روايات

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الحادي والخمسون

رواية يناديها عائش الجزء الحادي والخمسون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الحادية والخمسون

لم يكن مجرد فراق، لقد أخذ روحي معه..أيا رب الشوق هل لي ألا أشتاق ؟ “لـ نرمينا”
******
نهضت السيدة على الفور وهي تتطالع عائشة بصدمة شديدة غير متوقعة ولم تكن في الحسبان، عندما أخبرتها أنها حفيدتها، و مِن مَن ؟
من ابنتها التي تمردت على عائلتهم و جلبت لهم العار و الفضيحة وسط القرية، ابنتها التي كانت السبب في إصابة والدها بجلطة دموية أدت لوفاته عندما علم بأمر هروبها و اتجاهها لطريق الفسق و الفجور.
تجمدت عائشة مكانها بخوف من نظرات جدتها الجامدة و الغاضبة، فنهضت على الفور لتأخذ حقيبتها و هي تقول بتوتر و تلعثم
“يظهر إن أنا مش مُرحب بيا وسطكم.. أنا.. أنا همشي.. و.. و بعتذر إني جيت لحضرتك ”
استوقفتها السيدة متساءلة بغضب
” و أصدق منين أنك حفيدتي ؟ ”
شعرت عائشة بأن هناك أمل في بقائها، فابتسمت بعفوية و هي تسرع في اخراج شهادة ميلادها من حقيبة الظهر خاصتها، أعطتها لها لتقول بهدوء
” اتفضلي حضرتك أتأكدي بنفسك ”
لم تكن جدتها جاهلة، بل هي على قدر واسع من العلم، لقد قامت بتسوية معاشها الخاص بوزارة التربية و التعليم منذ خمس سنوات، فقد كانت معلمة تربية دينية، و الآن تقوم بتحفيظ القرآن لصغار القرية مجانًا لوجه الله.
ارتدت نظارتها الطبية، ثم تفحصت شهادة الميلاد بدقة، و أدركت أن الأمر واقع لا محالة، فتلك الصبية الماثلة أمامها الآن تنظر لها بعينين حائرة يكسوها الدمع “حفيدتها”.
هتفت عائشة بنظرات أمل
” صدقتيني حضرتك ! ”
تفحصتها السيدة ببطء و نظرات الجمود لا زالت ترتسم على محياها و هي تتذكر ناهد ابنتها و ما فعلته بهم عندما كانت في عمر عائشة، و لكن تلك الفتاة “عائشة” تختلف كثيرًا عن ابنتها، تلك ترتدي ملابس فضفاضة محتشمة على عكس والدتها التي اخفقوا في تربيتها تربية دينية صحيحة، لشدة عنادها و جحود قلبها.
كم تشبه والدتها كثيرًا في الملامح، لها نفس العيون الدعجاء التي تشبه غزال المهّا برموشها الكثيفة و الطويلة، و نفس الوجه الأبيض الدائري و الأنف الصغير و الفم الرقيق، فتاة جميلة بحق كوالدتها، و لكن الفرق أن الأخرى أحبت جمالها و اغترت بنفسها فتمردت على أسرتها و دينها.
نظرات جدتها التي تبدو غاضبة بشدة جعلت عائشة في قمة توترها، فقررت الرحيل و البحث عن أي ملجأ و مكان يحويها.. إذا كانت هذه هي حياتها، فستتحملها بمفردها.
أخذت حقيبة أغراضها لترحل، وهي تبكي رغمًا عنها و تقول بصوت متهدج
” أنا عايزه أقولك حاجة بس قبل ما امشي.. أنا مليش ذنب في أي حاجة حصلت.. و الله ما ليا ذنب.. أنا جيت الدنيا مش فاهمة أي حاجة.. مش فاهمة و لا عارفة ليه الكل بيعاملوني على إني لعنة أو خطيئة.. أهلي اللي المفروض يحتووني كانوا بيعاملوني أسوأ معاملة.. حتى بنتك الله يسامحها محسستنيش في مرة إن ليا أم.. معرفش أصلا يعني ايه أم أو حنان الأم اللي بسمع عنه ده.. عشان كده لما ماتت مكانش فارق معايا.. و بابا الله يرحمه برضو كان بيعاملني زيها.. بس بابا غير من نفسه و ربنا تاب عليه.. أنتم بقى اللي المفروض عيلتي التانية محدش فيكم فكر يسأل عليا.. عايشة بقالي عشرين سنة معرفش حد فيكم و لا أنتم تعرفوني.. أنا عارفة إنكم اتأذيتم بسبب أمي اللي للأسف أنا ابقى بنتها.. بس والله العظيم مليش ذنب.. أنا مظلومة زيي زيكم و اتظلمت كتير أوي.. كنت جاية و فاكرة إن ليا عيلة تانية هتحتويني.. مكنتش أعرف إني شخص غير مرغوب فيه.. شخص كل أهله بيتمنوا لو إنه مجاش للدنيا أصلا.. أنا همشي.. همشي و أوعدكم محدش هيشوفني تاني أبدًا ”
شعرت السيدة بحزن شديد حيالها، رغم أنها لم تكسر بخاطر أحد من قبل طيلة حياتها، و لكن ما يحدث الآن خارج عن إرادتها، لم تكن على علم بأمر عائشة، لم تعلم بتاتًا أن ناهد ابنتها أنجبت طفلة، آخر ما تعلمه عنها أنها توفت في حادث سيارة و هي عائدة من ملهى ليلي، و لم يذكر أحدًا لها أنها لديها حفيدة من ابنتها و هي الآن واقفة أمامها لا حول لها ولا قوة مثلها تمامًا، تلك الفتاة الضعيفة يتيمة الأبوين ليس لها ذنب في كل ما حدث، و لكنها أيضًا في صدمة من الأمر لا زالت تحاول استيعاب ما يحدث.
خرجت عائشة تحت أنظار جدتها التي تتابعها بحزن و تأنيب ضمير، ثم أغلقت الباب خلفها و مسحت دموعها بقوة قائلة لنفسها بشجاعة مزيفة
” أكيد يا عائشة ربنا خلقك لسبب.. حتى لو العالم كله مش عايزك بس طالما جيتي الدنيا يبقى فيه سبب لوجودك..
تنهدت بأسى لتتابع بضعف
“يارب أنا لوحدي مليش غيرك.. خليك جنبي يارب و متسبنيش”
________________♡
عليك معاملتي دائمًا بمبدأ الاستثناء ، فأنا لا أشبه أحد.
***********
ودعت الشمس عائلة الخياط، ليحل الليل مكانها، و في بيت من بيوت تلك العائلة، يقف ذو العينين الزرقاء أمام المرآة ينثر عطره الرجولي الجذاب، ثم ارتدى ساعته الثمينة و الأنيقة و عدل من ياقة قميصه السُكري الذي تناسب كثيرًا مع بنطاله الچينز الثلجي، وهو يتأمل نفسه بثقة زائدة.
كم يعشق صاحبنا هذا الملابس الكاجوال؛ فهي تلائم وسامته جدًا و تضفي عليه هيبة خاصة.
رنّ هاتفه برقم تلك الفتاة التي تدعى كارمن، فأجاب في الحال
” ايوه يا حبيبتى.. أنا طالع أهو.. مش هغيب سلام ”
أغلق المكالمة و هو يتأمل صورتها التي ظهرت مع رقمها على شاشته بابتسامة اعجاب صادقة..
لمحه والده وهو يشاهد التلفاز فجذب انتباهه بسؤاله المستفسر
“متشيك كدا و رايح فين ؟ ”
” رايح اعمل خير ”
” خير ايه اللي رايح تعمله بالليل ده ! ”
” هطعم مسكينة ف ماكدونالدز ”
قالها قصي مازحًا، فرد والده بغضب
“بنات تاني ! ”
” المرة دي غير.. أنا بحبها بجد ”
اعتدل والده في جلوسه ليهتف بغيظ منه
“حبك برص.. حُب ايه يا أبو اتنين و عشرين سنة أنت !! يا ابني بص لمستقبلك بقى”
استدار قصي ليقول وهو يخرج زبدة الكاكاو من جيبه و يرطب بها شفتيه التي تشبه شفاه الكوريين
“مش عايز أفاجئك بس أنا أريدها هلس أريد خرابًا دائمًا”
“جاك خراب دق على نافوخك روح”
“منا رايح أهو.. سلام يا ميجو”
” خد ياض تعالى.. تعالى ”
التفت لوالده وهو يتمتم بملل
” مش هنخلص انهارده.. نعم.. خير ”
” اتكلم بأسلوب كويس ”
” حاضر.. نعم ؟ ”
تساءل مجاهد بنبرة أقل هدوء
” أنت مش عاوز تتجوز ليه ؟ ”
“عشان عيني زايغة”
قالها قصي وهو يبتسم بلا مبالاة، فنهره والده باستياء
” صدق أنك واد بجح ”
رد قصي ببرود وهو يجلس على يد الكرسي
“الله.. مش أحسن ما اكدب !.. ايوه أنا بحب الجمال.. بيعجبني البنات الجميلة.. لما بشوف واحدة حلوة مبقدرش أشيل عيني من عليها.. عاوزني اتجوز و اكتفي بواحدة بس ! و يا عالم اللي عاوز تجوزهالي شكلها ايه.. مش يمكن ما تعجبنيش ! ”
هتف والدة مندهشًا من فظاظته
” أنت ياض جايب البجاحة و قلة الأدب دي منين ؟؟ ”
” ده منتج هايل اسمه خلي المرارة مرتاحة و زود في البجاحة.. كان نازل عليه عروض بس خلص للأسف.. يلا بقى همشي عشان اتاخرت على أم العيال المستقبلية ”
قال والده هازئًا منه
” أم العيال !! ابقى قابلني لو فلحت أصلًا.. و الله أنا مش عارف هيبقى عندك بيت و عيال ازاي و حياتك بايظة كده.. طب لما تخلف هتبقى قدوة لعيالك ازاي ؟؟ ”
استدار ثانيةً ليقول بملامح متأثرة بدت مزيفة
“عندك حق يا ميجو.. حوار إني هبقى مثل أعلى لعيالي ده مخوفني عليهم أوي بجد ”
” هيقولوا عن أبوهم ايه ؟ ”
قالها مجاهد يعاتبه ظنًا أن قصي تأثر بالفعل بكلامه، فرد الآخر وهو يرفع رأسه بثقة
” بتاع نسوان ”
تحولت ملامح والده للامتعاض وهو يناظره بغضب مردفًا
” علفكرة أنت كده بتخليني أصمم أجوزك غصب عنك.. أنا ما يعجبنيش الحال المايل بتاعك ده.. إن ملمتش نفسك يبقى الجواز هو اللي هيلمك ”
زفر بضيق ليقول
” يا جماعة الجواز و الخلفة مش انجاز.. الحيوانات بتعمل كده عادي ”
“طيب حتى سيبك من الهبل اللي بتعمله ده و خطط لمستقبلك ”
” أنا معنديش حاجة اسمها التخطيط للمستقبل ، أنا أستيقظ من النوم و أرى أين الأمور ذاهبة و أذهب معها .. يلا أنا ذاهب بقى.. سلام يا حج ”
حاول والده استدراجه بالحديث اللين، فاستوقفه ليقول بلُطف قليلا
” اللي أنت بتعمله ده غلط.. المثل بيقول تجنب ما يؤذيك ”
” و أنا ايه اللي يخليني اتجنب ما يؤذيني !
ما انا أأذيه و اخليه هو اللي يتجنبني ”
قالها بثقة و بلا مبالاة، ثم مرّ على غرفة شقيقه و هو خارج، فوجده منهمك في عمل بعض التصميمات لشركته على الحاسوب.. استأذنه ليأخذ سيارته فوافق أُبي دون تردد، مما أغضب ذلك والدهما كثيرًا.. فصاح بنبرة تهديد
” قصي.. أنت من بكره تصحى الصبح تروح الشركة مع أخوك.. مفيش انتخة تاني.. فــاهم !! ”
أومأ قصي دون اعتراض و خرج.. توجه مجاهد لغرفة أُبي ليقول بغضب
” أنت بتديله عربيتك ليه ؟ بتساعده على الغلط ؟ ”
التفت أُبي قائلًا بهدوء
” و ايه يعني إما ياخد العربية يا بابا ؟ ”
” أنت عارف الأول هو رايح فين ! أخوك يا بيه رايح يقابل بنات.. أخوك خرج عن طوعي و مبقتش عارف أسيطر عليه ”
” و من امتى و قصي حد بيمشيه و يجيبه على مزاجه !.. قصي طول عمره بيعمل اللي في دماغه طالما هيريحه ”
قالها أُبي بشيء من الاعجاب بشقيقه ذو الشخصية الواثقة، و في نفس الوقت نبرة صوته تشوبها السخرية من نفسه.
رد والده باستنكار
” و أنت فاكر إما يعمل اللي على كيفه يبقى كده محترم ! كل يوم مع واحدة شكل و محدش عارف يلمه !! ”
استدار أُبي بكرسيه تجاه والده الجالس على فراشه، ثم تحدث بهدوء و منطقية كعادته
“مش أحسن إما يبقى محبوس في البيت و يعمل الحجات دي من وراك !.. بابا قصي ميتخافش عليه.. قصي رغم صغر سنه بس سوسه.. يعني عمره ما يغلط نفسه و لا يحط نفسه في موقف محرج و يشيل هو الغلط لوحده.. قصي أخويا لو وقع في أي مشكلة يعرف يطلع نفسه منها زي الشعره من العجينة.. عشان كده بقولك متخافش عليه.. سيبه يعمل اللي عايزه ”
” يعني ايه يعمل اللي عايزه.. ليه هو أنا مركب قرون ! ابقى عارف إن ابني بيقابل بنات في نصاص الليالي و اقعد ساكت كده ! طب افرض واحدة ضحكت عليه و غويته و خدته لسكة غلط.. نعمل ايه بقى ساعتها ؟؟ ”
“مين اللي ياخد مين لسكته ! حضرتك متعرفش ابنك كويس.. بقولك قصي ده مش سهل.. والله ميتخاف عليه.. ده يغوي عشيرة بنات و لا يتهزله شعره.. طيب هقولك على حاجة.. قصي مبيعرفش بنات محترمة….
قاطعه والده ضاحكًا بسخرية
_ منا عارف.. هو هيعرف محترمين منين يعني
ابتسم أُبي بخفة على طيبة والده ليقول
” حضرتك مش فاهم قصدي.. قُصي أخويا قاصد ميعرفش بنات محترمة.. هو بيمشي مع البنات اللي ملهاش أهل يدوروا عليهم.. بمعنى.. يعرف بنات منفتحة أهاليهم سايبنهم يعملوا اللي عاوزينه.. يعرف بنات ماشية على كيفها.. لكن ميروحش أبدًا يتعرف على واحدة بنت ناس محترمين.. عشان بنت الناس المحترمين مش هتوافق تخرج معاه أبدًا.. ايوه ممكن يحبوا بعض بس.. أخرهم حب.. لكن كلام فارغ و خروجات لأ.. هو بيروح للبنات اللي تخرج معاه بإرادتها.. ليه بقى.. عشان ساعة ما تحصل مشكلة يسيبها و هو مطمن ميكونش ظلمها و لا أذاها.. يعني يقولها أنتِ اللي جيتي برجلك أنا مجبرتكيش على حاجة.. و علفكرة يا بابا.. البنات من النوعية دي هي اللي بتيجي تتعرف عليه الأول.. قصي عمره ما راح لواحدة و قالها عايز اتعرف عليكِ.. أو بحبك أو.. أي واحدة عرفها و خرج معاها كانت هي اللي طلبت منه كده ”
هتف والده باستهزاء
” اصله محترم أوي الولاه.. بيسمع الكلام علطول.. أي واحدة تقوله تعالى يقولها سمعًا و طاعة ”
هز أُبي رأسه ضاحكًا ليردف
” حضرتك مش عايز تفهمني برضو.. هو منكرش إنه بتجذبه البنت الحلوة الشيك النوع ده يعني.. بس دايمًا معزز نفسه شايف إنه عيب في حقه يروح يجري ورا واحدة حتى لو هيموت عليها.. عزة نفسه منعاه يروح يبدأ الكلام مع أي واحدة كانت.. هو بس بيسلي نفسه مش أكتر.. ده طيش شباب و نص الشباب بتعمل كده ”
رمقه والده بدهشة متعجبًا من مدافعة أُبي لشقيقه.. فنهره بحدة
” أنت بتقول ايه أنت كمان !! أنت بتبرر ايه !!
ده بدل ما تعقله و توعيه تقولي بيسلي نفسه و سيبه يعمل اللي عايزه.. ده مش بعيد يجبلنا مصيبة ! ”
” مصيبة !! ده المصيبة تجيله لحد عنده و تقوله أوامرك يا باشا.. يا بابا افهم بالله عليك.. السن اللي فيه قصي مش عايز حدة في المعاملة و لا تمشيه على مزاجك.. سن العشرينات بتاع الشباب محتاج مصاحبة.. صاحبه عشان تقدر توجهه صح.. لكن لو هتفضل تقل منه و تفرض نفسك عليه كده يبقى سيبه يعمل اللي عايزه أحسن.. على الأقل لما يغلط هيتحمل نتيجة غلطه بنفسه و كتر التجارب بتعلم الانسان الصح من الغلط و تديله خبرات كافية يواجه الحياة.. و الحياة مش ساهلة.. فا سيبه يمشي بدماغه.. بلاش حضرتك اللي تمشيه.. أنت عليك تنصح و بس ”
قال أُبي ذلك قاصدًا أن يلفت نظر والده لما كان يفعله معه وهو في ريعان الشباب، من تحكمات و فرض آراء أدت لتكوين شخصيته الإنطوائية.
أجاب والده باستسلام
” يعني أنت شايف كده ! ”
أومأ أُبي فتابع مجاهد قائلا بقلب أب خائف بصدق
“بس أنا خايف عليه.. خايف يضيع مستقبله.. ده واد دماغه حلوة و ذكي.. و ذكي كمان بشكل مش طبيعي.. دي نعمة و الله هو مش حاسس بيها.. خايف عليه ميعرفش يستخدم ذكائه ده في حاجة مفيدة”
طمأنه أُبي بابتسامة صافية
“اطمن يا بابا.. مفيش واحد ذكي مش عارف هو بيعمل ايه.. قصي اللي أنت شايفه مش بتاع مسؤولية ده.. مخطط لمستقبله كويس جدًا و بيحكيلي على كل حاجة عشان أنا مصاحبه.. تفتكر حضرتك ليه قصي مدخلش طب رغم إنه كان جايب مجموع الطب بزيادة و كل أساتذته بيشهدوا إنه طالب متفوق ! ”
” عشان بيعاندني.. عشان قولتله ادخل طب وهو قال لأ مش عاوز حد يفرض رأيه عليا.. أنا اللي ابوه مخدش برأيي حتى و دخل كلية على مزاجه ”
هز أُبي رأسه بنفي وهو يضحك بخفة
” لأ الحكاية مش زي ما أنت فاهمها خالص.. هو بس بيحب يناقر معاك عشان أنت طبعك شديد معاه.. بس قصي دخل علوم مخصوص عشان بيحب أي حاجة تخص الكون من فضاء و أرصاد و كده..هو عايز يبقى عالم فضاء و أرصاد جوية ”
هتف والده مستنكرًا
” عايز يبقى عالم !! ده هيبقى صبي عالمة مش عالم.. في عالم بتاع نسوان !! اتكلم كلام معقول أنت كمان ”
رد أُبي ضاحكًا بشدة
“طب متقولش كده قدامه عشان ميزعلش مني أنا..
ثم تابع بنبرة تجعل تذهب رهبة والده و خوف على قصي
” والله العظيم يا بابا قُصي ميتخافش عليه.. رغم إن سنه صغيرة بس جدع و يعتمد عليه و يسد في أي حاجة.. و أنا واثق إنه هيبقى حاجة كبيرة في المستقبل.. قصي أخويا من النوع العنيد جدًا و مبيتاكلش بعقله حلاوة بسهولة.. و قبل ما يعمل الحاجة عارف ايه نتايجها.. يعني أي حاجة بيعملها مش من فراغ.. لأ هو دارس قراراته كويس..بص يا بابا.. حضرتك ربيت و كبرت و علمت.. كتر خيرك لحد هنا.. قصي مش أخويا الصغير قصي بعتبره ابني. فا شيل ايدك منه خالص و سيبهولي.. أنا وهو صحاب و فاهم دماغه كويس.. أنا عايزه ياخد كل قراراته لوحده بدون ما حد يضغط عليه.. عشان اما يكبر و يحسب غلطاته يلاقي إنه لوحده المتسبب فيها فميلومش حد مننا.. بس ده مش معناه إني اسيبه بمزاجه.. لأ أنا بعرف الصح من الغلط و اما بيجي يستشيرني في حاجة بقوله رأيي اللي هيفيده و هو حر بقى ياخد برأيي أو يتصرف من دماغه”
تنهد والده بقلة حيلة موافقًا على كلام أُبي
“ماشي..ربنا يصلح حاله و حالك”
نهض أُبي ليُقبل رأس والده بحنوٍ قبل أن يخرج من غرفته
” يارب يا حبيبي.. أنا عايزك تطمن خالص و تسيبلي قصي.. أنا هعرف أتعامل معاه ”
ثم استدار ليقول باسمًا
” هعمل شاي أعملك معايا ؟ ”
” ياريت.. و تعالى عايزك في موضوع كده ”
أومأ أُبي دون أن يعلق بشيء، فقد فهم أن والده سيتحدث في موضوع زواجه.
_______________
على الجهة الأخرى في شوارع المنصورة المضاءة بأنوار الأعمدة على جانبي الطريق، يسير قُصي بسيارة شقيقه الفارهة ذات الموديل الحديث نوعًا ما، فقد اشتراها من عمله في احدى الشركات من امستردام، و بما أنها من النوع الحديث فهي بنظام القيادة الآلي، ظل قصي يراسل كارمن على تطبيق الواتساب بينما السيارة تسير تلقاء نفسها، إلا إذا وجد أنه بحاجة لتغيير المسار أو ما شابه فيضطر للقيادة هو..
أضاء التكييف بها، و قبل أن يقوم بتشغيل بعض الموسيقى الأجنبية لمحت عيناه من زجاج النافذة الأمامي فتاة ترتدي زي رياضة “الكاراتيه” و يلتف حولها ثلاث شباب يبدو من ملامحهم أنهم يحاولون المشاجرة معها.
أوقف قُصي السيارة و قبل أن ينزل، سحب مسدس شقيقه له رخصة و يضعه دائمًا في حافظ أغراض بجانب عجلة القيادة؛ لتعرضه للسرقة أكثر من مرة، يعرف قصي كيفية استخدامه جيدًا؛ لأنه كان يذهب مع أصدقائه البريطانيون في رحلات صيد للغابات.
قبل أن يخرج المسدس من وراء ظهره، جذب انتباههم ليقول بنبرة حادة على عكس شخصيته المرحة
” أنت يالاه أنت و هو.. في ايه ؟؟ ”
رد واحد منهم بسخرية و هو يتأمل قصي من رأسه لأخمص قدميه
“و أنت مال أهلك يا حليوة يا فرفور أنت”
” فرفور !! ”
قالها قصي بسخرية مماثلة و قبل أن يخرج المسدس ليخيفهم فقط، استغلت فتاة الكاراتيه انشغال هؤلاء الشباب مع هذا الغريب، ثم قامت بمهارة دهش لها قصي بالقفز على السيارة بقدم واحدة فساعدتها تلك القفزة الخفيفة و الماهرة بلف جسدها في الهواء مثل الفراشة بكل خفة، ثم فتحت حوضها بزاوية منفرجة لتركل اثنين في رؤوسهم مما جعلتهم يتألمون بشدة بعد أن وقعوا مكانهم، و الشاب الثالث من دهشته ظل واقف ينظر لها ببلاهة، فناولته هو الآخر ركلة هوائية في صدره، جعلت جسده يرتفع في الهواء قليلا كأنه يطير؛ ليصطدم بظهره في شجرة خلفه، و وقعت هي على الأرض إثر حركتها القتالية القوية..
ظل قصي لثوانِ يتأملها بذهول و اتجه ليساعدها على النهوض، ففاجئته تلك الفراشة بضم قدميها لتنهض من على الأرض وحدها بقفزة مثالية ثم وقفت أمامه بقامتها القصيرة، فهي رغم مهاراتها الرياضية و جسدها اللين في ممارسة حركات الكاراتيه، إلا أن طولها لا يتعدى المتر و خمسون سنتيمتر، و بالنسبة لشخص طويل القامة مثل قصي فكان يخفض رأسه اليها و هو لا زال يتأملها بدهشة و كعادته عندما يدهشه شيء ينفتح فمه الصغير تلقائيًا..
ضحكت الفتاة ساخرة من نظراته المندهشة بها، ثم قالت قبل أن تتركه و تذهب
” شكرًا.. تعبتك معايا ”
لم ينطق قصي بأي كلمة سوى أنه قال بعدم استيعاب
” ايه ده !! ”
عاد ليركب السيارة ليحدث نفسه ضاحكًا مما رآه منذ لحظات
” ده راجل ده و متخفي في جسم أنثى.. و لا ايه ده بالظبط.. ايه الكائن الغريب اللي أنا شوفته ده !!
أنا مبشوفش كده غير في التلفزيون. معقول اكون لسه نايم و مصحتش و ده حلم من احلامي المتخلفة و لا ايه !!.. البت متجيش شبر ونص و روقتهم التلاتة.. لأ راجل بصحيح ”
لفت انتباهه هاتفه يضيء بصورة كارمن فصفع جبهته بخفة
” أوف.. نسيت كارمن.. شكلها زعلت ”
أجاب على الهاتف بلهجته المرحة
” حبيبتي أنا آسف الطريق كان زحمة.. خمس دقايق و أكون عندك ”
و بعد عشر دقائق وصل قصي لذلك المطعم الزجاجي الفخم، اصطف السيارة بجانب الطريق و صعد للطابق الثاني من المطعم.. أخذ يبحث بعينيه عنها، فوجدها تجلس على احدى الطاولات برفقة ثلاث شباب و فتاة.. عقد قصي حاجبه بتعجب من وجود غرباء معها، ثم اتجه اليهم فاستداروا إليه بابتسامة مرحبة.. نظر قصي لكارمن نظرات ذات مغزى، فقالت ضاحكة بخفة و هي تعرفهم على بعض.. أشارت للشاب الذي يرتدي كاب على شعره و حلق صغير في أذنه و الوشم يملأ ذراعيه المعضلة
” ده أمجد صديق قديم و عزيز عليا يعتبر دنجوان الشلة بتاعتنا..
أشارت للشاب الجالس على يمينها ذو الشعر المصبوغ باللون الأزرق و الأصفر
” و ده سمير عايش طول عمره في انجلترا بس نازل اجازة ترفيهية كده..
ثم أشارت للثالث والذي انتبه له قصي أنه ينظر اليه نظرات غير مفهومة.. لتقول كارمن ضاحكة
” وده بقى آراش.. من أصول ايطالية بس عاش معظم عمره في أمريكا و أحيانًا بينزل مصر للترفيه برضو..
” ماله الأخ بيبصلي كده ليه ؟؟ ”
تساءل قصي ببرود و هو ينظر له، فردت كارمن و هي تضحك رغمًا عنها
” أصله عنده ميول مثلية..بس متخفش منه ”
” ايـــــه !!! ميـــول ايــــــــه !!!! ”
صاح قصي بدهشة و بغضب مما التفت له جميع من بالمطعم..خافت كارمن من حدته فنهضت على الفور لتسحبه من يده و تجعله يجلس لتقول بهدوء
“اهدى يا قصي في ايه ! هو عملك حاجة ”
سحب قصي ذراعه منها ليصيح بغضب
” هو أنا لسه هستنى اما يعملي حاجة !! كارمن أنتِ بتهزري ؟؟؟ ”
” قصي ممكن تهدى..هو حر..دي ميول شخصية و كل واحد حر في حياته ”
مسح قصي على وجهه بنرفزة، لا يصدق أن الفتاة التي أحبها لديها أصدقاء بمثل تلك القذارة، نهض بغضب ليسحبها من يدها معه وهو يخرج من المطعم تاركًا لهم المكان برمته، ثم فتح باب السيارة و دفعها لتركب، و ركب بجانبها هاتفًا بتَعصُب
“الشلة الـ*** تقطعي علاقتك بيها.. إذا كان أنا مش موافق يبقى ليكِ صحاب شباب تروحي تصاحبي واحد شاذ !! أنتِ بتفكري ازاي ؟؟؟ ”
اندفعت بغضب هي الأخرى
” كل واحد حر في حياته.. و أظن أنت مش من حقك تقولي اصاحب مين أو أعمل ايه.. اوك ! ”
قالت ذلك ثم عقدت يديها على صدرها بغضب و لفت وجهها باتجاه آخر، بينما هو ظل يناظرها باستياء و غيظ مما قالته، نعم يعلم أنها عاشت حياتها وسط الغرب و لا تفهم كثيرًا بعادات و تقاليد العرب و لا تفقه في الدين أي شيء رغم أنها مسلمة، و لكنه لا يعجبه اختلاطها بهذا الشكل، لو كان يعلم أنه سيقع في حب فتاة من تلك الطبقة و من هذا المجتمع المنفتح لكان ردع قلبه قبل أن يحدث الأمر.
زفر بضيق ليتحدث بهدوء قليلا
” كارمن.. أنا بحبك.. و مش بتسلى و لا حاجة..أنا مبعرفش أكدب في الحب بالذات.. لما بحب بقول ولما بكره بقول.. و أنا بجد بحبك..عشان كده خايف عليكِ.. أنا متفهم إن طول عمرك كنتِ عايشة برا و صعب تتطبعي على طباع و عادات بلد تانية.. بس بما إنك مسلمة زيي فالعادات و التقاليد هنا ملهاش دعوة.. الدين هو اللي ليه حكم عليكِ.. و أنا عليا انصحك.. بما إني عارف شوية في الدين.. الدين بتاعنا بيقول انه مينفعش أوافق حد على معصية هو بيعملها.. الشذوذ الجنسي مش حرية شخصية.. دي كارثة يا كارمن و معصية تودي في داهية.. لو سمعتي عن قصة قوم لوط و العذاب اللي حصلهم من ورا شذوذهم هتفهمي إن المثلية مش حرية شخصية خالص..
قاطعته لتقول وهي لا زالت غاضبة منه
” آراش مش مسلم.. و في بلده عادي الكلام ده ”
” بس أنتِ مسلمة.. يعني مينفعش لا تختلطي بيه أو توافقيه على اللي بيعمله.. كونك بتقولي دي حرية شخصية فأنتِ شلتي وزر موافقتك على اللي بيعمله.. زوجة نبي الله لوط عليه السلام مكنتش بتمارس الرذيلة زيهم بس كانت بتوافق قومها فيما يفعلون فقُدِّرت من الغابرين.. بالظبط اللي مش بيمنع انتشار الشواذ سيكون من الغابرين.. لكن تقولي هو حر ! لأ مينفعش ”
صمت خيم عليهما، كانت تفكر فيما قاله و لكنها لم تأخذ الأمر بعين الاعتبار، أي لم يؤثر فيها.. بينما قصي شرد للحظات.. فهزته كارمن من كتفه لتخرجه عن شروده قائلة
“روحت فين ! سرحان في ايه ؟ ”
ضحك متعجبًا من نفسه ليقول
” بحب نفسي جدًا في اللحظات اللي بتكلم فيها بمنطقية.. اللي هو اسمع نفسي و أقول يا خسارتك أنت في الهلس يا راسي يا واعي..و بعدين اكمل تفاهة و هزار تاني عادي ”
ضحكت برقة ثم مالت على كتفه، فشعر بالاحراج قليلا لقربها الشديد منه.. قال بهدوء
” كارمن.. أنا عايزك تتحجبي ”
ابتعدت عنه لتقول بدهشة
” اتحجب ! ”
أومأ باسمًا.. فقالت باستنكار
” نص ستات المسلمين مش متحجبين.. اشمعنا أنا اللي اتحجب ! و بعدين يا قصي متزعلش مني الحجاب حرية شخصية.. و أنا مش بضر حد.. دي حاجة بيني و بين ربنا.. اتحجب وقت ما أحب أو متحجبش خالص.. دي حاجة تخصني ”
رد وهو يتنهد بضيق
“بس أنتِ هتتحاسبي لوحدك يا كارمن.. أنا عارف إن دي حاجة بينك و بين ربنا و هو اللي هيحاسبك.. بس واجبي انصحك.. و قولتلك إني بحبك و خايف عليكِ.. و الحجاب مش حرية شخصية زي ما أنتِ فاكرة.. الحجاب فرض يا كارمن ”
هتفت متعصبة
” لأ مش فرض.. قصي أنا التحكمات الزيادة بتخنقني ”
” مش تحكمات.. بس اللي بقوله هو الصح.. طب هسألك سؤال.. أنتِ مؤمنة إن الصلاة فرض ؟ ”
أومأت بتلقائية
” آه طبعًا الصلاة ركن أساسي في الاسلام.. رغم إني مش بصلي لأن محدش علمني الصلاة بس أنا عارفة انها فرض ”
“الحجاب زي الصلاة.. الصلاة اتذكرت في القرآن و الحجاب برضو.. و أي حاجة اتفرضت في القرآن علينا.. فهي واجب تنفيذها.. مينفعش نؤمن بآيات و آيات لأ.. بصي هو أنا مش متدين و مش ملتزم بس بحاول ارضي ربنا على قد ما اقدر.. لكن من واجبي كمسلم أني أأمر بالمعروف و أنهي عن المنكر.. و أنا مش بتحكم فيكِ أنا بقولك الصح و اللي لازم تعمليه.. الحجاب عبادة لله وحده مش بقولك تلبسيه عشاني”
تأملته للحظات باعجاب لتقول
” غريبة يعني يا قصي.. المفروض إنك عيشت مع الاجانب زيي و اختلطت بيهم كتير و مع ذلك تعرف في الدين ”
ابتسم قائلا داعيًا لسيف في نفسه
” ابن عمي سيف هو اللي عرفني الصح من الغلط.. ربنا يشفيه ”
” يشفيه !.. ليه ماله ؟ ”
“يعني.. عمل حادثة أدت لاصابته بشلل نصفي.. بس عارفة تشوفيه تقولي ربنا مديله رضا الدنيا كلها.. دايمًا يحمد ربنا و رغم تعبه ده بس مبيسبش المصحف من ايده و بيصلي الفروض في وقتها”
ردت بعدم اهتمام
“يا عيني مستقبله ضاع.. ربنا يشفيه”
” لا مضاعش و لا حاجة.. ده ما شاء الله عليه داخل رابعة طب بشري تخصص جراحة قلب.. و بيطلع كل سنة بتقديرات عالية.. بيحب دراسته جدًا و شايف إن اللي حصله ده نعمة من ربنا بيشكره عليها في كل وقت.. و صابر و مكمل حياته عادي ”
قالها قصي بلهجة تشوبها الصرامة قليلًا، فقد أحس منها بنبرة الاستهتار بعجز ابن عمه.
” عايزه اتعرف على أهلك ”
تأملها للحظات بملامح مندهشة، فقد وضعته أمام الأمر الواقع وهو يريد أولا اصلاحها كما أخبره سيف حتى يجعل أهله في صفه و يوافقوه على الزواج منها، رغم أنه لم يعرف بعد أي شيء عن عائلتها سوى أنهم خارج مصر، و والدتها سافرت أيضًا الأسبوع الماضي دون أن تخبره كارمن بذلك، وبقيت هي وحدها في مصر تتابع أعمال والدها، أحيانًا يشعر نحوها ببعض الغموض و أنها شخص منغلق على خصوصياته لا يستطيع أحد فهم ما يدور في رأسه بسهولة، و لكنها جالسة أمام قارئ العقول، أيغلب عليه ألا يعرف طباعها و ماهيتها الأصلية ! كلا ” إنه قُصي “.
قال بثقة
” أنا كنت ناوي أصلًا أعرفك عليهم بس مش دلوقت ”
” ليه مش دلوقت ”
” في شوية ظروف في عيلتنا كده.. مستني لما الحال يتعدل شوية و أخدك زيارة ليهم مرة.. عشان يعرفوا إن ابنهم اختار صح ”
قال جملته الأخيرة وهو ينظر لها بابتسامة مشاكسة، فضحكت برقة دون أن تنطق بشيء.. تساءل بلمحة فضول
” لسه ساكنة في الاوتيل اللي قولتيلي عليه ؟ ”
بدا التوتر على وجهها قليلا، فحاولت إخفائه بابتسامة مزيفة لتقول
“لأ.. شفت شقة حلوة مريحة يعني و قاعدة فيها مع صاحبتي اللي كنت عاوزه أعرفك عليها في المطعم ”
” صحبتك مين ؟ ”
” رودينا.. بنت ذكية و كويسة جدًا.. نعرف بعض من زمان..
غيرت مجرى الحديث سريعا مما جعل قصي يشك في أمرها
“أنا كلها كام شهر هخلص الشغل اللي جيت عشانه و هسافر تاني ”
” و أنا ! ”
” أنت ايه ؟ ”
” بعد ما تسافري أنا هيبقى وضعي ايه ؟ كارمن أنتِ بتحبيني و لا لأ ؟ جاوبي بصراحة أيًا كانت الإجابة ايه مش هزعل بس المهم عندي من غير كذب .. أنا بكره الكذب و الحوارات يا كارمن.. لو اكتشفت في يوم إن في حاجة كذبتِ عليا فيها.. هتشوفي وش قصي التاني.. هيبقى أسوأ يوم في حياتك لو اكتشفت إنك كذبتِ عليا و لو مجرد كذبة صغيرة ”
قالها وهو يناظرها بحدة و عيونه الزرقاء تنضج بالغضب المختلط بالشك، مما جعلها ذلك في قمة ارتباكها و خوفها فتجمعت الدموع بعينيها ثم بكت.. عاد لهدوئه ليقول معتذرًا عن حدته معها
” متعيطيش.. أنا آسف.. بس في حجات كده غصب عني مش قادر افهمها.. حجات بتوترني يا كارمن ”
مسحت دموعها لتقول بنبرة تحاول استعطافه بها
” حجات زي إيه يعني يا قُصي.. منا قولتلك ماما سافرت لبابا عشان هي اللي ماسكة معاه معظم شغله و بتنظمله مواعيد اجتماعاته.. و أنا عشان بشتغل مع بابا من زمان فبعرف في الشغل بتاعه كويس.. عشان كده معتمد عليا إن أنا اللي اخلصله شغله في مصر في خلال الكام شهر دول ”
” بس مش ده اللي شاغل دماغي ”
نظرت له باستفهام، فتساءل
” أنتِ هتسافري بعد كام شهر.. طب و بالنسبة لعلاقتنا ؟ ”
ردت بتلعثم
” منا.. منا هاجي تاني يا قُصي.. أو ممكن تخلص كليتك و استناك نسافر مع بعض ”
” لأ يا كارمن.. أنا قولتلك إني هستقر في مصر و مش ناوي أسافر تاني.. هتفضلي معايا و لا تسافري ؟ ”
” أنا كمان مش حابة أبعد عن أهلي يا قُصي ”
أومأ بتفهم دون أن يجيب، فقالت بلهجة مرحة تود مصالحته
“ايه رأيك نعيش أنا و أنت مع بعض علطول.. و نقعد سنة مع أهلك و سنة عند أهلي ؟ ”
نظر لها ليزفر بضيق قائلا
” ده مش حل برضو.. يعني ايه سنة هنا و سنة هناك.. جواز يعني استقرار يا كارمن ”
صاحت بدهشة
” جــواز !! ”
أومأ بعفوية
” ايوه.. جواز ”
حاولت الحفاظ على ثباتها فقالت
” بس.. بس أنا مبفكرش في الجواز دلوقت ”
” اومال هنفضل مع بعض كده و خلاص ! ”
قالها باستنكار، فردت بفتور
” ايه المشكلة لما نفضل مع بعض من غير جواز..
” أنتِ بتقولي ايه !! هو احنا صحاب ! إحنا بنحب بعض.. فاهمة يعني ايه بنحب بعض.. يعني علاقتنا ملهاش مسمى تاني غير الجواز ”
تنهدت بملل، ثم أرجعت خصلات شعرها للوراء بتوتر مردفة
“افهمني يا قُصي لو سمحت.. أنا بحبك و أنت عارف كده و عايزه أعيش معاك عمري كله.. بس عشان علاقتنا تبقى ناجحة الأفضل منتجوزش علطول.. احنا محتاجين ندرس بعض الأول و نتعود على طباع بعض”
” و أنا مستعد أخطبك دلوقت معنديش مانع.. بس عرفيني على أهلك على الأقل ”
قالها بحسن نية، فضحكت ساخرة من سذاجته لتقول وهي تمد أنامل يدها تعبث في أزرار قميصه
“أنت فهمتني غلط خالص.. مش قصدي نتخطب..
قاطعها وهو يبعد يدها عنه قائلا ببرود
” اومال تقصدي ايه ؟ ”
“نعيش مع بعض كام شهر كده في علاقة مساكنة
قالتها بهدوء مبالغ كأنه تستدعيه لتناول كوبين من عصير القصب.. فهتف بصدمة
” ايــــــه !! علاقـــة ايــــــــــه !!! مســاكنـــة !!! ”
هزت رأسها وهي تنكمش مكانها بخوف من ملامحه المتعصبة بشدة..
صاح قصي بعدم تصديق
” أنتِ مجنــــونة !! علاقة مساكنـــة ؟؟؟ ”
تحررت من خوفها لتقول
” و ايه المشكلة.. المساكنة مشروع ناجح جدًا و كل الدول المتقدمة بتجربه ”
” ده اسمه زنـا يا متخلفــة.. ”
صاح بها وهو ينظر لها بحدة كأنه يود تمزيق تفكيرها اللعين هذا و إعادة بناءه من جديد.
حاول تهدئة نفسه وهو يمسح على وجهه و يتمتم بنفاذ صبر
“كل الناس بتتكلم عن جمال البدايات و أنت حتى بدايتك زفت ..”
ساد الصمت بينهما للحظات يتخلله فقط صوت أنفاسه المستاءة، و أنفاسها المضطربة الخائفة.. تفهمت على الفور أن هذا الشيء الأحمق الذي تفوهت به غير مسموح في بلاد المسلمين.. بلاد تبدأ يومها بـإياك نعبد و إياك نستعين، لا تقبل بمثل هذا الهراء بين أفرادها.
اقتربت منه قليلا لتقول بأسف
” مكنتش أعرف إن دي حاجة هتزعلك أوي كده.. أنا آسفة ”
عبقت رائحة عطرها المثير أنفه، فنزل من السيارة سريعًا ليقول بجمود
” انزلي.. احنا قريبين من البحر أصلا.. تعالي نتمشى شوية ”
انصاعت لأوامره و تعجبت من مقدرته على التحكم بنفسه و بغرائزه وهي بالفعل كانت تنوي جره اليها للايقاع به، و لكنه تفهم ذلك و أدرك أن كارمن تريد جعله يمارس معها الفاحشة كما يفعل معظم سكان بلاد الغرب، بل و يعترفون أن تلك الاشياء عادية عندهم و ليست عليها رقابة، ويسخرون ممن يحافظ على نفسه أو من الفتاة التي تبقى محافظة على عذريتها من الدنس و الآثام.
عندما ترجلت من السيارة، سحبها من ذراعها بلطف ليوقفها أمامه قائلا بلهجة حادة و محذرة
” مش معنى إن بحبك يبقى نمشي في سكة القرف ده.. احنا مش أجانب.. احنا مسلمين.. معندناش احنا القذارة دي.. لو في ناس شايفة إن ده عادي و جو بقى تحضر و كده.. فمعلش أنا مرميش نفسي للتهلكة و أجي أقول يا رتني.. و سميني رجعي سميني متخلف.. سميني زي ما تسميني.. لكن السكة دي لأ يا كارمن.. أنا عشان بحبك بتقِ الله فيكِ و عايزك في الحلال.. مش عارف ليه أنتِ مش موافقة نتجوز”
شعرت بالخجل من نفسها و غضبت منه؛ لأنه رفضها وهذا جعلها تشعر بأنها قليلة في عينه.. قالت بعدم اهتمام لما يقوله
” أنا معنديش مانع نتجوز.. بس أخلص شغل بابا و افاتحه في الموضوع ”
أومأ وهو يسير بجانبها واضعا يده في جيبه
” تمام.. اللي يريحك ”
بعد دقائق من الصمت و بعد أن اطمأنت له و عاد لهدوئه المعتاد.. تساءلت باعجاب
” مكنتش اعرف انك عصبي كده.. كنت واخده عنك فكرة أنك فرفوش و بتحب الهزار و الخروجات و ملكش في جو النكد و العصبية ده ”
رد ضاحكًا
” في غلط عن غلط يفرق يا كارمن.. أنا آه بغلط بس في غلط ميتسكتش عليه.. بالنسبة بقى لتقلباتي المزاجية فأنا كذا شخصية في بعض..يعني بتعصب بسرعة و بهدى بسرعة و بتصالح بسرعة و بفرح بسرعة و مزاجى بيتغير بسرعة.. و تحسي إن فى حد بيجري ورايا في دماغي كده ”
ضحكت من لهجته المرحة في الحديث و خفة ظله، و شعرت بأنها بدأت تعجب به حقًا، لأول مرة تشعر بأن أحدا يخاف عليها و يهتم بها حقًا. نفضت ذلك الشعور عن قلبها وهي تحدث نفسها و تذكرها أنها جاءت لأجل شيء مهم، جاءت لأجل الانتقام فلا تسمح لنفسها بالوقوع في حبه.
________________♡
“المراقبة في عز الاشتياق قاتلة ”
*****
بعد أن شعر بدر بالارتياح في الحديث مع الشيخ عمار، و استطاع هذا الشيخ الجميل التخفيف عن همه قليلًا.. عاد بدر و سيف لبيتهما و ظلا يتحدثان سويًا في أي شيء، و كان سيف يقصد بتلك المواضيع التي لا معنى لها بإزاحة الحزن عن أخيه.
نهض بدر قائلا وهو يهم بالخروج
” أنا هروح أجيب حاجتي من بيت عمي ”
” أجي معاك ؟ ”
سألته مفيدة بشيء من الخوف في صدرها.. فهز بدر رأسه بنفي ثم خرج.
قبل أن يفتح الباب وقف للحظات يستوعب عدم وجودها بالداخل، ثم أغمض عينيه بحزن اكتسى ملامحه وهو يسترد أنفاسه بعمق كأنها سحبت منه من كثرة أحزانه و همومه، ليدخل و يوزع بصره في كل ركن من أركان البيت و دموعه على وشك الهبوط.. نطق بحسرة
” آه عائـش ”
زفر الهواء بصعوبة وهو يدلف لغرفتهما الخاصة، عفوًا لتلك الغرفة الفارغة التي احتوت ضحكاتهما و أحزانهما و مشاجراتهما و حبهما الرقيق سويًا، جلس على الفراش نحو الجهة التي كانت تنام عليها، و أخذ يمسد بأنامله على وسادتها ليقرب الوسادة لأنفه يشتم رائحتها بعمق وهو يقول بألم أثر النغزات التي شعر بها تخترق قلبه
” وحشتيني يا مُهجتي.. وحشتيني يا عائشة.. وحشتيني أوي ”
وضع الوسادة مكانها، و استند برأسه على ذراعه التي طواها خلف رأسه ليتطلع في سقف الغرفة متذكرًا أول مرة رأى ضحكتها الصادقة و بسمتها التي يعشقها حين أشترى لها فستانًا رقيقًا مثلها.
“– الله.. ده جميل أوي.. أنت اللي اختارته ؟
أومأ بحُب، فـإندفعت بتلقائية وتعلقت برقبته كالصغار تعانقه
— ذوقك حلو أوي.. شكرا يا بدر شكرا..
ابتعدت عنه و أخذت الفستان لترتديه و تراه على نفسها.. أما هو فكان في عالم آخر كأن سعادة البشر تجمعت في قلبه حين رآها سعيدة هكذا.
ارتدت عائشة الفستان ونادته ليراه..
ابتسم بعفوية و صدقت مخيلته حين صور له ذهنه أن هذا الفستان قد صُمم خصيصًا لها.
ظلت عائشة تدور بالفستان وهو يدور معها كـأميرات ديزني وصوت ضحكاتها تملأ الغرفة، بينما هو ظل يراقبها و قلبه يتراقص من السعادة”
نزلت من عينيه دمعة منكسرة، و ازدادت نغزات صدره كأنه ينزف من صميم قلبه كلما تذكر مواقفهما الجميلة معًا..
أخرج هاتفه ليفتحه على تطبيق الصور، و راحت أنامله تضغط على فديوهات مضحكة تجمعهما سويًا أثناء عطلتهما في مرسى مطروح.
كانت عائشة تصور نفسها فديو وهي تقف على ذلك اليخت الرائع الذي فاجئها بدر به و أخذها في جولة للبحر من خلاله، ظهرت في الفديو و هي تبتسم بسعادة و ذيل فستانها يطير من جانبها بفعل تيارات الهواء، ثم آتى بدر من خلفها و طوق كتفيها بحنان ليطبع قُبلة رقيقة على يدها، و أخذ الهاتف منها ليكمل هو التصوير بينما يضمها لصدره باليد الأخرى، كانوا أجمل ثنائي بحق.
و فديو آخر كان يصورها بينما هي تنفخ فقاقيع الصابون في الهواء الطلق، و تقفز وراءها كالصغار لتفرقعهم، و انتهى الفديو وهي تجري وراءه مصممة أن تغرقه بثلج الأفراح.
ضحك بخفة ضحكة تتخللها الشعور بالألم و الاشتياق لها و لجنونها، و لكل شيء بها.
قرر حذف كل شيء يخصهما، فهي الآن لا تحل لها و لا يجوز التأمل فيها هكذا، و لكنه قبل أن يضغط على كلمة حذف.. ضعُف و أخفق، لم يستطيع محو ذكرياته الجميلة معها، رغمًا عنه وجد نفسه يضغط على صورة لها وهي تبتسم بعفوية و ملامحها الجميلة تظهر بدقة في الصورة.. تنفس الصعداء بعمق ليتحدث معها كأنها أمامه
” لو تعرفي بس أنا عملت كده ليه.. هتسامحيني و تقولي إني كان معايا حق.. والله يا عائش أنا اخترت الفراق عشانك أنتِ.. أنتِ متستاهليش تتحملي واحد بالاضطرابات المرهقة دي.. أنا نفسي مش قادر اتعايش معاها و اتحملها.. ذنبك ايه بس يا حبيبتي تشيلي هم مش بتاعك.. بس عارفة أنا اللي غلطان.. أيوه أنا غلطت من الأول إني اتجوزتك و علقتك بيا.. بس بصراحة خفت عليكِ من الوحوش اللي برا دول.. اتجوزتك عشان أحميكِ من أي حاجة.. و معرفتش أحميكِ مني.. تعرفي إنك وحشاني أوي و نفسي أجي أخدك في حضني و تفضلي معايا دايمًا !.. كنت علطول بقولك خليكِ جنبي.. متسبنيش.. بس أنا اللي سيبتك و خنت ثقتك فيا.. والله العظيم يا عائشة غصب عني.. مكنتش هستحمل أشوفك تتعذبي بسببي كده و أنا لا حول ليا ولا قوة.. أنا مش أناني ولا ظالم.. أنا سيبتك عشان خايف عليكِ مني ياريت تفهمي كده.. طيب تعرفي إن نويت اتعالج عشان أخف و اجيلك اقولك سامحيني يا عائش واخدك لحضني تاني ! .. بس.. بس ساعتها أنتِ حتى مش هتفكري تبصيلي عشان هكون في نظرك واحد ظالم مبيحبش غير نفسه.. آه لو تعرفي الحقيقة.. بس يا ترى يا عائشة لو عرفتي الحقيقة و عرفتي إن بدر حبيبك مريض نفسي كنتِ هتكملي معاه ؟ ”
رغمًا عنه نزلت الدموع من عينيه بغزارة و قرر أخيرًا بعد تردد كثير ألا يحذف أي شيء يخصهما، و لكنه عاهد نفسه و ربه أيضًا ألا ينظر اليها ثانيةً، يعلم أن وجود تلك الذكريات على هاتفه ستحطم قلبه هذا إن لم يكن قد تحطم من الأساس، و لكنه لا يستطيع.. يشعر و كأنه مكبل، شيء ما غليظ يربط يديه و يمنعه ألا يحذف أي صور لها.
كان خوفه الوحيد ألا يفترقا، و ها هو قد تحقق ما كان يخشاه دومًا، فما بقي للخوف أي داعي..
لم تغيب عنه سوى يوم واحد فقط و يشعر بأنها غابت أعوام، يشتاق اليها كثيرًا يتمنى لو أنه مجرد كابوس سيء يراوده.
آه عائش لقد رحلتي و دمرتِ فؤاد رجل كان يتمناه رجال أهل الحارة زوجًا لبناتهم العزاب، بفضلك يا صغيرة قضي العشق عليه، بفضل جنونه و شغفه بكِ طار عقله، عشقه لكِ تخطى عشق قيس لليلى، لقد فقد الرجل صوابه بسببك عزيزتي.
وضع طرف قميصه في فمه ليصرخ بكل ما فيه، صراخ مكتوم لا يسمعه أحد، و أخذ يضرب بجنون الفراش الذي يجلس عليه، ثم انهار باكيًا بشدة، لقد كسر الحنين اليها عظام صدره وجعًا.
بعد حوالى خمس دقائق من الانهيار و النحيب المكتوم، نهض وهو يمسح وجهه بقوة ليقول بتهدج و هو يلملم أغراضه و يضعها في حقيبة ملابس
“يارب أنا عايز أخف.. أنا تعبت يارب.. أعمل ايه؟”
أخذ ملابسه و أشياءه، و قبل أن يغادر المنزل ألقى نظرة أخيرة عليه و تمتم بضعف
“اتمنى أخف و أرجع أحسن من الأول و أوعدك أرجعك لبدر تاني.. بدر اللي هيتجنن في بُعدك”
خرج من منزل عمه و اتجه لمنزله، دخل دون أن يقول شيء ثم وضع الحقيبة في غرفته تحت نظرات سيف و والدته الحزينة، ليترك البيت ثانية و غادر دون أن يقول كلمة واحدة.
نظرت مفيدة لسيف قائلة بقلة حيلة
” لو اعرف بس طلقها ليه ”
رد سيف بحزن على حال شقيقه
” سيبيه يا ماما دلوقت.. هو لما يفوق و يستوعب هيقولنا السبب ”
” أنا قلبي واكلني أوي على عائشة يا سيف.. البت دي مشافتش يوم عدل في حياتها ”
” ما تيجي نروحلها زيارة يا ماما.. نطمن عليها عشان متحسش إننا نسيناها.. مهما كان الاختلاف بينها و بين بدر هي في الأول و الآخر بنت عمي و مننا و ليها حق علينا ”
أومأت والدته بموافقة
“ايوه.. عندك حق.. بس هاجر و زياد ينزلوا بالسلامة كده و نروح كلنا نطمن عليها”
قصد بدر منزل الشيخ عمار ليريح قلبه بكلامه مثل المرة السابقة، لا زال يشعر بالخزي من نفسه و بأن الله لا يرضي عنه بسبب انتكاسه أكثر من مرة..
رن جرس الباب ففتحت زوجة الشيخ و هي إمرأة مسنة بشوشة الوجه مثل زوجها، حين رأت بدر تبسمت في الحال و دعته للدخول
“يا مرحب بالغالي ابن الغالية. اتفضل يا بدر ادخل”
بادلها بدر الابتسامة ببساطة
” ازيك يا أمي عامله ايه ؟ ”
” في فضل و نعمة من ربنا يا ضنايا.. تعالى ادخل ”
” الشيخ عمار موجود ؟ ”
“ايوه في الصالة”
دلف بدر وراءها و ألقى التحية على الشيخ، فردها ببشاشة
” و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. سلامًا يحل على قلبك و رحمة تبرد بها شوقك.. اجلس بني تعال ”
عرف الشيخ على الفور قبل أن يتحدث بدر، أنه جاء لتغلب الاشتياق عليه، و هذا طبيعي للمحب عندما يفارق من يحب، فيشعر أنه تائه في الأرض لا يدرِ أين مسكنه و مأواه.
جلس بدر بجانبه و رغمًا عنه انفجر في البكاء ليقول بضعف شديد
” مش قادر ياشيخ عمار… مش قادر انساها.. أنا ندمان.. ندمان إني طلقتها.. ياريت كان لساني اتشل قبل ما انطقها و احكم علينا بالفراق.. أنا بحبها أوي يا شيخ عمار.. أعمل ايه.. أنا عارف إنك اتكلمت معايا المرة اللي فاتت و نصحتني الجأ لربنا..بس حاسس إن ربنا زعلان مني..أنا حبي لعائشة فوق ما تتصور يا شيخ.. ساعدني أبوس ايدك”
قال الشيخ بنبرة حزينة عليه
” أين بدر الذي نعرفه.؟ ”
“غلبه العشق فهلك”
صمت للحظات ليقول بكل ألم و خيبة أمل
” ياشيخ لقد أهلكت قلبي عشقًا، لم أستطيع إزاحة عقلي عن التفكير بها، عائشة هي شغفي و جنوني، ابنة عمي رحلت و أخذت قلبي معها ”
رد الشيخ بهدوء و بذكاء؛ يريد أن يعرف إجابة بدر لكي يستطيع مساعدته
” اذهب و ردها اليك ”
توقف بدر عن النحيب، ليمسح وجهه باستيعاب فقد ارجعت تلك الجملة وعيه، كيف سيردها اليه وهي لم تكن زوجته من الأساس شرعًا، كيف سيجعلها في عصمته ثانيةً وهو لم يمسها و لم يدخل بها !
تنهد بتعب ليقول ضاحكًا بحسرة
” مينفعش.. عائشة كانت مراتي على الورق بس ”
” إذًا ليس عليها عدة ”
قالها الشيخ، فنظر له بدر بعدم فهم رغم أنه يعرف تلك الأمور جيدًا لدراسة الدين بكافة نواحيه ولكن لتشتيت قلبه و عقله لم يكن ذو تركيز جيد.. فتساءل حائرًا
” يعني ايه ؟ يعني عائشة مينفعش تبقى مراتي تاني ! ”
رد الشيخ بتوضيح
” إذا كنت قد خليت بها الخلوة الصحيحة بعد كتب الكتاب و لكنك لم تدخل بها فوجبت العدة عليها، أما إذا تم الطلاق قبل أن تخلو بها فليس عليها عدة”
هتف بدر بعد استيعاب
” أنا.. أنا ليه حاسس إني مش فاهم حاجة.. يعني ايه ؟؟ كل الابواب إني أرجعها اتقفلت في وشي ! ”
” لماذا لا تقول أن الله أراد لك خيرًا !.. يابني اهدأ و اسمعنى جيدًا..هل خليت بابنة عمك ؟ ”
شرد للوراء قليلا متذكرًا ذلك المشهد الذي أرهقه من الاشتياق لها
” بعد جـدال دام لدقائق بينهما، حول رفضها أن ينام في غرفتها، و إصراره على النوم بجانبها، استسلمت في نهاية الأمر حين تملك منها النُعـاس و أسبلت جفونها؛ فجذبها برفقٍ بعد أن تأكد من أنها غطت في النوم ووضع رأسها على كفه ثم اعتدل ليكون وجهه مُقابلًا لوجهـا، وظل يتأملها بابتسـامة عاشقة حتى أرتخت جفونه و استسلم للنوم هو الآخـر ”
أومأ بانطفاء
” ايوه.. أنا قولت لحضرتك إننا كنا عايشين مع بعض في بيت أبوها.. زي أي اتنين متجوزين عادي بس مقربتش منها.. طلقتها و هي مراتي عالورق.. حتى طلقتها طلقة واحدة بس عشان لما اخف و حالي يتصلح اروح ارجعها.. لأني مش هقدر يا شيخ على بُعدها ”
تفهم الشيخ الأمر و قال
” إذا خلا الرجل بزوجته خلْوةً صحيحة، فيقع الطَّلاق رجعيًّا ويبقى له طلقتان، وتكون الرجعة منه بالقول، أو بالفعل دون حاجة إلى عقد جديد؛ لأن الخلوة الصحيحة بين الزوجين لها حكم المدخول بها حتى ولو لم يَطَأْ، على الراجح من أقوال أهْلِ العلم إذا ثبتت بينَهما الخلوة بالإقرار، أو بالبينة؛ لِما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى زرارة بن أوفى قال: “قَضَى الخُلفاءُ الرَّاشدونَ المهديُّون: أنَّ مَن أغلقَ بابًا، أو أرْخى سترًا، فقد وَجَبَ المَهْرُ، ووجبتِ العِدَّة. ”
” يعني ينفع أرجعها لعصمتي تاني يا شيخ ؟ ”
” نعم، و لكن تلك المرة عليك الدخول بها ليكون الزواج شرعيًا و كامل الأركان ”
قال بدر بحيرة و تلعثم
” يعني.. يعني اروح ارجعها دلوقت.. أنا محتار.. حضرتك رأيك ايه يا شيخ.. اعمل ايه قولي ”
” قولت لك سابقًا أن تنساها و تمضي نحو مستقبلك باللجوء لله.. إذا كنت تحب ابنة عمك حقًا فعليك أن تصلح من نفسك و من علاقتك مع الله أولًا ثم اذهب و ردها اليك ”
” مفيش حل تاني ؟ ”
قالها بضعف.. فأجاب الشيخ
” بلا.. اذهب و أخبرها أنك تمر باضطرابات نفسية و إذا كانت تحبك ستقف بجانبك حتى تشفى ”
شعر بدر بالتردد و الحيرة في الحل الثاني، خاف كثيرًا أن يخبرها بأمر مرضه سابقًا، أيذهب اليها و يخبرها الآن بعد تلك المعاملة الجافة التي نالتها المسكينة منه ؟ .. لا.. لن يفعل ذلك.. سيفعل ما قاله الشيخ في الحل الأول، هذا هو ما كان يود فعله بالأساس.. أن يعالج نفسه أولا و يحسن علاقته مع الله؛ حتى يستطيع منح حبيبته حياة سعيدة.
لفت انتباهه قول الشيخ اللين
” – الشيخ الشعراوي رحمه الله، قال جملة جميلة جدًا.. قال
“يبتليك الله ليختبر صبرك فتصبر فيكرمك ثم تحمد فيزيدك ثم تستغفر فيغفر لك و يعلى شأنك بين الناس ويرضى عليك فيزداد جمال روحك”
عليك بالصبر يا بدر.. اصبر و ستنال ما أردت يومًا
” غصب عني يا شيخ.. متعلق بيها بجنون.. غصب عني ”
” التعلق هو خسارة نفسك وخسارة حياتك.. حياتك في يد انسان ما ، يعني حتى حياتك في رحمته ، إما أن يُنهيك أو يعتقك.. يا بني ردد دائمًا “اللهُم علّق قلبي بك”
” أحيانًا بحس إني خدت القرار الصواب لما افترقنا.. بس مش قادر انساها.. أول ما فتحت باب البيت اللي عيشنا مع بعض فيه شهرين و ملقتهاش كنت هتجنن.. رغم إني عارف إنها مشت.. بس لحد امتى هتفضل بعيدة عني.. لحد امتى يا شيخ ”
” ‏أنت لا تعلم إلى أي درجة الله رحيم بك يا بدر، لا تعلم كيف يصرف عنك ما تُحب لشر لا تعلمه.. احمد الله دائمًا يا ولدي.. و قل اللهم إني رضيت فارضني ”
استنشق الهواء بعمق ليقول بغضب من نفسه
” أنا انتكست كتير أوي.. اغضبت ربنا كتير.. هل هيسامحني ؟؟ ”
رد الشيخ باسمًا
” تأكد أن الله لن يخذُلك أبدًا، رُغم عظُم أخطائك و تراكُم أوجاعك و صُعوبة مشاكلك، الله بصير بكُل ما يحدث لك، الله معك دائمًا وليس ضدك ”
” تنصحني أعمل ايه عشان أنساها يا شيخ، رغم انه صعب.. صعب جدا عليا أنساها ”
” تعالى كل يوم لنتحدث سويًا يا بدر.. أنت من سيصلي بنا في المسجد كل الصلوات من الآن.. إذا لم تستطيع ارجاع بدر الشباب سأستعيده أنا رغمًا عنك.. ستعود لتحفظ صبية الحارة القرآن ثانية.. أنت من سيؤذن كل صلاة، الله أعطاك صوت جميل و مميز لماذا لا توظفه في مكانه الصحيح ؟ ألم تشتاق لنفسك القديمة ؟ ”
” بلا.. اشتقت كثيرًا و رب الكعبة.. و لكن ما باليد حيلة يا شيخي ”
” قاتل ضعفك يا بدر.. لا تقبل بالهزيمة أبدًا.. والدك لو كان حي بيننا لغضب كثيرًا مما تفعله بنفسك.. اجعله يفخر بك.. ما ذنب والدتك المسكينة أن تراك ضعيف هكذا ؟ ما ذنب شقيقك الذي يعتمد عليك و يعتبرك أبًا له و قدوة صالحة ؟
إذا أردت اصلاح نفسك حقًا و ارجاع عائشة فعليك فعل ما قولته لك ”
هز رأسه باستسلام ليقول
“حاضر.. هعمل كده.. أنا فعلا مليش غيرك يساعدني.. زياد ابن عمي كان واقف معايا في كل حاجة بس دلوقت اتجوز.. مش عاوز اتعبه معايا.. بس عندي سؤال يا شيخ.. لو ملحقتش اتعالج في شهور العدة و ملحقتش ارجعها.. اعمل ايه ؟ ”
” إذا لم تردها لك خلال فترة العدة، فلديك فرصة أخرى لتردها و لكن بعقد ومهر جديدين، لأنها مرحلة جديدة أصبحت فيها عائشة إمرأة أجنبية عنك.. إذا اردت رجوعها لك ثانيةً و انتهت فترة العدة فتقدم للزواج منها من جديد.. ولها الحق في أن تقبل أو ترفض”
ترفض ! الكلمة نفسها تخلع عظام صدره من الوجع، لها الحق في أن تبغضه و ترفضه بعد ما فعله معها، و لكنه لن يطيق البعد عنها أكثر من ذلك..
“أحقًا سترفضيني يا مُهجتي ؟
ماذا تفعلين الآن يا مُدللتي ؟ هل غلبك الشوق مثلي ؟”
ظل للحظات يحدث نفسه و يستجوب عائشة في رأسه، حتى آفاق على صوت رنات صادره من هاتفه و كان الرقم خارج مصر.. قبْل يد الشيخ ثم استأذن منه ووعده أن يأتي اليه كل يوم و سيفعل ما أمره به.. سيكون إمام الناس في المسجد مثل السابق، سيفعل ما بوسعه ليستعيد نفسه ثانيةً.
بعد ما خرج من بيت الشيخ عمار، جاءت زوجته لتتساءل بحزن
” ما به بدر يا شيخ ؟ ”
” ابنة عمه قد شغَفَته حُبًّا ”

رد بدر على الهاتف
” السلام عليكم ”
أجاب المتصل بنبرة سعيدة
” و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وحشتني يا بدر.. وحشتني أنت و عائشة أوي.. أنا لسه قافلة مع ماما و سيف من شوية.. ها قولي نفسك في ايه أنت و البت شوشو اجبهولكم معايا.. أنت هتفضل ساكت كده.. طب اديني حرمك المصون !
نظر بدر لشاشة الهاتف بارتباك لا يدرِ بماذا سيجيبها !
_____________
بعد أن خرجت عائشة بحزن و بكاء منكسرة من بيت جدتها، خطت بضع خطوات لا تعرف وجهتها وأين ستذهب الآن في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل.. لحظات و فوجئت بصوت جدتها تقول من خلفها
” قولتيلي اسمك عائشة.. صح ؟ ”
التفتت عائشة لتهز رأسها بابتسامة بسيطة.. فجذبتها السيدة وهي تبكي بقلة حيلة لتعانقها بشدة دون أن تعي لوقوفهم خارج المنزل.. لم تستطيع عائشة منع نفسها من البكاء و مبادلتها العناق بأحر منه لتقول وهي تضم نفسها اليها بضعف
” أنا معتش ليا غيرك في الدنيا يا تيته.. عشان خاطري متسبنيش زيهم ”
ألمها كلامها فأخذتها جدتها من يدها للداخل و أجلستها برفق ثم مسحت لها دموعها و ظلت تربت على جسدها بحنان؛ حتى تهدأ ثم قالت بابتسامة حنونة مداعبة
” عايزه تحرميني من الجنة و لا ايه ؟ ده سيدنا النبي بشر كافل اليتيم بالجنة.. بس أنتِ من انهارده مش يتيمة.. أنتِ مش لوحدك يا نور عين ستك.. أنا معاكِ و مش هسيبك.. اعتبريني كل أهلك.. ربنا يقدرني و أقدر اعوضك عن كل الوحش اللي شوفتيه ”
كانت جدتها متفهمة جدًا و حنونة لأبعد حد، و لكن في بداية الأمر عندما علمت كان ردة فعلها طبيعية.. الصدمة تستطيع فعل أكثر من ذلك.. فرح قلب عائشة و أحست بأن الله يطيب خاطرها و يخبرها أنها لم تعد وحيدة بعد الآن..
عاودت احتضان جدتها و هي لا زالت تبكي و تقول
” يارتني كنت أعرف إنك عايشة من زمان.. متسبنيش يا تيته بالله عليكِ ”
ربتت جدتها على ظهرها لتطمأنها بلطُف
” أعز الوِلد وِلد الوِلد.. أنا مصدقت طلعلي حفيدة بالجمال و الأدب ده. طب ده أنا محظوظة بيكِ.. أنا لازم اشوفلك عريس بقى.. ده أنتِ عديتي حلاوة بنات العيلة بمراحل ”
ضحكت عائشة من بين بكائها لتقول
” لأ مش عايزه عرسان.. أنا عيزاكِ أنتِ يا تيته.. عيزاكِ معايا علطول ”
“أنا معاكِ يا ضنايا متخافيش.. ياريت جدك كان عايش.. مكنش هيصدق إنه عنده حفيدة بالحلاوة دي”
قالت عائشة بتأثر
” الله يرحمه..هو أنتِ عايشه لوحدك يا تيته ؟ ”
أومأت جدتها بحزن و هي تجلس بجانبها
” بقالي أربعة عشر سنة عايشة لوحدي في البيت الطويل العريض ده ”
” هو أنا مليش اخوال أو خالات ؟ ”
” ليكِ اتنين.. خالتك جميلة و دي عايشة مع جوزها و عيالها في السعودية.. و خالك عاطف ”
” طيب و خالو مش عايش معاكِ ليه ؟ ”
زفرت بضيق لتجيب
” عايش في بيت لوحده مع مراته و عياله.. عنده ابن من سنك كده بس رد سجون… لو جه هنا اوعي تتكلمي معاه و لا تخليه يشوفك ”
تساءلت عائشة بتوتر و خوف بدا عليها
“طيب لما هو رد سجون بتخليه يجي هنا ليه”
ردت جدتها بقلة حيلة
” مبقدرش عليه.. بيجي يقاسمني في معاش جدك كل شهر.. و ابوه عارف و سايبه ”
في تلك اللحظة رن جرس الباب، فنهضت لتفتح وهي تسأل من بالخارج.. فأتاها صوت شاب يبدو عليه السُكر و الخمول
“أنا عصام هكون مين يعني.. هو في حد غيري بيعبرك ”
نظرت المرأة بخوف لعائشة و قالت بخفوت
” خدي حاجتك و ادخلي الأوضه بسرعة و اقفلي على نفسك ”
____
في بيت مُجاهد..
عاد أُبي من المطبخ و بيده صينية الشاي، فرن جرس الباب.. ذهب ليفتح و هو لا زال يحمل الصينية.. فتح الباب و تصلب مكانه للحظات ينظر للواقف بتوتر شديد، حتى أنه من شدة توتره وقعت الصينية من يده.. !

يُتبع ..

‫4 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *