روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الثامن والعشرون

رواية يناديها عائش الجزء الثامن والعشرون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثامنة والعشرون

 

قد يكون للمتدين ذنب خفي أغضب الله و قد يكون للعاصي حسنة خفية ترضي الله..
(أحمد الشقيري)
____
من الصّعب جدًّا على الإنسان الوقوف على قدميه ومواجهة العالم بعد أن يفقد والديـه، ولا توجد كلمات أو عبارات تصف شعور الحزن عند فقدانـهم، خاصـة عندما يموت أحدهم وأنت صغير، لم ترتوي من حُبهما وعناقهم بعد.. مثل تلك المسكينـة التي وقفت تطالع والدة سيف تعانقه بتلهف وحُب لم تشعر به من قبل، في تلك اللحظة شعرت أنهـا وحيدة تمامـًا ليس لديها أحد يمسح لها دمعوها المنسكبة على وجنتيها بغزارة أو حتى يأخذها في أحضانه ويطمئنها أن كل شيء سيكون بخيـر، ولكن لا أحد.

 

 

توقف الزمن لدقائق فقط نظرات الدهشة وعدم الإستيعاب من مُفيـدة صوب بـدر وهاجر، بداخلها تتمنى أنه يمزح فقط، ولكن كل شيء بات واقعيًا الآن ولا داعِ للشك بأن هذا مجرد مُزاح سخيف.
تقدمت هاجر تجاه سيف بخطوات متباطئة ثقيلة وهي تتفحصه بدهشة شديدة؛ لتقول بإضطـراب
— سيف.. إنت كويس صح ..؟
رمقـها سيف بنظرة مُنكسرة ثم أخفض رأسه دامعـًا، بينما مفيدة احتوت وجهه وهي تتفحصه بنظرات هلـع لتهتف ببكـاء
–قول إنك كويس.. إنطق يا ضنايا.. مش وقت هزار يابني.. حرام عليكوا اللي بتعملوه فيا ده.. ده ميرضيش ربنا.. انطق يا سيف.. انتوا بتهزروا صح؟

 

 

ازداد بكاء سيف بصمت؛ فإلتفـت والدتهم بنظرة حادة لبـدر صائحة بنفاذ صبر وبقلب أم سيتمزق من الخوف
“في إيـــه..؟ أخوك مالــه ..؟.. والله العظيم لو طلعتوا عاملين فيا مقلب لسيبالكم البيت وماشيه.. في إيـه يا بـدر..؟؟
‏كان بـدر يقف صامتـًا وقلبـه مملوء حُزنـًا كالكأس الطافحة، يُصعب حملها.
ترقرت الدموع في عينيه المهمومة واعقبتها تنهيدة شجن قائـلًا وهو يُعطيها ملف يحمل تقرير المشفى
” قدر الله وما شاء فعل.. للأسف سيف بقى عاجز ودي التقراير بتاعت المُستشفى والمركز الطبي اللي تابع حالته لمدة أسبوع ”

 

 

أخذت والدته التقارير وقبل أن تقرأها هتفت بصدمة
“أسبـوع..!”
أومـأ بـدر بتأثر وحزن بينما مفيدة عندما وقعت عينيها على ما تؤكده التقارير بشأن إصـابة سيف بالشلل النصفي وفقدان نُطق مؤقت أو دائم حسب الحالة، كادت أن تفقد صوابها وتقع على الأرض من شدة الصدمة التي هزت أوصالها وأرجفت كيانـها، لولا أن بـدر لحقها وأسندها؛ ليُجلسها على الأريكة ثم هرول للمرحاض و بلل يديه بالماء ليعود ويمسح على وجه والدته برفق، خشيـة عليها من أن تفقد وعيها فهي مريضة بداء السُكري وقلبها هشّ لا يتحمل مثل تلك الصدمات.
هتف بـدر مذعورًا على والدته
“ده قضاء ربنا يا أُمي..إنتِ علمتيني نرضى بقضاء الله”
نهضت والدته والخوف يحرق قلبها وأنفاسها تتلاحق في سرعة وإضطراب؛ لتأخذ سيف بين ذراعيها مُنفجرة في البُكاء هاتفة بنحيب
“كان مستخبلنا فين ده كل يارب.. آه يا بني.. آه يا قلب أمك.. فينك يا محمد.. سيبتني بدري ليه.. آه يارب.. استغفر الله

 

 

 

العظيم.. استغفر الله العظيم”
وقف بـدر عاجزًا كأنه مُقيد بسلاسل من الكربون الصلب كُلما حاول الحِراك أحس وكأن أوصـاله قد شُلت، بينما هاجر ارتفـع صوت بُكاءها ولم تتحمل أن ترى شقيقها في تلك الحالة المأسوية، فجثت مُرتكزة على ركبتيها بقلة حيلة وأخذت تبكي بشهقات اخترقت قلب بـدر مما زاده حيرة وخوفـًا وقلقـًا على أسرته الصغيرة، أحس أنه العاجز وليس سيف، أحس أنه ضعيف جدًا لا يقدر على تحريك ورقة، لقد فعل كل شيء وضحى بحايته ومستقبله لأجل أسرته الصغيرة، ماذا عليه أن يفعل بعد.. رباه حتمـًا سيُجن جنونه ويفقد صوابه الآن، هذا إن لم يكن قد فقدها من الأساس.
خرج من صمته قائـلًا بثبات مُصطنع
— يا أُمي.. أنا مش قادر أشوفك كده.. أنا بستقوى بيكِ.. باللـه عليكِ متبكيش
رمقته والدته بنظرة حادة ثاقبة كأنها تلقي اللوم عليه وتُحملهُ ذنب أخيه، فصرخت به بغضب لم يتوقعه أحد أبدًا ولم يشهده بدر منها من قبل
— إنت تسكت خـــالص.. مسمعش نفسك.. أسبـوع..! أخوك بقاله كده أسبوع وأنا معرفش
كاد أن يُقاطعها؛ ليخبرها أنه كتم الأمر فقط من أجلها، ولكنها رفعت سبابتها في وجهه مُحذرة إياه من الحديث وتابعت توبيخه صائحـة بدون تفكير لِمَ تقولـه

 

 

 

“بس.. اسكت متكلمش..أبوك الله يرحمه مات وسابلك أخواتك وصية تحافظ عليها وتنسأل عنهم يوم الدين.. لكن إنت مصونتش الوصية.. إيه اللي عمل في أخوك كده ؟ ”
تأملها بدر للحظات بصدمة غير قادر على إستيعاب ما قالته واتهمته به، بعد كل ما فعله لأجلهم وفي نهاية المطاف يكون شُكره هكذا !
“إلقاء اللوم عليه”
هتف بـدر مُندهشـًا وعينيه مترغرغة بالدموع مُحمرة بشدة
–بس.. بس أنا حافظت على الوصية فعلـًا يا أُمي.. أنا والله عملت كل اللي أقدر عليه عشان أسعدهم.. أنا…..
قاطعته والدته بعصبية بالغة
–فـــين.. حافظت عليـها فــــين.. الحُب عمى عينك وقلبك ونسـاك إن ليك إخوات مسؤولين منك.. طالع داخل عائـشة عائـــشة وناسي إن ليك أخوك في سن محتاج يتصاحب فيه.. ناسي إن أختك مريضة سرطــــان.. اهتمامك ببنت عمك نساك أمك وإخـــــواتك يا مُحتــرم
آثـار قولها الصدمة في عين بدر، واتسعت عيناه وهو يتأملها بوجه شاحب مذهول كما فعلت عائشة وهاجر.. تدخلت شقيقته؛ لتقف حائـلًا بين بدر ووالدته قائلة بتعب بدا عليها

 

 

 

–لو سمحتوا اهدوا.. مش وقتوا خالص الكلام ده.. ماما مينفعش اللي بتقوليه ده
تجاهلتها والدتها لتُكمل تحطيمها في قلب بـدر وهي غافلة تمامـًا عما تتفوه به دون حُسبان
— اللي إنت مش واخد بالـك منه يا أستاذ يا مُحترم يا اللي رايح جاي ورا واحدة مش معبراك أصـلًا.. إن أختك العلاج معدش نافع معاها.. أختك بقت أيامها معدودة في الدنيا.. هاجر وقفت علاج من زمان وإنت نايم على ودانك.. لما لقت العلاج مش جايب نتيجه وقفته.. وإنت مفكرتش تسألها حتى عامله إيه في علاجك.. يبقى فين الوصية اللي حافظتها عليها دي إن شاء الله
صاحت هاجر بإنفـعال وهي ترى أخيها على وشك الإنهيـار حرفيـًا
— كفايـا يا مـامـا.. كــــفايــا بالله عليــــكِ

 

 

نظـرت عائشة لبدر وكانت هي الأخرى في صدمة شديدة مما تقولـه زوجة عمها، وجدته يجوب بعينيه الصـالة بضياع وذهول يكاد يفقد الوعي على إثره.
هز بدر رأسـه بتيـه كالمجنون مُبتسـمـًا ببلاهة قائلـًا
— أنا.. أنا معملتش حاجه.. والله يا أمي ما قصرت معاكم في حاجه
بكى رغمـًا عنه وهو ينحني ليُقبل قدميها، فأبعدته عنها ناظرة له بسخط قائلة
— بذنب اللي حصل لأخوك ده.. أنا غضبانه عليك ليوم الدين
رجع بـدر بضع خطوات للوراء بدهشة لايصدق ولم يستوعب عقله ما قيل للتو وقف يُنـاظرها بصدمة مزقت قلبه الضعيف، يود أن يُخبرهم أنه لا يستحق كل هذا الألـم، هو بشر مثلهم، لماذا لا يفهم الجميع ذلك، هو ليس قوي كما يعتقدون، إنما قلبه قلب طفل يتيم لم يجد من يأويـه حين هطل عليه المطر وهو جالس في الطريق.
غمغم بقلب مفطور

 

 

“بس أنا مستاهلش أتـإذي بالطـريقة دي”
ثم تركهم وهـرع لخارج البيت مُسرعـًا الخطوات والدموع تغرق وجهه، لا يعرف لأين يذهب.
رمقت هاجر والدتها بلوم وتمتمت
–ليه يا ماما.. بدر ما يستاهلش كل ده.. ده أكتر واحد فينا داق المرار.. ليه يا ماما كده
أخفضت مفيدة رأسها بندم وحزن وأخذت تبكي بشدة دون أن تُجيب، بيـنما عائشة غمرتها مشاعر الشفقة والحزن على بـدر، وشعرت بأن الجميع بات يكرها ويمقت وجودها معهم؛ فذهبت لهاجر هامسة
–أنا رايحه بيتنا
كانت هاجر في حالة غم شديدة ولم تنتبه لِمَ قالتـه عائشة، ولكنها أومأت دون اهتمام فظنت عائشة أنها سمعت ما قالته؛ لذا رحلت عنهم.
***
‏{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.

 

 

 

دلف زيـاد لبيته وتمدد على الأرجوحة الموضوعة في ردهة البيت، وعقله شارد مع بـدر ذلك المسكين الذي توالت المصائب عليه من حيث لا يدري، حتى أوصلته لفقدان التحمل والإنفجار في وجه الجميع، تُرى ما رد فعل والدته الآن حين علمت بأمر سيف، وهل تحملت وردتي الضعيفة الخبر؟
آه يا هاجر.. لو تعلمين كم اشتاق إليك حبيب طفولتك، لو تعلمين كم يودّ أن يأخذك في أحضانه ويكبلك بنياط قلبه؛ ليهرب بكِ من تلك الهموم التي انهالت على العائلة لتفسد مذاق بهجتها.
لحظات ولمحت عيناه طيف شقيقته نورا تصعد للطابق الثالث من البيت وهو الطابق الخاص بـه عندما سيتزوج.
صعد خلفها يمشي بحذر وهو مُتأكد تمامـًا أن سبب صعودها للأعلى والتوارى من أعين الجميع،هو بخصوص ذلك الفديو التي قامت بإلتقاطه لبدر وعائشة ونشره في المجموعة التي تخص حارتهم على الإنترنت، ولكن تلك المرة لن يترك ما فعلته يمرّ بسهولة، هو فقط أراد أن يعطيها مُهلة للتراجع عما فعلته واللجوء للتوبة واستغفار ربه، ولكن على ما يبدو أنها من الأشخاص الذين يدعون مرضاة الله في العلن ويرتكبون الفواحش في الخفاء، وهذا ما يُسمى “الريـاء”
وجزاء المرائي ألا يُقبل عمله في الآخرة.
تـوارى زيـاد خلف الجدار؛ ليرى ما سوف تفعله.. تفاجئ بها تُحادث أحدًا على الهاتف وتقول
“هبعتلك صور ليها وتركبهم على فديوهات وصور فاضحة زي ما اتفقنا.. ولو عاوزني ازود الفلوس أنا معنديش مشكلة.. بس تخلصلي الموضوع ده بسرعة”
عبس وجه زيـاد عبوسا قمطريرا وانتفخت أوداجه؛ لينقض عليها ساحبـًا منها الهاتف بغضب، ارتبكت نورا وارتعدت خوفـًا من نظرات زياد الحادة بغضب كالصقر.
قال بصوت حاد منخفض؛ حتى لا يسمعهم أحد
“قدامك دقيقة تفهميني دلوقت اللي بيحصل.. يإما هعرف أبوكِ كل حاجه وساعتها هتقولي يا أرض إنشقي وإبلعيني.. إنطـقي”
بدأت نورا في البكاء، فوكزها زياد في كتفيها بغضب قائـلًا
–بلاش مسكنة يابت إنتِ.. اللي تفضح عيال عمها اللي من لحمها ودمها وسمعتهم من سُمعتها تبقى قلبها ميت مبتخافش ربنا.. اخلصي فهميني إيه اللي سمعته دلوقت ده ..؟ ”
لم تنطق نورا بشيء من شدة خوفها، فقال زياد بنفاذ صبر زافرًا بضيق

 

 

 

–طـيب.. أنا هعرف في إيه بالظبط
هاتف زياد الرقم الذي حدثته نورا للتو، فأجاب ليقول بلهجة مرحة
–ها.. مين تاني عاوزه تفضحيها ؟
أعطى زياد الهاتف لنورا ثم قال لها بصوت خافت
–اطلبي منه يقابلك بكره في المكان ده (..) بعد الضُهر
أومـأت نورا بخوف وفعلت ما أمرها به زيـاد، ثم سحب الهاتف منها ووضعه في جيبه ليوبخها هاتفـًا
–مكُنتش أتخيلك إنك تطلعي بالقذراة دي.. أنا هعلمك الأدب يا نورا.. هعرفك إزاي تُغدري بأهلك كده.. حرام عليكِ يا شيخه.. هو بدر كان ناقص عشان تعملي فيه كده.. هتروحي من ربنا فين بس.. لأ وبتصلي وبتقرأي قرآن ليل نهار.. مبتعمليش بصلاتك دي ليه؟.. هــاا.. رُدي !
شاطره بس قال الله وقال الرسول وإنتِ من جواكِ سواد
هتفت نورا بمدافعة
— أنا معملتش حاجه
صاح بها زيـاد بإقتضـاب
–بطلي كدب بقى.. إنتِ متعرفيش إن اللي بتعمليه ده كُفر بربنا.. مهما تصلي ومهما تصومي ومهما تقري قرآن ربنا مش هيقبلك عمل في الآخرة وهتروحي في ستين داهيه بعمايلك السوده دي
قالت وهي تمسح دموعها بخوف
–وهو يعني بدر اللي محترم ! مهو سايبها تُحضن وتتمسح فيه وعاملنا فيها المحترم اللي مفيش زيه
— إنتِ مالك.. بتحشري نفسك ليه في اللي ملكيش فيه ؟.. هُما حُرين مش إنتِ اللي هتحاسبيهم.. وبعدين ربنا مُطلع على

 

 

 

كل واحد وعالم بالنوايا.. لكن الأسوأ بقى إنك تكونِ بتصلي قدام الناس ومن وراهم بتعملي البدع.. ده إسمه رياء يا ست نورا يا مُتدينة.. موردش عليكِ الحديث ده قبل كده.. اسمعي يا أبله الرسول عليه الصلاة والسلام بيقول إيه
(يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم. فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته.)
**
المصدر/ رواه أبو داود (4880)، وأحمد (4/420) (19791)إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/175) وقال الألباني في ((4880)): حسن صحيح.
**
طأطأت نورا رأسها بخزي وخجل فتابع زياد بهدوء قليلًا
–سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم كان حريص على ستر العاصين..رجل اسمه ماعز زنى.. فأمره رجل يسمى هزال بأنه يروح للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعترفله بالزنى، فقال صلى الله عليه وسلم لهزال: «لو سترته بثوبك كان خيرا لك»
يارب تكونِ اتعلمتِ الدرس واللي حصل ده ميتكررش تاني.. وعشان ربنا يغفرلك ويسامحك اطلبي من بدر وعائشة يسامحوكِ على تشهيرك ليهم.
جحذت عيناها وهتفت معترضة
— إنت بتقول إيه.. عاوز أختك تتفضح قدامهم؟ وبعدين أنا اعتذر لعائشة ؟.. ده اسمه هبل ده
قالتها بشيء من السخرية والغرور فرمقها زياد بسخط ثم دفع بها أمامه هاتفـًا

 

 

— طب انزلي.. مفيش فايده فيكِ.. أنا هعرف أبوك باللي حصل.. بس هديكِ مهلة يومين تراجعي نفسك
تخيلت نورا نفسها وهي تعتذر لعائشة فضحكت ساخرة لتحدث ذاتها
— أتـأسف لي دي !.. مُستحيل.
***
كان قُصي لم ينم بعد وذهب ليجلس مع شقيقه الذي إستيقظ للتو وأخذ يتصفح جهاز الكمبيوتر المحمول الخـاص به.
هتف قُصي بمناغشـة وهو يلقي برأسه على فخذ أخيه ليُمدد قدمه ويراسل إحدى الفتيات على تطبيق “الماسنجر”
–ولاا إنت مش ناوي تهوينا وتتجوز بقى عشان أخد لبسك واللاب توب وبرفناتك وأي مُقتنيات أثرية بتمتلكها وتماثيل فرعونيه والأهرامات التلاته خروع ومنقلع ومنخرع
صفعه “أُبيّ” برقة على جبهته ليضحك قائلًا
–إنت بتقول إيه يامتخلف إنت! هو عشان مصاحبك يبقى تكلم أخوك الكبير بالطريقة دي؟
رد قُصيّ وهو يضع قدم فوق الأخرى ويهزها في الهواء
–الفرق بينا اتناشر سنة بس.. مش حوار يعني
نهض أُبي فجأة عندما رن هاتفه، فوقع رأس قُصي مُصطدمـًا بالأريكة، مما صاح بغضب مُصطنع
–إنت لو بتتعامل مع بطيخه هتتعامل معاها أحسن من كده
جاءه رد أُبي ضاحكـًا
–البطيخه ليها فايده عنك
عاد قُصي ليتحدث مع تلك الفتاة التي يراسلها منذ أكثر من عامين حتى وقعت في غرامه، بينما هو يُحادثها من باب الصداقة فقط

 

 

 

أرسلت له
“قُصي إحنا بقالنا سنتين عارفين بعض ومفكرتش في مره تحكيلي عن نفسك”
أجـاب وهو ينهض ليأخذ تفاحة من الموضوعة على طاولة الطعام، قضمها وهو يكتب لها
“أحكيلك إيه ولا إيه..أنا قضيت طفولتي كلها اعدل الشباشب المقلوبة على وشها عشان ما ادخلش النار”
ضحكت الفتاة بشدة لتكتب له
“تعرف.. إنت دمك خفيف أوي.. إمتى بقى نبقى في بيت واحد و تشيلني وتأكلني من إيدك”
“لما تنشلي إن شاء الله”
أجابها وهو يقضم التفاحة بصوت عالي جعل أُبي يرمقه بغضب وهو يُحادث صديقه على الهاتف
أجابت
“حرام عليكِ يا كوكي حد يدعي على حبيبته برضك”
راسلها كاتبـًا

 

 

“لأ. طالما وصلت لكوكي وبرضك.. يبقى هابي بلوك”
وبالفعل قام بحظرها، وانتقل لمُحادثة فتاة أخرى تعرف عليها منذ يومين فقال
” عايز اخُد عربيتى اللى مش موجوده و انزل الف بيها دلوقتى.. إيه رأيك تيجي معايا؟ ”
بعد لحظات أجابت ضاحكة
“نو ثانكس عندي عربيتي”
ضحك ثم التقط لنفسه صورة وهو يقضم تفاحته بشراهه وبشكل مضحك جدًا، ثم أرسلها لها فإنفجرت ضاحكة وما هي إلا ثوانِ وقامت بحظره، فهتف قُصي مُهللًا بصوت مرتفع
–لا إله إلا اللــــه.. اللي بنعمله في الناس هيطلع علينا ولا إيــه.. وفي لمح البصر وجد كف خُماسي ينزل على رقبته، فكان هذا والده الذي استيقظ منزعجـًا من صوته العالي، ابتعد قُصي عن والده سريعـًا وهو يعتذر بشدة بينما أُبي وقع هاتفه من يده من كثرة الضحك على مظهر شقيقه وهو يهرول كالمجرمين هاربـًا من أبيه.
خرج قُصي ليجلس على درجات السُلم ويبدو أنه لم يشعر بالملل بعد، فقرر مُراسلة فتاة ثالثة تعرف عليها في الصبـاح
قال لها
“بنچـور”
أجابت
“بنچور إيه يا أهطل إحنا نُص الليل”
شعر بغباءه للحظة ثم كتب

 

 

 

“هي صورتك دي؟”
أجابت
“اه.. ليه؟”
قال
“تخينه بس حلوه.. كلما ذادت الكتلة زادت الجاذبية”
ضحكت وقالت بإعجاب
“شكلك عسول وروش”
ابتسم بغرور في نفسه ليجيب
“عارف”
كتب رسالة أخرى
“اقولك نكته؟”
ضحكت وأجابت “اشطا”
كتب وهو يضحك
“في محشش ماسك خفاش وقاعد يضحك.. الناس شافوه سألوه ايه اللي بيضحكك : قالهم اول مره اشوف فار لابس عبايه
ردت الفتاة
” طيب وهي الناس مالها بتسأله له؟ ”
لم يُجيبها قُصي ووضعها هي الأخرى على قائمة الحظر.
***
بعد أن خرج بـدر من بيته فقد ضالته في الطريق ولم يعد يعرف أين يذهب وأين يتجه، ترك لقدميه العنان تقوده حيث شاءت؛ حتى اقترب من مقعد صخري أمام البحر وجلس عليه ثم انفجر في البُكاء بصوت مرتفع يصل لجوف البحر.. ظل يبكي ويبكي وهو يُردد بإنهيـار وضعف شديد
–ليـه.. أنا عملت إيـــه.. والله ما أستاهل.. والله ما أستاهل يارب..
ثم صرخ صرخة مزقت أحشاء السكون في ظلام الليل الحالك
–يــــــــــــــــــــــارب
نهض بعد أن هدأ وكفْ عن البُكـاء قليلًا؛ ليسر في الليل وحده والشوارع كلها خالية من البشر، فقط أصوات الكلاب الضالة

 

 

 

وبعض الأعمدة التي مدت أنوارها للمـارة.. قطع مسافة كبيرة وهو يمشي وعقـله مُغيب تمامـًا منذ أن اخترقت تلك الجملة التي قالتها والدته أذناها، هي غاضبة عليه وكل شيء غاضب منه وعليه، هو لا يستحق كل هذا العِناء أبدًا، هل ما صارحته به والدته صحيح؟
هل فعلـًا اهتمامه الزائد بعائشة جعله يهمل أسرته؟
هل بالفعل تمكن العشق منه؟
ولِمَ لا وتلك الحمقاء الصغيرة ما زالت ساكنة في عقله وقلبه رغم كل شيء.
“حـــــاسب.. العربيـــه مفيهـــــاش فرامل.. إنت يا أعــــــــمى.. حـــــــــاسب”
كان هذا صوت أحد السائقين الذي انحرفت عجلات سيارته عن المسار الصحيح لها.
انتبـه بـدر أخيرًا لتلك الإضاءة القوية المُنبعثة تجاهه، فإتـسعت عيناه بذهول وقفز سريعـًا في إتجاه آخر مُتفاديـًا الإصطدام بالسيارة، وبالفعل نجا منها بأعجوبة وكذلك السائق الذي استطاع أن يوقف سيارته ثم عاود تشغيله بعد أن تأكد بأن كُل شيء على ما يُـرام.
تنفس بـدر بصعوبة ثم ابتسم ليقول بسخرية
–كان بيني وبين الموت خطوة.. ياريتها كانت خبطتني كُنت مُت وارتحت وريحت الكُل مني
ظل يُحدث نفسـه وهو يسير كالتائه في الشوارع
(هي أمي غضبت عليا ليه..؟ طيب هو أنا اللي عملت في سيف كده؟.. أنا ذنبي إيه؟.. وهاجر.. هاجر بطلت علاج وفي أخر مراحلها !.. لو أقدر أديها روحي وعمري مش هتأخر ثانية والله.. بس أعمل إيه يا أُمي.. مش بإيدي.. والله ما بإيدي.. ذنبي إيه إني حبيت؟.. ايوه أنا بحب بنت عمي.. بحب عائشة لدرجة إنها بقت إدمان بالنسبالي.. ده برضه مش بإيدي.. والله ما حد ليه

 

 

 

على قلبه سلطان يا أمي.. هو أنا مش بشر برضو زيّ زيكم.. ليه بتعملوا فيـــا كده.. أنا تعبت يا أُمي.. والله العظـيم تعبت وفاض بيــا)
ظل بـدر يسير في الطُرقات حتى حل بزوغ الفجر وسمع مُنـاديـًا يُنادي للـصلاة
“حي على الصـلاة.. حي على الصـلاة”
مرّ من أمام مسجد ووقف للحظات يشاهد عدد قليل جدًا يتوافدون عليه ليصلون نازعين نعالهم في الخارج.. كاد أن يُلبي النـداء كما يفعل دائـمًا ولكن لأول مرة يشعر بأنه مُكبل بقوة وصوت ما يأتي من أعماقه ويمنعه من تأديـة فرضـه.
في نهاية الأمر انتصر هذا الصوت اللعين على بدر، فإنـصرف دون أن يُصلي.
شعر بغضب شديد من نفسه وفي نفس الوقت شعر بأنه لا حاجة له في الصلاة طالمـا أن حياته تنقلب رأس على عقب، لا يعلم ما هذا الشعور السيء الذي انتابه فجأة وغيره هكذا لكنه تغير كُليـًا، يبدو أن ايمانه بدأ بالضعف وانتصرت وساوس الشيطان عليـه.
عاد لبيته وقد قرر بأن يأخذ ملابسه ويبيت في ورشته دائـمـًا حتى ترضي عنه والدته حتى يرضى عليه اللـه، وحين وطأت قدميه الشارع المؤدي لبيوت عائلة الخياط، لمح بوابـة بيت عمه محمود مفتوحة.
توقف للحظات ينظر بإقتضاب للبيت؛ فإنتبه لسـطوع نور يخرج من إحدى الغرف.. إقترب أكثر واستطاع أن يسمع صوت حركة أحد بالأعلى، ظن أنه ربما يكون لص؛ فقفز سريعـًا على الدرج وفتح الباب دُفعة واحدة.. وقعت عيناه عليها تعرج بإتجـاه المرحـاض.
ابتلعت عائشة ريقها بخوف شديد فور رؤيتها له يقف يُنـاظرها بغضب لا مثيل له وكل شر العالم يتجمع في عينيه

 

 

هفتف سريعـًا بتبرير
“أنا.. أنا حسيت نفسي مش مرتاحه عندكم فجيت هنا”
اقترب منها ثم جذبها من معصمها بقوة هاتفـًا بإستشـاطة
“إستئذنتي من مين عشان تيجي هنا..؟؟”
استجمعت شجاعتها وحاولت تحرير يديها منه، فلم تستطيع.. قالت بغضب مماثل
–إنت ملكش الحق تقولي جايه منين ورايحه فين.. أنا حُره.. وده بيتي.. سامع.. ملكش أي حق فيـا
تركها ليدفعها بغضب فسقطت على الأرض مما تألم كاحلها أكثر وتأوهت بألـم شديد، تجاهل بـدر ما يؤلـمها وصاح بها مُنفعـلًا
–حُره دي تقوليـها لما تكوني ملكيش حد يُحكمك.. لما تكوني سايبــــه ملكيش أهل.. لكن طول ما أنا عايش هتفضلي مسؤولـه مني.. فاهمـه يا زفته إنتِ ؟؟؟!
اندفعت باكية
“بس أنا فعلـًا مليش أهل”
ارتفع صوت شهقاتها ولم يُبالي بـدر بذلك بل تقدم منها ليجعلها تقف ولكنها ظنت أنه سيضربها، فوضعت يديها على رأسها ووجها؛ لتحمي نفسها ثم همست بنبرة مهزوزة متوسـلة
–متضربنيش
ما هي إلا ثوانِ وتفاجئت بـه يحملها بين ذراعيه ثم أجلسـها برفق على الأريكة واتجه في صمت ليبحث عن صندوق الإسعافات الأولية في غرفة عمه، وجده وأحضر منه مرهم للتورم والكدمات، ثم جلس أمامها ووضع قدمِهـا المُصابة على فخذه وأخذ يضع على مكان الإلتواء المرهم برفق تحت نظرات الدهشة والتعجب من عائشة..بينما يفعل ذلك نظر لها فوجدها تتـأمله بدهشة.. قال ساخرًا
–ميغُركيش اللي بعمله.. دي مش حنية ولا حُب مني.. لأ خالص.. أنا بس عاوزك سليمة كده عشان اللي جاي مش سهل عليكِ

 

 

 

“هما ليه بيكرهوني..؟”
سألته عائشة بعيون دامعة، صمت بدر للحظات حتى إنتهى، ثم رفع قدمها عنه بحذر ووضعها على الأريكة؛ لينهض مُتجهـًا للخارج.. استوقفته قائلة بلهفة
–رايح فين؟
لم يُجيبـها وهبط للأسفل ليُغلق بوابة المنزل الحديدية ثم صعد ثانية وجلس أمامها ليقول بلهجة حانية
–محدش بيكرهك يا عائشة.. إنتِ اللي بتتوهمي كده
همست بضعف
–لا يا بدر.. كلهم بيكرهوني
“كـفايا أنا بحبك”
قالـها بدون وعي منه وهو يغرق في عينيها بضياع، كان سيضيع حقـًا إذا لم يرجع لرشده ويبتعد عنها سريعـًا.. وقف موليـًا ظهره لها ليقول بلهجة حادة
–مش هينفع نستنى أكتر من كده.. أنا هجيب المأذون بكره ونتجوز.. كفايا فضيحتنا في الحاره الله أعلم هتوصل لفين بعد كده
تساءلت بوهن
“طيب.. طيب مينفعش نصبر شويه؟”
استدار ليرمقها بحدة هاتفـًا بغضب
–ليــه.. في فضيحه تانيه عاوزه تعمليها !!.. كفايا مصايب بقى لحد كده.. محدش هيلم لحمك غيري.. لو هيبقى جواز على ورق حتى بس على الأقـل الناس كلها تعرف إنك مراتي.. ولا إنتِ عندك حل تاني.؟
فكرت للحظات فوجدته أنه على حق، هي ليس لديها أحد وهو الوحيد الأقرب لها من بين عائلتها، ربما فكرة الزواج والمكوث وسط تلك العائلة التي يبغضونها فكرة سيئة ولكن على كُلـًا سيكون لها ملاذًا آمنـًا من شرور العالم، وليس لديها إختيارات للرفض؛ لذا أومـأت قائلة
–موافقـه
قال بصدق:
“أنا مش بجبرك تجوزيني ولا عمري هجبرك تعيش مع حد إنتِ مش حباه، بس إنتِ شايفه فيه حل تاني؟”

 

 

 

تنهدت مردفة
–اللي إنت شايفه صح إعمله.. أنا موافقه
أومـأ بضيق قبل أن يستدير ليذهب
–تمام
أوقفته عائشة بنظرات توسل
–بـدر.. مُمكن تخليك جنبي إنهارده؟
ضحك ساخرًا وأجاب
–متقلقيش من بكره هبقى معاكِ علـطول
ابتلعت ريقها بخجل وقالت باسمة
–مقصدش.. بس.. بس أصل خايفه أنام لوحدي
وضع بـدر يديه في جيبه وتنهد مُتأملـًا إياها للحظات، بينما هي أشاحت بصرها عنه وظنت أنه سيرفض، فقامت تعرج تجاه غرفتها، وللمرة الثانية يحدث ما حدث منذ قليل.. وجدت نفسها في الهواء يحملها بين ذراعيه بوجه عبوس دون أن ينظر لها حتى، ثم وضعها على فراشها وغطـاها ليعود للخارج قائلًا بهدوء

 

 

— نامي.. أنا هقعد برا
ابتسمت عائشة بخفوت في نفسـها واستسلمت للنوم، بينما بـدر ظل جالسـًا في الصالة لا يدرِ مالذي يفعله بنفسه وما الذي أوصله لتلك الحالة من الأساس، يعلم أنه يغضب الله ويتمرد على دينه ولكنه يشعر أنه يفعل ذلك ليس بمحض إرادته ولكنه مُجبر.

 

 

 

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية يناديها عائش

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *