رواية غير قابل للحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم
رواية غير قابل للحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم
رواية غير قابل للحب البارت الثامن عشر
رواية غير قابل للحب الجزء الثامن عشر
رواية غير قابل للحب الحلقة الثامنة عشر
من المعتاد في الأعراس الإيطـــالية إقامة بعض التقاليد الشائعة، قبل وأثناء مراسم الزفــاف، لإضفاء أجواء من الحماسة والتشويق على العروسين، بالإضافة لإمتاع الحضور، مثل الابتعاد عن ارتداء اللون الأبيض حتى لا يكون نذير شؤم، عدم وضع الحُلي الذهبية، ووضع بعض العراقيل للعريس خلال اصطحابه لعروسه واختبار فطنته وجَلده؛ لكن ما عايشته في أهم ليلة حلمت بها، كان على النقيض كليًا، فبدا الحفل برمته فاترًا، خاليًا من الإثارة، ومملًا لأبعد الحدود، وقتئذ أدركتُ أني رسوت على شط نهاية مرحلة من حياتي، وبدأت أخرى مجهولة، مليئة بكل ما قد يكون صادمًا، ومؤلمًا، بمجرد إعلان القس لزواجنا.
تصاعد ضيقي، وانتشر، بعدما أصبحت بمفردي في لحظة، حيث انشغل “فيجو” بمن جاء لمباركته، واضطررت –حفظًا لماء الوجه- للتحرك بثوبي الثقيل وطرحتي الطويلة بضعة خطواتٍ ناحية الوصيفات، كأنما الخجل قد أمسك بي؛ لكن في حقيقة الأمر شعرت بالوحدة والإقصاء. لم تكن قبلته كالشظية التي تترك أثرها على الشفاه، بل بدت أقرب إلى واجب مطلوب أدائه تجنبًا للتوبيخ. تنهدت مليًا، ورحتُ أتأمل المحيط من حولي مستشعرة بمزيدٍ من الإحباط يتسرب إلى داخلي.
ورغم أن المظهر العام يوحي بأن الحضور مسرور، إلا أني شعرت في أعماقي أن فرحتهم زائفة، مخبأة خلف هذه الابتسامات العريضة، والنظرات الوهاجة، فافتقرت لبهجة العروس التلقائية، وافتقدتُ للهفة والشغف، فقط وددتُ لو أبقيتُ ستر وجهي مسترسلًا لأخفي سخطي ورائه. استدرتُ برأسي للجانب مرة ثانية، لمحت “فيجو” وقد ابتعد بضعة خطواتٍ عني ليتلقى التهنئات من المتواجدين، وهم كُثر، عاودت التحديق أمامي فوجدت “آن” تقترب مني وسحنتها عابسة نسبيًا، ابتسمت لها في رقة، وسألتها في روتينية وأنا أفرد طرحتي:
-ما رأيك؟
أجابت بصراحةٍ مزعجة:
-بشع.
هتفت في دهشةٍ مستنكرة:
-ماذا؟
أضافت بمزيدٍ من الصراحة المغلفة بالوجع وهي تشير بعينيها:
-ألا تري ما حولك؟ إنه مقيت، يصيب بالغثيان…
جريتُ بنظراتي على الحضور، كنت كمن أراهم وجوهًا مظلمة بلا أقنعة، مجرد دُمي يتم تحريكها بالخيوط وفق أهواء زعيمهم، للغرابة لم يقترب أحد مني! الغالبية التفت حول “فيجو”، تقدم له فروض الطاعة والولاء، لا التهنئة والمباركات. انتبهت مجددًا لشقيقتي وهي تكمل في أسى:
-أنا انتظر انتهاء هذه المسرحية الهزلية لأنصرف.
كنت أشاركها نفس الإحساس، وإن لم أجرؤ على الإفصــاح عن ذلك علنًا مثلها، ضممتُ شفتاي معًا بعد تنهيدة بطيئة، والتفتُ ناظرة في اتجاه والدتي، لأقول بعدها:
-“صوفيا” سعيدة.
شعرت بلمسةٍ من يدها على ذراعي، فنظرت مرة ثانية ناحيتها، خاطبتني بعدها في إشفاقٍ:
-“ريانا” لم يكن عليكِ فعل هذا.
أخبرتها مؤكدة:
-أنا فعلت ذلك لأجلنا جميعًا، لحمايتنا.
رغم أن نبرتها كانت غير مرتفعة إلا أن الحنق كان ظاهرًا فيها عندما قالت:
-حمايتنا؟ ممن؟ نحن نعيش في جحر الأفاعي، كيف سننجو برأيك؟
تملكت نبرة اليأس من صوتها وهي تضيف:
-النتائج محسومة في النهاية، وليست لصالحنا.
ثم أشارت بعينيها إلى من تبغضه بشدة، وتابعت في نفورٍ:
-انظري للحقير “لوكاس”.
وجهت ناظري إلى حيث يقف، فرأيته ينزع رابطة عنق “فيجو”، ضاقت نظراتي باسترابة؛ لكن سرعان ما فهمت بتصرفه أنه لاحقًا سيقوم بتمزيقها إلى قطعٍ، ومن ثم توزيعها على العازبين من الرجال، كتقليدٍ متبع في الأفراح، ومن يحصل على القطعة الكبرى يعني خطبته قريبًا، وكأنه فأل حسن، وبشارة طيبة بالأمر. باعدت نظراتي عنه لأحملق في شقيقتي وهي تؤكد لي:
-لن ينالني مهما فعل!
رطبتُ شفتاي بمسحة سريعة من لساني، وقلتُ:
-لا تقلقي.
تحركت لتقف في مواجهتي، نظرت في قلب عيني، وعلقت بجديةٍ تامة، أصابتني بقدرٍ من الرجفة:
-أنا لا أخشى على نفسي، وإنما أنتِ من يجب أن تخافي…
كلماتها كانت تحوي قلقًا متعاظمًا، ظهر تأثيره علي في التو عندما استطردت:
-فبعد ساعات من الآن ستغدين مع الوحش الكاسر بمفردك.
هذه الجزئية تحديدًا كنت أتجنب التفكير فيها بشتى الطرق، فالانخراط في تفاصيلها المحرجة يربكني بشكلٍ هائل، ويجعلني في حالة من الاضطراب المخلوط بالرعب، خاصة أنها تنشط ذاكرتي بما عايشته كتجربة أليمة ومؤذية حينما تم اختطافي سابقًا، وكنت شبه مجردة من ثيابي، فكيف لي أن أخوض نفس الموقف مع اختلاف الظروف؟ هربت بنظراتي منها، وهمستُ:
-ليتك لم تذكريني!
……………………………………………………..
بعد لحظاتٍ كنتُ محاوطة ببعض جميلات الحفل، يقدمن لي التهنئة، ويبحثن بنظراتهن الفضولية عن الزوج المناسب بين الحاضرين، بدا هذا واضحًا من طريقة تحديقهن المكشوفة، خاصة أن بنات العائلات الإيطــالية لديهن فرص محدودة في الحصول على شابٍ ثري ومن ذوي النفوذ. أبقيتُ على تصديق مجاملتهن، إلى أن شقت والدتي الطريق بينهن لتصل إلي، سحبتني بعيدًا عنهن، ونظرت إلي ملء عينيها بإعجابٍ شديد. رأيتُ في حدقتيها الدموع تطفر، قبل أن ترفع يدها وتمسح بنعومةٍ على خدي متسائلة في اهتمامٍ:
-حلوتي؟ كيف أنتِ؟
جاوبتها في إيجازٍ:
-بخير.
استخدمت يدها في الإشارة لمحيط المكان، وقالت:
-كل شيء يبدو رائعًا، ومبهرًا.
ابتسمتُ معلقة في لطفٍ:
-شكرًا لكِ أمي، هذا بسبب تعبك.
استمرت في الربت على صدغي وهي تقول بحبٍ صادق:
-يكفي أن تكوني سعيدة صغيرتي.
أحسستُ بالحماس ظاهرًا في صوتها حين سألتني:
-هل نظرتي إلى الهدايا؟ إنها تملأ المكان هناك.
أخبرتها بابتسامةٍ لبقة:
-لاحقًا سأتفقدها.
ضحكت قائلة بمرحٍ:
-سحتاجين لأيام للنظر إليها جميعًا.
أبديتُ اهتمامي بسماعها وهي تصف مدى ثراء وضخامة الهدايا المقدمة من المدعوين لهما، انضمت إلينا شقيقتي، ولم تدع لسانها يسكت عن السخرية، إلى أن جاء “لوكاس”، وصاح بأسلوبه الهازئ مخاطبًا إياي:
-أصبحتي الآن تنتمين لعائلة “سانتوس” رسميًا.
ردت عليه “آن” بتهكمٍ، وهي تحدجه بنظرة احتقارية:
-ويا له من شرف!
خطا ناحيتها متسائلًا:
-أتسخرين؟
مثلما أعهدها حينما تنزعج “آن” من أحدهم، تعامله بازدراءٍ واضح، لهذا أولته وجهها عن عمدٍ كأنما تتأفف منه، فقال بنزقٍ جعلني أجفل:
-قريبًا ستحملين نفس اللقب.
غامت تعبيراتها كليًا، وأحسست بنيرانٍ تنبعث من حدقتيها، رجوتُ في نفسي ألا تتهور في الحديث معه، ونظرت إليه في قلقٍ وهو يواصل الكلام:
-انظري ماذا أحضرت لكِ.
كان “لوكاس” ممسكًا بقطعة كبيرة من رابطة العنق، نفضها في وجنة “آن” ليستفزها، فصرخت به بعصبيةٍ جعلتني أتلفت حولي لأتأكد من عدم متابعة أحدهم لنا:
-ابعدها عن وجهي وإلا أحرقتها.
ألقاها في وجهها قائلًا ببرودٍ:
-افعلي بها ما تريدين، ففي النهاية أنا أحصل على ما أرغب.
أخبرته في شراسةٍ مهددة، وبلا تفكير:
-سأغرز خنجرًا في صدرك قبل أن يحدث ما يدور في رأسك.
نفس التحديات، ونفس التراشق اللفظي المملوء بالوعيد، ذكرني ببداياتي الحادة مع “فيجو”؛ لكنها في نسختها المتكررة مع شقيقتي. لوح “لوكاس” بيده مودعًا إياها، قبل أن يرسل لها قبلة في الهواء، اشتعلت بشرتها بحمرتها الحانقة، ودمدمت تتوعده في زفيرٍ ثقيل:
-اقسم أني سأقتله إن اقترب مني.
طلبت منها برجاءٍ:
-اهدأي، لا تدعيه يعبث برأسك، صدقيني إنه يغيظك فقط.
هتفت محتجة:
-لا، إنه لن يتركني، وأنا لن أسمح له بأخذي قسرًا مثلك.
صدمتني كلمتها الأخيرة، فابتلعتها على مضضٍ متفهمة لحظة الغضب المسيطرة عليها، فهي لم تعرف على من تصبه بالضبط، لم أعاتبها، وشيعتها بناظري وهي تنصرف عني في خطواتٍ شبه متعصبة، تشتت بصري عنها حين شعرت بلمسة متحكمة تطوق خصري، استدرت للجانب مرة واحدة، فرأيت “فيجو” لصيقًا بي، سرت في برودة خفيفة، قاومت تأثيرها قدر استطاعتي. لم ينظر إلي، وقال في صوتٍ آمر:
-هيا، الجميع ينتظرونا عند موائد الطعام.
انخطف قلبي من طريقته المسيطرة، وشعرت بشيء يرتج بداخلي، يجمع بين الرهبة والارتباك، خاصة استجابتي السريعة لتأثيره، وهذا ما أرعبني بشدة! تبعته في صمت، محاولة اللحاق بخطواته التي بدت مع ثوبي الطويل سريعة نسبيًا.
……………………………………..
يُقال أن طول طرحة الزفاف يشير إلى مدة الخطبة، وهذا كان مناقضًا لوضعي، فأنا لم أعرف زوجي سوى من مدة قصيرة، كانت محفوفة بالمخـــاطر والموت. ظلت عيناي تتطلعان إلى طرفها الممتد بجواري وأنا جالسة على رأس مائدة الطعام في شرودٍ ساخر، للحظةٍ جال بخاطري ذكرى العروس التي كانت في مثل موقفي، كنت حزينة لأجلها، وها أنا اليوم مثلها، مجبرة على زوجٍ دون إرادة مني، صحيح أنه لا يفوقني عمرًا كزوجها؛ لكن في الأخير أتزوج به قسرًا، لا عن حبٍ عميق، ولا عشقٍ عظيم مثلما كنتُ أحلم. ترى هل هناك من يشفق لحالي كما كنت أفعل سابقًا؟!
فتشت بين الوجوه عمن تشبه حالتي، فلم أجد سوى شقيقتي، كان الألم يعتصر وجهها، ويستصرخ في عينيها، أوغر ذلك صدري، ورميتُها بنظرة حانية، كم تمنيت أن تراها؛ لكنها كانت مشغولة بالحديث مع “صوفيا”، حاولت أن ألتهي بتناول الطعام، فلم أتمكن، اضطراب معدتي أفسد شهيتي، لهذا اكتفيت بشرب بضعة رشفات من هذا المشروب المسكر، ربما كان من غير الصواب تناوله؛ لكني كنت بحاجة إلى ما يهدئ من اضطرابي، حملقت في صحني المليء بالطعام، وعبثتُ بالشوكة فيه، لم أشتهي تذوق ما تم إعداده، رغم الرائحة الطيبة، كنت أنثر الأجزاء هنا وهناك، كما لو كان في إفساد مظهره المغيظ سعادة خفية، ما لبث أن توقفت عن تحريك الشوكة حين كلمني “فيجو”، فاستدرت أتطلع إليه وهو يخبرني في صوتٍ هادئ:
-أنتِ شاردة معظم الوقت، هل هناك ما يزعجك؟
تفاجأت من سؤاله المهتم، هل يراقبني حقًا؟ كنت أظنه مشغولًا بتبادل الأحاديث مع القادة الذين لم يتركوه للحظةٍ؛ لكن على عكس ما اعتقدت كانت لي مساحة من الاهتمام، أشعرني هذا بقدرٍ من الارتياح والغبطة، ومع هذا ادعيتُ خلف ابتسامتي المهزوزة:
-أنا فقط قلقة من أي هجومٍ غادر.
لم أصدق أن كذبتي العادية، تلك التي طرأت في ذهني لحظتها، أن تكون حقيقة واقعة، خاصة عندما أكد لي “فيجو” بتعابيرٍ جادة:
-هل وصل إليكِ الخبر؟
اندهشت عيناي من سؤاله المباغت، فتابع:
-المكان مؤمن جيدًا، لن ينجحوا في اختراقه مهما فعلوا.
ارتعشتُ وأنا أسأله لأتأكد أني لا أهذي:
-كيف عرفت؟
أجابني وهو يشملني بنظرة غامضة، مختلفة عن تلك المليئة بالقسوة:
-رجالنا في الأزقة وشوا لأتباعي بوجود بعض الأنباء باحتمال تكرار الهجوم.
تحفزتُ في جلستي، وسألته بنظراتٍ فزعة:
-ماذا؟ من جمــاعة الــروس؟ أليس كذلك؟
جاوب في اقتضابٍ:
-نعم.
أصابني المزيد من الهلع، فتمتمت برجفةٍ كبيرة:
-اللعنة.
شعرت بيده تقبض على كفي المبسوطة على الطاولة، ضغط بأصابعه علي، وقال في هدوءٍ:
-لا تخافي.
سألته بأنفاسٍ مضطربة:
-“صوفيا”، و”آن”، هل سيكونان في أمانٍ بعد ذهابي من هنا؟
نظر إلي بجمودٍ قائلًا:
-هما في حماية عائلتنا، لا تستهيني بنا.
لم أجعل حاجز الخوف يصدني عن الاعتراف له بصدقٍ عن مخاوفي:
-لكن المرة السابقة آ…
قاطعني موضحًا بوجهٍ عاد إلى قساوته:
-“رومير” كان متورطًا فيه، فتح لهم الأبواب، وأطلعهم على طريق الهروب.
بلعتُ ريقي في حلقي الجاف، وأضفتُ عليه:
-وتلقى جزائه.
لاحت بسمة صغيرة على زاوية فمه، كانت مثيرة للاهتمام بشكلٍ عجيب، أبقاها ظاهرة وهو يخاطبني بنبرة احتوت على تهديد مبطن:
-جيد أنكِ تعرفين هذا، لا تمر الخيانة دون عقاب!
……………………………………………………………………….
لنقل أن الوقت كان يمر كالسلحفاة في بطئه، كل فرد يتقدم من مائدتنا ويدلي بدلوه في الإشادة والمدح بمهارات القائد المرتقب للجمــاعة الإيطـــالية، وكيفية إدارته لمناطق سطوته بيدٍ من حديد، ناهيك عن العطايا التي تُعطى كبادرة ودية لإظهار الطاعة، تغافلت عن كثيرٍ مما يدور إلى جواري، خاصة أن غالبية الحوار لم يكن موجهًا لي، كنت أشعر بأني متطفلة على الحفل برمته رغم كوني العروس. أفرغت كأسي لمرة جديدة، وطلبت آخرًا، ثم قلبتُ نظراتي بين المحتشدين هنا وهناك في حلبة الرقص، دون رغبة حقيقية مني في المشاركة، مع أنه من المفترض أن أقفز مرحًا وبهجة، رفعت بصري نحو “مكسيم” عندما نهض من مقعده هاتفًا في مزاحٍ:
-هل أنتما عجائز؟ هيا إلى الرقص.
قام “فيجو” بدوره من جلسته، وقال بانصياعٍ:
-حسنًا يا زعيم.
ثم مد يده ناحيتي ليطلب مني النهوض، نظرت له بترددٍ، لم تكن بي رغبة بالرقص، أو التحرك من هنا، فقد راح رأسي يثقل، ونظراتي تتوه، بالإضافة لتراكم أعباء اليوم على كاهلي، ومع ذلك الرفض لم يكن خيارًا مطروحًا، لهذا نهضت صاغرة، ووضعت كفي في راحته ليقبض عليها، ســار بي في تمهلٍ بعيدًا عن المائدة، ووالده يتبعنا، قال الأخير من ورائي بنبرة عالية:
-لي رقصة معكِ، قبل أن يصطف الرجــال لتقبيلك في نهاية الحفل.
على ما يبدو لعب الخمـــر الكثير الذي شربته برأسي، فجعلني أفقد تركيزي، وكنت ممتنة لهذا، فالقــادم يحتاج لأن أكون مغيبة عن الوعي، لئلا أشعر بشيء، حاولت في خضم تخبطي فهم ما يرمي إليه “مكسيم” من جملٍ غريبة، فالتفتُ أنظر إليه متسائلة في استرابةٍ:
-تقبيل من؟
ضحك في استمتاعٍ، وخاطب “فيجو” بمكرٍ:
-ألم تخبرها؟
نظرت إلي الأخير بتحيرٍ، فتجنب التطلع إلي، وظلت نظراته مرتكزة على والده وهو يقول بعد أن حاوط خصري استعدادًا للمشاركة في الرقصة التالية:
-ليس بعد.
انتابني الفضول فتساءلت:
-ما الأمر؟
أجابني “مكسيم” بفجاجةٍ أخجلتني:
-من أجل إثارة غيرة زوجك سنجعل جميع من هنا من رجالٍ يقبلونك، مع أني واثق أنه لن يتأثر.
برقت عيناي في صدمةٍ ذاهلة، ونطقت بقلبٍ منقبض:
-ماذا؟
مجددًا ضحك “مكسيم” لردة فعلي المفزوعة، وقال في لؤمٍ:
-نحن نتسلى عزيزتي.
حينئذ تطلعت إلى “فيجو”، أبحث في وجهه قبل نظراته عن إجابةٍ صريحة لما سيحدث، كانت ملامحه غير مقروءة كالعادة، فسألته في توجسٍ شديد:
-هل ستفعل ذلك؟
جاوب “مكسيم” عنه بثقةٍ:
-إنه لن يعارضني، أليس كذلك؟
أبقيتُ نظراتي على “فيجو”، والخوف يعتريني، توقعت أن يرفض هذه السخافة الفجة، أن يظهر غيرته كما أظهر اهتمامه سابقًا في لحظةٍ لا تتكرر كثيرًا؛ لكنه فاجأني بانسياقه وراء هذه العبثية المريضة:
-وهل خالفتك سابقًا؟
سدد له نظرة ذات مغزى قائلًا بغموضٍ حيرني:
-نعم، مرة واحدة، أتذكرها؟
لاحظت كيف تقلصت تعابيره وغامت نسبيًا وهو يقول:
-أنا طوع يدك أبي.
تبادل الاثنان نظرات غريبة، محيرة، مقلقة بالنسبة لي، لنقل أن اللعب بأعصابي في هذه المرحلة لم يكن محمودًا، كنت على وشك الانهيار، وهتفت محتجة وأنا أنظر في عيني “فيجو”:
-لن يمسني رجل.
…………………………………………………..
لم يعرف قلبي الطمأنينة وأنا أجد نفسي أداة تسلية سخيفة من أجل تقليدٍ أسخف، منحني “فيجو” نظرة طويلة غريبة، احتوت على لمعانٍ خفي بَعَث الشك في نفسي، لم ينبس بكلمةٍ، لكني أحسست بشيء ينبئني أنه سرَّ لعنادي هذا في لعبتهما التي اعتبرتها غبية، فجـــأة شعرتُ بنفسي انتشل من تحت طوق حصاره الطاغي، لأقع بين ذراعي “لوكاس” في لمح البصر، شهقت في ذهولٍ، والأخير يهتف في حماسٍ:
-سأكون الأول يا زعيم.
سحبني إلى حلبة الرقص، حيث بدأت موسيقى الرقصة الجديدة بعد أن توقفت سابقتها دون أن انتبه، رأيته ينظر لـ “فيجو”، ويطلب منه في وقاحة:
-اسمح لي.
رمقه بهذه النظرة الغريبة ملوحًا بذراعه:
-إنها لك.
كاد يميل برأسه نحو شفتي، مدعيًا إقدامه على تقبيلي؛ لكني نأيتُ برأسي للخلف، وحذرته وأنا أضع كلتا يدي على صدره لأمنعه من الاقتراب مني:
-إياك أن تفكر في ذلك.
ضحك قائلًا في مزاحٍ ثقيل يبث الاستفزاز في النفس:
-صدقيني لا يهفني الشوق إليكِ؛ لكنها التقاليد.
قلتُ ببساطة:
-لست مضطرًا لاتباعها.
غمز لي هاتفًا بتسلية:
-بل على العكس، لن أخالفها.
حدجته بنظرة حادة، تحوي غضبًا مندفعًا، تضاعف في طرفة عينٍ وهو يكمل كلامه:
-رغم أني أفضل تقبيل شقيقتك الشرسة، المتعة معها أفضل بكثير.
إن كان “فيجو” شيطانًا، فهذا أسوأ منه بمراحل، يعرف كيفية استثارة أعصابك بلا مجهودٍ يذكر، استجمعت ثباتي، وضبطت من انفعالاتي الهائجة، مقاومة انفجار الغضب بداخلي، لاستعطفه في رجاءٍ:
-أرجوك لا تفعل، إنها بريئة!
اندهش من رجائي، وهتف في سخريةٍ لاذعة:
-الأميرة المتمردة تتوسلني، لا أصدق ذلك، ولا يليق بكِ!
أخبرته بصدقٍ:
-ربما أنت محق؛ لكني سأفعل أي شيء من أجل شقيقتي، فرجاءً ابتعد عنها.
دار بي عدة دورات سريعة، جعلت رأسي يلف، ونظراتي تزيغ، ليعلق بعدها:
-أوه، مثير للإعجاب، هل اشتكت إليكِ؟
حاولت الحفاظ على اتزاني، ومجاراته في حركاته السريعة المتلاحقة خلال هذه الرقصة، لأصارحه بغير احترازٍ:
-إنها لا تريدك “لوكاس”، تكرهك بشدة.
باغتني برده المرحب بحرارة:
-عظيم، هذا مفيد لعلاقتنا، سيقويها.
لولا أنه يحكم لف ذراعيه حولي، لكنتُ طرت مع التفافه الخاطف وطُرحت أرضًا، خاصة مع حركاته المتلاحقة المتنقلة في لمح البصر، تراخت قواي، وأصبحت غير قادرة على التحكم في حركتي، فأبطأ “لوكاس” من إيقاعه، مُدركًا ما حل بي من هوانٍ، نظر إلي بزهوٍ قبل أن يسألني:
-أين باقة الورد؟
اهتزت ملامحه من تأثير الدوران المتعاقب، ورددتُ:
-لماذا تسأل؟
جاء تعقيبه وقحًا مثله:
-لا شأن لكِ.
توقفت الموسيقى، وبدأت أسمع أصوات التصفيقات من حولي، لكني ظللت أنظر إلى “لوكاس” الذي حدجني بنظراتٍ لئيمة مثله، لم أكن قد حصلت على جوابي بعد حين تلقفني “مكسيم” من بين ذراعيه قائلًا بمرحٍ:
-إنه دوري “لوكاس”.
تركني له برحابة صدرٍ:
-تفضل زعيمي.
الوقح مال على صدغي ليقبلني بغتةٍ قبل أن يستقيم واقفًا، لأرى هذه الغمزة العابثة من عينه، انطلقت شرارات الغيظ من مقلتي، فتجاهلها، وانطلق صوب مائدة الطعام، ليلتقط باقة الورد الموضوعة عليها، تلقائيًا تحولت نظراتي نحو “آن”، كانت الأخيرة تقف عند طاولة الشـــراب، شبه مترنحة، وفي يدها كأس الخمر، تجرعته دفعة واحدة، قبل أن تأخذ آخرًا لتتجرعه على فمٍ واحد، لم أرها تتناول الخمـــر بشراهةٍ هكذا مُطلقًا، ما الذي جعلها تلجأ إليه؟ أبعدني “مكسيم” عن تأملها بكلامه الموجه إلي وهو يستحثني على التمايل معه على نغمات هذه الرقصة الهادئة:
-سأبدأ من اليوم احتساب مدة تسعة أشهر لأحصل على حفيدٍ لي.
اكتفيت بهز رأسي كأني أؤكد له على جدية مسعاي، رغم أنه لا يوجد ما يضمن حدوث ذلك، فأنا لا أعلم ما الذي قد يحدث حين يغلق باب الغرفة علي. ابتسامته اللزجة أزعجتني، وحاولت مجاراته في حركته وهو ما زال يتحدث مشددًا:
-ولا تنسي ما أوصيتك به.
كررت حركة رأسي الرتيبة كإشارة ضمنية عن طاعتي، داعبني أمل خائب بأنه في هذه اللحظة الودية، قد يلين رأسه المتيبس، ويسمح بما رفضه سابقًا، لم أضيع الفرصة، وسألته في تهذيبٍ يشوبه الرجاء:
-هل من الممكن أن تعيد النظر في شأن دراسة شقيقتي؟ على الأقل هذا العام، إنها ستحزن وآ…
قاطعني في استخفافٍ:
-لا أظنها ستهتم بالدراسة و”لوكاس” إلى جوارها، انظري، هما منسجمان معًا.
على الفور تحولت عيناي إلى حيث تقف “آن”، رأيتها تضرب بالباقة في عنفٍ صدر “لوكاس” لتفسدها، والأخير يبدو مستمتعًا للغاية بإغضابها، صحت في استنكارٍ جلي:
-كيف ذلك؟ إنهما على وشك القتـــال!
نظرت في عينيه مؤكدة على مخاوفي:
-إن لم يكن الآن، فلاحقًا.
صدمني رده الهادئ، وعيناه تنتقلان في تمهل لتتطلعان باهتمامٍ إلى ابن أخيه:
-لم أرَ “لوكاس” هكذا، يبدو أن هناك سحرًا في شقيقتك يجذبه إليها.
فقدت أعصابي بعد تصريحه المخيف هذا، كنت أشعر أن فرصة نجــاة شقيقتي من مصير كهذا باتت ضئيلة للغاية، بل إنها تتحول للعدم، من فوري هتفت استعطفه:
-عمي “مكسيم”، إنها بلا خبرة، وهو آ…
قال مقاطعًا إياي قبل أن أتم جملتي:
-لا أتوقع أن يمل منها سريعًا…
افترت شفتاي عن غيظٍ غاضب وهو يقول بشيءٍ من الاستهانة:
-مثلك.
اتسعت نظراتي الحادة وهو يوضح لي من جديد صعوبة مهمتي:
-“فيجو” صعب الإرضــاء، ولا توجد من النساء من تشد انتباهه، حتى في لعبتنا السخيفة كان باردًا، وصلدًا كعادته.
منحته نظرة ناقمة، فتابع مستفيضًا بما صدمني كليًا، وحطمني:
-لم تُؤثر به زوجته الأولى، ولا حتى أنتِ.
نزل وقع كلامه كصاعقة شقت رأسي إلى نصفين، فهتفتُ في غير تصديقٍ:
-ماذا؟ هل كان “فيجو” متزوجًا؟ لماذا ليس لدي علم بهذا؟
آتاني تعقيبه مهينًا بشكلٍ قاسٍ:
-أنتِ مجرد وعـــاء لحمل صغاره، ظننتُ أنه مهتمًا بكِ في وقتٍ سابق…
أعطاني هذه النظرة الدونية، شعرت بها تنفذ إلى داخلي، وتابع:
-لكن يبدو أني أخطأت.
تفتت كل أحلامي وتبعثرت مع الريح، هبطت علي الحقائق قاسمة، ومهلكة. توقف “مكسيم” عن الرقص، وراح يتطلع إلي بنظرة عادية، مقللة من شأني في طياتها، انحنى نحو وجنتي مستطردًا في غموضٍ ملبك:
-بالمناسبة إنه سبب نشوب العداوة بين العائلتين…
نجح في الاستحواذ على كامل انتباهي، في إفاقتي من ضلالات الخمـــر، بما يلقيه من عبارات تارة قاسية، وتارة موحية تستثير الفضول بداخلي. طبع قبلة صغيرة على خدي، لم يبتعد سريعًا، بل شعرت بأنفاسه تلفحني وهو يهمس لي بما بدا أقرب إلى اعترافٍ زلزلني بالكامل وأحدث بي الشروخ العميقة:
-فقد أراد قتل والدك العزيز “توماسو”، وهو لم يبلغ الثانية عشر من عمره ………………………………………………… !!!
يتبع
- لقراءة الفصل التالي: اضغط هنا
- لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية غير قابل للحب)