت ملامحهما، يصحبهما عدم الفهم.
سمعت كلتاهما صوت يعرفانه جيدًا يقول بأن “محمود الخياط” قد توفاه الله !
صوت عمهم مصطفي يقوم بالنعي لشقيقه، لقد تُوفي والد عائشة..فقدت عائشة عظام ظهرها، بل كُسرت جميعها بموت والدها.
نطقت عائشة بصوت مهزوز متقطع

— مـات ! بابا.. مات !
تلجلجت هاجر وحاولت إخفاء دموعها، فلم تعرف ماذا تقول وبما تواسيها؛ فاكتفت بمعانقتها لتبكي بدون صوت.
دفعتها عائشة بعد دقائق من استيعابها الأمر، ثم هبّت واقفة لتصرخ
–بابا مات ياهاجر .. بابا مات
حاولت هاجر تهدئتها بكل الطرق، فجائت جميعها بالفشل.
قامت عائشة بدفع الباب وهي تندفع بكامل جسدها للخارج في حالة من الإنهيار والنحيب والحسرة؛ فإصطدمت ببدر الذي تزامن مجيئه لإبلاغهم الأمر إستعدادًا للجنازة، مع إندفاعها من الغرفة؛ فسقطت بين ذراعيه مغشية عليها بعد أن رمقته بنظرة إنكسار، كأنها تودّ إبلاغهُ بأنها لم يعد لديها أحد.
لم يتردد بدر لحظة واحدة وحملها فورًا، ليدخلها لغرفة شقيقته التي وقفت تبكي وترتعد بقوة، وضعها بدر على الفراش ثم دثرها وستر كامل جسدها حتى أنه نسي أمر عمه والجميع وأخذ يبحث في خزانة هاجر عن وشاح يغطي به شعرها، وجد خِمارًا أمامه، فألبسه لها ثم ألقي عليها نظرة أخيرة قبل أن يخرج، ليتنفس بعمق قائلًا

–فوقيها ياهاجر وخليكِ جنبها
بإيماءة رأس ودموع منهمرة أجابت
–حاضر
كاد أن يخرج ولكن استوقفته هاجر لتقول وهي تنظر بشفقة لعائشة
–متسيبهاش يابدر.. عائشة معتش ليها غيرك بعد ربنا.. إحنا عمرنا مهنقدر نحتويها زيك.. حبنا لعائشة موصلش لدرجة حبك وإدمانك ليها.. متستغربش عشان بقولك الكلام ده في الظروف دي.. بس عائشة مش هتتعافى من موت أبوها إلا بيك.

ترقرقت الدموع في عين بدر فمسحها سريعًا ليتمتم مبتسمًا

–أنا روحي في عائش.. مفيش حد بيعيش من غير روحه
بادلته هاجر الإبتسامة البسيطة قائلة

–ربنا يجمعكم على خير ويرحم عمي ويغفرله
تذكر بدر موت عمه والمصحف في يده، فتبدلت ملامحه للبشاشة ليهتف سريعًا

–ابشري ياهاجر.. عمك مات على حسن خاتمة..بإذن الله هو من أهل الجنه.. عقبالنا ياهاجر
إكتفت هاجر بالإيماء والإبتسامة الحزينة، وهي تعيد ماقالته الطبيبة لها.. أحست بأنها تريد أن تخبر شقيقها بأن الجنازة القادمة ستكون لتشيع جُسمانها ولكن عقلها أبىٰ أن يزيد الأمور سوءًا.
خرج بدر وهو يظهر الصلابة والتماسك، فالجميع في العائلة يعتمد عليه.
استدعته والدته وهي تبكي وبجانبها زوجة عمه مصطفى، قالت والدته بحزن يشوب ملامحها الخوف

–هو.. هو مات ازاي.. يعني.. أقصد.. بسبب الفد…
فهم بدر ماتقصده، فقاطعها ليطمئنها قائلًا

–مات على حسن خاتمة.. مات قبل مايشوف الفديو.. ادعوله ربنا يرزقه الجنة.
ترحمت الاثنتين عليه وأخذوا يبكون في صمت، بينما بدر ذهب استعدادًا لتغسيل عمه وتكفينه.
____

لا يُوجَد أحَدْ مَضمُون فِي هذَه الدنيَّا، فحَتَّى قُلوبَنَا التِي هِي لَنَا سَتَخْذِلُنَا يَومَاً مَا وتَتَوَقفُ عِنْ النَبْض.

****

تحاملت روان على نفسها واتكأت على الفراش بجانبها لتنهض وتهرب من براثن هذا المتوحش، ولكنه استطاع اللحاق بها وجذبها من ملابسها بقوه ثم ألقى بها أمامه أرضًا كما يُلقي وسادة.
صاح سيف بغِل واضح على معالمه

–تعرفي ياروان.. أنا ندمت إني حبيتك..
لحظة ! هل قال أنه أحبها ؟!
هل حقًا كان مغرمًا بها؟!…
توقفت روان عن البكاء وأخذت تنظر له في شك وريبة مما قاله، لم تستوعب قطّ أنه سيقع في غرامها، أو سيحبها حُبًا خارجًا عن كل مصادر الزيف.
نعم.. لقد سمعت تلك الكلمة منه مرارًا، ولكنها لم تهتم وظنت أنه يتصنع الحُب لأجل غرضٍ ما مثله كمثل باقي الشباب الذين يجرّون الفتيات للوقوع في مصائدهن مدعين أنهم يحبوهنّ.
على الرغم من أنها تعترف لقلبها بعشقها له، ولكنها أخذت عهدًا على نفسها ألا تخبره بذلك، حتى لا يستغلها ويجرّها للخطيئة كما تظن هيّ، وبرغم أفعالها الحمقاء السيئة التي يشهد هو عليها؛ إلا وأنها ظلت محافظة على نفسها وجسدها من التدنس بالفواحش والآثام.
لِمَ لم يخبرها سابقًا أنه يُحبها؟

راودها هذا السؤال فعجزت عن معرفة الإجابة، الآن ورغم ندمها الشديد على ماارتكبته من ذنوب قبل توبتها، إلا وأنها تأثرت بما قاله.. لم تستطيع منع نفسها عن الإستمرار في حبه بصمت.

وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من الدروس التي تقدمها لنا الحياة، قد

نفشل في اتخاذ القرار المناسب تحت تأثير العاطفة، كما حدث مع روان،تشتت ذهنها وغاب إدراكها عن الخطوة المناسبة التي ستتخذها بشأن هذا الوسيم الأحمق، الذي يصرّ على العِناد والإستمرار في الخطأ.
بنبرة متحسرة ضعيفة غمغمت روان

–في حد بيحب حد ويبهدله كده ؟
بصق سيف جانبه بإشتمئزاز ليقول ساخرًا

–كنت.. كنت بحبك.. بس لقيتك متستاهليش إني أعرفك.. ولما لقيتك مُصّره على الطريق الغلط اللي ماشيه فيه.. قلت في نفسي إنك مش الشخص المناسب ليا.. متنفعيش تشيلي اسم عيلة الخياط المحترمة.
“وإنت حاسب نفسك ضمن المحترمين؟!”

قالتها روان وهي تبتسم بدموع تخالطها نظرة الإستنكار مما يقوله.
زادت جملتها من تعصب وعدوانية سيف فهتف غاضبًا محتنقًا

–محترم غصب عن المخلفينك.. يابت ده إنتِ سايبه ملكيش حاكم ولا أهل.. أمك سابتك بعد مااطلقت من أبوكِ واجوزت وخلفت ونسيتك.. وأبوكِ نفس النظام وسايبك تعملي اللي تعمليه.. مين اللي هيبصلك.. ده مغفل اللي يحب واحده زيك..!

انهارت روان أمامه باكية بشدة من قسوة كلماته التي تعرفها تمامًا وتكره سماعها.
ولكن سيف لم يكفْ عن ذلك بل تابع هازئًا

–لا وإيه..عامله نفسها شيخه.. قال توبت قال.. توبتِ!؟.. ده أنا أصدق إن الأهرامات في الجزائر ولا أصدقش إنك توبتِ..لا بس حلو التمثيلية دي.. عاملاها لمين بقا إن شاء الله ؟
هزت روان رأسها بقلة حيلة وهي مازالت تبكي وتتألم لكلامه دون أن تجيب، لم تعرف مالذي تقوله، ولكنها سألته وهي تنهض
–إنت عايز إيه مني؟
تسبب هذا السؤال في حيرة سيف، فهو بالفعل لا يعرف مالذي يريده منها، هو فقط يريد أن يتشفى من أوجاعه التي سببها له “بدر” شقيقه الأكبر والمسيطر على كل شيء كما سوَلت له نفسه.
انزلق لسانه هاتفًا

–أنا بكرهك ياروان.. بكرهك وبكره بدر وهاجر والدنيا كلها.. انتم بتداروا بإسم الدين من وساختكم.. إنتم أحقر ناس عرفتها في حياتي.. أنا معرفش عايز منك إيه.. بس إنتِ حرقتيلي دمي بالمسكنة بتاعتك دي.. وأنا ياروان فيا اللي مكفيني ومش هسيبك بسهوله كده تمشي.

هرعت روان نحو الباب لتطرق عليه بقوة صارخة بشدة، تتمنى أن يسمعها أحد ويغيثها من نواياه الخبيثة، ولكنه استوقفها ضاحكًا كالمجانين ليقول

–محدش هيسمعك.. العمارة دي مفيهاش سكان كتير والدور اللي إحنا فيه متسكنش لسه

“بس ربنا سامعني.. ربنا ينتقم منك ياسيف”
قالتها روان وهي تبحث بعينيها عن أي مخرج تهرب منه.
جزّ سيف على أسنانه بغيظ من دعاءها عليه، وأقبل نحوها بغضب أعمى كأنه يسير بلا رؤية نحو هدفه الذي خطط له شيطانه.
هجم سيف على روان؛ فسارعت بركله تحت الحزام مما جعله يجث على ركبتيه متأوهًا بألم شديد، استغلت روان الفرصه ودفعته ليقع على ظهره ثم أخذت منه المفتاح واستطاعت فتح الباب وقبل أن تخطو قدماها للخارج،سحبها بقوة وحملها من خصرها ليدخلها رغمًا عنها، ولكنها استجمعت شجاعتها لتقاوم بكل ماأوتيت من قوة.
______

الكثير منا يتمنّى الموت في لحظات الانكسار، ظنّاً منه أنّ الموت هو الحلّ الوحيد، والنهاية السعيدة لسلسلة العذاب، لكن هل سأل أحدنا نفسه يوماً ماذا بعد الموت.

***
اتجه بدر لغرفة عمه، بعد أن قام زياد بتجهيز الكفن ولوازم تغسيله كما أخبره بدر، شرع الآخير في تغسيل عمه ونزع ملابسه عنه، ولم يحتمل بدر فراقه؛ فأجهش بالبكاء، بقي هو وزياد معه بالغرفه، بينما مصطفى والد زياد، بدأ في تجهيز العزاء لدفن أخيه وهو يكتم الدموع بصعوبة.
قال بدر وهو يتحاشى النظر عن عورة عمه
–الفراق صعب أوي يازياد.. بس الموت علينا حق..

أومأ زياد هامسًا

–الله يرحمه ويرحمنا جميعًا… كلنا هنبقى مكانه لما يجي ميعادنا.
أومأ بدر بتفهم وصمت، فبرغم أن عقله يحاول استيعاب موت عمه، إلا وأنه مدرك للحقيقة الحتمية للموت، وعلى المسلم الذي يدرك حقيقة الموت والحياة أن يتجهّز لهذا اليوم، ويضعه أمام عينه طوال حياته، فإنّه اليقين الآكد بين حقائق الدنيا كلّها، قال الله -تعالى- لنبيّه الكريم: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)،فلو كان أحد ناجيًا من الموت لنجا منه الأنبياء أوّلاً.
نوى بدر نية تغسيل الميت، ثم أجلس عمه بمساعدة زياد، ليصب الماء عليه برفق، ويمسح على بطنه مسحًا خفيفًا؛ حتى يخرج ما في بطنه من بولٍ أو غائطٍ إن وُجد.

وبعد ذلك يُغسل أسفل الميت، وذلك بعد أن يلبس المغسّل “بدر” قفّازًا فينجيه.
استخدم بدر الماء والمسك في التغسيل ، وبعد أن انتهى، جاء وقت التكفين بالقماش الأبيض، فكفنه بمساعدة زياد بثلاث لفائف بيضاء بعد أن جفف جسده من الماء، ليحين وقت الصلاة عليه في المسجد ثم انزاله لداره “القبر”.
قبْله بدر من جبينه وكذلك زياد، اللذان لم يتوقفَ عن البكاء منذ بداية تكفينه بالقماش الأبيض.
لحظات وانتفض الاثنين من مكانهم، فور هجوم عائشة على الغرفة تصرخ وتنتحب وتردد بإسم والدها.
بعد أن قامت هاجر بإيفاقتها، نظرت عائشة للخِمار الذي ترتديه لوهله، لكنها لم تعقب على ذلك، واندفعت لبيتها تصرخ وتبكي، ولم تستطيع هاجر ولا عماتِها أن يوقفوها.
اندفعت عائشة نحو والدها المُكفن لتبكي بشدة هاتفة

–متسبنيش يابابا.. ارجع وأنا هسمع كلامك.. أنا مليش غيرك يابابا.. متسبنيش لوحدي.. ابوس ايدك اصحى.. متموتش يابابا… يارب سيبه.. ياارب

أخذت تبكي بإنهيار وجنون وهي تريد نزع الكفن عنه، لتُقبْل يده، ولم تكفْ عن محاولة فك الكفن، حتى ابعدتها هاجر بصعوبة وهي تواسيها

–خلي عندك ايمان بربنا ياعائشة.. باباكِ راح عند الأحسن مني ومنك.. ادعيلوا وبلاش تصوتي.. انتِ كده بتإذيه.
بينما وقف الشابان يشاهدان مايحدث بقلة حيلة وعجز تام، خرج بدر عن صمته أخيرًا ودهشته لمجيئ عائشة ليقول بثبات مصطنع

— إنتِ مش لوحدك ياعائش.. كلنا معاكِ
” بس أنا عايزه بابا.. أنا عايزه بابا يابدر”

قالتها عائشة وهي تبكي وتحتضن والدها
ذلَّ لسان زياد ليهتف بدون تفكير

–أبوكِ سابلك وصية.. هو مش زعلان منك.. وعاوزك تجوزي بدر.. وعلفكرة وصية الميت لازم تتنفذ.. عشان.. عشان أبوكِ يرضى عنك ويرتاح في تُربته.
رمقه بدر بنظرة جعلته يراجع ماتفوه به كالأحمق، فأخفض رأسه خجلًا من المأزق الذي وضعهم به، حتمًا ستعرف عائشة بماضي والديها، وذلك ليس الوقت المناسب لإخبارها بالأمر.
تمتم بدر بغيظ وهو ينظر له بغضب

–استغفر الله العظيم.. استغفر الله وأتوب إليه.. ليه كده ياشيخ حرام عليك.. إحنا في إيه ولا إيه.
زفر زياد بضيق قائلًا

–أنا كنت عاوزها تهتدى مش أكتر.. غصب عني يابدر.. في إيه
قاطعتهم عائشة لتقول بدموع

–أنا عايزه أعرف كتبلي إيه.. عشان خاطر عمك يازياد وريني الوصية.
تلجلج زياد ليقول بتفكير
–مهو.. هي مش معايا

نظرت عائشة لبدر ولكن زياد سبق لسانها قبل أن ينطق بشيء ليقول مسرعًا

–الوصية مع عمك مصطفى وهو بيجهز للعزا دلوقت.. بعدين ياعائشة اقرأيها

أغمض بدر عينيه متنفسًا بعمق ثم قال موجهًا حديثه لزياد

–يلا عشان نحطه في النعش ونصلي عليه..
هتفت عائشة وهي تعاود احتضان والدها وتبكي وتأن بقوة

–لأ.. مش دلوقت.. سيبوني معاه شوية

قالت هاجر بهدوء

–سيبوها مع أبوها شوية
ثم تابعت هامسة بالقرب من عائشة وهي تمسح بحنان على ظهرها

–ربنا يصبرك ياحبيبتي.. أنا هستناكِ برا
اومأت عائشة دون أن تنطق، وخرج ثلاثتهم، ليجلسوا بالخارج لدقائق، بينما عائشة قبْلت جبهة والدها؛ لتمسح دموعها بصعوبة قائلة

–سامحني يابابا.. أنا غلبتك كتير..مكنتش أعرف إنك هتروح مني بالسرعة دي.. يمكن موتك هو عقاب ربنا ليا عشان أنا استهونت بنعمته.. إنت كنت النعمه الوحيدة في حياتي اللي بنكر وجودها.. بس خلاص.. انت روحت وسيبتني لوحدي.. أنا معرفش إنت سامعني ولا لأ.. بس أنا من غيرك مسواش حاجه.. حقك عليا يابابا.. أنا هزورك علطول.. والله هزورك وهدعيلك وهقرألك قرآن وهصلي.. أنا هغير من نفسي يابابا.. ارتاح ياحبيبي ومتقلقش عليا.
تأملته عائشة لدقائق دون أن تتوقف عن البكاء لحظة، لتتابع مبتسمة ببساطة

–وشك منور خالص يابابا..أنا حاسه إنك هتخش الجنة.. لما تروح الجنة يابابا.. قول لربنا يسامحني وميسبنيش لوحدي.. يمكن مستاهلش.. بس مهما الواحد يعمل من ذنوب بيلف يلف وفي الآخر بيرجع للي خلقه.. وأنا مليش غير ربنا.. قوله يسامحني يابابا.

بينما في الخارج، قطع صمتهم ملاحظة هاجر لشقيقها وهو يفرك يده ويزفر بإرتباك جلي عليه، فقالت متسائلة

–بدر.. في إيه؟
هتف بدون تفكير

–أنا مش مرتاح.. أنا خايف.. قلقان عليها.. هي ليه غابت كده؟!
تدخل زياد ليقول متنهدًا وكأنه يقصد شيء من عبارته

–الفراق صعب
“والأصعب إننا بنشتاق لشعور قديم ولحظات نتمنى انها تنعاد”
قالتها هاجر بل انزلق لسانها بها وكأن قلبها الذي تحدث وليس لسانها.
لوهلة نظر زياد لهاجر وبادلته النظرات بعتاب ولوم ومشاعر مختلفة ثم أشاح كل منهما بصرهم عن الآخر.
هبّ بدر واقفًا وقد كان شارد الذهن تمامًا مع صغيرته التي غابت بالداخل لأكثر من نصف ساعة؛ فطرق بدر على الباب برفق ثم فتحه لتنتبه عائشة لصوت الصرير المنبعث من الباب، وقد بدا على وجهها الإنتفاخ من كثرة البكاء وتورمت عيناها وتحول لونها للأحمر المترغرغ بماء الدمع..
غمغمت عائشة وهي تبتعد عن والدها بصعوبة

–مش قادرة استوعب إنه راح ياأبيـه

بإبتسامة مواساة بسيطة قال بدر

–كلنا لله راجعون.. دعوتك هي اللي هتوصله.. كفايا عياط وندم.. مش هيرجعوا اللي راح.. دعوتك لأبوكِ هتخليه مرتاح.
أومأت بقلة حيلة، لتعود للبكاء بصمت، ثم توقفت منتبهَ للصوت الذي مدحها قائلًا

“الخمار حلو أوي عليكِ.. خليكِ بيه علطول”
كان هذا صوت زياد الذي فاجئهم بمدحه لعائشة، مما جعل بدر يرمقه بغيرة وغضب هاتفًا بدون تفكير لثانية

–إنت بتقول إيه.. إتهبلت في نافوخك ؟؟؟
تعجب زياد من حدة بدر، فهو بالفعل لم يقصد شيء مما يظنه بدر.. أجاب زياد بهدوء

–في إيه يابدر.. أنا مقصدش.. يعني.. بعتبرها زي أختي مش أكتر
تنفست هاجر بعمق لتنهي هذا الشِجار الصبياني قائلة بعقلانية

–لاحظوا إننا في وضع ميسمحش للي بيحصل ده.. فين حُرمة الميت الله يهديكم
أخفض الإثنين رأسهم بخجل

وشعر بدر بأنه تمادى في غيرته، فلم يدرك مالذي تفوه به، أو يبدو لأن ضغط الصعاب ازدات عليه؛ فاانتهز أيّ فرصة ليخرج شحنات غضبه وكان ابن عمه هو الضحيه؛ ولأن زياد يفهم بدر جيدًا، فلم يغضب منه.

حان الوقت للصلاة على عمه واكرامه استعدادًا لأسئلة الملكين.
جاءهم مصطفى شقيق والد عائشة ليخبرهم بأن يتأهبوا لحمل عمهم ووضعه في النعش.
ودعت عائشة والدها للمرة الآخيرة، ولم تستطيع الثبات فإنهارت ثانيةً، تحاول أن تتمسك به وتشده من أيد بدر وزياد وهم يحملانه للنعش؛ فمنعتها هاجر بصعوبة وأغلقت باب الغرفة عليها وبقيت معها تواسيها، فكانت هاجر خير الرفيق برغم ماتحمله من مرض أنهكها وجعلها ترتعد بتعب، ولكنها قاومت بشدة لتظهر بقوة لا بأس بها أمام الجميع حتى لا ينشغل أحد بها ويترك عائشة.

صلى جميع أهل الحارة على محمود الخياط صلاة لا ركوع فيها، ليحملان النعش الذي تقدمه بدر وزياد ومصطفى وفي مؤخرة النعش شابان آخرانِ من الأقارب.
قبل الخروج من المسجد، لاحظ بدر أن معظم المتواجدون خاصة الشباب، ينظرون له بااستهزاء وسخرية، مما لاحظ زياد ذلك وأخبر بدر، فقال بدر بحزن

–فوضت أمري لله.. أنا غلطت اه إني سمحت لنفسي بده يحصل.. نيتي كانت سليمة بس عاطفتي اتغلبت على ايماني وده جزاتي.. بس أنا خايف اوي على عائشة.. مش عاوز حد يهينها أو تعرف بالفديو… ممكن ده يسببلها لقدر الله في حاجة وحشة.. وأنا مستحملش تحصلها حاجة يازياد.. أنا بعترف إن بضعف قدامها.. بس خلاص معتش قادر أخبي مشاعري عنها أكتر من كده

صمت ليتنهد طويلًا ثم أردف

–أنا مش هسيب عائش تروح من إيدي.. أنا هتجوزها

رد زياد مبتسمًا

–وأنا مش هسيب هاجر تروح من إيدي.. أنا هتجوزها

–إيه ؟
–إيه !
“طيب.. نشوف الموضوع ده بعدين”
قالها بدر وهو ينظر له نظرة ذات مغزى وكأنه يود أن يقول
“اه يالئيم ياسوسة”3


عند مدخل القبور، بدأ الشباب يجرون مسرعين ومندهشين مما يحدث، بالتأكيد لم يقصدون الركض نحو القبر، ولكن النعش والرجل الطيب بداخله هما المسرعان نحو القبر، لم يستطيع معظم الناس فهم ماذا يحدث؛ فنادرًا مايحدث ذلك، ولكن بدر وزياد وبعض الرجال ابتسموا وتهلل وجوههم وبدأو بالتكبير وقلدهم الباقون

“اللــــه أكبر.. اللــــه أكبر”
ظل الجميع يردد التكبير، فهم يعلمون جيدًا أن هذا من حسن خاتمة المرء، أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه.
دُفن محمود بجانب محمد والد بدر، ودخل الآخير القبر ليساعد العامل بالقبور، ثُم كُشف عن وجهه فكان مضيئًا كالقمر في ليلة عتمة.
همس بدر مبتسمًا

–يابختك ياعمي.. ربنا يرزقنا جميعًا حسن الخاتمة.3
قُفل باب القبر وبدأ الحساب.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۝ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [سورة فصلت:31، 32].

“أخطأ محود وأذنب كثيرًا وارتكب المعاصي، ولكنه استيقظ قبل فوات الآوان، فتاب، فأصلح، فرزقه الله حسن الخاتمة.

ليس العيب في أن نخطئ، إنما العيب أن ندرك الخطأ ولا نعترف به ونتمادى في فعله، فيؤدي بنا للجحيم.. وماأدراك بجحيم الآخرة.1
___

ظلت روان تعافر وتقاوم، لتفلت من سيف،واستطاعت عضه من كتفه بشدة مما جعله يتركها، ليهجم عليها ثانية، ولكنها استطاعت الركض الأسفل وركض سيف وراءها، ليشدّها من ثوبها كي تتوقف عن الجري، فااستدارت روان بحركة لم تكن في الحسبان وزجت به من فوق السُلم؛ فوقع سيف في أسفل العُمارة على البلاط وانفجرت الدماء تسيل منه بغزارة مما جعل روان تشهق بفزع وتهرع نحوه وأوصالها تهتز من الخوف.

يتبع ….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا 

لقراءة جميع فصول الرواية اضغط على ( رواية يناديها عائش )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *