روايات

رواية غير قابل للحب الفصل التاسع عشر 19 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل التاسع عشر 19 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت التاسع عشر

رواية غير قابل للحب الجزء التاسع عشر

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة التاسعة عشر

من قــال أن الحياة وسط صائدي الأرواح هانئة هنية؟ مجرد التواجد في محيط هؤلاء القســاة يعني هلاكك من كافة النواحي النفسية والذهنية والبدنية. تدمرتُ ذاتيًا بعد أن فجَّر “مكسيم” قنبلته الأخيرة في وجهي، ليهدم ما اعتبرتها مجازًا سعادتي الواهية، وسحق نفسي بين رحى الغضب والرغبة في الثأر، خاصة عندما التبست علي الأمور، وأصبحت الحقائق منقوصة مشوهة، فلم أتبين الخطأ من الصواب. التعبير المرسوم على ملامحي آنئذ كان كفيلًا بإظهار حقدي الكامل وعداوتي الجمَّة تجــاه كل فردٍ ينتمي لهذه العائـــلة اللعــينة الملقبة بـ “ســانتوس”.
تفشت البرودة في أطرافي، وسحبت سريعًا نحو بشرتي، فاختفى خجل العروس، وحل محله شحوب الموتى، متذكرة حديث والدتي عن تفاصيل مقتــل أبي الشنيعة، أمن المعقول أن يقف “فيجو” وراء اغتيـــاله وهو لا يزال صغيرًا؟ أفقد قلبه الرحمة منذ نعومة أظافره ليقدم على مثل هذه الجرائر الفظيعة؟ فقدتُ قدرتي على التمييز، تصارعت الأفكار والذكريات في رأسي، فأحدثت صدعًا عميقًا. رحتُ اتنقل بين الرقصة والأخرى في أذرع الرجــال دون إدراكٍ، أتمايل بلا تركيز تاركة من معي يتولى القيادة والتوجيه، لاحظت في حالة الصدمة المسيطرة علي بأنه لم يتجاوز أحدهم المسموح في التقبيل مثلما أطلعني “مكسيم” ممازحًا في وقتٍ سابق، كان الرجــال ينحنون في توقيرٍ عجيب لشخصي، بعد تقبيل يدي، لأذهب مع آخر في رقصة جديدة، دون أن يتجرأ أحدهم على تخطي ذلك، ومع ذلك لم أكترث، فالكارثة أكبر من مجرد بضعة قبلات سخيفة لاستثارة غيرة قاتــل قد سبق له الزواج بغيري! ظل عقلي يتساءل في لومٍ شديد:
-كيف ذلك؟ كيف أطعته ووافقت؟ كيف انخدعت ووقعت في فخ الزواج؟

 

 

أحسستُ بثقلٍ يجثم على صدري، بضبابٍ يخيم على تفكيري، بعجزي عن التحمل أو المواصلة. اختنقت، وغص كلي بهذا الشعور المهلك، وددتُ لو تركت كل شيء خلفي، وركضت فرارًا من هذا الجحيــم الممتد، وإن تبع ذلك هلاكي نهائيًا. وسط هذا التخبط والالتفاف والدوران والشرود استنشق أنفي رائحة عطرٍ أعرفها جيدًا، فجعلتني استفيق نسبيًا مما خامرته من تيه وزيغ، نظرت أمامي فوجدتني قد أصبحتُ بين ذراعي “فيجو”، حينئذ تصلبتُ، وانتفضتُ، وأصابني اشمئزاز عـــارم منه، سيطر علي البغض والنفور، تقلص كتفاي، واضطربت معدتي، طالعته بغير حبٍ استطاع أن يقرأه بوضوحٍ في نظراتي إليه، كما أني لم أطق لمساته، ولم أقدر على مجاراته في رقصته المتمهلة.
وجدتني أصده بخشونةٍ، محاولة الابتعاد عنه، لم يحلني من الطوق الذي جعله حول خصري، وأبقاني حبيسة ذراعيه، مستندة بقبضتي على صدره، حدجته بنظرة نارية لم يدعها تمر هكذا، وسألني مندهشًا، وعلامات الحيرة تتقافز في وجهه:
-ما الأمر؟
صحت به بصوتٍ كان أقرب للصراخ، وتعابيري تؤكد على نفوري الصريح منه:
-ابتعد!
سدد لي هذه النظرة القاسية، الخالية من الإشفاق، ثم أحكم تطويقه لي، وسألني مرة أخرى بهدوءٍ، رغم إحساسي بالغليان المندلع فيه:
-ماذا بكِ؟
واصلت صياحي الصارخ به، وأنا أضربه بقبضتي في صدره:
-لا تلمسني، اتركني!
تفاجأ بي أهاجمه، وأدفعه في اهتياجٍ غريب لأتمكن من المناص منه. حملق بي “فيجو” مستنكرًا، وما زال على وجهه هذا التعبير المستنكر، لم أبالِ مُطلقًا بأن يتسبب تصرفي غير المهذب والصــادم في إحداث فضيحة وسط الحاضرين، المهم ألا أبقى في أحضــان هذا القاتــل الخائـــن.
على ما يبدو لاحظت والدتي الأمر، فدنت مني تناديني بدهشةٍ:
-“ريانا”!
كانت الأصوات الصاخبة للموسيقى كفيلة بالتغطية على أي نبراتٍ مرتفعة؛ لكنها لن تحجب الأعين الفضولية المتابعة لنا. لم أنظر ناحية والدتي، ظل التواصل البصري المحفوف بالكراهية والنفور بيني وبين “فيجو” مستمرًا، قطعته “صوفيا” بالوقوف أمامي، التفت إليها، فسألتني في توترٍ:
-هل أنتِ بخير؟
أجبتها بصدقٍ، وأنا أشعر بهذا النهجان يجتاح صدري:
-لا.
رأيتُ الذعر يتجلى في نظراتها نحوي، امتدت يدها لتتلمس وجنتي برفقٍ، وسألتني بقلقٍ أكبر:
-ماذا أصابك؟ أخبريني.

 

 

قلتُ باندفاعٍ، وغضبي يستعر بداخلي:
-أريد الذهــاب من هنا!
اعتقدت والدتي أن إرهــاق العرس قد نــال مني، فقالت بتعاطفٍ:
-حسنًا، تبقى القليل، أنتِ متعبة، وآ…
قاطعتها في تصميمٍ فاجأها:
-لا، أريد الابتعاد عنه…
اتسعت نظراتها ذهولًا، فتابعتُ من بين شفتي وأنا أشير بإصبعي ناحيته، كأني أدينه علنًا:
-لا أطيق البقاء بجوار هذا القــاتل.
جزعت لجرأتي، فقبضت على ذراعي، وسحبتني للجانب تنهرني في توجسٍ عظيم:
-“ريانا”، اصمتي.
ربما في داخلها كانت ممتنة أن من حولنا مشغولٌ إما بالرقص أو تناول الطعام والمشروبات، نظراتها الخاطفة أكدت لي حدستي، قبل أن تلف يدها حول ذراعي، ثم جرجرتني بطاقة خوفٍ انبعثت بداخلها لمسافة قصيرة، وواصلت تحذيري:
-هل أنتِ مخبولة؟
صححتُ لها بغير احترازٍ:
-بل هو المخبول، ألا ترين أمي؟
ثم منحت “فيجو” من موضعي نظرة نارية، قبل أن أكمل:
-كيف سمحت لنفسي بالتفريط فيها؟
اعترضت “صوفيا” من جديد المدى البصري بيننا، وهتفت في خوفٍ:
-أنتِ تهذين، تعالي معي.
لم تجعلني في مرمى نظراته، والتفتت هي بعد ذلك ناظرة إلى “فيجو” تستأذنه في لباقةٍ:
-اسمح لي عزيزي، إنها مرهقة، سأخذها للداخل لتستريح قليلًا.
هز رأسه دون أن ينطق بكلمة؛ لكن نظراته أكدت أنه يعلم بوجود خطب ما، ولن يمرره على خير!
………………………………………………………..
لنقل أن الابتعاد عن هذا المحيط الخانق أفادني إلى حدٍ ما، وإلا لانفجرت من داخلي، وتصرفت بغير تعقلٍ على الإطلاق. تنفستُ الهواء بعمقٍ عندما اختليتُ مع والدتي في إحدى غرف الاستقبــال التابعة لهذا المكان المقام به الحفل، كنت أجاهد لضبط انفعالاتي، في حين حاولت “صوفيا” بشتى الطرق إيجاد الحجج والمبررات لتصرفاتي الغريبة، أغلبها اتجه إلى توترات وضغوطات ما قبل هذه الليلة، سئمت من الخداع والزيف، والدفاع الكاذب عن أمثــال هؤلاء، فصحتُ في غير صبرٍ لأسكتها:
-كفى أمي، إنه قــاتل أبي، عمن تدافعين؟
نظرت لي بعينين جاحظتين، وقد فزعت من كلامي، فاستأنفت بهجومٍ أكبر، والدماء تغلي في عروقي:
-وليس هذا فقط، بل تزوج سابقًا وآ…
لم أتمكن من إكمــال جملتي لنهايتها، حيث انضمت “آن” لنا، وهي تتساءل بصوتٍ لاهث شبه مذعور:
-ماذا حدث “ريانا”؟
أطبقت على شفتي مرغمة، رافضة الحديث، فتقدمت ناحيتي متسائلة بنظراتٍ حيرى:
-هيئتك توحي بالكثير، هل تعرض لكِ هذا الحقــير؟
احتفظت بصمتي، وأنا أراها تتلوى من القلق خوفًا علي، أضافت في وعيدٍ:
-سأقتله إن مسَّك!
علقتُ في تهكمٍ مرير:
-من المفترض أني شقيقتك الكُبرى، من يجب أن تدافع عنك، وليس العكس.

 

 

أخبرتني بمحبةٍ صادقة:
-لا يهم من يدافع عمن، فكلتانا ترغبان في النجاة من هنا.
هززت رأسي موافقة إياها في الرأي، فعاتبتني “آن” بتأنيبٍ خفيف:
-ليتكِ لم تتسرعي في الزواج.
بماذا أخبرها؟ أني كنت تحت وطأة الضغوط العصبية، أني لم أستطع المجابهة والقتــال مثلها حتى الرمق الأخير، أني فرطت في حقها! طفرت الدموع من عيني، فمسحتها، وهي تكلمني:
-لا تبكي، كل شيء سيمضي.
قبل أن أعلق عليها صاحت “صوفيا” في استياءٍ واضح:
-أنتما توقفا عن التصرف بسذاجة، نحن لا نمزح هنا.
استدارت “آن” لتخاطبها في عنادٍ:
-أمي، هي ليست مضطرة للقبول بهذا الوضع.
نهرتها في صرامةٍ مليئة بالاستهجان:
-لا تتدخلي، إنها بحاجة للنضج، والعودة إلى رشدها.
كنتُ على وشك الاحتجاج؛ لكن “فيجو” ظهر عند الباب مقتحمًا المكان وهو يتساءل في صوتٍ أجش جعل داخلي يرتجف:
-هل انتهت هذه المسرحية الهزلية؟
…………………………………………………….
النظر إليه بعد كشف هذه الوقائع كان مقيتًا لأبعد الحدود، في نظري بدا مخادعًا وأكثر وضاعة عما مضى، في جوف رأسي دارت عشرات الأفكار الراغبة في الانتقام منه، في الثأر لأبي، ثم لكرامتي، تنبهت لشقيقتي وهي تنزلق من تلقاء نفسها لتتجه إليه معترضة طريقه قبل أن يبلغني، وهاتفة في تحفزٍ:
-أنت، ماذا فعلت لشقيقتي؟
تسمر في مكانه، ورمقها بنظرة شبه هازئة منها، ليصحح لها ببرودٍ:
-إنها صارت زوجتي.
ناطحته الرأس بالرأس، وأوضحت له:
-بالإكراه، أنت هددتها لتقبل، أنا متأكدة من ذلك.
رفع سبابته محذرًا:
-انتبهي للهجتك معي.
تابعتُ المشهد من موضعي، مقاومة شعوري بالغثيان لرؤيته، بينما رددت “صوفيا” مُلطفة:
-إنها صغيرة، لا تقصد شيئًا.
اغتاظت “آن” من تخاذل والدتي الذي يضعنا دومًا في موضع الضعيف العاجز، فأبصرتُها تمسك به من ياقتيه، لتهزه في شجاعةٍ أحسدها عليها:
-وإلا ماذا؟
ظل “فيجو” جامدًا، يطالعها بنظراتٍ غائمة، فتشجعت شقيقتي لتواصل تعنيفه:
-ها أخبرني؟ أنا لا أخشاك، ولا أخاف تهديداتك.
كنتُ أظن أنها ستنجح في مجابهته، ويا له من تفكيرٍ أحمق ساذج، حيث شهقت في خوفٍ عندما أمسك بها “فيجو” من معصميها لينتزع يديها عنه، دفعها جانبًا، فكادت تنطرح أرضًا، لولا أن تلقفها “لوكاس” في صدره المتخم بالعضلات، قيدها بين ذراعيه وهو يقول مستطردًا بسماجةٍ:
-أهلًا بكِ، هل افتقدتي وجودي بهذه السرعة؟

 

 

صرخت فيه بعصبيةٍ:
-ابتعد يا قــذر!
أبقى على ذراعه محاوطًا لخصرها، ثم رفع يده وأطبق على فكه، ليعتصره متسائلًا بهدوءٍ مشحون:
-ماذا قلتُ لكِ عن إهانتي؟
حركت وجهها بعنفٍ إلى أن نجحت في تحريك يده، ما إن طالتها حتى عضته بشراسةٍ مما اضطره لإبعادها مدمدمًا:
-اللعنة!
عاتبها بأسلوبه الفج المغيظ:
-أرأيت كيف أفسدت يدي؟ كيف لي أن أستخدمها في مداعبتك؟
أهانته بوقاحةٍ أكبر:
-تبًا لك وليدك النجسة يا (…)!،
فما كان منه إلا أن أخرسها بقبلة مباغتة عنيفة جعلتني أنا و”صوفيا” ننصدم للغاية؛ لكن “فيجو” أوقفه بهديره الآمر:
-“لوكاس”، خذ هذه من وجهي.
أبدى سعادته بتنفيذ هذا الأمر الحازم قائلًا:
-بكل سرور.
حاولت والدتي التدخل، ورجته في ارتعابٍ:
-إنها طائشة، تتصرف برعونةٍ، سوف تعتذر منك، أرجوك لا تغضب.
هذا الأسلوب المبتذل في استجداء عطف هؤلاء القســاة أشعرني بالمزيد من المذلة والهوان، وأنا لم أعد أرتضي به، فمهما حاولنا استرضائهم لن ننجح، فهم أناسٍ لا خير فيهم مُطلقًا. صرخت “آن” في عصبيةٍ شديدة وهي تكيل له من الضربات ما استطاعت؛ لكنه لم يبدُ مزعوجًا من لكماتها الهوجاء، بل تلقاها بصدرٍ رحب، ثم حملها من خصرها في يسرٍ، وكأنها لا تزن شيئًا، ليسحبها إلى الخارج في سرعةٍ.
قبل أن تختفي عن أنظارنا تحركت من فوري لأمنعه من أخذها قسرًا، وصوتي يرن في حدةٍ:
-اترك شقيقتي!
قبض “فيجو” على ذراعي ليوقفني جبرًا، فنظرت له شزرًا وأنا أنفض ذراعي محاولة تخليصه من أصابعه الملتفة حوله في قوةٍ، لم أفلح بالطبع، ومع هذا أبقيتُ على بسالتي المجوفة، وجهت صراخي المهين ناحيته:
-دعها يا لعين!

 

 

لم أكن لأنجح في ردعه بالفعل؛ لكن القول قد يجدي، تجهم وجهه للغاية من إهانتي الهوجاء، وأنذرني رافعًا يده في الهواء، كأنما يهددني بالصفع:
-احفظي لسانك، أنا زوجك.
صرخت في نزقٍ متحدية إياه ليقوم بتنفيذه:
-هيا، افعل ذلك، فإن لم تقتل تضرب النساء الأضعف منك، هذا هو أنت!
انقلبت قسماته أكثر، ونظر إلي بعينين تقدحان شرًا، ومع هذا احتفظت بهذا القدر المحدود من الشجاعة، فغضبي المندلع بداخلي جعلني صامدة في مواجهته، لهذا واصلت في غير ندمٍ:
-لكن اعلم جيدًا أنك لن تكون أبدًا زوجي، أسمعت؟
اشتعل وجهه كمدًا، وزاد اللهيب في عينيه حين أكدت بقوةٍ من جديد:
-لن تكون .. أبدًا.
تدخلت والدتي لإيقافي بعد أن خرجت عن طور عقلانيتي، فصاحت في يأسٍ:
-“ريانا”، من فضلك.
نظرت إليها قائلة بعزمٍ:
-لا “صوفيا”، إنه كاذب، مخــادع، لا يستحقني.
ثم عاودت التحديق في وجهه، لأقول بمزيدٍ من التحدي:
-سأقتل نفسي قبل أن أكون معه.
ترك قبضتي، والتفت ناظرًا إلى “صوفيا” قائلًا بغموضٍ أشعرني في لحظةٍ أن المـــوت قادم لا محالة:
-كما تشاءين…
أطبق فجــأة على عنق والدتي التي كانت تقف بيننا ليخنقها منه بعنفٍ، فشهقت “صوفيا” في صدمةٍ، قبل أن تنحبس أنفاسها في جوفها، رأيتُ الذعر بارزًا في حدقتيها، حاولت إيقافه وصده عنها؛ لكني لم أتمكن من بلوغها، دفعني بجانب ذراعه بعيدًا عنها، فلم أطلها، ثم ســار بها دافعًا إياها للخلف، وهو يقول بلا تعاطفٍ:
-لكن لنتخلص أولًا من باقي عائلتك، فلا داعي لوجودهم.
هدرت في رعبٍ كبير محاولة اللحاق به:
-لا، اتركها.

 

 

دفعها “فيجو” نحو أقرب أريكة فردية، أجلسها عليها، واستمر في خنقها، وجدتها شبه فاقدة لوعيها جراء انقطاع الهواء عن مجرى رئتيها، تعلقت بيده محاولة إبعادها عن رقبتها، وهو لا يزال يضغط عليها مرددًا بإصرارٍ:
-أما شقيقتك، فسيتناوب عليها الرجــال حتى تهلك أسفلهم!
أبعدني بقسوةٍ للخلف، فكدتُ أنكفئ على وجهي نظرًا لالتفاف ساقي حول بعضهما البعض، استعدت اتزاني، ووقفتُ ورائه، حاولت إزاحته عنها، فلم أفلح، بكيتُ في قهرٍ وأنا أرجوه:
-دعها، ستموت.
أدار رأسه ناحيتي ليناظرني عن قربٍ، وقــال متوقعًا استسلامي سريعًا، ودون أدنى عناء:
-الخيـــار بيدك!
معه وصلت الأمور إلى مداها الأخير، لهذا تخليتُ عن استبسالي الأهوج، ورفعت الراية البيضاء، مظهرة انصياعي الكامل وقد أبصرت شبح الموت يحلق فوق رأس أمي وشقيقتي.
……………………………………………….
بناءً على أمره الصــارم اختفت “آن” ومُنعت من حضور باقي الحفل، أما “صوفيا” فتم احتجازها في هذه الغرفة المعزولة بعد أن فقدت وعيها، ليبقى بجوارها فردي من الحراســة المدججين بالسلاح. جثوت عند قدميها بثوبي أرتعش، خفت أن تكون قد فارقت الحياة؛ لكن حركة صدرها صعودًا وهبوطًا جعلني أطمئن قليلًا، ومع هذا لم أقدر على تركها، إلى أن جذبتني يده القوية فجعلني أقف.
بقبضتيه الممسكتين بعضدي أدارني “فيجو” ناحيته، ونظر إلى قلب عيني الحمراوين قائلًا:
-إن تهورتي مجددًا، صدقيني لن أتردد في التخلص منكم جميعًا، ولن تكون مرتي الأولى في محو عائلة بأكملها…
تأكد من إبقاء عيني المتورمتين عليه عندما حذرني في قساوة أشد:
-إياكي وتكرار هذا التمرد مرة ثانية، لقد نفدت كل محاولاتك.
بكيتُ من عجزي وأنا أسأله:
-لماذا أردت قتل أبي؟ ماذا فعل لك؟
تحول بكائي لنشيجٍ حين أضفت:
-لقد حرمتني منه!
جاء رده مغلفًا بالمزيد من الغموض المُحير:
-روحه كانت مقابل حياتك، وها قد فعلت.
رددتُ في صدمةٍ:
-حياتي؟
يبدو أنه ندم على صراحته غير المرتبة، فتهرب من منحي ما يريح رأسي المشحون، وهدر بلهجته الآمرة:
-كفى ثرثرة وإضاعة فارغة للوقت، ينتظرنا البقية بالخارج.
أعادني للخارج بعد أن طرح ستر وجهي عليه مجددًا ليخفي ما حلَّ بقسماته من حزنٍ وألم، فإن نجح في التغطية على الظاهر، فماذا عن آلام القلب وحرقته؟
………………………………………………..

 

 

تمهل عن عمدٍ، ولم يأتِ “فيجو” بحركاتٍ مفاجئة وهو يتمايل معي في رقصة قسرية شبه معزولة، خلف طاولات الطعام، لنبدو من بعيد أمام نظرات الحضور العشوائية، كمن انفردا ببعضهما البعض في خلوة حميمية، ليبثا أشواقهما المتلهفة بحرارةٍ ولوعة. احتضن يدي في راحته، وضغط عليها بأصابعه، مستحوذًا بهيمنته على ما تبقى بي من مقاومة ودفاع، فرمقته من خلف ستري الشفاف بنظرة نافرة، وقلتُ:
-أنا أكرهك، أحتقرك.
صمت قليلًا، ثم لفظ دفعة من الهواء من صدره، قبل أن يميل برأسه نحو صدغي، ألصق وجهه به، وهمس لي:
-لن أقول أن الشعور متبادل، فهذه المشاعر الإنسانية السقيمة لا أتعامل معها.
عقبت ببغضٍ صريح:
-بالطبع فأنت لست ببشر.
قبَّل وجنتي، وأمرني:
-ابتسمي كعروسٍ سعيدة.
أخبرته بنزقٍ، ومن غيظي المكبوت:
-سأفعل عند موتك.
تراجع برأسه عني موجزًا بلا تعبيرٍ على وجهه:
-جيد.
نــاداه “مكسيم” من مسافة قريبة:
-“فيجو”، هل ستظل هناك؟
نظرنا ناحيته، فأكمل الأخير وهو يلوح بيده:
-تعالى، أريدك أن تلتقي بأحدهم.
أمرني بغير تهاونٍ وهو يضمني من خصري إليه:
-تحركي!
قلتُ محتجة على طريقة إمساكه:
-لن أهرب.
قال بغرورٍ أغاظني:
-أعلم.
سرتُ متأدبة إلى جواره، كأني جاريته المطيعة، دنا من مائدة الطعام الخاصة بنا، أشار نحو مقعدي متابعًا بصيغة آمرة:
-اجلسي هنا إلى أن أعود إليكِ.
لذتُ بالصمت حين غادر مبتعدًا عني، متجاهلة كل من يقترب ليسألني عن “صوفيا” أو شقيقتي؛ ورحتُ أتطلع إلى الفراغ الذي جئت منه قبل قليل، حيث تعقدت الأمور، تنهدت في زفيرٍ مضطرب، وهمهمت في حقدٍ كريه:
-اللعنة عليك أنت وعائلتك

 

 

طفت ببصري على ما حولي، أكاد لا أرى شيئًا سوى كل ما يحفز على اندلاع المزيد والمزيد من رغبات الانتقــام والثــأر، تلقائيًا وقعت أنظاري على سكين الطعام، حملقت في نصله اللامع مليًا بعينٍ مظلمة، غير هذه البريئة التي تخشى العنــف والعدوان، للمرة الأولى استبدت بي إرادة عجيبة تستحثني على نبذ مبادئي جانبًا، والإقـــدام على ما لم أتصور نفسي أفعله.
بسطت ذراعي على السطح، ودرتُ بنظراتٍ سريعة على محيطي، في لمح البصر طرحت يدي على السكين، ثم التقطته في خفةٍ، وخفضت من يدي، لأتمكن من لفه وتخبئته داخل طرحة عرسي، رفعت رأسي في إباءٍ، ورددت مع نفسي بغير تراجعٍ:
-نهاية أحدنا اليوم، إما أنت، أو أنا …………………………………………. !!!

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *