روايات

رواية يناديها عائش الفصل السابع والأربعون 47 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل السابع والأربعون 47 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت السابع والأربعون

رواية يناديها عائش الجزء السابع والأربعون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة السابعة والأربعون

كل اختياراتي كانت خاطئة، إلا أنت.. الاختيار الوحيد الذي جعلني أضع الجميع على الهامش و التجأ إليك بقلب طفل بريء لا يحتضن إلا من يحنو عليه . ” نرمينـا ”
*******
لا يمكن أن نشعر بوجود اليوم السعيد في حياتنا إلا إذا مررنا بالكثير من التعب، فاليوم السعيد يوم غالٍ، لا يأتي إلا لشخص قد تهيأ له ودفع لأجله التعب، والمُعاناة، والسهر، والمَشَقَّة.
فمعادلة الحظ للحصول على السعادة لا تتحقق إلا في جزء قليل جدًا من أيامنا، والباقي كله يعتمد على الصبر، والسعي، و الاجتهاد.
و اليوم هو يوم جميل على جميع “عائلة الخياط” جنت أمس وردة العائلة ثمار التعب والاجتهاد و غادر السرطان جسدها، كان ضيفًا ثقيلًا و غليظًا، ولكن اكرام الضيف واجب، لقد أكرمته بالصبر و الرضا بالقضاء و القدر؛ حتى ملّ الضيف و قرر الرحيل، وهذا الرحيل أسعدها للغاية بل من شدة سعادتها لم تنم أمس ولم يغمض لها جفن، بعد أن قضت جميع العائلة أمسية سعيدة، ذهب أفرادها للنوم و ذلك بعد سهرهم لآذان الفجر، فتوجه الرجال للصلاة في المسجد و النساء في بيوتهن ثم آتاهم النُعاس قبيل الشروق، إلا “هاجر” ظلت متيقظة تُصلي و تقرأ القرآن و تبكي شاكرة الله على هذا الأجر و الجزاء العظيم، شخص مثلها جُبر بعد صبر طويل بالطبع لن يستطيع النوم من فرط السعادة
” لقد أوتيت سؤالها” أتساءل كيف ستكون قلوبنا نحن أيضًا يوم يجبرنا الله !
____
ما إن بدأت أشعة الشمس تنتشر في الأفق حتى استيقظت عائلة الخياط بنشاط و سعادة مستعدون لهذا اليوم الجميل الذي لا يتكرر إلا كل عام أو بالأحرى عندما تستاء الأمور و يريدون أن يفرج الله عنهم فيقوم كبير العائلة و هو الحج مصطفى “والد زياد” بالتضحية ودعوة الفقراء وأهل الحارة و الأقارب لـ وليمة غذاء تدخل على قلبهم السرور فـ يُفرج الله كربهم.
و كما علمهم الجد الأكبر للعائلة عندما يقع أحدهم في مأزق و يريد أن يفرج الله كربه فعليه بإدخال السرور على قلب أخيه المسلم أو يلتزم قيام الليل أو يتصدق ولو ببضع جنيهات، ولا يقتصر ذلك فقط عند وقوع المصائب، بل عندما يفرج الله عن همهم و تزول الشدائد فعليهم فعل ما سبق من قيام الليل كتعبير عن الشكر و الإمتنان لله و اطعام الأقارب والفقراء و المحتاجين، فعندما يكرم المسلم أخيه مما رزقه الله؛ يرضى الله عنه و يسهل له أمور حياته.
و منذ أن نضج “مصطفى” الابن الأكبر
لـ “رُشدي الخياط” و صار شابًا واعيًا وهو يأخذ بنصيحة جده و أبيه، أي أنه حين يحدث شيء سار للعائلة و يعم الفرح عليهم، يجعل الأقارب و المحتاجين يشاركوا أفراحهم؛ لذا قام بالاتصال على اقاربهم في الصعيد و أبناء عمه و أرسل زياد لدعوة أهل الحارة بعد أن عبروا عن فرحهم لشفاء “فاكهة العائلة” ثم ذهب مع بدر لدعوة بعض الفقراء و المساكين الذين يعرفونهم، و تلك ليست أول مرة يقوم فيها مصطفى بعمل “وليمة” قام بذلك سابقًا عندما ترقى زياد وأصبح وكيل نيابة و مرة أخرى عندما أصاب هاجر السرطان، ولكن لإصابتها بهذا المرض المؤلم اكتفى فقط بتوزيع الصدقات، حينها كان الجميع في غاية الحزن ولم يكونوا مستعدين لإقامة أي احتفال، و أيضًا عندما نجح “سيف الإسلام” في الثانوية العامة بمجموع “٪٩٨,٩” و دخل كلية الطب تم إقامة احتفال عظيم أبهر الجميع، لطالما حرص مصطفى على اكرام أولاد أخيه محمد بالأخص بصرف النظر عن خصامه مع محمود شقيقه؛ بسبب ما فعله في مقتبل شبابه.
لن تقوم النساء باعداد الطعام، في مناسبة كهذه يتم اعداد كل شيء بواسطة طاهي طعام ممتاز و مساعديه.
قرابة الظهر كان الطعام على وشك النضوج ليصبح صالحًا للأكل.. في حديقة منزل مصطفى الواسعة تم ترتيب المقاعد و طاولات الطعام المستطيلة و نصب فوقها خَيْمة لتكون ظلًا على المدعوين.. امتلأت باحة المنزل بالرجال من الجيران و الأقارب و الفقراء، لم يسمح مصطفى بجلوس الفقراء وحدهم بل جعل كل الحاضرون متساوون، فأجلسهم جميعهم سويًا و قُدم لهم الشاي و العصير بعد أن أدوا جميعًا صلاة الظهر في المسجد المجاور، وكذلك النساء جلسنّ سويًا في باحة البيت من الداخل وتم ضيافتهم من قِبل فتيات العائلة بعد أن أدوا الفريضة أيضًا.
كانت عائشة تفرش سجادة طويلة لرّص الطعام عليها، فسمعت احدى النساء تهمس للجالسة بجانبها
” مش دي بنت محمود ! سبحان مغير الأحوال ”
سمعتهم عائشة و ابتسمت خلسة، فقد كانت ترتدي خمارها الجميل مما لفتت الانظار بحياؤها و عفتها اللذان لم يعهدهما أحدًا من قبل، هذا التغيير الرائع جعل الجميع يتهامسون عليها بدهشة و انبهار وهذا أسعد قلبها كثيرًا، فمعظم ما استطاعت سمعه أنهن سعداء بتغييرها هذا.
وُضع الطعام عند الرجال و النساء و اجتمعوا حوله ذاكرين اسم الله عليه قبل البدء في التهام ما لذ و طاب، فقد ضحى مصطفى بعجل سمين و شاركت مفيدة والدة بدر في الأضحية فباعت من حُليّها و اشترت خروفًا ليكفي حاجة المدعون.
و لأنّ السعادة كلها تجتمع في يوم واحد، يكون صوت القرآن الكريم هو سيد الاحتفال في هذا اليوم، اعتادت تلك العائلة دائمًا علو صوت القرآن عن أي صوت و رفض تقليد بعض الناس من إقامة احتفالاتهم بالأغاني و الرقص، وهذا ليس تعقيد أو قتل للترفيه و الفرح، بل هذا الصحيح و ذلك ما يتوجب على كل مسلم فعله عند الشدائد و الأفراح ” سماع القرآن و تشغيله في أرجاء المنزل ” كما يصبح تبادل الورد سنة للنجاح والبهجة والفرح، وفرصة للتعبير عن بالغ الشكر والامتنان لله تعالى، لم ينزل الله القرآن ليسمع في العزاء فقط.. مثلًا أيعقل أن يرزقك الله ويبث الفرح في قلبك فتقوم أنت بتشغيل الأغاني كتعبير عن الفرح ! أهكذا نشكر الله على جبره لخواطرنا ؟!
بالأغاني !!
….
ها هي الشمس تجرّ ثوبها الجميل، و تلملم نورها، وتمشي نحو الأفق البعيد لتشرق في بلدان أخرى و يحل الليل بنجومه المتناثرة و قمره الوهاج علينا، انقضى النهار سريعًا و بدأ الناس في الرحيل قرابة المغرب وبقى الأقارب من هم يسافرون لساعات طويل للوصول لبيوتهم.
جاء زياد بعد أن أوصل بعض أقاربهم الذين يعيشون بالمحافظة نفسها بسيارته، ليجلس بجانب ابن عمه ” أُبَيُّ ” الذي كان يجلس وحيدًا بعيد عن الجميع منشغلًا في تصفح حاسوبه و متابعة الأعمال الخاصة بشركته الجديدة، وبعد قليل جاء بدر ليشاركهم المقعد الطويل بعد أن وزع أكياس اللحم على المسنين اللذين لم يستطيعوا المجيء.. قال زياد بسعادة شديدة
” أنا فرحان أوي.. كنت بدعي و كلي يقين إن ربنا هيشفيها ”
ترك أُبَيُّ حاسوبه ليلتفت لزياد قائلًا
” علفكرة.. عشان ربنا يستجيب لدعائك لازم يكون عندك حسن ظن به ويقين أنه هيستجيب، يعني مينفعش تدعي بحاجة نفسك فيها و أنت مش متفائل وخايف متحصلش ”
هز زياد رأسه يوافقه الكلام
“أكيد طبعًا.. أنا دايمًا عندي حسن ظن بربنا”
صمت لثوانِ، ثم تساءل
” صحيح قولي.. هتروح تتقدم للبنت اللي أبوك بيقول عليها دي امتى ؟ ”
تنهد أُبَيُّ قبل أن يقول بشيء من قلة الحيلة
” والله ما عارف يا زياد.. أنا مبحبش ارفض لبابا طلب.. و أول ما قالي على العيلة دي وانهم ناس كويسة وكده قولتله ماشي.. بس… ”
لم يكمل وظل صامتًا، فاستدرجه زياد للحديث
” بس ايه !… مش باين عليك أنك مبسوط يعني ”
” أنا حابب أنا اللي اختار شريكة حياتي.. بيني و بينك يا زياد..قصي أخويا عنده حق.. شوف رغم إن قصي أصغر مني بـ احداشر سنة بس عمره ما نفذ كلام حد.. دايمًا يعمل اللي حابه و مرتاح فيه.. عشان كده رافض إن بابا هو اللي يختارله عروسته.. وهو معاه حق.. بس مرضتش أقول كده قدامه عشان مزعلش أبويا.. أنا اتعودت أقول سمعًا و طاعة واحط رغباتي على جنب.. لكن قصي جريء و عِندي و ممشي حياته على كيفه..
زفر بضيق ليتابع… حاسس إن أخويا اللي اصغر مني عنده شخصية عني.. حاسس بالضعف وإني متكتف، وفي نفس الوقت خايف أعصي أبويا الدنيا تطربق على راسي ”
هتف زياد بدهشة
” يعني أنت فعلًا مش عاوز أبوك هو اللي يختارلك زوجتك ! طيب ما تقوله يابني هو أكيد هيتفهم رغبتك.. والجواز مش عافية.. دي في الأول و الآخر حياتك أنت ”
رد وكأنه يواسي نفسه و يصبرها
“أنا بقول أصبر لحد ما اشوف البنت دي… جايز ربنا يكون كاتبلنا نصيب مع بعض و جايز تكون خير ليا.. مش عاوز استعجل و ارجع أندم ”
شخصية ” أُبَيُّ ” من الشخصية الانطوائية، و الانطوائيون غالبًا يحتاجون إلى مساحة شخصية أكبر، و يميلون لقضاء الوقت مع أنفسهم، ممّا يجعلهم عرضة للأحكام المُجحفة من قبل الآخرين الذين يكوّنون عنهم صورة خاطئة غير حقيقية، فينظرون اليه على أنه مغرور أو خجول جدًا أو لا يحب مصادقة الآخرين، على الرغم من أن بعض
الأشخاص الاجتماعيون قد يمتلكون مثل هذه الصفات.
و لا أحد يُولد بهذه الصفة، فالبيئة و الأسرة لهما التأثير الأكبر على تكوين شخصية الطفل، و أُبَيُّ عندما كان طفلًا كان دائمًا والده يتدخل في كل أمور حياته، مثل شراءه ملابسه بنفسه أو اختيار الألعاب التي سيلعبها، أو اختيار المدرسون الذين سيشرحون له دروسه، حتى عندما كبر لا يزال يتدخل في حياته ولا يدعه يختار بنفسه؛ خوفًا من أن يكون اختياره خاطئ، ولكن للأسف الآباء لا يفهمون أن ذلك الخوف الذي يعيق تكوين شخصية الطفل بشكل طبيعي يؤثر عليهم بالسلب فيما بعد فتصبح شخصيته ضعيفة و مهزوزة و دائمًا فاقد الثقة بنفسه.. كحال أُبَيُّ، بالرغم من أنه طموح جدًا و يجتهد في عمله، لكنه لم يختار في حياته أي شيء بنفسه، حتى جامعته كانت من اختيار والده، وذلك يسبب له حزن كبير لكنه لا يفصح عنه، يخبر الجميع أن الأمور على أحسن ما يُرام، و البأس في قلبه.. على عكس قُصي شقيقه الذي اتعب والديه بشقاوته؛ فتركوه يفعل ما يشاء بعد أن يئسوا منه، وهذا تصرف خاطئ أيضًا.. ترك أبواه له يفعل ما يشاء دون توجيه؛ أوقعه في المشاكل أكثر من مرة، لا بأس أن يخطئ الإنسان و يتعلم من خطأه، ولكن التصرف الصحيح من وجهة نظري أن يتم تنشئة الأطفال على تعاليم الإسلام ثم تركهم يخطئون ليتعلموا من أخطائهم تحت المراقبة و التوجيه.
خيم الصمت عليهم لدقائق، فانتبها أن بدر لم يشاركهم الحوار بسبب شروده الدائم في الفترة الأخيرة.. سأله زياد بقلق
” بدر.. مالك ! أنت كويس ؟ ”
أومأ دون رد.. فعاد الآخر متسائلا
“مش معانا خالص.. سرحان في ايه ؟ ”
” مفيش.. أنا كويس ”
قالها بضيق صدر.. فقال زياد ممازحًا
” أنت مش فرحان ولا ايه إن أختك خفت ؟ ”
ابتسم ابتسامة متكلّفة ليقول بصدق
” أكيد فرحان ”
” مش باين عليك.. هو أنا مش عارفك ولا ايه.. مالك يا بدر ؟؟ ”
تنفس الصعداء بعمق لينهض قائلًا
” أنا هاخد عائشة و نروح بقى.. عندها امتحانات ولازم تذاكر ”
نهض معه ليتساءل بحيرة
” في ايه ؟ أنت كنت كويس الصبح ! ”
الحاح زياد عليه جعله يهتف منفعلًا
“أنا مش كويس يا زياد.. مش كويس.. كل يوم بيعدي عليا بحس إني بموت بالبطيء.. ومش عارف السبب.. تعبان و زهقان.. و نفسيتي زي الزفت.. مبقتش طايق حد.. بدر اللي أنتم كلكم شايفينوا مثالي.. مليان عيوب..
قاطعه زياد محاولًا تهدئته
” طيب اهدى.. كلنا مليانين عيوب.. مفيش حد مثالي.. كلنا بنغلط يا بدر.. صلّ على النبي كده و قولي حصل ايه ؟ ”
حاول التحدث بنبرة أقل هدوء فقال
” خليني ساكت أحسن.. بلاش اضيع فرحتك.. أنا كده كده طول عمري بستحمل.. مش هعرف استحمل شوية الاكتئاب دول ! ”
“لأ لأ.. اكتئاب ايه.؟ .. وحد الله في قلبك كده من امتى و احنا بنسيب نفسنا للاكتئاب ! لا يا بدر أنت عمرك ما كُنت ضعيف بالشكل ده.. جرالك ايه ؟! ”
ضحك ساخرًا من نفسه وهو يتذكر ذاته و اذلالها أمام ابنة عمه محاولًا بشتى الطرق جعلها تحبه كما يحبها
“لأ.. أنا ضعيف.. من وقت ما حبيت عائشة و أنا ضعيف.. الكل شايفني شخص مثالي ومفيش مني اتنين.. بس أنا بقولك اهو.. أنا ذليت نفسي كتير و دوست على كرامتي أكتر من مرة لحد ما سويتها بالتراب.. عشان ايه ! عشان اخليها تحبني.. ملعون الحُب اللي يذل واحد و يخليه يهين نفسه بالشكل ده.. بس عارف كله يهون لأجل عائش.. أنت مش متخيل أنا بعشق البنت ده قد ايه ”
طالعه زياد للحظات و بداخله شك مخيف أن يكون ذلك المرض قد عاد له ثانية.. سحبه من ذراعه بعيدًا عن أعين الجميع و تساءل بقلق
” أنت جاي تقول الكلام ده دلوقت ليه ؟ تقصد ايه بكلامك المتناقص ده ! ”
بدأت ملامح بدر في التحول تدريجيًا من رجل ناضج لطفل خائف من الوحدة و الفراق، فأخذ يفرك يديه بتوتر كما كان يفعل سابقًا عندما تأتيه تلك النوبات، و يعبث في شعره بتوتر ثم يبتلع ريقه و يتنفس بعدم انتظام مما زاد خوف زياد ليمسكه من يديه التي تفرك في بعضها بعنف قائلًا بحذر و بهدوء
” بـدر.. اهدى.. اهدى خالص.. أنا معاك ”
هتف بدر سريعًا و بنبرة متلهفة لم يسمعها زياد منذ فترة طويلة
“عائشة مش هتسيبني صح ! هي فعلًا بتحبني ! يعني.. يعني بقت بتحبني صح !! خايف تروح مني زي.. زي بابا.. أصل أنت مش فاهم يا زياد.. أنا كنت متعلق بـ أبويا أوي.. كنت بحبه أوي و فجأة اختفى.. سابني لوحدي.. من كتر حبي لعائشة خايف تروح هي كمان.. قول أنها بتحبني.. طمني أنها مش هتسيبني زي بابا !! ”
يدرك زياد جيدًا أنه في مثل هذا الموقف العصيب عندما يتعب بدر، يجب عليه أن يعامله كالطفل و يحتويه ببعض الكلمات المطمئنة حتى يهدئ.. عانقه زياد وهو يقول بلُطف
” مش هتسيبك.. متخافش.. عائشة بتحبك.. و احنا كلنا بنحبك.. و كلنا جنبك.. محدش هيسيبك يا بـدر ”
لف بدر ذراعيه حول زياد يحتضنه بقوة و بطفولة مفرطة وهو يأن من قلبه كلما تذكر ذلك اليوم الذي رحل فيه والده عن الدنيا و تركه مراهقًا ضعيفًا يعاني مع مشقات الحياة، في تلك الليلة التي مات فيها أبيه أُصيب بـدر بنوبة صرع و بكاء استمرت لساعات لم يستطيع أحد ايقافه فكان يشد شعره بجنون ثم يهدئ و يعود للبكاء بصراخ و يهدئ ثم يقطع ثيابه كالمجنون حتى هدأ أخيرًا ولم تأتيه تلك النوبة ثانيةً، ولكنه اكتشف منذ ثلاث سنوات أنه مُصاب بـ ” اضطراب الشخصية الحدية” و يعُد اضطرابًا في الصحة العقلية يؤثر في طريقة تفكيرك في نفسك و شعورك بها و بالآخرين؛ مما يؤدي إلى مشاكل في مهام الحياة اليومية. ويتضمن مشاكل في نظرة الشخص لنفسه، وصعوبة في السيطرة على المشاعر والسلوك، واضطراب العلاقات بشكل متكرر كما يحدث في حالة بـدر.
و يُعاني أيضًا في اضطراب الشخصية الحدية الخوف الشديد من الهجر أو عدم الاستقرار، و يجد صعوبة في تحمل الوحدة، ولكن يدفع الغضب الحاد والاندفاع والحالات المزاجية المتقلبة الآخرين إلى الابتعاد عنه على الرغم من أنه يرغب في الشعور بالحب و وجود علاقات دائمة.
ولم يكتشف بدر أنه مصاب بذلك الاضطراب بنفسه، بل لاحظ زياد ذلك عليه و أقنعه أن يذهب لطبيب نفسي وهذا ما فعله بدر بعد الحاح كبير من زياد عليه، وافق بدر بشرط ألا يعرف أحد بذلك أبدًا.. خاف بدر من ألا يتفهم الجميع مرضه و يظنون أنه مجنون لذهابه لطبيب نفسي.. بعض الناس من هم تفكيرهم محدود و لا زالوا يعيشون في مجتمع منغلق عليهم عقيم، يظنون أن كل شخص يذهب لطبيب نفسي فهو مجنون، والحقيقة أننا كلنا نحتاج لطبيب نفسي، فجميعنا مصابون بأمراض مختلفة، مثل القلق الدائم أو اضطراب ثنائي القطب أو الشخصية المزاجية أو الاكتئاب، أو الشخصية الانطوائية… الخ
هذا هو السر الوحيد في حياة بدر و الذي لا يعرف أحد بشأنه سوى ابن عمه الذي كان معه دائمًا خطوة بخطوة حتى أتم الجلسات و أحس بأنه على ما يرام ولم يعد يصاب بهذا الاضطراب فتوقف عن الذهاب لطبيبه الخاص.. و ها هو الاضطراب يعود ثانيةً و ذلك بسبب
“رعب من فكرة الهجر، قد تدفعه أحيانًا لاتخاذ إجراءات عنيفة لتجنب فراق أو رفض حقيقي أو مُتخيل وحدث معه ذلك أكثر من مرة عندما اخبرته عائشة أنها لا تحبه و تحب غيره ولا تود أن تعيش معه.. فجنّ جنونه وعاد الاضطراب له وكاد أن يضربها لكنه يسيطر على نفسه في آخر لحظة.”
“و بسبب أيضًا نمط غير مستقر من العلاقات العاطفية، كتعظيم شخص بشدة وفي اللحظة التالية الاقتناع بأنه شخص مهمل أو قاسٍ.. مثل ما حدث منذ قليل.. كان يتهم عائشة بأنها السبب في فقدان كرامته و اذلال نفسه لأجلها ثم يعود ليقول بأنه يريدها بشدة و لا يحب غيرها ”
” ويحدث له أيضًا بأنه دائمًا يشعر أنه سيئ أو أنه لا قيمة لوجوده على الإطلاق.. فقد حدث ذلك حقًا عندما قلل من نفسه مرات عديدة و قال أنه يأس من حياته و من نفسه ”
وهذا الاضطراب يجعله في تقلبات مزاجية عنيفة تستمر عدة ساعات أو لعدة أيام، وتتمثل في سعادة غامرة، وضيق، وشعور بالعار ويجعله يفقد أعصابه نتيجة الغضب بشكل حاد، وما ينتج عنه من تصرفات غير لائقة، مثل ما فعل بالصالة عندما غضب و قام بتكسير كل شيء.
الجميع يظنون أن بدر شخص لا مثيل له، شخص لطيف وجميل، مرح و مثالي.. و الحقيقة هذا الظاهر للناس فقط، هو لا يدعي المثالية لقد عاهد والده قبل أن يموت أن يحافظ على صلاته و يعامل الجميع بود و احترام.. ولأنه بالفعل كان لا يترك صلاة في المسجد في زمن قلت فيه الصلاة وكان يلقي التحية على كل من يمرّ عليه أو يقابله ويحسن معاملة الجميع، ظنوا جميعهم أنه شخص ليس به عيب و نسوا أن ذلك ما يجب أن يكون عليه المرء، أن يكون على دين و خُلق.. ولكن الجانب المظلم من حياة و شخصية بدر، أنه مصاب باضطراب الشخصية الحدية وكانت له جلسات خاصة مع طبيب نفسي و أحيانًا تنفلت زمام الأمور منه فيصاب بنوبات صرع.
ابتعد بدر عن زياد بعد دقائق ليقول بصوت متهدج
“هو أنا ليه مفيش حد بيحبني ؟”
رد زياد بحزن حاول إخفائه
“ليه بتسأل السؤال ده و أنت عارف إن الكل بيحبك ”
” و عائشة بتحبني ؟ ”
” بتحبك يا بدر ”
“يعني مش هتسيبني ؟”
” لا مش هتسيبك ”
“طيب و ربنا.. ربنا بيحبني.. لو روحتله هيسامحني ! ”
تنفس زياد بعمق ثم قال باسمًا
“وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ”
عاد بدر بسؤال آخر بوجه طفل شاحب خائف متوتر، ليس بدر الرجل الصبور الناضج الذي نعرفه
“يعني لو دعيت ربنا يشفيني و عائشة متعرفش بالموضوع ده و تفضل معايا لآخر عمري.. هيستجيب !”
أومأ زياد بلُطف كأنه يتحدث مع صبي صغير يتعلم أمور دينه من جديد و يحتاج ليد العون
” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ”
مسح بدر دمعة خانته ليقول وهو يجوب بعينيه المكان خوفًا من أن يكون قد سمعهما أحد أو رآهما
” متقولش لحد أي حاجة..
أومأ زياد بحزن عليه، فتابع كالغريق الذي يبحث عن أي وسيلة انقاذ
” عايز أصلي.. عايز أقرأ قرآن شوية.. عايز ارتاح.. عايز اصلي و أقرأ قرآن عشان ارتاح ”
ربت زياد على كتف و هو يخبره بنبرة تشجيع
” ارجع لأصلك.. ارجع لنفسك يا بدر.. أنت بدر الشباب.. الطيب البشوش اللي قلبه متعلق بربنا.. فوق يا ابن عمي.. ”
هز بدر رأسه بتجاوب مع تشجيعه، استطرد زياد حديثه مردفًا
” أنت هترجع تتابع مع دكتورك النفسي تاني ”
هتف بدر بنفي
” لا.. لا يا زياد.. لا بالله عليكِ.. خايف حد يعرف ”
“أنت مبتعملش حاجة عيب.. أنت بتتعالج يا بدر.. زيك زي أي مريض بيروح لدكتور يتعالج..ارجع للعلاج تاني عشان ترجع بدر اللي اعرفه.. و تعرف تفوق لنفسك و حياتك بقى ”
لم يجيبه، اكتفى بأن هز رأسه بايجاب.. ثم صمت للحظات فأخذه زياد للداخل ليغسل وجه و يُصلي ركعتين لله، لم يتركه زياد يرحل مع عائشة إلا بعد أن يطمئن عليه و يتأكد بأنه عاد لوعيه قليلًا من ذلك الاضطراب..
أثناء مرور بدر للمرحاض بعد أن أسدل زياد الستائر، لاحظتهما هاجر فسألت زياد وهي ما زالت تبتسم بسعادة
” ده بدر اللي معاك صح ؟ ”
داعب أرنبة أنفها بسبابته ليقول بمرح
“وحشتيني.. معايا من الصبح في نفس البيت ومش عارف اقعد معاكِ دقيقة على بعضها ”
ضحكت برقة لتقول
“و أنت كمان وحشتني”
اصطنع الاندهاش فقال
“لا عيديها تاني كده.. ريبلاي لو سمحتي”
تقدمت منه بضع خطوات لتقف أمامه مباشرة ثم وقفت على اطراف اصابع قدميها و مدت أناملها لتزيل ورقة شجر صغيرة تعلقت بقميصه من عند الكتف.. في حين أنها تفعل ذلك بعفوية كان زياد منشغلًا في التأمل بملامحها التي صارت متفتحة كزهرة الربيع الجميلة.. ابتعدت عنه بخجل من شدة اقترابها ثم اظهرت ورقة الشجر أمام عينيه الغارقة في تأملها لتقول برّقة
” ورقة شجر.. كانت متعلقة في قميصك ”
تجاهلها ما قالته ليشدها من خصرها تجاهه و في تلك اللحظة خرج بدر من المرحاض على هذا المشهد الغرامي، فشهقت هاجر بخجل و ابتعد عنه سريعًا هاربة من أمامهما.. زفر زياد بضيق مصطنع ليقول
“حبكت تطلع دلوقت يعني ”
رد بدر ضاحكًا بخفة وهو يعود لطبيعته تدريجيًا
“خف شوية.. أنتم لسه كاتبين كتابكم”
“يعني مراتي.. و محدش ليه حاجة عندي.. كتبنا كتبنا و أشهرنا جوازنا مش الفرح يعني اللي هيثبت انها حلالي ”
ما قاله زياد صحيح، ولكنه قصد استفزاز بدر ليجعله يعود لطبيعته المرحة.. اكتفى بدر بالابتسامة الصافية و قال بحيرة
“أصلي فين ؟”
أدخله زياد غرفته و افترش له سجادة الصلاة تاركًا اياه يتحدث مع ربه و يخبره بما في صدره من ضيق.
جلست هاجر بجانب عائشة و نورا في الشرفة و دقات قلبها تكاد تكون مسموعة
تساءلت عائشة بتعجب
” مالك يا هاجر ؟ ”
هتفت هاجر بتوتر و وجهها أحمر مثل الدم
” مفيش.. أصل زياد.. وبدر.. مفيش.. مفيش ”
اعتدلت عائشة في جلستها متسائلة باهتمام
“بدر ماله ؟؟”
“كان في الحمام بيتوضى.. و..”
صاحت عائشة بقلق
“و ايــه.. انطقي !!!”
لم تستطيع هاجر التكملة من فرط خجلها، فتركتها عائشة و هرعت للداخل تبحث عن بدر.. أثناء اندفاعها من الباب اصطدمت بصاحبنا المشاغب، كان قصي بيده طبق فاكهة أحضره ليتسلى فيه مع سيف وهم يلعبون الشطرنج.. اصطدمت عائشة رغمًا عنها بكامل جسدها فيه فوقع الطبق منه وكادت أن تقع عليه لولا أن تداركت الموقف فوقعت على الجانب الآخر وهو بجانبها ينظر لها ببلاهة و فمه الصغير مفتوح من الدهشة.. رمقته عائشة بغضب لتنهض و توبخه
“هو أنت أعمى !! ما بتشوفش !!”
“أنا برضه ! .. براحة على نفسك يا عيشة”
قالها وهو ينهض و يجمع الفاكهة المبعثرة في الطبق.. تعصبت عائشة عندما ناداها “عيشة”
و أخذت تفاحة ثم ألقتها بقوة في رأسه فجعلته يتأوه من الألم لتقول بغيظ
“عيشة في بوزك”
قدم اليها التفاحة ليقول مازحًا
“طب خدي روقي دمك ”
كادت أن تلقيها في رأسه ثانية ولكنها تراجعت قائلة
“نعمة ربنا ملهاش ذنب.. غور من وشي يا قصي”
“تعرفي يا بت يا عيشة إن الخمار حلو عليكِ”
قالها وهو يقضم من التفاحة و يتلذذها
نظرت له بغيظ ثم تركته وذهبت وهي تقول
“الحكاية مش ناقصة معاتيه”
آتاه الرد من ذلك المشاكس
“و الله ما حد معتوه غيرك يا بت يا عيشة”
استدارت وهي تزفر بغضب و تبحث عن أي شيء تضربه به، فلم تجده.. قالت ساخرة
” جبان ”
اتجهت للجهة الأخرى من الشقة فوجدت زياد يعبث في هاتفه عند مدخل السلم الخلفي للبيت.. سألته عن بدر فأخبرها أنه يصلي بالغرفة التي وراءها..
دلفت لعنده و كان قد تفرغ من الصلاة و قراءة القرآن بعد أن قرأ قليلًا و أحس بالراحة والسكينة و استطاع بفضل اللجوء لله الواحد الأحد أن يستعيد وعيه و نفسه ثانيةً..
كان يضع المصحف على فخذه و رجليه ممدتان أمامه و يستنهد بظهره للحائط وهو ينظر أمامه بشرود حتى أنه لم ينتبه لوجودها و ظن أن من فتح الباب هو زياد.. فقال بعفوية وهو ما زال ينظر أمامه بشرود
” هنروح للدكتور امتى ؟ ”
هتفت عائشة بتلقائية وهي تقترب منه
” دكتـور !! ”
انتفض بدر بخوف و ابتلع ريقه بتوتر داعيًا الله بداخله ألا يُفتضح أمره…

يُتبع ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *