روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الثالث عشر 13 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الثالث عشر 13 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت الثالث عشر

رواية غير قابل للحب الجزء الثالث عشر

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الثالثة عشر

الانتقــــام، يسمح لنا باستنزاف كافة مشاعرنا الغاضبة، وبالثأر ممن غدروا بنا، وإن كان في ذلك استهلاك أرواحنا، لكننا لا نعود كما كنا، نبقى من حيث انتهينا. انسحقت البراءة وتلوثت بمجرد أن تخليتُ عن مبادئي لأغدو مثلهم، دمـــوية، متوحشة، وبربرية، تركت الصواب جانبًا، ومشيتُ وراء لحظات جنوني، لأظفر بنصرٍ قد لا يدوم طويلاً، كنت ممتنة لارتدائي الزي الرياضي، فقد ساعدني هذا على التحرك بحريةٍ وأريحية، وبالتالي خلال مشاجرتي مع “لوكاس”، كنتُ لا أجد ما يُعيقني، تمكنتُ من قطع قميصه الرمادي الذي يرتديه، وبجرح صدره عرضيًا بنصل المقص الحــاد، فتفجرت خيوط الدماء ولطخت ملابسه، كدتُ أكرر المحاولة؛ لكن هذه المرة فشلت فشلًا ذريعًا، فقد أمسك برسغي، وأوقفني قبل أن أصل إليه.
استقام واقفًا، وضغط بعصبيةٍ على يدي، حتى شعرت بأنه يُدميها، ثم دمدم في حقدٍ مقيت وهو يشير بيده الطليقة إلى قميصه الممزق:
-انظري ماذا فعلتي؟
حاولت استعادة يدي من أسفل قبضته؛ لكنه لم يفلتها، انتزع المقص من بين أصابعي بيده الأخرى، وهدر في غيظٍ:
-إنه قميص المفضل يا غبية.
فكرتُ في استخدام قدمي لركله بين ســاقيه، فإذ ربما أصيب هدفي، وأجعله يتلوى من الألم، هتفت في غلٍ وأنا أنفذ ما خططت له:
-لتلحق به إذًا.
رميتُ قدمي في مقصدها؛ لكن قبل أن تصل إليه صدها في براعةٍ، كأنه معتاد على مثل هذه المحاولات الهجومية من خصومه، لقد أسرفت في المجازفة، حيث أحكم قبضته عليها، وجذبني منها للأمام، ثم دفعني بغتةً للخلف منها وبخشونة لأُطرح أرضًا، انكفأتُ على العشب الأخضر وأنا أتأوه من الوجع. تحرك ليقف أمامي، فرفعت رأسي لأنظر إليه ولهاثي يخرج من جوفي، وجدته يرمقني بنظرة متأففة تحوي احتقارًا صريحًا، لينطق بعدها في وعيدٍ، وهو يلف المقص في راحة يده:
-لقد انتهى لعبك السخيف.

 

 

توقعت نهاية عنيفة، لا تبشر بخير، خاصة أن نظراته كانت سوداوية قاتمة، تعبر عن كراهية مبيتة ناحيتي، وقبل أن تدور في رأسي المزيد من الأفكار المريبة، لمحتُ “آن” قادمة من على بعدٍ، كانت لا تزال ترتدي سروالها الأبيض القصير، وكنزة سوداء ذات حمالات رفيعة، جاءت إلي تركض على أقصى سرعتها، كأنما تريدُ إيقافه قبل أن يمسك بي، بُهتُ من المفاجأة، وأردت تحذيرها؛ لكنها بلغته، ودون سابق إنذارٍ قفزت فوقه، كقرد تعلق بفرع شجرة، وراحت تضرب أعلى رأسه بقبضتها المتكورة وهي تصرخ به:
-ابتعد عن شقيقتي.
في التو استجمعت نفسي لأنهض، وصحت في فزعٍ أكبر:
-“آن”، لا تتدخلي.
دار “لوكاس” حول نفسه وهو يحملها على ظهره، مبديًا دهشته من شراستها المتزايدة، ومع هذا لم يمنع نفسه من التعليق بسخريةٍ:
-القطة البرية جاءت…
ضحك هازئًا، وأكمل:
-المتعة ستزيد الآن.
اندفعت أنا الأخرى ناحيته لأنقض عليه، واستخدمت كل أطرافي في ركله، ولكمه، وصراخي الغاضب يرتفع في الأرجاء:
-لا تلمسها يا حقـــير.
…………………………………………………….
نحن الاثنان معًا كنا لا نشكل قوة كافية لردع هذا المتمرس المعتاد على أقسى الأشرار عدائية، ورغم ذلك لم أكف عن قتــاله، حاولت نهش عضده بأسناني، وكلتا يداي تسعيان لأخذ المقص منه، لكنه لطمني في فكي بوكزة مؤلمة، مما جعلني أرتد خطوة للخلف مقاومة الدوران الذي عصف برأسي، اضطربت نظراتي، فرأيتُ رغم التشويش اللحظي الذي ســاد فيهما “لوكاس” وهو يلف ذراعه خلفه ليمسك بشقيقتي، ثم جذبها من عند كتفها بقوةٍ لطرف كتفه، ليقوم بإزاحتها من على ظهره؛ لكنها كانت متشبثة به كالعلقة، تعطيه ما تقدر من الضربات على رأسه.
عدتُ إليه لأنضم معها في ردعه، لكنه استخدم ذراعه الآخر في صد ضرباتي الموجهة إلى صدره، حركاته العشوائية حول نفسه جعلت “آن” تتمايل من فوقه، وما إن تمكن من الإمســاك بها حتى ألقاها ناحيتي، لنسقط معًا على الحشائش في دحرجةٍ مهينة إلى حدٍ ما.
سرعان ما اختطفت النظرات نحو “لوكاس” حين استعدت ثباتي، وجدته يمسح الدماء من على صدره، ويتطلع إلي بنظرة نارية شديدة الخطورة، لعن في إهانة فجة قبل أن يتقدم ناحيتي أنا وشقيقتي، حينئذ ظهر “فيجو” من العدم، اقترب من ثلاثتنا وهو يصيح متسائلاً في صوتٍ منزعج:
-ما الذي يحدث هنا؟
أجابه “لوكاس” في لمحة من التهكم وهو يلهج:
-كانا يحاولان قتلي، على ما أظن.
ثم بسط يده بالمقص، وتابع باستخفافٍ:
-بهذا الشيء.
ردد “فيجو” مندهشًا، وهو يرفع حاجبه للأعلى:
-المقص؟

 

 

ثم تحولت أنظاره ناحيتي، كنتُ قد استقمت واقفة، وسحبتُ شقيقتي “آن” المتأهبة خلفي، حافظت على وجود مسافة لا بأس بها تفصلنا عنهما، لاحظ “فيجو” ذلك، قبل أن يعاود التحديق في وجه ابن عمه عندما تكلم في استهزاءٍ وهو يشير به تجاهنا:
-من الأفضل في المرة القادمة أن تستخدما غيره، فقد أثبت فشله معي.
مسح مجددًا الدماء النازفة عن صدره، وقال:
-سأحتاج لضمادة فقط، فالجرح غير عميق.
لم يكن “فيجو” كعادته متخذًا مشهد المتفرج الصامت، بل بدا متحيزًا لأجلنا بشكلٍ يدعو للاسترابة والتحير حين عنفه بغلظةٍ:
-لماذا تتم مخالفة أوامري؟ ألا تسمع؟
حملقت فيه مشدوهة بتصرفه، منذ متى غير موقفه المحايد؟ رمشت بجفوني لأصدق أني لا أتوهم ما أبصره، خاصة عندما راح ينهره في حدةٍ، زادت من غرابة الوضع:
-ألم أطلب منك الاهتمام بعملك بعيدًا عنهما؟
لوهلةٍ حلت بي الدهشة، وملأت رأسي الأسئلة الحيرى من أسلوبه المريب معه، أهو يتخذ موقفًا ضده؟ لماذا يفعل ذلك؟ هل هناك ما أجهله؟ أبقيتُ شكوكي لنفسي، واحتفظتُ بالصمت وأنا ألصق شقيقتي الصغرى بظهري ، كأني أريد إخفاء وجودها عنهما، فأنا لا أضمن ما قد يحل بها في حضورهما. ركزت نظراتي المستشاطة على “لوكاس” عندما برر تصرفه بصفاقةٍ تستفز حواسك:
-كنة العائلة من جاءت إلي، تريد قتلي، وأنا تركتها تمرح، لأقتــل شعورها بالضجر في يومها الكئيب.
كدتُ أتحدث بشيء لولا أن اتجهت أنظاره إلى “آن”، فتخشبت، وتأهبت غرائزي، كأنها تستعد للمواجهة معه، جال بنظراته القوية على كلينا، ثم أتبع ذلك كلامه الموحي:
-لكن تفاجأت بهذه القطة الجامحة تقفز فوقي، إنها شرسة بحق…
تشكل على جانب ثغره ابتسامة ماجنة، وتحولت نظراته للعبثية حين أتم جملته:
-وأنا أحب ذلك.
انتفضت بداخلي غريزة الزود عن شقيقتي، فهذا اللعـــين عنيدٌ للغاية، إن وضع أحدهم برأسه، لن يتركه، وجلَّ ما أخشــاه أن يكون قد حول انتقامه الأرعـــن نحو شقيقتي، نفضتُ خوفي عني، وصرخت به بصوتٍ حاد مُحذر، وأنا ألوح بذراعي في الهواء:
-إيــاك أن تقترب منها!
احتوت عيناه على نظرة شهوانية جائعة، قرأتها صريحة، ووجل قلبي عندما سددها نحو “آن” البريئة، ليقول بعدها في جرأةٍ مؤكدًا على مخاوفي الجمة:
-وأنا أفكر في أكثر من مجرد الاقتراب.
هدرت “آن” تهدده في نزقٍ:
-سأنهشك قبل أن تفعل.
انتشى لهذا النوع الحماسي من المجابهة، فقال مبديًا ترحيبًا شديدًا وهو يفرد ذراعيه على طولهما:
-أوه، المزيد من الإثارة!

 

 

رمقها بنظرة مليئة بالتشويقٍ والشره، قبل أن يتابع:
-أريدك أن تجربي
حذره “فيجو” بصوتٍ صارم غير متساهل:
-“لوكــاس”!
كززتُ على أسناني بغيظٍ، وصحتُ في صوتٍ خفيض أحذر شقيقتي:
-لا تتفوهي بشيء أحمق، إنه لئيم.
ردت “آن” في نبرة هامسة:
-إنه من يستفزني.
في هذه اللحظة تحديدًا كنت أطمح أن يكون “فيجو” أكثر حزمًا معه، أن يلزمه حده، وقتها كنت سأنظر إليه نظرة مختلفة، تحوي نوعًا من التقدير، بالرغم من نفوري منه، واستنكاري لكافة تصرفاته العنيفة. تسلل الخوف إلى أعماقي، وأنا أرى “لوكاس” يخبره في بُغضٍ صريح:
-“فيجو”، أنا أرد على القطة الشرسة، فإذا أرادت مناطحتي، عليها تحمل العواقب.
لم تلن نبرة “فيجو”، وهو يهتف به:
-ماذا قلت؟ هل تعصي أوامري؟ كف عن مضايقة كلتاهما!
القليل من الارتياح تسرب إلي، كنتُ من داخلي شاكرة لوجوده، فهو قادرٌ على إيقاف تجاوزاته المستفزة. على ما يبدو لم يرتضِ “لوكاس” بموقفه غير المحايد، فسأله بسخطٍ:
-لا تقل أنها نجحت في التأثير عليك؟
لم أتمكن من قراءة وجه “فيجو” فقد استدار للجانب؛ لكن صوت “لوكاس” كان عاليًا في إنذاره:
-إياك أن تعطيها وجهًا، ستغدر بك.
أشـار بيده ناحيتي مضيفًا في كره متبادل بيننا:
-إنها تنتمي للخَوَنة.
حانت من “فيجو” نظرة جانبية ناحيتي، جعلتني أشعر بالتوتر نسبيًا، ولا أعرف سبب ذلك التلبك الذي نال مني مع نظراتي المثبتة علي، مما دفعني لإبعاد عيناي عنه؛ لكني سمعته يعلق في هدوءٍ:
-لا تقلق، أنا أعرف كيف أدير شئوني.
……………………………………………………….
جدالٌ غير مؤذٍ ظل قائمًا بين أولاد العم للحظاتٍ اعتبرتها طويلة، رغم أنها لم تتجاوز الدقيقة، فـ “فيجو” يصرُ على موقفه في إقصــاء “لوكاس” عن طريقنا طوال فترة وجود شقيقتي، احترامًا لما اتفقنا عليه، بينما الأخير يحتج على تحجيم نفوذه وسلطته، ارتكزت من جديد أنظاره علي، قبل أن يلوي ثغره مرددًا في غير رضا:
-حسنًا أيها الزعيم، أريد أن أذكرك ألا تجعل هذه الساقــطة تدخل بيننا في يومٍ ما، نحن أبناء دمٍ واحد، تشاركنا كل شيءٍ معًا منذ أن أتينا إلى هذه الدنيا، وهي قاتلة أبي، لا تنسى ذلك أيضًا، وأنا أرجأت ثأري احترامًا لقرارات عمي “مكسيم”.
رأيتُ “فيجو” يضع يده على كتفه، ويعلق في غموضٍ جعل نبضات قلبي تتلاحق:
-أعلم هذا…
ثم تحرك خطوة لأجده قد أولاني ظهره، وأغلق عليّ مجال الرؤية، أبقيتُ ذراعي في الخلف لأحاوط به شقيقتي، وأصغيتُ لـ “فيجو” وهو يتحدث في جديةٍ:
-لكنها ستصبح زوجتي، عليك احترامها، أنا لا أطلب الكثير.

 

 

لن أنكر أني انبهرت لحظيًا بجملته الانتقائية، لم أعتد سماع ذلك منه، هو يفرض وجودي عليه، ويخلق نوعًا من الحماية ناحيتي، شعرتُ بالغبطة، بنشوة غريبة تداعبني، ومع هذا أخفيتُ ببراعة تأثري بدفاعه؛ لكن ما لبث أن تصدعت أوهامي الواهية كليًا عندما واصل “لوكاس” الكلام وهو يميل برأسه للجانب ليركز بصره علينا:
-حسنًا، لك ما تريد، أنت حر معها، وأنا أيضًا لي مطلق الحرية في التصرف مع من يتجرأ علي.
احتوت كلماته الأخيرة على نوايا شريرة، وتأكدت من صدق حدسي عندما تجاوز ابن عمه ليدنو مني، سرعان ما تحركت للخلف بضعة خطواتٍ، وأنا ألصق شقيقتي بي، هتفت في صوتٍ عبر عن ذعري:
-إياك أن تقترب!
وكأني أحادث الفراغ، وقف أمامي، ومد ذراعه ليقبض على ساعد “آن”، فصرخت شقيقتي بفزعٍ كبير، وهي تنعته بهلعٍ:
-أنت خنزير، لا تقترب مني.
حاولت منعه وإبعاد ذراعه وصوت صراخي يرن عاليًا:
-اتركها.
جاء “فيجو” كنجدة من السماء، وأمسك به من ذراعه يأمره:
-ابتعد عنها.
تبادل معه “لوكاس” نظرة متحدية، وقال في عنادٍ أكبر:
-لا، احمي من تعدها زوجتك، ودع لي هذه.
ثم مــال على أذنه يهمس له بشيءٍ، فتسمر “فيجو” في مكانه، يطالعه بنظراتٍ غامضة حادة. ارتسمت ابتسامة أكثر اتساعًا على زاوية فم “لوكاس”، قبل أن يجذب بقوةٍ أكبر شقيقتي ناحيته، كنت أقف له بالمرصــاد، أزود عنها على قدر قوتي ومقدرتي؛ لكن تدخل “فيجو” وأوثق معصمي بيديه، قاضيًا على أي مقاومة مني، ليتمكن ابن عمه من الوصول إليها، والإمســاك بـها، عندئذ صرخت في رهبةٍ، وكل درجات الخوف تفشت في كياني:
-“آن”.
لم يجد “لوكاس” صعوبةً في بلوغها، ما إن شدها ناحيته، حتى انحنى قليلاً ليرفعها من خصرها عن الأرض، ثم ألقاها على كتفه، فاستنجدت بي متوسلة في عجزٍ وقلة حيلة:
-“ريانا”، لا تتركيني.
لم أملك سوى لسانًا طليقًا أحاول به إنقاذ شقيقتي، فصحتُ بجنونٍ وأنا أراها تركل بقدميها في الهواء، وتضرب بكلتا قبضتيها ظهر “لوكاس” البغيض:
-لا تلمسها يا نــذل، إنها أطهر من أن تضع يدك عليها.
نادت “آن” بصراخٍ مرتاع:
-“ريانا”، النجدة!
بدا “لوكاس” غير مكترثًا بالضربات المتشنجة من شقيقتي، وخاطب “فيجو” في جديةٍ تامة:
-لقد قامت عروسك المصون بمحاولة قتلي، ولم أقتلها إكرامًا لك، فكيف ستعاقبها؟
كان قادرًا على بث الكراهية ببراعة في نفس أي شخص، وكنت أنا أولهم، وضاعف من مشاعر الحقد والغل بداخلي عندما أضــاف:
-ولا تقل إنها طائشة، أريد الثأر.

 

 

رد عليه وهو يديرني ليلصق ظهره بصدري، وجاعلاً قبضتيه كقيدين محكمين على رسغي:
-“لوكاس”، سأهذبها، ثق بي.
كادت “آن” تنجح في النزول عن كتفه؛ لكنه أعادها إلى موضعها، وأمسك بذراعها ليلف جسدها حول عنقه وهو يتكلم في خبثٍ:
-كما تشاء، لكني سأخذ ثأري من شقيقتها، فهذا مشوق أكثر.
اهتاجت شقيقتي، وانفعلت، واختلط غضبها مع خوفها، وراحت تنتفض بجسدها في جنونٍ وهي تلعنه بشدة. انضممتُ إليها وحاولت الخلاص من هذا القيد المؤلم لأصل إليها، وأنا لا أزال أصيح:
-لا، دعها تذهب، لا تلمسها.
دون أن يسمع أيًا من صيحاتي الناهجة علق باستفزازٍ سافر:
-أخبرتك منذ البداية ألا تعبثي معي…
شدَّ من قبضته على ساقي “آن”، وخاطبها في عبيثة ماجنة للغاية:
-لنرى كيف ستصمدين أيتها القطة في الفراش.
هنا صرختُ مع شقيقتي في فزعٍ، أتوسله ألا يفعل بها سوءًا؛ لكنه انطلق سائرًا بدندنة مستمتعة وهو يحملها نحو القصر الضخم، تاركًا إياي مقيدة من ابن عمه، صرختُ في الأخير بغضبٍ مشتعل، وأنا أضرب صدره ببدني:
-توقف، اتركني.
شعرت بقوته تشتد على جسدي، وبصوته يهمس في أذني:
-لن تنجحي في منعه.
نطقت بصوتٍ كان أقرب للنحيب بعد أن يئست من إيقافه:
-لكنك تستطيع.
أحسستُ بثقل أنفاسه من ورائي، بتراخي قبضتيه قليلًا، ربما كان لتوسلي مفعول السحر معه، فزدتُ من استجدائي له:
-أوقفه أرجوك، أتوسل إليك، إنها بريئة، نقية، لا تعرف شيئًا.
تنفس “فيجو” ببطءٍ، وهمس على مهلٍ، قاصدًا الضغط على كلماته الأخيرة:
-أنتِ أخطأت، وهي شاركتك في الأمر، وأمام رجالنا، يستحق ذلك العقاب.
حينئذ تصلب كل بدني، وارتجفت أطرافي، استمر في هسيسه المخيف:
-أعلمتك قبل سابق، إن لم تفلحي في ضبط أعصابك، وتظهري بمظهرٍ لائق، عائلتك ستدفع الثمن.
رددتُ محتجة بخوارٍ:
-لا .. من فضلك.
لم أرَ ملامحه القاسية؛ لكني استشعرت كامل الخطر في حديثه، هربت الدماء من عروقي وهو يتابع:
-وسأبدأ بشقيقتك…
اتسعت عيناي، وكادتا تخرجان من محجريهما عندما خفض من نبرته ليفوه:
-سأجعل الرجــال يضاجعوها في النوادي ليلًا، حتى لا تعرف العدد.
خارت قواي في لمح البصر، وانفجرت باكية استجديه بكل حرقةٍ:
-لا تفعل، أتوسل إليك، أنا مخطئة.
شعرت برأسه تستريح على جانب كتفه، وبأنفاسه الحارة تلطم وجنتي، خاطبني مشددًا على أمره:
-أكملي دورك للنهاية، فأنا لا أتساهل مع المقصر.
أخبرته دون تفكيرٍ ونشيج بكائي يعلو:
-سأفعل كل ما تريد؛ لكن رجاءً لا تؤذيها.

 

 

توقفت عن البكاء إلا من نهنهات متقطعة، وقد استشعرت شيئًا غريبًا على خدي، لمسة من شفتيه، تداعب بشرتي، حتى أنها جعلت رعدات خفيفة تنبجس في أسفل ظهري، كأن تيارًا كهربيًا قد لامسني فجأة، ليصيبني هذا بالتلبك والذهول، لا أظني أني كنتُ أتوهم ما حدث، هل منحني قبلةً، أم أني أتخيل فعله لذلك؟ لمسته كانت دافئة، حنون، مفعمة بشيء لا أريد تصديقه، مما جعلني أصاب بصدمة وقتية، كان على النقيض كليًا من هذا القـــاتل البارد، معدوم المشاعر، أطبقت على جفوني، وأنا أشعر بدقات قلبي تتسابق. تراجع “فيجو” برأسه عني، وقال وهو يحررني:
-اتفقنا.
لم أقوَ على الالتفاف والنظر إلى تعابيره، كان من الأسلم لي وقتها أن أظل في موضعي، متحاشية نظراته، ومحافظة على ثباتي المتذبذب، سمعته يأمرني في صرامةٍ، ويده تمسح على جانب ذراعي:
-لا تتجولي مجددًا حول رجالي بهذه الثياب، أنتِ آنسة أنيقة، ارتدي الأثواب التي تليق بالزعيم.
انكمشتُ على نفسي من لمساته الذكورية التي راحت تطوف في مناطق متفرقة من بدني، وكأنها تعرف كيف توقد الشعور بداخلك، رغم أنه لم يتجاوز حده معي، إلا أنه جعل حصوني تتلخلخ، وهذا ما كنتُ أرتاع منه، أن تخونني حواسي، وتميل إليه رغم كل ما خضته معه، انقبض قلبي، واكتسى وجهي بحمرةٍ خجلة، حين نطق بهدوءٍ:
-وإلا المرة القادمة قد تصبحين كـ “هيلين”، بلا ستر.
عنى بذلك التطرق لشخصية “هيلين” الشهيرة في سقوط “طروادة”، كان يعدها الإغريق أجمل نساء الأرض، ففي وقت تزويجها لـ “منيلاوس”، ووفق للأعراف آنذاك هناك، تعرت من ثيابها ليشاهد الجميع جمالها الفتان، استخدام “فيجو” لذلك التشبيه الصريح ليجعلني أفهم جيدًا أنه جاد للغاية في تنفيذ تهديده السافر. لم يضف المزيد، فقط هتف في اقتضابٍ:
-اذهبي.
ما إن قال هذا حتى ركضتُ سريعًا لأفر منه، وأهرب من شيءٍ لا أريد فيه لشرارة الانجذاب أن تنبثق بداخلي .. مطلقًا!
……………………………………………………………..
في طريق عودتي، أثناء صعودي على الدرج بخطواتٍ شبه راكضة، قابلتُ “صوفيا” في نهايته، استوقفتني لتدور بنظراتها القلقة على وجهي، كانت آثار دموعي المنسابة لا تزال على ملامحي، رأيتُ كيف ارتسمت تعابير الخوف على محياها، علقت ذراعها في ذراعي، وسحبتني إلى غرفتي دون أن تنبس بكلمة، حتى أغلقت الباب خلفها، التفتت تنظر إلي متسائلة:
-ما الذي حدث؟ هل هناك خطبٌ ما؟
هززت رأسي بالنفي تجنبًا لاستجوابها، ثم جلست على طرف الفراش، أسحب نفسًا عميقًا أهدئ به من الاضطراب المستبد بداخلي، نظرت إليها بلا تركيزٍ وهي تلاحقني بسؤالها التالي، دون أن ينتقص من قلقها مقدرًا:
-إذًا لماذا يبدو أنفك منتفخًا، وجفونك متورمة؟
قلتُ في صبرٍ نافد:
-لا شيء أمي.
لم تقتنع بكذبتي المفضوحة، وألحت علي في إصرارٍ:
-لا شيء؟
أصدرت صوتًا مستنكرًا، وتابعت في عصبيةٍ طفيفة، دون أن ترفع نبرتها عن الحد الجائز:
-أنتِ غادرت الغرفة وتنوين شرًا، والآن تعودين مجرجرة أذيال الخيبة ورائك…

 

 

جلست إلى جواري على حافة السرير، ثم احتضنت كفي بين راحتيها، وهتفت بي مرة ثانية في توجسٍ أكبر:
-هيا صارحيني بالحقيقة؟ أنا أمك.
سكتُ، فليس لدي الطاقة للاستفاضة في شرح ما لا أفهمه، وما لا أريد الحديث عنه، انتبهت لها وهي تردد في تخوفٍ:
-والحمقاء شقيقتك لحقت بكِ، أين هي هذه الطائشة؟ هل تشاجرتما معًا؟
نظرت لها مليًا، فتفرست في ملامحي، كأنها تفتش عن الأجوبة بين قسماتي، قبل أن تزيد من حصارها المحمل باللوم:
-ألم أقل لكما ألا تثيرا الفضائح هنا؟ من المفترض أني أحسنتُ تربيتكما، و”مكسيم” لن يتساهل إن وجد ما لا يرضيه منكما.
ضقتُ ذرعًا بضغطها اللحوح، فهتفت في حدةٍ وأنا أصر على أسناني:
-“صوفيا”، من فضلك، أنا لا أريد الحديث عن شيء، دعيني أرتاح.
رمقتني بهذه النظرة المزعوجة قبل أن تقوم واقفة لترد:
-سأتركك بعد أن ننتهي من ضبط قياس ثوبك.
ثم أشارت بيدها نحو ثيابي قائلة في استهجانٍ:
-ومرة أخرى لا تخرجي من الغرفة دون أن تتأنقي.
رفعتُ حاجبي للأعلى في استهجانٍ ساخط، متذكرة إنذاره الجاد، فهمهمت في نقمٍ، والعبوس مسيطرٌ على قسماتي:
-تتحدثين مثله!
دنت مني والدتي تسألني في دهشةٍ:
-ماذا تقولين؟ لم أسمعك!
تجاوزت عن تلك النقطة، لأرد بلا ابتسامٍ:
-لا شيء أمي، هيا لننتهي من هذا الجزء السخيف.
وضعت يدها أسفل ذقني، ومسحت عليها برفقٍ قبل أن تتودد إلي بلطافةٍ معهودة منها:
-ابتهجي، أنتِ أجمل عروس هنا.
حملقتُ فيها بنظراتٍ متجهمة، تحوي ضيقًا عميقًا، قبل أن تنتقل عيناي إلى ثوب العرس المفرود على المانيكان، لأغمغم بعد تنهيدة سريعة:
-نعم، الجمال الخائف!
…………………………………………………………
كنتُ متأكدة أنه فعل وسيفعل الكثير ليحافظ على إكمال صفقتنا المزعومة، تلك المخبأة تحت عباءة الزواج، ارتضيتُ بها من أجل عائلتي، وسأضحي بالغالي والنفيس من أجل إبقائهم بعيدًا عن مكمن الخطر. ترقبتُ على أحر من الجمر عودة “آن” إلى غرفتي، حضرت بعد ساعة تقريبًا منذ وقوع الشجار، أمسكت بها من رسغها وأقعدتها على المقعد الوثير أمام سريري وأنا أعترف لها بمخاوفي:
-كدتُ أموت خوفًا عليكِ.
لم تتفوه بشيء، ظلت صامتة، وصمتها أرعبني أكثر، سألتها ونظراتي تدور على كل جزء في وجهها قبل أن تنخفض نحو جسدها؛ كأني أضعها تحت مجهري الفاحص لأتفقد ما تغير فيها:
-هل أنتِ بخير؟ هل تعرض لكِ؟
أجابت بوجومٍ مخيف:
-لا.
تنفستُ بارتياحٍ قليل؛ لكن ذلك لم يجعلني استرخي، حاولت أن أبقي على هدوئي وأنا أتحول لسؤالي التالي:
-أين أخذك هذا الحقير؟
لم تراوغ في ردها الذي صدمني:
-إلى غرفة نومه!

 

 

اتسعت نظراتي المصعوقة، وخيالات غير طيبة راودت رأسي، لذا سألتها بتوترٍ:
-ماذا تقولين؟ هل ..؟
نفت موضحة بعد زفيرٍ بطيء:
-لا، فقط أراد مني تضميد القطع الذي أحدثتيه في صدره.
صحتُ في كدرٍ مغتاظ:
-اللعين، إنه يعرف كيف يحرق أعصابي ويخيفني عليكِ، المهم أنه لم يمسك.
من جديد أكدت:
-لم يفعل.
ابتسمت لها لأبدد أي خوف بداخلها؛ لكنها استمرت على سكوتها، قبل أن تدير وجهها، وتحدق في بعينين كسيرتين، لتقول بثقلٍ، وكأنها تصارع شيئًا بداخلها لا أفهمه:
-“ريانا”، أنا أريد الذهاب من هنا، لا أطيق البقاء لحظة أخرى.
دون ترددٍ هتفتُ، كأني أمنحها الأمل:
-سأرسلك إلى “ميلانو” بعد زفافي فورًا.
نكست رأسها بشكل استثار شكوكي بشدة، كانت كمن يحمل أثقالًا فوق ظهره، تجعلها تنحني مضطرة، لم تنظر في اتجاهي، لمحت دمعة نافرة في طرفها، ورأيتُ ارتجافة شفتيها بارزة حين نطقت:
-يا ليتك تفعلين، أخاف أن أعلق هنا .. مثلك.
دق قلبي في خوفٍ أكبر، أحسستُ بانسحاب أنفاسي، باضطرابها، تحركت من مكاني، وجثوتُ على ركبتي أمامها، رفعت بيدي وجهها المنخفض إلى مستوى نظري، وسألتها ونبضاتي تزداد في سرعتها:
-ماذا تقصدين بكلامك ……………………………………………. ؟!!

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *