رواية سيد القصر الجنوبي الفصل السادس 6 بقلم رحاب ابراهيم حسن
رواية سيد القصر الجنوبي الفصل السادس 6 بقلم رحاب ابراهيم حسن
رواية سيد القصر الجنوبي البارت السادس
رواية سيد القصر الجنوبي الجزء السادس
رواية سيد القصر الجنوبي الحلقة السادسة
اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي، وأنا عبدك لمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك.
صلِ على النبي 3مرات
لا حول ولا قوة إلا بالله 3مرات
وبدأ يردد بعض الأسماء وينادي بصوتٍ كالرعد، وكأنه يصرخ!. بينما تلك التي ترتجف رعبا تتخفى داخل كومة هائلة من الملابس والمفروشات التي تنتظر التنظيف، وتراقبه من بعيد بعينان مرتجفتان.
بأي غباء ساقتها قدميها لخارج غرفتها بتلك الليلة الموعودة لوصول …. سيد القصر الجنوبي.
وقف “أكرم” بجسده المنيف يصرخ مناديًا على من بالقصر، ورغم فساحة القصر ومساحته الرحبة التي تُزيغ البصر، ألا إن تردد صوته كالرعد وبدا قويًا مسموعاً برهبة مخيفة، وملأ حضوره المكان وخيّل لها أن حتى قطع الاثاث الجامدة بلا روح وشعور ترهبه وتخاف منه ..!
ودقائق وكان المكان مكدسا بالصغار الذين أتوا هارعين إليه ولا زال النوم متوسدًا أعينهم، بينما الفتيات يقفن بالطابق الأعلى ينظرن بريبةً وخوف واضح، وكانت أشهاد جالسةً على مقعدها المتحرك أوسطهن وتتمتم ببعض الادعية حتى لا ينكشف سر وجود الغريبة الحسناء وتقع كارثة.
نظر أكرم للصغار وهو في حقيقة الأمر يطرح الأسئلة بتلك النظرات الثاقبة كعين ذئب ينتظر الأنقضاض، فهتف وعرق بين حاجبيه الشديدة السواد ينتفض غضبًا:
_ مين اللي دخل القصر وأنا مش موجود ..؟!
كانت شفتي الصغير ” بقلظ ” ترتجفان بخوف شديد ولم يستطع الحديث، ولم يكن حال بقيّة الصغار أفضل منه، ربما كان “شامي” أكثرهم ثباتً وأخذ على عاتقه المسؤولية وأجاب:
_ محدش هوّب ناحية القصر يا زعامة، مين يقدر يدخله وأحنا هنا ..؟!
أكد حديثه “شاندو” وقال مؤكدًا وكافح لإخفاء توتره:
_ زي ما قال شامي بالضبط يا زعيم، محدش غريب دخل هنا ..
تجولت عينا أكرم على الأطفال ببطء، وشعر بحدسه أنهم يخفون شيء، فسأل بصوتً حاد فجأة :
_ وباب القصر مفتوح ليه وفي ساعة زي دي ؟! .. أنا مش محذركم محدش منكم يدخل هنا طول ما أنا مش موجود؟!
لم يفصح بما رآه للصغار، ربما لا يدركون بوجود غريب ويبث في قلوبهم الخوف ، وربما يخفون تلك الغريبة الذي رآها ولن يفصحوا بالأمر بهذه البساطة، بجميع الأحوال سيكتشف الأمر بنفسه، بينما الصغار ينظرون لبعضهم في ارتباك وخوف، ولا يجدون إجابة مناسبة ومقنعة يجيبون بها، حتى أنقذهم من تلك الورطة وجود العجوز عم “مغاوري” الذي أتى لهم عندما أتى بالصدفة ليطمئن أن مصابيح الإضاءة مغلقة بعد عودة التيار منذ دقائق وقال وهو يتوكأ على عصاه ويقترب لهم :
_ حمد الله على سلامتك يابني، ما تأخذنيش .. أنا اللي نسيته مفتوح لما النور قطع ودخلت أدور على شمع.
التفت أكرم ناظرًا للعجوز بثبات محاولًا اكتشاف صدق حديثه فـ رد عليه بغرابة:
_ مافيش شمع وأنت عارف ياعم مغاوري ..!
ابتسم الرجل وأخفى توتره وقال :
_ عمك مغاوري عجز خلاص وبقا ينسى، معلش يابني مش هتتكرر تاني ..
وبذلك قد وضع العجوز أكرم في موضع قبول الاعتذار عن الخطأ وقطع المناقشة والاسئلة، فتنهد أكرم مضيقا عينيه وكأنه يشعر بخطر بات منتشرا حتى بالهواء وقال للعجوز:
_ خلاص يا عم مغاوري عدت، بس ما تتكررش تاني، بناتي في القصر لوحدهم وماينفعش في وقت زي ده بالذات يفضل الباب مفتوح كده، أحنا في مكان مقطوع ومافيش غيرنا تقريبًا .. خد حذرك اكتر من كده لو سمحت.
وبتلك اللحظة همست “أشهاد” لصديقتها وصيفة وقالت:
_ أجري بسرعة يا وصيفة وصحي ماما جيهان قبل بابا ما يطلع ويلاقيها.
ابتلعت وصيفة ريقها بخوف وقالت :
_ من صدمتي اتجمدت مكاني يا أشهاد، بس هروح اهو.
وتسللت وصيفة دون أن يلاحظ أكرم الذي شغله العجوز بالحديث وغمز للفتيات أن يسرعن بأنقاذ الموقف قبل أن يصعد “أكرم” لغرفته، بينما ركضت وصيفة للغرفة الكبيرة وفتحتها وهي تلهث، ولكن لم ترى لجيهان أثرًا، ففتشت عنها جيدًا بالشرفة ولم تجدها، فنظرت للفراغ بخوف حتى وقع نظرها على رداء جيهان بصندوق الملابس المتسخة، فشهقت بذعر وركضت حتى خطفت الرداء من الصندوق، ثم نظرت جيدًا بالغرفة وحاولت ايجاد أي شيء ربما يثير شكوك أكرم، فما وجدت شيء سوى أن الفراش غير مرتب … فما هي إلا دقيقة حتى اعادته لهيئته المنظمة مثلما كان وخرجت من الغرفة راكضة وهي تحمل رداء جيهان لتخفيه..
*************
ترك “أكرم” الصغار بالطابق الأرضي حتى يطمئن على الفتيات، وخاصةً ملاكه الصغير “أشهاد” .. حتى وجدها تقف بالأعلى قبل الدرجة الأولى للدرج، وجالسةً على مقعدها، ولأول مرة لا يرها مبتسمة لعودته وتناديه بـ ” بابا” .. فاقترب منها وقد لانت ملامحه وضخ بعينيه حنان أبوي قائًلا:
_ جبتلك القطرة لعنيكي، ومحضرلك مفاجأة حلوة أوي هتعجبك يا أشهاد ..
ابتسمت أشهاد ببطء وتوتر جعله يشعر أن بالتأكيد هناك شيء يحدث بالقصر دون علمه، وقالت تتصنع الابتسامة وتتحدث بكلمات متقطعة :
_ بجد ..؟! .. أنا .. مبسوطة أوي ..
رفع أكرم عينيه من عليها، ونظر للفتاة الأخرى التي تقف بجانبها وكأنه يأمرها بقول الحقيقة، فابتلعت “رضا” ريقها بخوف وقالت دون أن يسألها :
_ ما فيش حاجة ..!
رد أكرم وقال لها بسخرية وهو يخرج شيء من حقيبة الصغيرة المعلقة بكتفه:
_ وهو أنا سألتك ؟! .. مالك متوترة كده ؟! .
اجابت عنها أشهاد بقصة مؤلفة لتنقذ الموقف قبل أن يتعمق شكه:
_ أصل أنا ورضا متخانقين كالعادة، فهي كانت خايفة أني أقولك .. بس أنا مكنتش هقول.
رفت ابتسامة بسيطة جدًا على وجه أكرم من براءة أشهاد، وارجع رأسها للخلف قليلًا بعدما فتح غطاء القطرة الطبية وبدأ يسكب عدة قطرات بكل عين وهو يقول لها برفق:
_ القطرة دي هتريحك بإذن الله، لو عنيكي ما اتحسنتش عليها يبقى لازم دكتور يشوفك.
قالت أشهاد وهي تغمض عينيها حتى لا يتسرب المحلول الطبي خارج مؤق عينيها:
_ لا أن شاء الله هرتاح عليها، حمد الله على سلامتك يا بابا ..
ربت أكرم بعطف أبوي على رأسها بحنان شديد وقال :
_ الله يسلمك يا أشهاد، بحب اسمع كلمة بابا منك ..
وبتلك اللحظة خرجت “وصيفة ” من الغرفة وسارت بالممر الطويل الذي آخره يقف أكرم مع صديقتيها، فتوقفت جامدةً عندما رأته، فأن رفع رأسه قليلًا عن أشهاد سيراها بالتأكيد ويرى ما تحمله، فنظرت حولها تبحث عن أي شيء تخبأ فيه ذلك الرداء الذي أصبح كالجريمة، حتى وجدت صندوق صغير به بعض الأغراض القديمة وأشياء تالفة ومصابيح صغيرة ، فتسحبت ببطء ودست الرداء ضمن تلك الاشياء ثم أغلقته سريعا، وفي استقامتها وجدت أكرم ينظر لها مضيقا عينيه في ثبات، فارتجفت وصيفة بخوف، هذه عادته ونظرته المعتادة للجميع، ولكنها لا تعرف هل كشف أمرها أم لا … وارتعبت عندما أشار لها أن تأت إليه وتقترب، فجف ريق الفتاة وهي كالمذنبة تقترب منه ببطء وأصبح وجهها بلا دماء تقريبًا، حتى قال لها متعجبًا من درجة شحوبها والخوف الواضح بعينيها :
_ خايفة كده ليه يا وصيفة ؟!
والتمعت عينا وصيفة وكأنها على شفير البكاء، ولم تجيب ثم نظرت للأسفل، فتدخلت رضا قائلة والقت اللوم على نفسها:
_ أنا اتخانقت معاها هي كمان، وكانت نايمة معيطة مني..
اشفقت أشهاد على رضا، لأنها ستنال عتاب وعقاب كبير من أكرم وهي بريئة كليًا، فقالت أشهاد مدافعة:
_ بس مش معيطة أوي يعني ، اتصالحنا والله ، وصيفة بس اللي كانت بتعيط عشان مصدعة .. مش كده يا وصيفة ؟
هزت وصيفة رأسها بالإيجاب وقالت :
_ أيوة صح ، أنا كنت مصدعة ودماغي وجعاني .. لكن أنا ورضا اتصالحنا.
لم يقتنع أكرم بما سمعه، ولكن من ضمن الأشياء الذي لم يقتنع بها بهذه الليلة، ويبدو أن هناك اصرار من الجميع على أخفاء ذلك الشيء عنه، فقال كأنه مقتنعا بتبريرهن :
_ تمام … ارجعوا لأوضتكم وناموا دلوقتي، والصبح نتكلم بعد الفطار ..
***************
انتظرت المندسة بين طيات الأقمشة والمفروشات ذات الرائحة المُنفرة بنفاد صبر وانتظار ثقيل بسبب ضيق مساحة التنفس بموضعها هكذا، وعندما شعرت بابتعاد صوته بالطابق العلوي كشفت جيهان بجزء صغير عن وجهها ونظرت أمامها بحذر شديد وترقب، حتى وقعت عيناها على الصبيان “شامي” و”شاندو” بالقرب منها، فنطقت اسمهما بحرص شديد وتأكدت أن ذلك المخيف ليس بالجوار، ولكن رغم ابتعاده فهو لازال حاضرًا ويشكل خطرًا أن نهضت وكشفت مكانها، وبصعوبة حتى لاحظ شاندو التي تحاول لفت أنتباهه وقرَص صديقه شامي بذراعه حتى ينتبه، فقال شامي لشاندو :
_ اطلع أنت اشغله بأي حاجة على ما اخبيها، المهم يبعد عن السلم.
نفذ شاندو ما قاله صديقه وأخذ فريقا من الصغار وصعد تلك الدرجات البسيطة إلى السيد المخيف حيث يقف مع الفتيات، وقال له وهو يتصنع الحماس:
_ أنت قولتلنا يا زعامة أننا هنصلح العفش بتاع أوض القصر بإيدينا، وريهولنا وقولنا نعمل إيه ..؟
ثبّت أكرم عينيه على شاندو في عمق، حتى تيقن الصبي أن سيد القصر كشفه لا محال، فقال بتوتر :
_ أنت غيرت رأيك ..؟!
وبكل ثبات وضبط نفس حرك أكرم عينيه قليلًا نحو ساعة الحائط، ثم أشار له قائلًا:
_ أحنا الفجر … !!
ارتبك الصبي وشعر أن حجته عمقت شك سيد القصر أكثر من أن تحمسه وتبعده عن شكوكه، فقال موافقاً:
_ آه .. عندك حق، نخليها بالنهار احسن ..
وقال أكرم للصغار بهدوء وهو يفكر في القلق المرتسم على وجوههم:
_ ارجعوا ناموا تاني ولينا كلام تاني الصبح ..
وانسحب الصغار من أمامه مبتعدين، والورطة أنه ظل واقفاً حتى خرج الجميع وأغلق العجوز الباب مرغمًا عندما أشار له أكرم بذلك، ثم توجه للفتيات وأمرهن أن يرجعن لغرفتهن في أمان .. وبعدما تأكد من ذهاب الجميع لأماكنهم توجه لغرفته في خطوات واثقة …
وعندما فتح غرفته شعر بشيء غريب بالغرفة، رغم أنها مرتبة ونظيفةمثلما تركها، ولكن يشعر بتغيير ولم يستطع أن يحدد ما هو تمامًا..
ونفض أفكاره تلك فربما ما رآه خيالًا ووهما ، وتنهد بعمق وارتياح أنه أخيرًا عاد لحصنه وقلعته التي يستطيع بثقة فرض عدم دخول الغرباء فيها والأبتعاد عن الجميع … سوى هؤلاء الأطفال الذين يشكلون عالمه كله الآن …
القى حقيبة كتفه بأهمال على المقعد وخلع ملابسه وقرر أن يأخذ حماما سريعا قبل الخلود للنوم ..
ودقائق وكان يخرج من الحمام وشعره الاسود الطويل يتساقط منه الماء ويجففه بالمنشفة البيضاء، ثم ارتدى سروالا أسود رياضي وتيشرت خريفي باللون الأخضر الغامق، ثم تمدد على الفراش باشتياق شديد للنوم بإرياحية على سريره الدافئ … ولكنه فتح عينيه قليلًا واشتم رائحة غريبة، رائحة ملتصفة بالوسادة، تشبه رائحة الفانيليا قليلًا … فأنتفض أكرم من مكانه ينظر حوله وعاد لشكه من جديد ..
حتى قطع الشك باليقين عندما لمح شعرتان ملتصقتان بالوسادة يفسران وجود تلك الرائحة … فرفعهما أمامه مفكرًا بعمق وهو يضيق عينيه بغضب، أن دخل أحدًا هذا القصر فأغلب الظن أنه أتى ليكشف أمره ليس لأي شيء آخر .. خاصةً أن كانت امرأة … فإن كان مشهورًا بمغامراته النسائية ومعروف عنه بأنه زير نساء .. فالآن قد تغيّر الأمر للنقيض ..
وتعمق شكه بأن القصر يضم غريبًا .. غريبًا وبين قوسين المعنى ..امرأة …!!
************
ارتجف جسد جيهان وهي تختبأ بكومة الملابس والظلام هو السائد حولها، شعرت وكأنها في كابوس وتتمنى أن توقظها مربيتها العجوز وتستيقظ بغرفتها الفخمة بقصر والديها وفراشها المخملي الدافئ والنظيف ..
وكأنها سجينة تلك الكومة اصبحت ؟!
وبدأت تشعر بالأختناق وهي لا تعرف لأين تتوجه بهذا الظلام والمكان المخيف التي لا تعرف اتجاهاته ومداخله…. ولا حتى تستطيع أن ترى بوضوح لأين تسير وغالبًا ستتعثر وتحدث ضجيج يوقظ من بالقصر ..
وما كان عليها إلا أن تنتظر حتى الصباح .. كل ما عليها أن تحاول أن تغفو بتلك الكومة التي تشبه الدوامة وهي بين ثناياها وطياتها كالريشة الملتصقة بالنسيج..
وكانت تريد البكاء .. ولكن الشعور الذي غلب عليها الآن هو غموض تلك المغامرة ولأين ستؤول وتنتهي ؟!
ولماذا الجميع يخاف من ذلك السيد ؟!
والأغرب أن الخوف سكن بقلبها منه دون سبب ولا معرفة وثيقة به … !!
****************
كانت سمر تأخذ نبطشية هذه الليلة مع بعض زملائها بالمشفى، ولكن الغريب أن ” أمجد” ظل ولم يذهب بعد انتهاء دوام عمله !! .. وحينما وجدت نصف ساعة أخيرًا للاستراحة لبعض الوقت أتى إليها وهو يحمل كوبين من ” النسكافيه” وجلس بمقعد أمامها بغرفة خصصت لطاقم الممرضات ..وقال بابتسامة مستفزة :
_ هيعجبك النسكافيه، أنا عارف كويس بتحبي كام معلقة سكر ..
وللحقيقة كانت تشتاق لكوب النسكافيه فهو مشروبها المفضل، وقالت وهي تأخذ الكوب وتشكره :
_ هقبله واعتبره بدل فنجان القهوة اللي خدته مني، بس عموما ألف شكر يا دكتور ..
لم يسمح لها بأستفزازه فظل على ابتسامته وقال بصدق :
_ في الوقت اللي بحس فيه وكأني بتعرف عليكي من جديد، هو نفس الوقت اللي ببقى متأكد أني أعرفك من زمان حتى من قبل ما أقابلك …!، فاهمة حاجة ..؟!
قطبت سمر حاجبيها بعدم فهم وهزت رأسها بالنفي، فاتسعت ابتسامة بلطف، ولاحظت سمر أنه أزداد وسامة وثقة بنفسه، أم أن ثقته من جعلته جذاب لتلك الدرجة ؟!
كأنها بالفعل تتعرف عليه من جديد ..!
فقالت بأستفسار ومراوغة :
_ مش فاهمة … بس لو مش عايز توضح مش هضغط عليك .. !
وهنا بالفعل أغاظته، تلك حواء بداخلها التي تراوغ وتتلاعب وترمي نرد اللعبة بمهارة، وليست حبيبته الرقيقة في أصلها ومعدنها .. ولأن للرجل كيد أيضا احتفظ أمجد بابتسامته وقال بنظرة ماكرة :
_ طالما أنتي عايزة توضيح هقولهولك ..
رفعت سمر حاجبيها بأستفزاز، ولكنها تعترف أنها أرادت ان تضحك ، أعجبها حقا ثقته بنفسه، وثقتها أيضا، وأحبت طاولة الحديث بينهما، ولم تعطيه اهتمام الصمت، بل أشارت له ليتابع واكتفت برشفة اكتراث ، واهتمت أكثر أن تتذوق مشروبها الدافئ ، أما عن قلبها فالنبض النائم فيه قد بات عازفا ..!
فأستطرد أمجد قائلًا :
_ يعني رغم معرفتي بيكي، بكتشف فيكي كل يوم حاجة، حاجة بتقربني ليكي أكتر، وبتعرفني عنك مليون حاجة مكنتش أعرفها.
ابتسمت وقالت بتلاعب:
_ إجابة محتاجة إجابة .. ؟!
رد لها ابتسامتها وقال :
_ عشان أنتي في الاصل لغز … المرأة اللغز ..!، اللي أحاول ١٠٠ مرة عشان أوصل منك لإجابة.
قالت ببعض الشرود:
_ المحاولة بتوصل لهوس الوصول، يعني لما توصل للحل يبقى أنتهى الهوس ! .. دي مش ميزة أبدًا أني أكون لغز !.
كانت عينيه توضح محبتة صادقة وأجاب :
_ ده لما اللغز يبقى لغز عادي، لكن لما يبقى اللغز ده انسان فحتى لو وصلت لإجابته، هوسي بيه هيفضل زي ما هو ، رغم أني بكره كلمة هوس … الأصح نسميها محبة.
تحدثت سكر ببعض الحزن والعصبية عندما قالت وكأنها تتذكر تجربتها الكارثية:
_ كام واحد كان هيتجنن ويوصل لواحدة وفي الآخر ظهر أنه محبهاش أصلًا، ومحاولته في قربها كانت لهدف يخصه هو ؟!
وفهم أمجد رميتها، فهم أنها تقصد نفسها بما قالته فجاوب وهو يفرد أجنحة الأمان بكلماته:
_ وكام واحد لما حب بجد حاول بكل الطرق يكسب حبيبته وميأسش رغم أن مافيش قدامه أي أمل؟! … لو مكنتش أحاول اكسب انسانة بحبها ومش عايز منها حاجة غير أنها تكون جانبي بالحلال .. يبقى أنا محبتهاش من الأساس.
ونهض وظهر على وجهه الضيق، ونظر لها بعتاب للحظات ثم ابتعد عدة خطوات، ولكنه توقف فجأة واستدار لها قائلًا :
_ مش همشي غير لما اطمن أنك مشيتي، وماتنسيش فنجان القهوة بتاع النهاردة … وقللي السكر شوية.
بدا صوته وكأنه يتحكم ويأمر، ولكنها تعرف أنه عكس ذلك ، وعندما غادر ضحكت وحاولت أن تخفض صوتها … ولم تستطع.
***************
اعتكفت فرحة بغرفتها طيلة ساعات النهار منذ أن دفعها بعيدًا عنه، ومنذ ما حدث بينهما وهي لا تستطيع أن تلمح حتى وجهها بالمرآة، كانت في تخبط عظيم من المشاعر والحيرة والقلق … ولبعض الوقت سقطت دموعها وهي حتى لا تعرف هل بكت محبةً له وخوفا من الفراق، أم من صدمتها فيه وبماضيه، أم لضعف مقاومتها أمامه ولفظه لها بتلك الطريقة المُهينة ! ..
حتى تلك الساعة المتأخرة من الليل لم تجعلها تسكن وتهدأ لتنام وتطوي صفحة أفكارها المندفعة أقلًا حتى الصباح ..!
وفي خضم صراعها الفكري والنفسي وهي أسفل الغطاء على فراشها، شعرت بباب غرفتها يُفتح ببطء، فأغمضت عينيها وتظاهرت بالنوم … حتى انتبهت بحدسها أنه دخل الغرفة وخطوات قدميه تقترب إليها، فأهتزت برجفة واضحة من التوتر تمنت أن لا يكون لاحظها .. ولكن زايد ظل واقفا ناظرا لها في أشتياق … كأنه يعاتبها أنها لم تفتعل معه حتى ولو شجارا !!!
ودنى منها وهو يمرر أصابعه بين خصلاتها في رقة غير مكترثا أن استيقظت أو شعرت به حتى! ..
فهو أصبح لا يفهم ما يمر به مع تلك المخلوقة وتخبط مشاعره من أسفل سافلين للاشتياق والوله !!
وتأثرت فرحة بلمسة يده وكافحت حتى لا يكتشف أنها يقظة، وفجأة تجمدت حينما شعرت به يصعد الفراش ويتمدد بجانبها خالدًا للنوم، فتحت عينيها بصدمة وأرادت أن تستدير وتسأله ماذا يفعل ؟!…
وفكرت قليلا وما وجدت غير المواجهة كأنها استيقظت فجأة، فتململت واستدارت للجهة الأخرى وكأنها صدفة!، فوجدته قد أغمض عينيه ويستعد للنوم بالفعل …!!
فأنتفضت من مكانها وهزته من ذراعه بعصبية وقالت :
_ أنت بتعمل إيه هنا…؟!!
أجاب ببساطة وهو مغمض العينان :
_ نايم ..!
ضغطت على أسنانها وكادت تسحقهما من الضغط لتسيطر على موجة الغضب التي جرت بدمائها وقالت :
_ ما تنام في أوضتك جاي هنا ليه ..؟!!
وكأنها لا تتحدث وظل على وضعه المريح، واستفزها أكثر فهزت ذراعه بعصببة ورددت :
_ قوم نام في أوضتك !!
تركها لبعض الوقت حتى جذب يدها لتنام هي أيضا، ونظر لها بتحذير وتهديد وهو ينظر لعينيها بقوة:
_ مش عايز صوت ولا أزعاج، نامي وأنتي ساكتة!! .. عارفك خوافة وبتخافي من خيالك .. وده اللي جابني، لأن غالبًا هتصحيني عشان شوفتي الهوا بيتنفس !.
اغتاظت منه وقالت بحدة :
_ ما أحنا الفجر وماصحتكش !! ..
تمدد زايد مجددًا وقال باستفزاز مرة أخرى وهو يغمض عينيه:
_ قولت مش عايز صوت ونامي …!
سكتت مرغمة على ذلك، ولكنها لم تشعر إنها تستطيع حتى أن تتنفس وهو بهذا القرب ويقظا!! …
فنهضت وجلست على مقعدًا قبالته وهي تزفر غيظا منه، ولن تستطيع المكوث بتلك الغرفة الأخرى التي شاهدت فيها فأرا منذ ساعات، ولا يوجد غرفة أخرى بهذا المنزل تلجأ إليها !! ..
وبعد مضي بعض الوقت كانت تاهت بغفوةً عميقة استيقظت منها بعد قليل ووجدت نفسها نائمة على الفراش !!!
ولا زال الوقت فجرا ..!
فاستدارت وعلمت أنه حملها لهنا، ونظرت له بغيظ وقررت الجلوس على المقعد من جديد، حتى أخذ زايد ذراعها ووضعه أسفل رأسه متوسدًا عليه بإرياحية، وقال بأستفزاز وهدوء:
_ لو عايزة تقومي أتفضلي ..
وحاولت جذب ذراعها من أسفل رأسه المكدس بالشعر الأسود ولكنها لم تستطع، فنفخت بغيظ وعصبية وبدأت تشعر بألم يسير بذراعها وصاحت :
_ ايدي وجعتني !! ..
رد بتساؤل وهدوء :
_ أعمل ايه يعني ؟!!
هتفت به بغيظ شديد وهي تحاول سحب يدها:
_ سيب ايدي أنت فاكرها مخدة ؟!!!
تنفس بعمق ومرر خده على قبضة يدها ليستفزها وقال ببساطة:
_ أسف ..
فضيقت فرحة عينيها بشر، وفجأة شعر بأظافرها تحفر في جلد وجهه، فنهض ثائرًا من الغضب وهتف :
_ أنتي فعلًا غبية !!
مسدت فرحة ذراعها وفجأة انفجرت بالضحك عندما نجحت خطتها ولم تستطع التحكم، فضيق عينيه غيظا منها وتمدد مرة أخرى قائلًا باستفزاز:
_ مش هنام غير هنا .. شوفيلك أي حتة تنامي فيها.
وجلست على المقعد مجددًا وهي حائرة، ولم تستصيغ تجربة النوم على الأرائك في الردهة نظرًا لبرودة المكان، فظلت على مقعدها حتى غفت … وراقبها متظاهرا بالنوم وابتسم وهو يراها منكمشة في مقعدها بتلك الطريقة المضحكة .. ثم نهض وحملها للفراش من جديد ودثرها جيدًا … ونظر لها جليًا وهو على يقين أنها نائمة بالفعل وحدث نفسه بألم ..
أنه في غمر ناره وجحيمه فهو لن يستطيع ألا أن يكون بردًا وسلامًا معها .. ليتها تدرك ..!
****************
وسطعت خيوط الصباح التي اقتحمت النوافذ المظلمة ..
وأوقدتها بعقود الضياء وأنارت الأرض بنور ربها … حتى استيقظت جيهان التي غفت دون أن تشعر بتلك الكومة الهائلة من الملابس والمفروشات .. وبدأت تتثاءب بكسل وهي تعترف أنها نامت نوما عميقا رغم وضعها الغريب !!.. وهنا قررت الخروج والتحرر وإيجاد مسلك قبل أن يستيقظ سيد القصر ويكشف أمرها، فلا زال الوقت باكرًا وأمامها فرصة للهروب، خاصةً أن الضوء تسلل للنوافذ وأصبحت الممرات واضحة أمامها بعض الشيء ..
فنهضت بحذر وشعرت بتيبس جسدها، وعندما استقامت المها ظهرها وعنقها بعض الشيء … وغلبها التثاؤب مجددًا ، حتى كاد أن يتوقف قلبها عندما هتف صوت كاالرعد من الطابق الثاني وهو يهتف عاليًا ويحدق فيها بثورة هائلة الغضب ويقول :
_ أوقفي عندك ….!!!
ولكن هيهات ، فقد قفزت كاالفأر راكضة وهاربة بأقصى سرعتها وهي تصرخ وتستغيث .. ودخلت الممر الضيق الذي يؤدي للمطبخ القديم بالطابق الارضي، وما اربعها أنها سمعت وقع خطوات ثقيلة تدب على الارض بقوة كأن حيوانا ضخما سيهجم عليها …. وما أنقذها هو وجود ” برميل ” مخبأ خلف الواح خشبية طويلة ومائلة على الحائط بأهمال … فأختبأت فيه بسرعة لم تعهدها بنفسها، حتى دخل أكرم المطبخ ووقف ناظرًا وعينيه لا تنذر بالخير … !
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سيد القصر الجنوبي)