روايات

رواية يناديها عائش الفصل التاسع والثمانون 89 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل التاسع والثمانون 89 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت التاسع والثمانون

رواية يناديها عائش الجزء التاسع والثمانون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة التاسعة والثمانون

” ‏طالما مازلت تقيس قراراتك، بمقياس الحلال والحرام فأنت في خيرٍ كبير.”
~~~~~~~~~~~~~
للدين الإسلامي ثلاث مراتب وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وكل مرتبة لها معنى، ولها أركان.
و الامتثال للإيمان والإسلام يُحقّق الإحسان، فالإحسان أعلى مراتب الدين، وهو أعمُّ من الإيمان، والإيمان أعمُّ من الإسلام، فمن كان مُحسنًا فهو مؤمنٌ مسلمٌ، ومن كان مسلمًا فقط فلا يُطلق عليه لفظُ مؤمن.
هكذا نحن المسلمون في المجتمع الذي نعيش فيه، تجد منهم مؤمنًا صادقًا، و تجد آخرون مسلمون بالاسم فقط، أي لم يدخل الايمان قلبهم..
مذكورين في هويتهم الشخصية « الديانة مسلم»
و لا يعرفون شيئًا البتة عن الاسلام، و منهم من يعرفون الصواب من الخطأ و يفرقون بين الحلال و الحرام، و لكن لا يعملون به و ينقادوا وراء ملذات الدنيا و شهواتهم، تمامًا مثل ما حدث في حفل زفاف ” رحيم ” من لهوٍ و خمرٍ و رقص و غيره، هؤلاء يطلقون عليهم الطبقة العليا من المجتمع، أما أنا أطلق عليهم الطبقة العارية.
ابتعدوا عن دينهم و تمردوا عليه؛ فأصبحوا عراة تمامًا من كل معاني الحياء و الاحترام، الاحترام لدينهم و لأنفسهم.
على النقيض، نجد أن ” بدر الشباب ” و أسرته يحاولون قدر الامكان تجنب المعاصي، لكن ليس معنى ذلك أنهم لا يخطئون !
لسنا معصومين من الخطأ، و لكن علينا إدراك الخطأ و تصحيحه و التوبة قبل فوات الأوان..
المجتمع بل العالم يعج بأشباه بدر و منير الأنصاري، منهم من اشترى الحياة الآخرة، و منهم من طبع الله على قلوبهم الغشاوة، فأحبوا حياة الدنيا بكل ما فيها..
و بين هؤلاء و هؤلاء، يوجد من هم في المنتصف، الذين يرتكبون الذنوب و من ناحية أخرى يجاهدون الله بعدم العودة إليها، الذين في اعوجاج دائم، هؤلاء قال عنهم المولى عز وجل..
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
و معظمنا تنطبق الآية الكريمة عليهم، و ” مُجاهد” و أسرته من هؤلاء.
هذا هو العالم الذي نعيش فيه، و البعض يغفل لصغر عقله أي أنه لم ينضج عقليًا و فكريًا بعد، و ليس المقصد هنا إهانة !
بل بيت القصيد، أن بعض الناس عقلهم لا يستوعب أنهم يعيشون وسط هذا العالم و المجتمع المليء بالكثير من تلك الفئات و الدرجات المختلفة من الناس..
لن تستطيع نُصح أحد، ما دمت لا تستوعب أن هؤلاء يعيشون معك تحت سماءٍ واحدة، و إذا لم تستوعب، فيتوجب عليك الانشغال بنفسك، و دعهم لخالقهم أو لذو عقل ناضج دينيًا يستطيع إرشادهم للصواب، هذا إن تقبلوا منه النُصح.. !
أتكلم هنا عن المسلمون، جميعنا مسلمون، و لكن البعض وصل الاسلام بتعاليمه لقلبه و البعض الآخر لا، و في المنتصف من يجاهد نفسه أحيانًا، و أحيانًا ينتصر عليه شيطانه.
ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطنا و ظاهرًا في قوله عز وجل:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
الأنفال/2-4.
لم يكن ” قُصي ” مُغيب حينما تقدم للرقص مع “منة”، بل فعل ذلك بمحض و كامل إرادته، لا ينتظر من أحد أن يخبره بأن ما يفعله حرام ولا يجوز كوننا مسلمون !
هو يدرك ذلك تمامًا و يعلم أن ما فعله لا يجوز، بصرف النظر عن كون ” منة ” تربت و نشأت في بيئة يفعلون الحرام دون مبالاة..
” قُصي ” أيضًا لم ينشئ في بيئة متدينة، البيئة التي نشأ فيها كانت وسط « الغرب» لا يعلم أساسيات الدين الاسلامي، نعم يُصلي و يقرأ القرآن أحيانًا و يصوم رمضان، هل معنى ذلك أنه متدين ؟ بالطبع لا..
كثيرًا من المتدينين يمروا بالانتكاس، فما بالك أنت بالمسلم الذي نشأ وسط «الأجانب» الغير مسلمون !
حتى لو كان يدرك مدى الخطأ الذي ارتكبه، ستجد قلبه يتغاضى عن الاعتراف به.
عمَّ و امتلأ الزفاف بالضجة بعد رقصة ” قُصي ” التي تعدت حدود الجراءة، لملامسة أجزاء من مفاتنها، و هذا ما أدهش الناس و ليست
« رقصة التانغو» التي أدهشتهم، في تلك المجتمعات كثيرًا ما تجد تلك الرقصة العاطفية منتشرة.
ارتعش جسد ” منة ” بعد ما عادت لوعيها، و كأنها كانت في حالة خمول كالذي تجرع الكثير من الخمر فأَسْكَرَتْهُ و جعلته يتمايل، و رَنَّحَتِ به تَرْنِيحًا..
ندمت أيمّا ندم على ارتداء فستانًا مكشوفًا مثل هذا الذي يظهر مفاتنها للرائي، و تمنت في تلك الدقائق الصعبة التي تحدق بها الأعين بارتداء طاقية الاخفاء و التخفي فورًا من أمامهم !
وقفت في احراجٍ شديدٍ يكسو عظامها؛ فجعلها تهتز بفزعٍ دبَّ في قلبها متذكرة ما فعله صاحب والدها بها بمساعدة والدها نفسه !
هذا الغبي ” قُصي ” لنيل ما يخطط له، جعل سمعة المسكينة سجاد للمارة، غير آبه تمامًا لمشاعرها التي تدهورت مرةً ثانية، و لكن تلك المرة من الشخص الوحيد الذي دق له قلبها !
نهضت أختها لتخفف حدة الموقف، فتحركت
” منة ” أخيرًا من منصة الرقص، و اختفت للداخل من أمام الجميع، جالسة في إحدى الزوايا تبكي بحُرقة و بارتعاش كلما تذكرت يديه التي قست عليها..
بينما هو اتجه بلا مبالاةٍ غير متأثر بالموقف و بما يحدث حوله، و لم يأخذ بعين الاعتبار ما فعله منذ قليل، و جلس على أحد المقاعد في الكافيه الخارجي و الملحق بقاعة الزفاف، ينظر أمامه بنظرةٍ تثير التوتر لكل من تقع عينيه عليه، و يبتسم في ضحكة استفزازٍ مصحوب بلذة الانتصار..
شعر ” مجاهد ” في تلك اللحظة أنه مهدد بالانقراض في أي وقتٍ من ” منير”، إذا لم يتدخل و ينقذ حدة الموقف الذي وضعهم فيه ابنه المتمرد، الذي بدأ يميل لخاله اليهودي في كل أفعاله..
اتجه يقول للحضور بصوتٍ عالٍ يصل لهم..
” اعتبروا إن مفيش أي حاجة حصلت، ده ابني و دي مراته، و كاتبين كتابهم.. كان في بينهم بس شوية مشاكل و حب يعملها مفاجأة، أنتم عارفين بقى جيل اليومين دول.. إن شاء الله فرحهم الأسبوع الجاي و كلكم معزومين ”
تأمله ” منير ” للحظات باستيعاب، ثُم بدأ يؤكد هو الآخر على كلام صديقه، حتى بدأوا في الاقتناع و عاد الزفاف لهدوئه من الهمهمات و الهمسات الكثيرة..
لم يرَ ” سيف ” رقصة ابن عمه؛ لانشغاله بالحديث مع روان على « الواتساب»، و لم يكن موجود وقتها بالقاعة، كان في الكافيه الخارجي منشغل بالتغزل في زوجته بعيدًا عما يحدث في الداخل، بينما ” زين ” كان وقتها في الحمَّام و لم يرَ أيضًا ما حدث، فقد جلس مع زياد لبضعة دقائق بعد مجيء العروسين، و عندما توزعت الخمور على الطاولات، سحب نفسه و خرج معللًا ذهابه للمرحاض، و تمنى من صميم قلبه لو أن
” شهد ” زوجته، لكان جالسًا معها الآن يتناولان الكيكة الساخنة مع مشروب الكاكاو بالحليب تحت الغطاء، يشاهدان أحد الأفلام، بدلًا من حضور هذا الزفاف المُحرم، و لكن في الحقيقية صاحبنا شبيه أحد الممثلون الهنود، قد حضر هذا الزفاف خصيصًا ليس لأجل مديره في العمل، و إنما ليرافق ” شهد ” خوفًا و غيرةً من أن تقع عين غيره عليها.
بالنسبة لـ الرجلان ” كريم و زياد ” فقد صافحا
” رحيم ” و خرجا سويًا يتناولان كوبًا من القهوة، و يتبادلان أطراف الحديث..
إذًا لم يتبقَ لدينا الآن، سوى ” أُبَيِّ ” الذي شاهد ما فعله شقيقه الأصغر و الأحمق، و ” إبراهيم ”
الذي أمره ” قُصي ” بحبس شريك ” منة ” الأساسي في الرقص، و فعل ما أمره به صديقه؛ خوفًا منه.
بعد ما قاما ” مجاهد و منير ” بتحسين الأمر بالداخل، خرجا لمواجهة المتمرد العنيد في سلوكياته و أفعاله..
حينما خرج ” قُصي ” لمحه ” زياد ” أولًا و استدعاه للجلوس معهم، فقد انضم لهما
” زين و سيف “، و لكن” قُصي” تولى و أعرض عن استدعائه، و اتجه للخروج من القاعة بأكملها، مما لحق به ” سيف ” و جذبه من ذراعه قبل خروجه، متسائلًا باستفهام:
” في إيه مالك ؟! ”
” زهقت، عاوز أروح ”
” و مين سمعك، ياريتني ما جيت أصلًا، تفاجئت إن الفرح من النوعية دي، زي اللي بيطلعوا في المسلسلات بالضبط، بدر نصحني مروحش بس أنا مسمعتش الكلام، و روان لو عرفت هتعلقني.. ”
قال آخر جملته ضاحكًا في مزاحٍ، و لم يكن على علم بعد بما فعله ” قُصي ” ليقول الأخير بعدما لمح والده و منير قادمان نحوه:
” طب يلا نمشي، عشان في ماسورة زعيق ها تتفتح في وشي دلوقت ”
عندما لمح كُلًا من ” زياد و كريم و زين ” مُجاهد يتجه نحو ” قُصي ” و من خلفه ” منير ” بتلك الخطوات السريعة التي توحي بأن شيئًا ما غير جيد قد حدث، نهضوا الثلاثة أيضًا ليروا ما الأمر.
في تلك اللحظة، أقبل أربع فتيان على ” سيف ” هاتفين باعجابٍ يسبقه الدهشة:
” كابتن سيف ! ”
التفت لهم ” سيف ” و اتسعت ابتسامته يتمتم باستخفاف:
” لسه فاكرين ؟ ده أنا مشهور من زمان ”
قال فتى منهم وهو يخرج هاتفه:
” أنا بحبك أوي يا كابتن والله أنت و كابتن وسام أبو علي، أنتم الاتنين خليفة أبو تريكة.. عاوز أتصور معاك يا كابتن بعد إذنك ”
تركه ” قُصي ” يصافح مشجعيه، و توجه لاستقبال مواجهة والده..
بينما قال فتى آخر مُنتظرًا دوره في أخذ صورة تذكارية مع ابننا المحترف جدًا:
” بحب جملتك المشهورة أوي سيف واحد بس و الباقي هُس هُس ”
ابتسم ” بخجل ” مزيف واضعًا كفه على صدره:
” حبيبي ربنا يحبك ”
وقف ” قُصي ” أمام والده غير مُباليًا بنظرات الشرر التي تتطاير من عينيه، ليصيح فيه الأخير بنفاذ صبرٍ من أفعاله الخرقاء:
” إيـه اللي أنت هببته ده يا متخلف أنت ؟!! ”
” لو سمحت يا بابا من غير إهانة..
بشويش تاكل عيش ”
رده الغير مُهذب استفز والده أكثر، فلم يتحمل و جذبه من جاكيت بِذْلته، و صَبَّ جَامَ غَضَبِهِ عليه:
” أنت كمان ليك عين تهزر ؟ يعني غلطان و قليل الأدب و بجح كمان ! أنت ياض مالك فُجرت كده ليه ؟ إيه الفُجر و قلة الحياء اللي أنت بقيت فيه ده ؟! مكنتش كده.. إيــه اللي حصــلك ؟!..
إيـه اللي أنت عملته مع البــت ده يالاه ؟؟
رُد علـيـا ؟! ”
أغمض ” قُصي ” عينيه يحاول ألا يفجر غيظه و غضبه في والده، ثُم أنزل يده عن بِذْلته مُستخدمًا قوته التي تفوق قوة والده، و أردف ببرودٍ قاتل قتلني أنا شخصيًا:
” الجماعة اللي زي دول بيحبوا كده، يحبوا اللي يحسس عليهم، بيبقوا مبسوطين، فأنا قلت أبسط
” منة ” و أنول الشرف ”
تبادل ” كريم و زياد ” نظرات الدهشة فيما بينهما، فلأول مرة يشاهدان ” قُصي ” في شخصيته الوقحة الجديدة، أما ” سيف ” حاول التدخل فأوقفه عمه بإشارة من يده، و هوى بكفه على وجه ” قُصي ” مما تبسم الأخير بسخريةٍ، و كأن كف والده لم يُؤخذ بعين الاعتبار.. !
قال ساخرًا:
” ارتحت ؟ هل القلم ده هيغير حاجة ؟ و لا هز شعرة مني.. عارف ليه ؟ عشان أنا مبسوط باللي عملته، و هدخل أعمله تاني ”
صاح ” منير ” تلك المرة بغضبٍ شديدٍ:
” ماله ابنك يا مجاهد ؟! هو البيه سكران و لا إيه ؟؟! لو سكران نفوقه ! ”
” مش إما تفوق أنت الأول يا أونكل ؟! ”
” قُصــي.. ”
صاح مُجاهد بكامل عصبيته، و تابع في موجة حادة من السُّخْط على ابنه:
” مش دي “منة” اللي قولت لك تزوجها قولت لأ، أنا مش بتاع زفت و زواج ؟! إيه اللي اتغير ؟!
لو حبيتها كان ممكن تيجي بكل أدب تطلبها من منير بيه للزواج، لكن اللي هببته ده هيشوه سمعة البنت و سمعتنا الله يهديـك خرجتني عن شعوري يا أخي.. الله يحرق الكفرة.. أنت ياض جرا لعقلك إيـه ؟! طب ارقص زي الخلق، أهي تبقى مبلوعة شوية، لكن اللي أنت عملته ده اسمه تحرش..
يعني أنت دلوقت هيتقال عليك متحرش.. أنت مستوعب الكلمة ؟ ده غير أصلًا الحُرمانية اللي عملتها ”
ارتسمت جانب شفتيه ابتسامة تهكم يتبعها بقوله الساخر:
” حرمانية ؟! هما دول يعرفوا حلال و لا حرام ؟
مخدتش بالك من الفستان اللي هي لابساه ولا إيه ؟! ”
” أنت مــالك ؟ أنت مال أهلك.. ها تتحاسب بدالها، خليك في نفسك يا عم.. جايب لنا الكلام ليــه ؟! ”
تدخل ” زين ” يأخذ بيده هامسًا لتهدئته:
” عمي مجاهد اهدى بالله عليك.. انفعالك هيتعبك.. اتكلم معاه بالراحة ”
ظهر ” إبراهيم ” أخيرًا و التوتر يبدو عليه، مما انفعل عليه مُجاهد هو الآخر:
” و أنت يا بيه، بدل ما تمنعه تساعده ؟! خليك ماشي وراه زي الدلدول كده لحد ما يوديك في داهية أنت كمان ”
” كلامك معايا يا بابا لو سمحت ملكش دعوة بإبراهيم ”
قالها قُصي بعد ما رأى الدموع في عين صديقه، مما ضحك مجاهد باستهزاء منهما و قال:
” يا خيبتك التقيلة أنت و إبراهيم، خيبة ما وردتش على حد.. وردت عليا أنا بس.. جاي في فرح حاضره تلت أرباع رجال الأعمال و المشاهير و تفضحني.. ! يا موكوس يا ابن الموكوس خليت اسمنا على كل لسان.. ”
بدأوا جميعًا يستوعبوا الأمر، و هتف ” كريم ” في تساؤل يصحبه الدهشة القوية:
” عملت إيه مع منة يا قُصي ؟! ”
” تحرشت بيها على مرأى و مسمع ”
” إيــه ؟! ”
هتفوا بها الشباب جميعًا، ليقول ” زياد ” بعدم استيعاب:
” أكيد بتهزر صح ؟! أنت مجنون آه لكن متوصلش بيك تعمل كده ! أنت مستحيل تعمل كده.. صح ؟! ”
و اقترب « هُس هُس» من ” قُصي ” يتساءل في همسٍ مختلط بالصدمة:
” أنت بجد تحرشت بيها ؟! ”
وزع نظراته عليهم جميعًا بفتورٍ و بجمودٍ، ثم هتف زافرًا بملل:
” كُنت بتطمن على البضاعة قبل ما أدبس فيها، كفرت أنا و لا كفرت ! ”
فتح “زياد” فمه بدهشة و كذلك “سيف”، بينما
” زين” تقوس حاجبه بعدم استيعاب و فهم، أما
” كريم ” ولى ظهره لهم يتنفس بعمقٍ و بهدوءٍ يحاول ضبط أعصابه داعيًا الله في نفسه أن يكون ما يحدث الآن هو مجرد كابوسٍ مزعجٍ، و إلا سَيشق رأس ” قُصي” الأحمق كَعقابٍ على فعلته.
و راح ” منير ” يصرخ بحدة عليه ثانيةً:
” و الله لولا العِشرة اللي بيني و بين أبوك، كُنت دفعتك التمن غالي على عملتك دي ”
استدار ” كريم ” لهم بعدما استطاع كبح جماح غضبه من الفتى المُحبب لقلبه، و الذي أَحبّ ملاعبته عندما كان طفلًا و يأتي مع والده كل عدة سنوات بضعة أشهر، و اتجه ناحية ” مُجاهد ” يأخذه من يده برفقٍ، و كذلك فعل مع ” قُصي “، ثُم أردف بنبرته الحادة المعتادة بحكم عمله:
” عن اذنكم يا رجالة ”
و بعدما ابتعدوا قليلًا عن البقية.. نظر لهما للحظاتٍ في صمتٍ يصحبه طلب تفسير لما يحدث منهما، فقال ” مُجاهد ” بـِتَعَصُب:
” البيه المحترم، طلع رقص مع منة بقلة أدب، و البنت كانت بتحاول تبعد عنه و هو ولا في دماغه، و أنت عارف الفرح مليان مصورين و ناس معروفة، ده غير إن اللي عمله ده منافي تمامًا لديننا، بس أنا اللي غلطان.. أنا اللي جبتهم على الفرح ده، مع إنهم برا حضروا معايا كذا فرح من النوعية دي، كنت باخده هو وأخوه و نروح نقضي واجب، والله مكنش يرفع عينه على واحدة، معرفش إيه اللي حصل له.. جاي في مصر بلد التريندات و يعملي فيها دنجوان ! ”
رد ” قُصي ” بهدوءٍ لم يفارقه:
” هو ازاي بتتكلموا عن الدين و الحلال و الحرام في مكان زي ده ؟ بص يا بابا.. خلي الحلال و الحرام و اللي عملته على جنب، و قولي طلباتك ؟ ”
تدخل ” كريم ” تلك المرة وهو يوجه نظرة نارية لـِقُصي:
” الحلال و الحرام نتكلم فيه في أي مكان سواء الناس استوعبت ولا لأ، ما عليك سوى بالنصيحة الحسنة، و كون أبوك بيكلمك و بيربط اللي عملته بالحرمانية في الدين، فهو بيحبك و بيخاف عليك.. مش ها ينصحك غير اللي بيحبك على فكرة، و أنت ذكي و تقدر تفرق بين اللي بينصحك عشان خايف عليك و الناقص اللي جاي يطنطط بكلمتين عارفهم في الدين عليك، ده بالنسبة للحلال و الحرام اللي أنت بتقول نخليهم على جنب، أما عن اللي بيحصل في الفرح و الستات لابسة إيه و الكلام الفاضي ده، فأنت مش من حقك أبدًا تتخطى حدود الله لمجرد إنك شوفت واحدة ممكن تكون أثارت الشهوة جواك، أولًا هما اللي ها يتحاسبوا عن نفسهم، ليهم رب و مش مطلوب منك تفرض عليهم يلبسوا إيه و يعملوا إيه، المطلوب منك النصيحة ده لو أنت آهل لها، أما لو مش هتعرف تنصح أو هما أعرضوا عن نصيحتك اللي قدمتها بالحُسنى، فأعرض عنهم و خليك في نفسك، كلنا بنعصي ربنا، فنصلح من نفسنا و بعدين ندور نصلح غيرنا، عشان لا هما ها يتحاسبوا مكانك ولا أنت ها تتحاسب مكانهم..
كلامي ده لو كان السبب اللي خلاك تلمس جسم واحدة لا تحل ليك أيًا كانت مين هو لبسها الغير محتشم.. أما يا قُصي بيه لو أنت قصدت تعمل كده عشان حاجة في دماغك بعيدًا عن تأثُرك بيها، فده كلام تاني خالص، و بما إني فاهم دماغك كويس، فأعتقد بل أنا متأكد إن السبب الأخير هو الأصح..
قولي بقى، إيه وجه الاستفادة من اللي عملته ؟ ”
هدأ ” مُجاهد ” عندما تحدث ” كريم ” بما في جُعبته، و تأمله ” قُصي ” للحظاتٍ مُدركًا بداخله، أن ” كريم ” يعلم ما يدور في رأسه جيدًا، حتى لو حاول إخفائه.. تنهّد ” قُصي ” و أردف:
” بابا عاوز يوقف لي المشروع بتاعي، و ده حلم حياتي اللي هموت و أحققه، و هَحققه غصب عن أي حد ”
ربت ” كريم ” على كتفه بتحذيرٍ، و رد:
” اتكلم عدل بس، إيه بقى دخل منة بمشروعك؟ ”
سكت لدقيقة ينظر فيها لوالده بغيظٍ، متذكر حديثه مع منير، فقال بتعصب:
” بيساومني مع منير باشا، يا إما يزوجوني
” منة” يا إما يقفوا عقبة قصاد حلمي، عشان كده قررت استغلها و اخدها كوبري أعمل بيه اللي أنا عاوزه ”
رمقه والده بدهشةٍ، و صرخ في وجهه وهو يدفعه في صدره بنفاذ صبرٍ:
” أنت عبيـط ياض ؟! تستغل بنات الناس عشان توصل لغرضك ؟! أنت شايف أنك كده راجل ؟
لا برافو عليك و نعم التربية.. أنا بعترف إني معرفتش أربيك و إن أنت يا قُصي يابني تربية *”
” أنا استغل أي حد عشان أعمل اللي أنا عاوزه، الدنيا دي عاوزه كده، عشان توصل لهدفك لازم تدوس على أي حاجة تقابلك ”
” ديننا أمرنا بكده ؟! ”
” ها يجيلي تاني في سكة الدين ! بابا.. أنا بعترف إن اللي عملته ده حرام و غلط، بس أنا اللي ها تحاسب.. و بصراحة.. عاجبني أوي الحرام اللي عملته ده.. خلى مزاجي في السما ”
بصق والده في وجهه باستشاطة منه، و هتف قبل أن يتركه و يذهب:
” فاجر، كنت خايف تطلع زيه بس أنت فعلًا زيه.. خالك اليهودي برضو كان بيستغل أي حد عشان يوصل لطموحه، و خالك ده كان فاجر، و أنت زيه.. فاجر.. اتفو عليك ”
مسح ” قُصي ” وجهه بغضبٍ حاول كتمه، فصاح قبل ابتعاد والده:
” ها اصلح الغلط بس بشرط ”
توقف ” مجاهد ” و مسح دموعه التي نزلت من عينيه بفعل صدمته من ابنه و خوفه عليه من التمرد و العناد الكافر، و استدار له يحاول تخمين شرطهٌ، فهو الآن محصور بين زاويتين و يجب عليه اصلاح ما حدث بأي ثمن، فصديقه لن يرحم ابنه إذا لم يعيد ترميم الموقف العصيب الذي وضعهم فيه.
” انجز.. عاوز إيه ؟! ”
” ها اتزوج منة بس بشرط، تبعد عن طريقي أنت و صاحبك ده، و تسيبني أروح وزارة البحث العلمي أعرض اختراعي من غير ما حد فيكم يتدخل نهائيًا، و لو حضرتك فكرتم يا بابا تقفوا في طريقي، و ربي المعبود لتكون منة هي الضحية، مش هو بيعتبرها بنته و بيقولك جوزه منة و بعدين نسهل له السفر لوكالة ناسا !
أنا بقى هحرق قلبه عليها لو فكر بس يعترض طريقي ”
قالها في تحدٍ لوالده منزوع منه آداب الحديث معه، مما صاح به ” كريم ” بانفعال رغمًا عنه:
” أنت ليه مصمم تخليني أقِل منك ! أنت كنت كبير في نظري، بس بعد اللي سمعته منك ده ها تخليني أغير فكرتي عنك خالص.. عاوز تستغل بنت يتيمة عشان توصل لطموحك !
يحرق أبو ده اختراع طالما هتعدي بيه على الناس..! ”
أردف ” مجاهد ” بضحكةٍ ساخرةٍ:
” يعني عملت الليلة دي كلها عشان سمعت منير بيقولي كده ! لأول مرة تطلع غبي.. غبي و قليل الأدب كمان، منير كان بيشجعني اوافقك على المشروع و اساعدك و كان هو كمان عاوز يساعدك يا غبي، أنا اللي قولت له إني عاوز ازوجك و أفرح بيك و بعيالك الأول، أنا اللي اقترحت عليه فكرة زواجك من منة يا متخلف.. هو ملوش دعوة ولا البنت تعرف حاجة أصلًا ”
رمق والده بعدم تصديق لما يقوله، أو أنه لم يرضخ لقلبه في تصديق تبريره لصديقه، و ظل ثابتًا على رأيه، ليقول بنبرة بدت فيها ومضة حُزن:
” لو كُنت وافقت من الأول مكنش حصل كل ده ”
رد ” مجاهد ” باستهزاء من قوله:
” يعني بتحط اللوم عليا ! بتلومني عشان خايف عليك !.. تمام يا قُصي، اعمل اللي أنت عاوزه يابني ”
وزع ” كريم ” نظرات التردد عليهما، فقد أراد الاعتراف بشيء ليجعل الأمور تهدئ، و لكنه تراجع في آخر ثانية ليقرر الاعتراف لمُجاهد فقط، بعدما رؤية ” قُصي ” بتلك الشخصية المتمردة، فضل عدم اخباره بالأمر؛ حتى لا يستغله لصالحه.
قال “قُصي” وهو يستعد للانصراف من أمامهما:
” أنا ماشي، شوفوا عاوزين الزفت الفرح امتى و بلغوني ”
جذبه ” كريم ” من ذراعه يوقفه قبالته قائلًا بحزمٍ:
” هو أنت مفهومك عن الزواج ده إيه ؟ سلق بيض يعني ! مش فيه يابني كتب كتاب ولا هتدخل كده زي البهائم ! اتنيل اقف إما نشوف الحوار ها يرسي على إيه ”
أشار ” قُصي ” لوالده بأسفٍ على نفسه هاتفًا:
” بيقولي أنت زيه ! أنا زي يهوشوع يا كريم؟
أنا طبعي زي اليهود.. ؟! ”
قاطعه مُجاهد في حدةٍ:
” ايوه طبعك زي اليهود”
” طب اللي مش عاجبه طبعي يطبع في مطبعة تانية ”
” دا أنا هطبع على وشك دلوقت بكف ايدي لو مسكتش ”
قالها ” كريم ” بنفاذ صبرٍ منه، ثُم التفت لمُجاهد:
” عمي مجاهد.. اتفضل دلوقت و إحنا شوية و جايين ”
رد بنفيٍ:
” مش واثق فيه يا كريم.. ابن الـ* الفاجر ده ناوي يجيب عاليها واطيها ”
هتف قُصي بكامل عصبيته:
” شايف يا كريم ! بيقولي يا فاجر ! و بيعيد و يزيد في الكلمة ! ”
مسح ” كريم ” على وجهه بضيقٍ منهما، بينما رد
” مُجاهد ” بابتسامة استهزاء ظلت قابعة على وجهه، و إسْتَخَفَّ قَصْدًا للسُّخْريَّة بقوله:
” أنت عارف اللي بيعمل عمايلك دي و يخرج عن طاعة الله بنسميه إيه ؟
بيتقال عليه فاجر يعني فاسق و فاسد أخلاقيًا، و دي مش شتيمة يا أذكى اخواتك، ده لفظ بنصف بيه اللي زيك.. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
يعني الذين قصروا في حقوق الله وحقوق عباده، الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم
{ لَفِي جَحِيمٍ }- يعني عذاب أليم يا غبي ”
“لما أنا فاجر و فاسق هما يبقوا إيه ؟ ”
” أنت مالك و مالهم، أنت ها تتحاسب عن نفسك”
” و المطلوب مني دلوقت ؟! ”
” تدخل معايا الفرح تعتذر لمنير بيه و تؤكد خبر فرحك على منة اللي بعد أسبوعين.. هيبقى مع أُبَيِّ أخوك، و كتب كتابك بكرة إن شاء الله، عشان عرفنا المعازيم كلهم أنكم مكتوب كتابكم أصلًا، و إن أنت مكنتش قاصد حاجة لا سمح الله.. أنت كانت نيتك بيضة زي الورقة البيضة ”
قال جملته الأخيرة بنفس ابتسامة السخرية، و اتجه للقاعة..
نظر ” كريم ” له بنظراتٍ منزعجةٍ منه من رأسه لأخمص قدميه، و أردف:
” مبسوط أنت دلوقت ! ”
” هما اللي اضطروني أعمل كده ”
” مفيش مبرر للي أنت عملته يا قُصي ”
” أنا ما يشغلنيش اللي فات قد منا مركز في اللي جاي، هو مش كان عاوزني أتزوج ؟ حاضر تحت أمره.. بس حاجة قصاد حاجة، اتجوز منة مقابل تسهيل السفر لوكالة ناسا، حاجة قصاد حاجة..
هي الدنيا كده خد و هات، و أنا لا أحب أدي ولا حد يديني، أنا الحاجة اللي عاوزها.. أمد ايدي و أخدها غصب عن أي حد، و لأول مرة أعمل حاجة ضد رغباتي.. وهو الزواج، بس طالما مصلحتي ها تنقضي، فا قشطة.. الواحد برضو لازم يقدم تنازلات و تضحيات في سبيل يلاقي اللي بيدور عليه في الآخر ”
قالها بعصبيته و ترك ” كريم ” يكلم نفسه بدهشة منه، و اتجه يُنفذ بصبرٍ مزيف ما أمره به والده.
جاء ” زياد ” يسأل ” كريم ” في استفسارٍ حماسي:
” ها.. و صلتوا لإيه ؟! ”
” ها يتزوجها، و كتب الكتاب بكرة ”
” ربنا يعين عمي مجاهد ”
.. أما بداخل قاعة الزفاف، لم يترك ” أُبَيِّ ” والدته و شقيقاته وحدهن بُناء على طلب والده؛ حتى لا يلفتوا انتباه المدعوين أكثر، و اتجه اللواء
” عزمي” خال “قُصي” لصاحب كاميرا التصوير، و أمره بحذف الفديو الذي نشره و كذلك أمر بقية المدعوين، معللًا أن الرقصة جاءت عفوية ولا داعي للتصوير، و في النهاية هي زوجته و كلام آخر من هذا القبيل، و لكن الفديو قد وصل لبعض رواد التواصل الاجتماعي، و نال في تلك الدقائق مشاهداتٍ لا بأس بها، و ربما يكونوا قد قاموا بتنزيله في هواتفهم، السوشيال معضلة كبيرة و لا أحد يعلم ما يدور في رؤوس المهووسين بها، و من الجيد في الأمر أن الفديو لم يصل لبقية أفراد الخياط، خاصة ” بدر” الذي لا يستعمل تطبيق
” الفيس بوك ” كثيرًا، فقط يفتحه يقرأ بعض الأخبار التي تخص ما يحدث في البلاد العربية، و يغلقه ثانيةً، و أحيانًا ينسى رقمه السري و يتجاهل الأمر.
بينما ” نورا ” اتجهت تبحث عن ” منة ” خلف القاعة في الحجرات الداخلية، و وجدتها تقوم بتبديل فستانها بآخر أحضرته لها والدتها في الحال برغبة ” منة”، محتشم يصل لبعد الركبة غير هذا المجسم و المفتوح.
دلفت ” نورا ” بابتسامة صغيرة:
” منة أنتِ كويسة ؟ ”
استدارت لها بوجهٍ منتفخ من كثرة البكاء، و همست:
” كويسة.. كويسة يا نورا ”
اتجهت نورا لها تقف قبالتها، ثُم احتوت وجهها بحنانٍ قائلة:
” متزعليش و متحمليش نفسك فوق طاقتها، هو اللي غلطان.. أنا عارفاكِ كويس و عارفة اللي جواكِ، ابن عمي قليل الأدب و لازم يتربى و محدش قادر عليه.. ربيه يا منة و علميه الأدب ”
” و أنا دخلي إيه بيه ! ”
تنهّدت ” نورا ” لتطلعها على الخبر الذي انتشر بالخارج:
” عمي مجاهد و زوج والدتك لقوا إن الحل للي حصل ده عشان الناس مش هتبطل كلام و سمعتك و سمعة عيلتك متبقاش على كل لسان، إنك تتزوجي قُصي، و قالوا للناس إن أنتم أصلا متزوجين عشان يحطوا لسانهم جوا بوقهم.. كتب كتابكم بكرة إن شاء الله، و فرحك معايا ”
تبادلت هي و والدتها النظرات في صدمةٍ جعلت الأم تقول بموافقة:
” اللي عملوه ده هو الصح يا رحمة، أنا مش هستحمل حد يجيب سيرتك بحاجة وحشة، أنتِ بنتي الوحيدة و مليش غيرك ”
فلتت منها ضحكة مريرة ساخرة وهي تنظر لهما بعجزٍ و قلة حيلة، بداخلها تتمنى لو أن الأمور اتخذت مسلك آخر غير ذاك، و تزوجت من قُصي الفتى الوحيد الذي أحبه قلبها بصدقٍ في ظروفٍ و موقفٍ أفضل مما يحدث الآن.
قالت بنبرةٍ على وشك البكاء:
” وهو وافق ؟ ”
ردت نورا بتأكيد:
” لازم يوافق ”
” مُجبر يعني ؟ مجبر عليا ! يلا و ماله، أنا أصلًا بختي في الدنيا قليل.. اعملوا اللي أنتم شايفينه صح ”
قالتها، و خرجت تحضر الزفاف بروح باردة عكس ما يحترق بداخلها من كثرة ما كابد قلبها من التنكيل و المشاق، لم تعد تشعر بالشغف تجاه أي شيء، بات الإحباط مُرافقًا لها و تَعنَّت في تركها تطلع نحو المستقبل بإشراقٍ أو بحماسٍ، لكم تمنت أن يزول هذا الألم الذي يقبع في ذاكرتها منذ طفولتها سريعًا، و تتبدل حياتها للأفضل مع رفيقٍ يحتوي قلبها الرقيق بقلبه و يطمئنه، تمنت أن يكون رفيق دربها القادم أزرق العينين، و لكن يبدو أنها أخطأت و أخفق قلبها في اختياره، لقد أعلنت الاستسلام لكل ما يحدث حولها، لم يعد في مقدورها المقاومة أكثر من ذلك..
اعترفت لنفسها بالهزيمة، و أبدت حواسها الإِذْعان دون تَعْليل، ارْتِضاء ما يحدث لها و احْتِمالُه من دون اعْتِراضٍ و احْتِجاج، تحمَّلت الأَلم باسْتِسْلام غير مكترثة تمامًا لصوت قلبها الذي يئن باستمرار، و لعقلها الذي مات قهرًا من التفكير..
فبدلًا من أن يحي “قُصي” حياتها من جديد برونق الحُب و شغفه، بعثر أحلامها به بعثرة الخريف لأوراق الشجر.
« كَانَ يَا مَا كَانَ فُلانة فُلَان.. معنداها الظُّرُوف تَخْطِيط و سحباها لبحر غَوِيط.. وَهِي مُنَاهَا حلم بَسِيطٌ و بيت دافِي و حضن أَمَان..
سِنِين أَحْزَان ما شافت فِيهَا لَيْل هَادِي
وَ لَا رُوحٌ مَنْ الْوَجَعِ خَالِيَة
بتكسب حَاجَة مِنْ الْعَادِي
وتخسر حَاجَة مِنْ الْغَالِيَة »
قبل خروجها، أشار ” رحيم ” لقُصي بأن يأتي بعدما عادت الأمور هادئة، و أخرجت ” شمس ” هاتفها تُريه الفديو الذي أخذته لمنة دون علمها..
نظر لها ” رحيم ” بدهشة، فقد حذرها من إخباره، بينما هي قالت بدموعٍ لقُصي و كأنها تتوسله:
” منة بتحبك بجد يا قُصي، شوف الفديو ده كده ”
تأمل الفديو بصدمة أثارت عناده و قلبه المتحجر، ثُم أخرج هاتفه ليأخذ رقم شمس دون علمها و سجله عنده، ثُم أرسل الفديو لنفسه عبر تطبيق الواتس، و حذفه من هاتف شمس كأنه لم يفعل شيء..
تساءلت شمس ببراءة:
” بتعمل إيه ؟ ”
” ولا حاجة ”
قالها بفتورٍ و أعطاها الهاتف و اتجه يجلس مكانه، بينما” رحيم ” قال بانزعاج منها:
” اللي عملتيه ده مينفعش يا شمس، أنتِ كده رخصتيها في نظرهُ ”
” ما تقولش كده، قُصي هيفهم إن منة بتحبه فيبادلها المشاعر و يحبها ”
” يا سلام ! قصي ها يستغل الفديو لصالحه، دماغه مخيفة و مش بيسمي على حد، مكنش ينفع تعملي كده ”
.. و بعد الذي حدث، و الاتفاق على أن كتب الكتاب سيكون غدًا في فيلا ” منير” اصطحب
” رحيم ” عروسه شمس تحت الموسيقى المودعة لهما، و خرجا يركبان السيارة باتجاه الفيلا الخاصة بهما، و التي أهداها لهما ” منير ” رغمًا عن اعتراضات ” رحيم ” الكثيرة.
و انصرف بقية المدعوين، و كذلك أفراد الخياط دون الخوض في الموضوع من أي جانب، فقد اكتفوا بما حدث الليلة، و الجميع في حالة حرج لا تسمح بالتحدث حيال أي شيء.
____________
” ولقد يكون في الدنيا ما يُغني الواحد من الناس عن أهل الأرض كافّة، ولكن الدنيا بما وسعت لا يمكن أبدا أن تغني مُحبًا عن الواحد الذي يحبه ! هذا الواحد له حساب عجيب غير حساب العقل.. فإن الواحد في الحساب العقلي أول العدد، أما في الحساب القلبي فهو أول العدد وآخره .. ليس بعده آخـِـر إذ ليس معه آخـَر ” مصطفى الرافعي.
~~~~~~~~~~~~~
في خلال الاسبوعين الماضيين، و بعد تلك المكافأة التي نالها ” بدر ” من مشروعه المُميز، لم ينسَ الوعد الذي قطعه لعائشة حول شراءه بيت جدتها، ليكن ملجأ لأعمال الخير، و اتجه مع
” زين ” لتسليم الورثة نصيبهم الشرعي، ثُم استلام وصلات الأمانة و تسجيل البيت بإسم زين و عائشة في الشهر العقاري.
و في ازدحام تلك الأيام، لم ينسَ أيضًا زيارة
” عصام ” في المصحة، و الاطمئنان عليه من الحين للآخر.
أما بالنسبة لأرض الكباريه التي تركها عمه لعائشة، فقد تبرعت به لبناء مسجد يكون صدقة جارية لوالديها.
جلست ” عائشة ” مع حماتها ” مفيدة ” يتابعان أحد المسلسلات، بينما ” بدر” مُنْكَبٌّ على عملِهِ في الغرفة المجاورة، يدقق عينيه البنية في حاسوبه الذي اشتراه لملاحقة الأعمال في الشركة التي ألقيت على عاتقه، يرتشف المتبقي من كوب الشاي وهو مُنْهَمِكٌ في الحاسوب بِشَغَفٍ، و مُسْتَغْرِقٌ فيه يكتب على لوحة المفاتيح بسرعة و دقة يملأ المستندات الخاصة بعمله كمدير.
شعرت ” عائشة ” بالملل من المسلسل، و أحبت مجاكرة حماتها، فسحبت منها كيس اللب الذي كان بحوزتها، و أظهرت لها خاتمها الألماس تلوح بيدها هاتفةً:
” بصي يا فوفه، دبلتي مدفياني.. السقعة دي لازم لها حاجة تدفي، و أنا لابسة دبلة و خاتم من حبيبي مدفيني ”
سحبت منها ” مفيدة ” كيس اللب، و هتفت بسخرية عليها بدا شكلهما مضحك:
” كنت بقول زيك كده أول اما تزوجت عمك محمد الله يرحمه، بس على رأي المثل اللي دبلتها بتدفيها بكرة البامبرز المسرب يصحيها ”
رمقتها عائشة بذهول و سحبت يدها ثانيةً تدخلها في جيبها بأدبٍ، لتقول بتمتمة:
” عندها رد لكل حاجة.. اوسكار في قصف الجبهة ”
” ما تقومي ترقصي لنا شوية، أنتِ خلصتي امتحانات، قومي فرفشينا بدل الزهق ده ”
التفتت لها ” عائشة ” وهي تكاد تخرج من ملابسها:
” هو أنتِ كل إما تشوفيني يا ماما تقولي قومي ارقصي لنا ! إحنا في حريم السلطان هنا ؟! ”
” والله لو بعرف أرقص كنت قومت، الرقص زي العدس، الاتنين بيدفوا و لابد منهم في الشتا ”
اقتربت عائشة منها و قبّلت رأسها بخبثٍ غامزة:
” طب ما تحن يا جن و تعملنا حلة محشي من الحلوين بتوعك اللي بيدفوا دول، أصل أنا فاشلة في لف المحشي ”
ضربتها حماتها على رأسها بخفةً، و هتفت بسخرية منها:
” خلي دبلتك تدفيكِ ”
” كده يا فوفه ! طب اعملي التخديعة الجامدة بتاعتك دي و أنا أروله ”
” تــ إيـه ؟! ”
” أروله ”
” تروليه ؟! هو ورق بفرة ! ده ورق كرنب ”
” المهم إن فيه لف في الموضوع ”
قالتها و نهضت تاركةً إياها تتابع مسلسلها الممل، و أردفت وهي تتجه بتريث لغرفة ” بدر “:
” كملي أنتِ المسلسل اللي مش مفهوم ده، و أنا هرخم على زوجي حبيبي شوية ”
” رخميلي عليه معاكِ ”
هتفت بها ” مفيدة ” ضاحكةً عليها وهي تتابعها تخطو خطواتها على أطراف أصابعها لتتجسس على زوجها..
فتحت ” عائشة ” الباب بحذرٍ و أدخلت رأسها داخل الغرفة تقول بابتسامة بلهاء:
” بدوري ممكن أدخل ؟ ”
تفاجئ من فعلتها و تأملها للحظاتٍ بدهشة، ثُم تحولت ملامحه للضحك دون صوتٍ عليها، و قال:
” أنتِ دخلتي أصلًا يا عائـش ! ”
تصنعت الاحراج المزيف، و أخرجت رأسها ثم أغلقت الباب، و عادت تقول وهي تنقر على الباب بخفة:
” بدوري ممكن أدخل ؟”
أتاها صوته المهزوز، و كأنه يحاول كتمان ضحكته عليها:
” اتفضلي يا عائش ”
” إلهي تنستر دنيا و آخرة ”
خطت خطواتها تجاهه، و وقفت بجانبه تتفحص ما يفعله في الحاسوب، ثُم تساءلت و عيناها لا تبرح مكانها من التدقيق في عمله:
” بتعمل إيه ؟ بتخوني ؟ ”
تأملها للحظاتٍ بضحكةٍ مكتومة وهي تكاد تدخل رأسها في الحاسوب، ثُم رجع بكرسيه للوراء و تَمَطَّعَ بمد يديه في استرخاءٍ، و في حركةٍ مُباغَتةٍ لفها من خصرها لتصبح في مواجهته، و تساءل رافعًا حاجبه بنظرة استفسار يسبقها قراءة لغة العين:
” جاية ليه يا عائش ؟ عاوزه إيه ؟ أنا مش قايل لك عندي شغل و محدش يدخل عليا ”
امتد التواصل البصري بينهما للحظاتٍ عجزت هي عن الرد، فقد اشتاقت له كثيرًا في تلك الساعات الطويلة التي مرت عليه وهو منهمك في عمله، و لكن لصلابة رأسها تأبىٰ أن تبادر هي بالتعبير عن مدى شوقها له، حتى و إن ابتعد عنها لنصف ساعة فقط..
لقد أخذ العشق مجراه و أصبحت تُحبه حُبًا بالغ حده ليتجلى باسطًا معانيه على ملامح وجهها العربي الجميل.
قالت وهي تشيح بعينيها بعيدًا عن عينيه التي تأكلها من التأمل فيها:
” أصل بصراحة يعني.. بصراحة كده.. هو بصراحة يعني، أصل..
” هنغني كتير ! ”
” أنت مستعجل ليه ؟ منا جاية لك في الكلام أهو.. أصل بصراحة يعني.. ”
تلك المرة اهتز صدره العريض بضحكةٍ مكتومة، ثُم تركها تخرج فأظهر أسنانه البيضاء بابتسامة منفرجة جميلة كَطلته، و أردف من بينها:
” لسه فيكِ الخصلة دي من و أنتِ عيلة بضفاير ”
تساءلت بعدم فِهم:
” خصلة إيه ؟ ”
” لما كُنتِ تيجي تحكي لي حاجة و الحاجة دي موتراكِ، كُنتِ تفضلي تقولي عاوزة أقول لك حاجة يا أبيه بس بصراحة يعني، و تفضلي تعيدي و تزيدي في الكلمة ”
” و أنت كُنت بتعمل إيه ؟ ”
” كُنت بسمع لك بشغف لو فضلتي تعيدي و تزيدي فيها، عمري ما مليت منك في مرة، و لا هَـمِل..
بعشق رغيك على فكرة، رغم إني لازم أخد حباية صداع بعد ما تخلصي رغي، بس على قلبي خفيف خفة الفراشة، على قلبي زي العسل يا عائش”
قالها و حرر يديه التي تحيط خصرها يرفعهما ليحيط وجهها الذي تلون سعادةً و خجلًا طفيفًا، و تابع بنبرته العاشقة لها التي لم و لن تتغير أبدًا:
” بحبك يا سبب صُداعي، بحبك يا رغاية ”
اتسعت ابتسامتها و تحمست لثرثرة من الممكن بعد تلك الكلمات التي باح بها بدر، ألا نخلص منها و نضطر نحن أيضًا لأخذ دواءً للصداع.
هتفت وهي تنزل يديه التي تحتوي وجهها، لا أعلم لماذا أنزلتها الغبية وقد بدأنا في الاندماج معهما !
” بصراحة يا بدوري، أنا ألفت لك شِعر و عاوزه أقوله لك ”
زيف دهشته و قال بأعين متسعة:
” ألفتِ شِعر ! ”
أومأت وهي تصفق بحماسٍ طغى عليها:
” ايوه.. بص عشان أكون صريحة معاك، أنا معايا واحدة صاحبتي في الكلية اسمها سجى عمرو، وهي موهوبة جدًا في الشِعر، فخلتها تألف لي شعر أقوله لك بما إنك على طول بتتغزل فيا و أنا زي الدبشة وقعة في ترعة مش بعرف أقول حاجة ”
” يعني صحبتك ألفت شِعر ليا، فأنتِ تيجي تقوليه على أساس إنك اللي ألفتيه ! الله أكبــر.. عمار يا مصر.. اتحفيني يا حبيبتي ”
هتف بها في حماسٍ مصحوب بالدهشة، فقالت وهي تحاول تقليده عندما يتغزل بها و ينظر لعينيها بتلك النظرة التي تزيد توترها و خجلها..
” بس اعتبر إني اللي ألفته ليك.. ماشي ؟ عشان أنا ها اقوله من قلبي والله و ربنا يستر ”
خانته ضحكاته التي تتربع في قلبه، و أخذ يضحك رغمًا عنه على هيئتها عندما حاولت تقليده، ليقول محاولًا الصمود أمامها:
” بلاش البصة دي طيب عشان بدأت أخاف، أنا مش بعمل كده على فكرة ”
وكزته في كتفه ليكف عن الضحك مزمجرةً:
” يوه يا بدر بقى، خليني أقولك الكلمتين اللي حفظتهم بصعوبة ”
رفع يديه ببراءة و استسلام في محاولة منه فاشلة لحبس ضحكاته:
” حاضر أنا آسف، المايك معاكِ اتفضلي ”
حمحمت و نظفت حنجرتها كأنها ستغني، و سكتت للحظاتٍ تحاول فيهم جعل نفسها رومانسية أكثر، لتقول بنظراتٍ حالمة رغم أنها بدت مضحكة، و لكنها أسعدت ” بدر” أخيرًا، الذي انصت لها باهتمام:
” قد كنت أسخرُ من العُشاقِ مدّاحي الأعينِ قائلةً:
“أيُ عينٍ تلك تفعلُ بشخصٍ هكذا ؟”
حتى جاء دوري و أصابتني سهام نظْرتك.. أدركتُ حينها ما كنت أجهلهُ، أدركتُ جمالَ مقلتيك..
بنيةً قاتمةً كالقهوة تجذِبُ أنتباهَ مَن يقابلها .. حتى أحتضنتها أشعة الشمسِ فألتمعت كالعسلِ، و بثت الدُفء لِمن يناظرها
مَن ذا الذي رآها مرةً و لم يسبح الخلّاقِ ؟!
جَلّ مَنْ سوّاها و حمَاها بجفونٍ زُيِّنت بأهدابٍ قاتلةِ ”
سكتت لثوانٍ تتابع تأثير ما قالته عليه، فوجدته قد تسمر مكانه و سكنت ضحكاته، و بدأت جفونه بالتراخي و عينيه تضيق بنظرة عشقٍ لها، فتساءلت بابتسامة متلهفة:
” عجبك ؟ و الله طالع من قلبي ”
أومأ و أنامله تمتد لتعبث في شعرها الغجري الذي جمعته بربطة شعر، فحرره لها تاركًا لعينيه الاستمتاع بأمواجه، و همس بنبرةٍ دافئةٍ:
” عجبني عشان طالع من قلبك، بس ده مش شِعر، دي خاطرة غزل على فكرة، أنا بقى عاوز شِعر و من تأليفك و دلوقت.. أنا عاوز انبهر.. إبهريني ”
” مش بعرف ”
” اعرفي ”
رمقته للحظاتٍ باستفهام، ثُم أخذت تجوب بعينيها الغرفة تفكر في أي شيء له وزن و قافية تقوله له، و أضاءت اللمبة برأسها فصاحت:
” ولا بالطاسة ولا بالحلة، و لا كام متر المطبخ ولا.. وصفة خطيرة قرأتيها في مجلة.. هي الزبدة سر الأكلة.. ”
” اطلعي برا ”
” استنى بس أكملك ”
” برا يا عائش ”
هتف بها وهو يدفعها برّقةٍ لتخرج، فاستدارت له و همست بضعفٍ مصطنع بمهارة:
” أهون عليك ! طب أهون عليك و تهون يا ليالي
يا حبيبي فين الوعد الغالي.. و أعيش لمين من بعدك تاني.. كان مالي بيك كان مالي، أهون عليك؟ ”
قال هو بنفاذ صبرٍ عكس ما في قلبه:
” أهون عليكِ أنا ابقى مدير جديد و مش مجهز شغلي ! ”
” أنا شغلك يا حبيبي ”
قالتها بطريقة أفقدته اتزانه، فمكث على الأريكة وراءه يضحك عليها بقلة حيلة:
” والله العظيم عندي ورق كتير عاوز يتكتب على اللاب توب ”
أردفت هي بدلال لا علاقة له بالأنوثة:
” ليش بتكذب يا وليد، ما بتعرف انو حرام
و عيب ومش من الآداب، و الكذاب ما رح يبقالو أصحاب لا لا لا ”
استند بذقنه على يده وظل يتأملها رافعًا راية الاستسلام، بينما هي تلف الغرفة و تدور بها تصيح بصوتها النشاز، وهو يتمتم بحسرة:
” أنا اللي عملت كده في نفسي، بس أعمل إيه.. بحبها.. الله المستعان ”
نهض فجأةً و على حِين غِرَّة لم تُحسب لها حساب، اختطفها من مكانها و انتشلها من جنونها، ليعود بها جالسًا على الأريكة قائلًا:
” عارفة لو مَبطلتيش ازعاج هعمل فيكِ إيه ؟ ”
تساءلت بلا مبالاة تضع قدم فوق الأخرى وهي جالسة على فخذيه:
” ها تعمل إيه يعني، ولا حاجة ”
” ها اقدم ميعاد الفرح ”
تلاشت ابتسامتها المنتصرة سريعًا، و حل محلها التوتر الساخر، لتحاول النهوض و الفرار منه، فقيد حركتها بكلتا يديه هامسًا في أذنيها:
” قومي اعملي لي كوباية شاي، و بالنعناع ”
اتسعت عينيها بصدمةٍ متذكرة على الفور يوم كُتب كتابهما، و كان أول مشهد لهما طلبه منها بإعداد الشاي له.. ردت باعتراضٍ يملؤه الاستعطاف:
” بالله عليك ما تفكرني، اطلبها بطريقة تانية طيب.. بلاش نظرة الأسد الجائع دي ”
تراجع عن طلبه بقوله:
” طب مش ها تقولي بقى أنتِ قاعدة عندي لحد دلوقت بتعملي إيه ؟ ”
” بصراحة أنا جيت عشان أرخم عليك.. تعرف سعيدة محسنة ”
” مين ؟! ”
” سعيدة محسنة ”
عقد حاجبه في استفهامٍ، ليتساءل بتعجب:
” أنتِ بتجيبي الأسامي دي منين ؟! ”
” طيب تعرف الست نبوية جارتنا ؟ ”
” مالها ؟ ”
” ناوية تسيب حتتنا ”
” يمين بالله أقدم ميعاد الفرح ”
تراجعت سريعًا بأدبٍ لمدة خمس ثوانِ، ثُم هتفت:
” تعرف بمبه كشر ”
صاح هو بضجرٍ:
” معرفش أنا حد، و إيه الأسامي دي ! إيه بمبه كشر دي ؟! ”
” أمك اللي حكت لي حكايتها، تعالى إما أحكي لك أنت كمان ”
” مش عاوز أعرف حاجة ”
” والله أبدًا.. لازم تعرف، اشمعنا أنا عرفت ”
استسلم لها بدموعٍ مزيفة، لتتنهد بارتياحٍ قائلة:
” بمبه كشر دي بقى يا سيدي كانت أشهر راقصة فى تاريخ مصر، و كانوا بينادوها وهى بترقص بمبه كشر يا لوز مقشر، أنا عاوزه أعرف بقى أنت مش بتقولي عائش كشر يا لوز مقشر ليه ؟! ”
” أنتِ بترقصي لي ؟ ”
فتحت فمها فتحةً صغيرةً لم تدرِ ماذا تقول، فأحكم هو لف يديها عليه و جذبها لصدره قائلًا بنظراته الخبيثة التي تربكها:
” من الصدقة ادخال السرور على قلب مسلم، ارقصي لي و فرحي جوزك و أهو يبقى لك صدقة ”
” أنا بعرف أقول شِعر، أقولك ؟ ”
زفر بضيقٍ، يحاول التماسك أمامها، فقد جف حلقه كالصنبور الذي انقطع عنه المياة لأشهر:
” يادي الشِعر و سنينه، أنا ليا الجنة إن شاء الله على صبري ده ”
تجاهلته، و أردفت غامزة:
” حُبنا مش غلطة، أنت صقر و أنا بطة ”
” أنا قلب و أنتِ جلطة ”
صاحت بضحكة صاخبة:
” ايوه بقى يا بدوري يا جامد، ما أنت طلعت حلو أهو و بتعرف تقول أشعار، اومال منشف ريقي ليه ؟ ”
أشار لنفسه بدهشة:
” أنا اللي منشف ريقك ؟! ”
قرر المسايرة معها، و أومأ يطبق على شفتيه يتوعدها بداخله، و انتهز فرصة جلوسها على فخذيه، ثُم جذبها من شعرها برفقٍ حتى لا يؤلمها، و غاصت أصابعه في شعرها الكثيف، فأصدرت تأوهٍ بسيط مصحوب بضحكة صغيرة، بينما هو همس بجانب أذنيها:
” الفرح اتقدم شهر، خليكِ كده عاندي معايا و أفضل أقدم شهر ورا التاني، لحد ما تلاقيني بقولك فرحنا بكرة يا عائش ”
رمقته بعدم تصديق لتقول ضاحكة:
” طب فكر اعملها و أنا هـَهرب ”
” والله لو روحتي فين، ها جيبك برضو ”
سَكَتت هُنَيْهَةً قبل أَنْ تضيف:
” بغض النظر عن هبلي اللي مش قادرة استغنى عنه، بس بجد أنا بحمد ربنا عليك في كل ركعة يا بدر، أنت رزقي يا ابن عمي.. رزقي الحلو في الدنيا و أحلى رزق عمومًا في حياتي، مش بعرف أقول شِعر زيك ولا غزل و جاهلة في الحاجات دي، بس مش جاهلة في حُبك، لأن بحُبك لي علمتني الحب الحقيقي، حُبك علمني أقول اللي في قلبي، و القلب مش بيقول غير أحلى كلام، رغم إنه كلام مش مترتب.. أنت كُنت خير المُربي لي و خير الصاحب و الأخ و الزوج، و فوق كل ده، أنت عوضتني غياب الأب و الأم، عوضتني حنان الاتنين.. أنت مخلتنيش بس أحبك، أنت بحنيتك عليا و الأمان اللي حسيته معاك؛ خلتني أعشقك يا بدر.. أنت مكافأة ربنا الحلوة ليا في الدنيا، مهما قلت مش ها يكفي وصف مشاعر الحُب اللي بحسها تجاهك، أنا آسفة إني منشفة ريقك، بس في دلع متشال ولا على البال.. ليك أنت و بس ”
تركت اعترافاتها أثرها على وجهه بل و عليه بالكامل، فتهللت ملامحه المليحة بابتسامة عاشقة ارتسمت جانب شفتيه، و ضاقت عينيه بنظرة حالمة فضحت احتياجه الكامن لها، فتنهد زافرًا بخفةٍ، و بدأت أصابعه الحانية على شعرها تتحسس وجنتيها اللتان تراقص التوتر فيهما من نظراته الهائمة بها، و قبل أن تحاول النهوض..
تحدث أخيرًا بنبرةٍ اتضح فيها أثر الافتتان بها و صبابة الحُبِّ و شغفه:
” ما به قلبي، كلما ذُكر اسمك أمامه، أجده يرنو إلى عقلي السقيم من الشوق إليكِ؛ ليخبره أنكِ كُنتِ و سَتظلي موطنه الأصلي.. !
ما بها مُقلتي، كلما رأت ملاحة وجهك، تاهت و ضاعت وشردت في تقاسيمٍ بدت و كأنها نجمٍ ساطعٍ مُبهر أبهر عيناي.. !
ما بها يداي، كلما لامست وجنتيك؛ أضاءت و كأنها لامست ضوء القمر !
آهٍ يا عائش.. يا لكِ من فاتنة فتنت حواسي، و أضاعت المتبقي من عقلي ! ”
بعد تغزله بها الذي يأسر قلبها ككل مرةٍ، بدأت مشاعره تجاهها تتحرك و تسبق بَوْحُه، بينما هي خارت قواها و سكن جنونها الأخرق، و هدأ عنادها و استسلم، فا تسللت أنامله لشعرها الذي يحجب عُنقها الأبيض عنه، و أزاحه بِلُطفٍ منه يكشف عنه، و هَمَّ بِهَا.. لولا صوت والدته الذي انبعث في أذانهما كالمنبه يرد لهما وعيهما، هاتفة من خلف الباب..
” أنا داخلة أنام بقى يا ولاد.. تصبحوا على خير ”
رجع ” بدر ” للوراء قليلًا، و توترت ” عائشة ” ثُم نهضت سريعًا تهتف:
” استني يا ماما، و أنا كمان هنام ”
رد هو بجرأة منه و كأنه لم يعد يحتمل بُعدها عنه للحظة واحدة، و جذبها من ذراعها قبل أن تفتح الباب:
” و أنتِ من أهل الخير يا ماما، عائش ها تفضل معايا شوية ”
أتاه صوت والدته تضحك بصخبٍ عليهما:
” بكرة تملوا من الشقاوة و الرؤوس تتساوى ”
ضحكت “عائشة” ضحكات الجرس الموسيقى خاصتها، التي تطرب مسامع المفتون بها و حواسه، فهمس هو غامزًا بمرحٍ مانعًا إياها من الهروب:
” ضحكت يبقى قلبك مال، و أنا فدا الضحكة شبيهة الموال ”
” لأ، مش بتتقال كده.. ضحكت يبقى قلبها مال، كحت يبقى جالها سعال ”
” روحي نامي ”
و لكن في الحقيقة لم يتركها تخرج، و أصر على نومها بجانبه على الأريكة، حتى يتسنى له امتاع عينيه بالنظر لها أثناء عمله بين الحين و الآخر.
_______
مرّ يوم آخر على الجميع، و جاء اليوم الذي من المفترض فيه يتم زواج ” منة ” و الفتى الذي لا يُقهر ولكن يقهر ” قُصي ” و برغم ما يفعله من حماقات، لكنه سيظل البسكويت المحشي بكريمة ويفر اللذيذة..
لم يستطِع ” سيف ” إخفاء ما حدث على شقيقه، و من هول صدمة الأخير، قرر محادثة ابن عمه على انفراد، و لكن ” سيف ” منعه بشدة، و استحلفه بالله ألا يخبر أحد بعلمه بتفاصيل الأمر، و أن يتقبله مثلما تقبله الجميع في النهاية، معللا أن ” قُصي ” لا ينصاع لأحد ولن يهتم بنصائح أي حد، و أنه اختار ” منة ” بمحض إرادته و لا داعي للحديث في الموضوع بحذافيره ثانيةً.
و هكذا اجتمعت العائلتين لتزويج الشابين، و تم كتب الكتاب بالفعل، و لكن في هدوءٍ تام، كأنه عزاء، حتى أن العزاء لا يكون بذلك الهدوء.
بعدما تم كتب كتابهما، حمل ” قُصي ” نفسه و انصرف دون الحديث مع أي شخص، و كذلك فعلت ” منة ” و هرولت لغرفتها تلقي بنفسها على فراشها و تبكي بحرقة كعادتها..
بعد مدة وفيرة من البُكاء حتى جف حلقها، نهضت و غسلت وجهها، ثُم نظرت لنفسها في المرآة مُستعيدة شخصيتها القديمة التي تخفي ضعفها وراءها، و تتعمد الظهور بالقوة و عدم الاهتمام لمجريات الأمور:
” بالله لأخد حقي من أي حد كان السبب في حزني و قهرتي و نزول دمعة من عيني، بالله لأقلب الدنيا عليك لحد ما أجيبك يا بابا و انتقم منك و أشوفك مذلول قدامي، بالله لأخد حقي منك يا قُصي، ياريتني ما حبيتك، ياريتني أعرف أكرهك.. يحرق قلبي اللي حبك ”
« وَاحِدَة بتنهار وَتَقُوم وَسَط الْحَيَاةُ وَلَا حَدَّ حاسس بيها..
جَوَاهَا سَرَب هُمُوم دبحوها ياه..
وَلَا حَدَّ سَمَّى عليها
عَكْس التَّيَّار بتعوم وكسرها الْمَوْج
وَهِي فاردة ايديها حَتَّى شوفوا عَيْنَيْهَا شايلين وَجَع مَكْتُوم. »
_______
أما هو قاد سيارته لواجهة غير معروفة، و توقف بجانب الطريق يُخرج هاتفه و قام بتشغيل الفديو الخاص بها، أخذ يتأمله للحظات و ضحك بسخرية قائلًا:
” ممثلة، شوية ممثلين ملهمش حل.. كلهم ممثلين، كلهم، ماشي يا منة.. بس أنا غلطان، أنا فعلًا غلطان إني دبست نفسي بغبائي اللي أول مرة يظهر مني مع العالم دول.. احقق بس مشروعي و احط رجلي على أول الطريق، و ورقة طلاقك تترمي في وشك، و يا ويله أي حد هيبقى عقبة في طريقي تاني.. يا ويله ”
_________
مرت الأيام مر الساعات في سعادة على الجميع غيرهما، و غادر ” سيف ” المنصورة ليخوض مرانه مع نادي الأهلي استعدادًا للمباريات القادمة، و بسبب انحصاره مع النادي؛ لن يستطيع حضور زفاف الأخوان ” أُبَيِّ و قُصي ” أو ربما سيحاول و يأتي لحضوره ثم الرحيل في نفس اليوم ليلًا.
” كريم ” في الفترة الماضية لا زال غضبانًا من
” رُميساء ” لقولها بأنها ملت منه و تريد رجلا غيره يستطيع فهمها، نعم.. يتحدث معها و لكن بفتور، حتى ندمت ندم شديد على التفوه بتلك الجملة، و لكن أجمل ما في الأمر أنها تحررت أخيرًا من سجنه و أخذها معه لحضور حفل الحناء الخاص بالأخوين.
و ها هي الآن تتواجد برفقة ” روان ” في منزل
” مصطفى الخياط ” والد نورا..
حفل الحناء تم اعداده بالطريقة التقليدية الريفية، لقد حضره جميع أقارب العائلة من بينهم الصعايدة، و مثل كتب الكتاب كانت الحناء..
الرجال في بيت مجاهد يباركون له، أو بالأساس جاءوا لحضور وليمة الطعام، و الحمدلله أن
” عصام ” ليس هنا، لكان فضحهم مثل سابقتها.
تجمعن النساء في ردهة بيت مصطفى الواسعة، و نورا تجلس على مقعد بزينتها الكاملة و بفستانها الجميل دون ارتداء الحجاب، فالبيت لا يدخله سوى النساء فقط، و سارة والدتها منعت أي أحد من تصويرها بهاتفه أو تصوير ما يحدث، فقط أمها المسؤولة عن التصوير بالهاتف، حتى يكونوا جميعًا في كامل الارتياح..
تعرفت ” رُميساء ” على “عائشة” بشكل أقرب، و تبادلا الأرقام الخاصة بهاتف كل منهما، في حين أن ” مفيدة ” أخذت روان من يدها و ظلت تمر بها على النساء قائلة بفخرٍ:
” روان مرات الكابتن سيف أبو تريكة ابني، قل أعوذ برب الفلق في عينكم ”
شعرت ” روان ” بحرجٍ شديد، و رغم ذلك لم تستطع منع نفسها من الضحك على أفعال حماتها التي تمتلك روح دعابة و خفة ظل، لم تظهر إلا بعد اطمئنانها على مستقبل أبناءها الثلاثة، و كأن المرأة ارتاحت من همٍ ثقيلٍ، فباشرت باظهار ما تخفيه لسنوات بداخلها..
جلسن جميعهن على شكل مستطيل واسع كبير، و في مقدمته إمرأة سمراء البشرة بشوشة الوجه يرتاح قلبك لها منذ الوهلة الأولى التي تسقط عيناك عليها، بدأت بالغناء بالاغاني التي تناولتها الأفراح الريفية و غيرها، و كأن المرأة متخصصة في ذلك، و من حولها ثلاثة نساء يمسكن بالدُف و أخريات يمسكن بالصاجات المصدرة صوت موسيقي يساعد على الرقص، و بدون الحاجة للاغاني و الموسيقى..
و ما الحاجة لصوت الموسيقى الصاخبة، و النساء يستطعن بث السعادة و البهجة و اظهار الفرح دون الحاجة لأصوات الضجيج المزعج !
بدأت المرأة بالغناء، و هن يصفقن و يقرعن على الدفوف..
« يا أبو اللبايش يا قصب، عندنا فرح و اتنصب..
يا أبو اللبايش يا قصب، عندنا فرح و اتنصب..
جابوا القميص على قدها، نزلت تفرج عمها..
جال يا حلاوة شعرها، تسلم عيون اللي خطب..
يا أبو اللبايش يا قصب، عندنا فرح و اتنصب»
جذبت ” لين ” والدة أُبَيِّ يد عائشة قائلة لها:
” يلا يا شوشو ”
هتفت عائشة بفخرٍ لنفسها و هي تنهض معها:
” يوه بقى هو مفيش غيري بيعرف يرقص في العيلة دي ! ده على كده أنا اللي هرقص لنفسي يوم حنتي ؟ ”
ردت رُميساء من خلفها بلهفة:
” و أنا روحت فين، أنا هرقص لك إن شاء الله ”
مالت عليها روان في ضحكة تهكم:
” طب استهدي بالله عشان كيمو كونو بتاعك، ما يجيش يرقص بايديه على وشك دلوقت ”
بلعت رُميساء حماسها بداخلها، و همست:
” الله يسامحك يا روان، بطني وجعتني ”
انتقلت الأنظار على ” عائشة ” بعدما ربطت مفيدة شال على خصرها يحكم حركاتها و يساعدها في ابراز موهبتها، فأخذت ترقص بدلال و تمايل أعجب الجميع و بدأت الأصوات تعلو..
« جابوا الخلخال على قدها.. نزلت تفرج عمها
جال يا حلاوه شعرها
تسلم عيون اللي خطب..
يابو اللبايش يا قصب
عندنا فرح و اتنصب..»
أخذت بتحريك جسدها اللين بطريقة متوازنة مع التركيز على منطقة الجذع بمهارة أبهرت عيونهم، و استخدمت شعرها الذي ساعد طوله على ابراز أنوثتها و دلالها..
أثناء انشغالهم مع عائشة، اختفت هاجر عن الأنظار و اصطحبت روان معها بعد سرقتها لطبق الكحك بالسكر و البسكويت..
جلست هي و أخذت تأكل الكحك بتلذذ، و روان تساعدها بإنهاء البسكويت قائلة:
” لو اتقفشنا ها تبقى وقعتنا مربربة ”
” محدش هياخد باله.. بقولك إيه.. دوقيني كده الكحك أبو ملبن ده ”
” خدي أبو عجوة أحسن، طعمه حلو ”
” هناخده في النتيجة، سيبك منه دلوقت.. هي دي غُريبة ولا بيتيفور ؟! ”
” أنا مش بعرف أفرق بينهم، إحنا ناكل الاتنين و نشوف أنهي أحلى ”
في تلك اللحظة، دلفت مفيدة و تم ضبطهما يتعاركان على آخر قطعة بسكويت في الطبق..
هتفت بصدمة مضحكة:
” ينهار أبيض ! خلصتوا الطبق اللي مطلعاه للناس ؟! ”
توقفت عملية ابتلاع الطعام عند روان، و أشارت هاجر على بطنها الكبيرة:
” دول أحفادك يا مفيدة، أنا بريئة ”
” أحفادي ! دا أحفادي ناقص ياكلوني ! ”
استطاعت روان الهرب، بينما هاجر لم تقدر حتى على النهوض، فساعدتها أمها قائلة:
” أسبوعين إن شاء الله و تولدي، إما أشوف بقى أحفادي المسروعين و لا أنتِ ”
خرجا للانضمام للمدعوين، و لم تستطع
” رُميساء ” الصمود أكثر، و نزعت نقابها بالكامل تاركة العنان لشعرها هي أيضًا الذي يشبه شعر عائشة كثيرًا، فالفتاة جيدة بالرقص الشرقي و عندما وجدت الفرصة سانحة لاخراج مواهبها المدفونة، نهضت بحماسٍ و حررت شعرها، لتجذب الأنظار برّقتها و جمالها..
حتى في رقصها رقيق، مما استدعى ذلك روان تعيذها من أعين الموجودين متمتمة:
” ربنا يستر عليكِ يا رُميساء أنتِ و عائشة و ما تاخدوش عين تجيبكم الأرض ”
مالت مفيدة على زوجة ابنها هامسة باعجاب:
” ما شاء الله صاحبتك دي حلوة أوي.. تحسيها جيلي كده ملهاش ماسكة ”
” لأ لها، بس برا مع الرجالة.. لو عرف ها يحطها في علبة تونة و يقفل عليها ”
رقصت رُميساء بمهارة فاقت مهارة عائشة، مُحركة كامل جسدها بحركات مموجة متعرجة، و جذبا الاثنان نورا للرقص معهما، مع تلك الأغنية التي صدرت من النساء:
” سألت ايش الاسم قالوا البنات نعمات
أم صبعين رطب و الباقى بلح امهات
يوم ندهت علينا بيدها النعمات..
قلت نعمين تلاتة..
هتفوا جميعهن بمرحٍ.. و أربع خمس نعمـات ”
نهضت مفيدة و سارة يرقصان معهن، بتحريك الايد مثل مساحات السيارة الأمامية، مما انهارت عائشة ضحكًا عليهما، و لم تستطع استكمال رقصتها، أما رُميساء جذبت روان معها، لتقول الأخيرة باحراج:
” أنا لو رقصت الحنة ها تقلب كوميدي، أنا مبعرفش يا بنتي.. ”
” اعملي زيي ”
حاولت أن تفعل مثلها، فضحكت هاجر بشدة حتى كادت أن تلد مكانها، و لم تستكمل روان رقصها الهزلي و عادت للجلوس بأدب تتوعد لرُميساء بداخلها، في حين أن الأخيرة ظلت تتمايل على أغنية أخرى من أغاني النساء المأخوذة من احدى الأغاني التي واكبت العصر
« جاني بهدواة داوى جرح قديم وجدد روحي
راحت مني نن عينه، خدني غصب عني.. هوبا
علم علامة جوا قلبي، سابلي بصمة
بسمة العيون ورسمة الشفايف، شايف الحلاوة»
و انتهت أمسية أخرى من أمسيات عائلة الخياط السعيدة، و على جهة أخرى.. رفضت منة رفض قاطع اصدار أي ضجة تخص مراسم الزفاف، و فضلت الذهاب للتمرين في صالتها الرياضية.
و الجميع الآن في اليوم التالي على مشارف الاستعداد لحفل زفاف ” أُبَيِّ و قُصي ” الذي تم اعداده في قاعة فخمة من قاعات المنصورة الجديدة، مقسمة لطابقين.. طابق للنساء إذا أراد العريس، و طابق آخر للرجال، ليكن الجميع في ارتياح دون اختلاط.
ارتدت ” منة ” فستان زفاف محتشم بالكامل، و لم يظهر سوى شعرها القصير، و استغنت أيضًا عن مساحيق التجميل، أما ” نورا ” بدا فستان زفافها المحتشم غاية في الرقة و الجمال.
ظهر أُبَيِّ في تلك الليلة أجمل من شقيقه بمراحل؛ بسبب وجهه المشرق الذي لم تغادره السعادة، بينما قُصي أطفئ التفكير و الحُزن جماله، فصار عابسًا لا يبتسم في وجه أحد..
حتى عندما اتجه لاصطحاب ” منة ” من يدها ليتوجه بها نحو القاعة برفقة أخوه و زوجته، لم يبتسم في وجهها، و كذلك هي..
و عند الدخول للقاعة، استطاع بجدارة رسم الابتسامة السعيدة على وجهه؛ لئلا يقول أحد أنه مُجبر على الزواج، وهو يكره أن يتم إجباره على أي شيء..
أوصلها من يدها للطابق الخاص بالنساء، و قبل أن ينصرف.. انحنى عليها هامسًا:
” حاولي تضحكي عشان الليلة تعدي بسرعة ”
” خليك في حالك ”
قالتها وهي ترمقه بغيظٍ و ضيقٍ منه، فأردف ساخرًا بها:
” حالك هو حالي من الليلة دي.. هقولك كلمتين و حطيهم في دماغك كويس أوي.. جوازنا على ورق بس، أنتِ مع نفسك و أنا مع نفسي.. لا تسأليني جيت منين ولا روحت فين ولا بعمل إيه، لكن أنا هعرف كل خطواتك و مش ها تتحركي لمكان غير بإذني و بعلمي، بس هتنامي لوحدك و أنا لوحدي و كذلك الأكل و الشُرب، أما خروجك من البيت يكون بعلمي.. فهمتي ؟ آه صحيح.. جوازنا مش هيدوم كتير، الناس بس تنسى اللي حصل ده و الفديو يتنسى و سمعتك الحلوة ترجع لك، و أنا أسافر أمريكا، و قبل ما أسافر هكون مطلقك، و كل واحد يرجع لحياته ”
نظرت له بدموعٍ جاهدت في إخفائها، و همست هي الأخرى بحُرقة:
” أنا بكرهك يا قُصي.. بكرهك ”
امتدت أنامله ترفع ذقنها ليغوص بعينيه في عينيها بنظرة استخفاف:
” أنتِ كذابة يا منة، أنتِ بتعشقيني.. بتعشقي قُصي، و مهما حاولتِ تنكري، عينيكِ فضحاكِ.. بس لا كُرهك فارقلي ولا حُبك فارقلي.. أنتِ كلك على بعضك مش فارقة معايا ”
” غور من وشي.. امشي من قدامي حالًا ”
صاحت بها في تعصب، جعلته يتركها قبل أن يفقد أعصابه هو الآخر و يفضحان أنفسهما أمام الجميع..
بينما أُبَيِّ وضع قُبلة عميقة على جبهة نورا و همس لها قبل أن يتركها:
” أنتِ أجمل حاجة حصلت لي في حياتي، بحبك”
ردت بابتسامة واسعة:
” و أنا كمان بحبك أوي ”
و بعدما نزلا الاثنان للأسفل، مالت نورا على منة ضاحكة بسعادة:
” أنا فرحانة أوي يا رحمة، اتنين صُحاب تزوجوا اتنين أخوات، ربنا يكمل فرحتنا على خير يارب، متزعليش من قُصي، ده بُق على الفاضي، بكرة يقولك سامحيني يا منة أنا مش قادرة اتنفس من غيرك ”
ضحكت منة بخفة، و قالت:
” و ساعتها مش هسامحه يا نورا ”
تقدمت عائشة لتجذب الفتاتان للرقص، و استطعن النساء جعل ” رحمة المعروفة بمنة أيضًا” اضحاكها و جعلها تندمج معهن.
أما في الأسفل، المفاجأة التي أسعدت الجميع بالأخص ” قُصي ” هو مجيء ” إياد السوري ” حفل الزفاف، و لم يأتِ وحده.. اصطحب معه شقيقه الأصغر و أولاد أعمامه، بالإضافة لزوجته طبيبة الأسنان المصرية ” آلاء عبد السلام ” و التي كتب كتابه عليها منذ أسبوع، كانت توجد قصة حُب طاهرة بينهما أثناء مكوثه في مصر، و قبل مغادرته لبلاده تقدم لخطبتها، ثُم عاد و تزوج منها..
صافح ” إياد ” الجميع، و صعدت زوجته لمجلس النساء، بينما هو في الأسفل قام بإشعال الزفاف بالدبكة السورية، التي تحمس لها قُصي و إبراهيم.. و بعد لحظات فوجئ الجميع بمجيء “سيف ” و بدأوا معظمهم يتجهون لأخذ صور تذكارية معه..
اصطف الشباب على شكل قوس، من بينهما زياد الذي تحمس للرقصة جدًا، و رحيم الذي جاء لحضور الزفاف، و أبناء عزمي الشباب..
و قبل البدء، توجهت الأنظار على الوفد التركي المكون من رجل في مقتبل الستون يمشي بثبات في المنتصف، على جانبيه أبناءه الرجال الثلاثة
” أوزان ” أكبرهم في عُمر أُبَيِّ، و الأوسط بعامين
” صالح ” و الثالث الذي يكبر إبراهيم بأربع أعوام
” بوراك “.. ثلاث رجال وسماء يرتدون البدل السوداء الأنيقة، و عندما رآهم” إبراهيم ” ركض نحوهم يعانقهم بحرارة، فقد ظن أنهم لن يحضروا بسبب تأخير الطائرة الخاصة بهم.
صافحهم مُجاهد يقول بسعادة:
” إيمير بك، اشتقت لك يا رجل ”
و انضم الشباب الثلاثة في القوس الذي تهيئ للدبكة، بصرف النظر عن أن معظمهم لا يجيدونها، و لكن شكلهم و طلتهم بدت رائعة وجميعهم يصطفون بالبدل السوداء و الزرقاء..
قاد ” إياد ” أول الرقصة لتظهر مهاراته واضحة للجميع ، و ترأس شاب آخر الضرب على الطبلة، أما إياد بدأ بالرقصة مستخدمًا « الحبل المودع» في تلويحه و الرقص به..
و بدأوا الحركات بالاقدام، وتتميز بالضرب على الأرض بصوت عالٍ مترافقة بالموسيقى الفلكلورية التي صدحت تساير حركات الشباب..
…..
صافح ” إياد ” الجميع، و صعدت زوجته لمجلس النساء، بينما هو في الأسفل قام بإشعال الزفاف بالدبكة السورية، التي تحمس لها قُصي و إبراهيم.. و بعد لحظات فوجئ الجميع بمجيء “سيف ” و بدأوا معظمهم يتجهون لأخذ صور تذكارية معه..
اصطف الشباب على شكل قوس، من بينهم زياد الذي تحمس للرقصة جدًا، و رحيم الذي جاء لحضور الزفاف، و أبناء عزمي الشباب..
و قبل البدء، توجهت الأنظار على الوفد التركي المكون من رجل في مقتبل الستون يمشي بثبات في المنتصف، على جانبيه أبناءه الرجال الثلاثة
” أوزان ” أكبرهم في عُمر أُبَيِّ، و الأوسط بعامين
” صالح ” و الثالث الذي يكبر إبراهيم بأربع أعوام
” بوراك “.. ثلاث رجال وسماء يرتدون البدل السوداء الأنيقة، و عندما رآهم” إبراهيم ” ركض نحوهم يعانقهم بحرارة، فقد ظن أنهم لن يحضروا بسبب تأخير الطائرة الخاصة بهم.
صافحهم مُجاهد يقول بسعادة:
” إيمير بك، اشتقت لك يا رجل ”
و انضم الشباب الثلاثة في القوس الذي تهيئ للدبكة، بصرف النظر عن أن معظمهم لا يجيدونها، و لكن شكلهم و طلتهم بدت رائعة وجميعهم يصطفون بالبدل السوداء و الزرقاء..
قاد ” إياد ” أول الرقصة لتظهر مهاراته واضحة للجميع ، و ترأس شاب آخر الضرب على الطبلة، أما إياد بدأ بالرقصة مستخدمًا « الحبل المودع» في تلويحه و الرقص به..
و بدأوا الحركات بالاقدام، وتتميز بالضرب على الأرض بصوت عالٍ مترافقة بالموسيقى الفلكلورية التي صدحت تساير حركات الشباب..
و في مدخل القاعة وقف ” بدر و كريم ” يتابعان ما يفعله الشباب في الداخل بابتسامة ضاحكة على محاولة سيف و زياد و زين الفاشلة في الرقص مثلهم، ليقول كريم:
” زياد تزوج و عقله خف ”
رد بدر مبتسمًا:
” عقبال إما عقلك يخف زيه كده ”
” لا ياعم يخف إيه.. سيبني في حالي ”
.. و انتهت أمسية أخرى سعيدة على الجميع، و توجها الأخوين لأخذ زوجاتهما للذهاب لعُش الزوجية..
و عندما دلف ” قُصي ” ممسكًا يد منة لشقته، أغلق الباب و ابتعد عنها هاتفًا بصرامة:
” نامي أنتِ في الأوضة دي و أنا في الأوضة دي ”
قالت بنظرة جمود:
” أنا أصلًا مش هطيق ابقى جنبك ”
…. و هكذا دامت حالة الجفاء بينهما، و قبل زفاف
” كريم ” بيومٍ، توجه الأخير بباقة وردٍ كبيرة لرُميساء، و بعد دخوله للبيت.. عانقها قائلًا بأسف:
” مش قادر أزعل منك أكتر من كده.. أنا آسف إني كنت بعيد عنك الفترة اللي فاتت يا فراشتي، بس كلامك جرحني ”
أخذت منه باقة الورود، و وضعتها برفقٍ جانبها، ثُم عقدت يديها على صدرها هاتفة بغضبٍ منه:
” و أنا حاولت أصالحك كتير و أنت مرضتش.. أصلًا الخصام حرام، و أنت مش بس خاصمتني.. أنت كمان مكنتش بترد على اتصالاتي، و خلتني عيطت كتير ”
زفر بضيقٍ من نفسه، و أردف:
” إيه اللي يرضيكِ و أنا أعمله ؟ ”
ردت ببراءة و بدموع تجمعت سريعًا:
” مَـتخاصمنيش تاني ”
اقترب يضع قُبلة رقيقة على عينيها قبل أن تسقط قطرة دمع منها، و همس بصدقٍ:
” أنا آسف يا فتاةٍ فاتت على قلبي ما تركت فُتات حزن يفوت إلا و فتت فُتاته ”
ابتعدت تتأمله في دهشة، ثُم بدأت تبتسم في تساؤل:
” هو أنا ممكن أسأل سؤال ؟ ”
” من غير مُمكن، أكيد يُمكن.. ”
” أنت إيه علاقتك باللغة العربية بقى ؟ ”
” أنتِ عارفة إني لما بحب شيء ببقى مهووس بيه، بعتبره ملكية خاصة، و عشان أثبت لنفسي إن الشيء ده رضخ لي، بشكله بمزاجي، عشان كده..”
قاطعته مكملة بحماس:
” عشان كده بتلعب بألفاظ اللغة و تشكلها بكيفك ؟ ”
” و أنتِ كيفي ”
” يعني ؟! ”
” يعني أنا شكلت معاني اللغة عشانك أنتِ، عشان بتكيف لما كيفي يكيفك فا اتكيف إنك اتكيفيتِ، عشان عارف إنه بيكيف سمعك تلاعبي بالألفاظ ”
” بس أنا مش تكييف عشان أكيفك ”
تأملها للحظات بعينين تضحكان، ثم انتقلت ضحكة عينيه لضحكة شفتيه و قال
” بالعكس، أنتِ فيكِ من البحر نسيمه و من الربيع هواه.. أنتِ أحلى تكييف أنا شفته ”
صمتا للحظات يتبادلان النظرات، نظرات الاستفهام و الاعجاب منها، و نظرات العشق الجنوني منه لها..
تحدث ببحة صوته العاشقة وهو يشير لأحمر الشفاه الذي وضعته قبل مجيئه:
” حلو لون الروج عليكِ ”
تبسمت في رضا:
” شُكرًا ”
” يا ترى طعمه حلو زي لونه ؟ ”
تساءل بها في عفوية شديدة منه، تفاجئ هو لها..
ردت بدهشة:
” هاه ! ”
” لا و لا حاجة.. ولا كأنك سمعتي حاجة ”
صمتا لدقائق، ليقطع هو هذا الصمت بسؤاله:
” قُلت لكِ قبل كده إني بعتبرك وطني، أرضي.. صح ؟ ”
هزت رأسها بابتسامة صغيرة كصغر فمها، فتابع بنبرةٍ حادة ممزوجة باللُطف فيها:
” أنتِ وطن كريم الخاص، أرضي أنا فقط وأنا وحدي من أسكُن بكِ.. ”
سكت ثوانِ معدودة، ثُم أردف بنظرة ثاقبة تليق به هو فقط:
” لأبد الآبدين ”
بدأت تفهم تلميحاته، فقالت:
” للدرجة دي غِيرت لما قولت لك أنا عاوزه.. ! ”
قطع كلامها بوضع اصبعه على فمها، و أضاف:
” صه.. متكمليش، أنا مش بس غيرت.. أنا وقتها فقدت أعصابي لدرجة مكنتش شايف قدامي ”
” تعرف إني بحب غيرتك رغم خوفي منك أحيانًا ! ”
ابتسم بلُطفٍ منه، و أخذ يدها يُقبلها بحنوٍ ليملأ مسامعها بقصيدة من قصائده التي يعشقها و يحتفظ بكتب خاصة بهم في مكتبته الصغيرة، قصيدة تعود لأحد الشعراء سايرت ما يشعر به تجاه فراشته، فأردف:
” يا فاتنة العينين جئتك مُرهَقا
من وحي حُسنِك راعَني أن أُقتلا
آسرتني العينين وما من مهربٍ
بحرٌ بهِ الأمواجْ في زورقٍ تلعبِ
تلك العيونُ الناعساتُ فتكنَ بي
باللَّحظ أم بالكحلِ صرتُ مُجندلا
رفقًا بصبٍّ في هواكِ مجرَّمٌ
قد كان قبل الفتكِ بهِ منعّمٌ
كأنّيَ ربعٌ قد غدا محطّمٌ
القتلُ في شرعِ الإلهِ محرّمٌ
وبشرعِ حسنكِ ما يزالُ محلّلا ”
تبسمت برقتها التي تسلب منه احترامه لنفسه، فنهض مُقبّلًا جبهتها و استأذن للرحيل قائلا:
” همشي أنا بقى، أشوفك يوم فرحنا إن شاء الله ”
ودعته بابتسامة عاشقة، فألقى بقُبلة لها في الهواء استقبلتها هي بسعادة و أمان بدأ يكسو قلبها تجاهه.
….
و في نفس القاعة التي أعدت حفل زفاف أُبَيِّ و أخوه، كان زفاف كريم أيضًا، و الذي حضره والده رغمًا عنه بإجبار من والدته، و لم يهتم ابنه بوجوده.
توقفت سيارات رجال الخياط عند مدخل القاعة ليترجل منها خمس رجال لا يقل واحد منهم جاذبية و أناقة عن الآخر..
التفتت الوجوه و تصوبت الأبصار على البدل السوداء الفخمة و الأنيقة، وهم يدخلون بكل ثقة و ابتسامة بشوشة ارتسمت على وجوههم..
ها هو صاحب الابتسامة المتواضعة و النظرات الواثقة في المنتصف، و على يمينه شخص في مثل طوله و وسامته يعرفه معظم الجالسون فهو و كيل النيابة الذي اكتسح وجهه كاميرات الصحافة في قضية ابن رجل الأعمال المشهور التي اثارت الجدل العام الماضي، و على يسار ” بدر “ابنه عمه ذو العينان الزرقاوان و الذي كان زفافه منذ أيام قليلة، و لولا أن كريم عزيز عليه، لكان الآن جالس مع نورا يتغزل في عينيها رافضًا التزحزح من جانبها..
انتقلت الانظار من على هؤلاء الرجال الوسماء إلى شابان في العشرينات من عمرهما، هما
” زين و إبراهيم ” و الذي نسي الأخير ربطة عنقه، فوقف ” زين ” ينزع ربطته و يضعها له، لعدم شعوره بالارتياح لتلك الربطة..
و من بعدهما يدخل “قُصي” بثقة تصحبها الغرور فهو متأكد أنه أوسم و أذكى رجل في العُرس و هذا يشعره بالثقة الزائدة..
لم يحضر ” سيف ” لخوضه مِران مرهق مع النادي..
استقبلهم ” كريم ” باعتزاز و فخرٍ بحضورهم معه، و كان زفاف أنيقًا هادئًا حضره الكثير من رجال الدولة و من رجال الأعمال.
و في طابق النساء، لم تترك ” عائشة ” العروس الرقيقة ترتاح دقيقة واحدة من الرقص، حتى عفت عنها أخيرًا قبل انتهاء الزفاف بنصف ساعة.
بعدما اصطحبها كريم لشقتهما الفارهة، وجد يديها عبارة عن كتلة ثلج، فتساءل بخوفٍ عليها:
” مالها ايدك ؟ للدرجة دي بردانة ؟! ”
هزت رأسها بنفيٍ و بتوتر، و قبل أن ترفع يدها لتنزع نقابها الأبيض، أسرع هو بفعل ذلك و ظل يتأمل وجهها لدقائق خفق فيهما قلبيهما، ليقول أخيرًا وهو يحاول جاهدًا أن يبقى هادئًا؛ حتى لا يخيفها منه..
” أنتِ روح جات أحيت لي الروح، اللي كان فاضل لها تكه و تروح، بس لا أنا هروح ولا هي ها تروح طالما احتوت روحك الروح، فأنا بروحي فدا الروح فين ما تروح ”
رفعت عيناها تناظره باسمةً بخجل، ثم فجأة تلاشت ابتسامتها و حلت محلها الدهشة وهي تتفحص عضلات ذراعيه هاتفة:
” ده كله دراعك ولا أنت حاطط قطن جواه ”
” قطن ! ”
قالها بدهشة، فحاولت إخفاء توترها بقولها الذي تفاجئ له بقوة:
” تعرف بمبه كشر ”
” مين ؟! ”
” بمبه كشر ”
وضع يده يتحسس جبهتها ليقول ضاحكًا بقلة حيلة:
” إيه اللي حصل لك ؟ من ساعة ما خدتك حنة في عيلة الخياط و أنتِ دماغك لسعت ! ”
” طب تعرف سعيدة محسنة ؟ ”
” أنا معرفش غير حاجة واحدة بس، النهاردة فرحي يا جدعان ”
ضحكت بخجلٍ، فأضاف بمرح:
” طالما مش جاية معاكِ شخصية كريم الكيوت، فنركنها على جنب و نحضر شخصية ضابط المخابرات يجي يشهد على الكلام اللي بيحصل ده ”
” يعني إيه ؟ ”
” يعني اللي ما يجيش بالسياسة، نجيبه بالسلاسة ”
هتف بها، وهو ينحني و يحملها على كتفه، فصاحت تترجاه:
” عاوزه أروح بيتنا عشان خاطري، وديني عند بابا”
” أنا بابا “..
__ و انقضت ليلة أخرى سعيدة على الجميع، بخلاف أزرق العينين و شريدة القلب..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *