روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والثمانون 83 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والثمانون 83 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الثالث والثمانون

رواية يناديها عائش الجزء الثالث والثمانون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثالثة والثمانون

‏«اللهم اهزِم اليَهُود واشدُد وطأتَك عَليهِم، وأنزِل علَيهم رِجسَك وعِقابك وعَذابَك، وزَلزِل الأرضَ تَحت أقدامِهِم.
‏يَا رَب اجعَل تَدبيرَهم تَدمِيرهم، واجعَل كَيدَهم فِي نُحورهِم، واجعَل الدّائرة تدُور علَيهم.
‏شرّد بِهم، وانتَقم مِنهم، واكفِ إخوانَنا شرَّهم بما شِئت وَكيف شئت، إنّكَ عَلى كُل شَيء قَدير».
________________.
( هذا الفصل لن تستفيد منه بشيء، سوى أنك سـَتُصلي بعد قراءته ركعتين توبة لله.)
_____
كل التأخيرات في حياتنا ليست مُجرد صدفة أو عبث، بل خلفها تدابير محكمة يكتنفها اللُّطف الإلهي من كل جانب، فقد يتأخر العطاء ليصلنا في وقته المناسب؛ لأن الله أعلم منا بمواطن إسعاد قلوبنا..
~~~~~~~~~~~~
اليوم قد مرّ على معرفة ” سيف ” و ” روان ” ببعضهما العامين و النصف عام..
ثلاثون شهرًا من العوائق و المغامرات و الأحداث المتنوعة ما بين الصعب و اليسير في حياة كُل منهما، كانت علاقة بدايتها مُحرمة و خاطئة.. علاقة محكوم عليها بالفشل من الطرفين، لم يكن الحُب الذي بينهما حُبًا من الأساس، و إنما كان طيش شباب و عنفوان في مراحلهما العُمرية، حتى و إن كان واحد منهما يحمل مثقال ذرة حُب تجاه الآخر؛ فإنه كان حُبًا مرهونًا بالفشل.. لحين طرأت على حياتهما أحداث جديدة و مفعمة بالحُب الحقيقي لله أولًا ثُم لأنفسهما، ربما كان الابتلاء صعبًا على عُمرهما، و لكنه أدبهما خير تأديب..
لقد اتضح فيما بعد أنه يُحب تلك الفتاة حقًا، أحبها و وقع في غرامها لكنه لم يكُن باستطاعته أو في مقدرته البوح بمشاعره الصادقة تجاهها؛ بعد أن ذاق حلاوة القُرب من الله و الابتعاد عن الشهوات و مفاتن الدُنىٰ، التي ينجح الشيطان في اتخاذها ذريعة ليوقعك فيما لا يرضاه الله تعالى، فـَتُطفئ نور الإيمان الذي في قلبك..
كان يُدثرها في دعواته دائمًا طالبًا من الله تيسير زواجه منها، رغم أنه لا يزال يدرُس في كلية الطب البشري وهو الآن في السنة الدراسية الرابعة منها و أمامه ثلاث سنوات أخريات ليُنهي تعليمه، ثُم يشرع في تكوين نفسه لـِيتهيئ للزواج منها، و لكن الفتى العاشق صاحب الثلاثة و عشرون ربيعًا خاف أن يتقدم أحد للزواج من حبيبته، فتعجل في أمره و ذهب لمقابلة سرية مع والدها ” الأُسطى حافظ ” صاحب أكبر ورشة حدادة في المنطقة، و الذي رد على مكالمته الهاتفية و وافق على تلك المقابلة عنده في بيته دون معرفة ابنته المُحببة لقلبه ” روان “..
و ها هو أخضر العينين يقف أمام البيت ببصيص أمل يُحدث ذاته:
” يارب وفقني و أبوها يوافق ”
صمت للحظات و تهيئ للضغط على زر الجرس، و قبل أن تُفتح البوابة الالكترونية و التي أصبح معظم الناسُ يضعونها؛ مخافة السرقة.. غَمْغَم:
” طب ألف و أرجع ولا إيه ! أنا خايف أنا عايز بدر ”
” اتفضل يا دكتور ”
بلع ريقه عندما أتاه صوت والدها من خلال الجهاز المُعلق بجانب البوابة، مما استدعاه ذلك أن يدخل وهو يحاول جعل أنفاسه منتظمة..
صعد ” سيف ” درجات السُلم بتباطؤ و توتر انتاب وجهه، فلأول مرة يفعل ذلك و لكن على كُلٍ تلك أجمل لحظةٍ و أجملٌ موقف يُمكن أن يوضع فيه المرء خاصةً و إن كان ذاهبًا لطلب الزواج من الفتاة الوحيدة التي عزم قلبه ألا ينبض بإسم غيرها.. فقط هيَ، هيَ و كفى.
قابله ” حافظ ” عند نهاية الدَرَج باسم الوجه، ثُم مد يده بترحاب يصافحه..
” أهلًا و سهلًا يا حبيبي.. اتفضل ”
” أهلًا بحضرتك يا عمو ”
نطق كلمة ” عمو ” كما ينطقها طفل في الثالثة من عُمره، بدا التوتر و الارتباك عليه حقًا حتى تفهم ” حافظ ” الأمر و أراد تخفيف الموقف عليه، فقال بسعة صدرٍ:
” عامل إيه في الكُلية ؟ بدأت مُحاضرات و لا لسه ؟ ”
جلس ” سيف ” يتنهد بارتياح ليستطيع التحدث بأريحية دون أي عوائق:
” الحمدلله.. جدول المحاضرات لسه ها ينزل أول الاسبوع الجاي إن شاء الله ”
ابتسم ” حافظ ” في صمت، هذا الرجل قريب الملامح من أهلونَ الذي يشعرك بأنك تعرفه منذ زمن، أي لا يجعلك تشعر بالرهبة عند خوض حديث معه، رجل في مقتبل الخمسون من عمره ذو طلة بهية مريحة للمُحاور..
بعد قليل استدعت ” إيناس ” لا، لن نقول إيناس دون ألقاب بعد الآن.. المرأة أنجبت طفل مؤخرًا بعد سنواتٍ جف حلقها من كثرة الدعاء بالذرية، و من الآن فصاعدًا سنطلق عليها ” أم إبراهيم ” تقديرًا لمشاعرها الجياشة فور أن علمت بأنها ستصبح أم، آمل أن تجعليه صالحًا يا أم إبراهيم..
أعطته صينية العصير و دلف بها ” حافظ ” وضعها على المنضدة و أعطى للشاب المتوتر كوبًا، و كأنه بذلك يحثه على البوح بما في جُعبته..
ارْتَشَفَ ” سيف الاسلام ” القليل من العصير، بل مصَّه بشفتيه مُبالغًا في ذلك؛ رهبةً في الحديث..
قال في ارتباك حاول إخفائه:
” حضرتك عارف أنا جاي ليه من مُكالمتي معاك في التليفون و على ما أظن رواني أقصد روان كلمتك عني قبل كده ”
ابتسم حافظ يومئ برأسه مُتقبلًا حديث سيف، الذي تابع في ثقة و ثباتٍ تلك المرة:
” أنا طلبت من حضرتك نتقابل عشان تبقى مُطلع على الأمور من أولها..
تنهّد و أردف:
” أنا كُنت حابب تعرفني شخصيًا قبل كل شيء، و أصريت اجي لوحدي عشان أوضح الأمور بحُرية.. أنا يا أستاذ حافظ.. ”
توقف لثانية من الوقت يقول في رأسه
” أنا يا أستاذ حافظ مش فاهم ”
و كأن شبح الدعابة و الفُكاهة أصرّ على الظهور في هذا الموقف الحرِج و العصِب، أخذ الفتى الولهانِ نفسًا عميق، و تابع:
” أنا يا أستاذ حافظ من عائلة محترمة و حضرتك ممكن تسأل علينا ”
” سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ يا ابني، اتفضل.. ”
” بس.. بس إحنا على قد حالنا، يعني عائلة متواضعة، أنا لسه مكونتش نفسي لسه قدامي مشوار طويل.. تلات سنين غير السنة دي و شقتي موجودة بس مش جاهزة.. أنا مكنش ينفع أجيب أخويا و عمامي و نيجي نتقدم لـِ “روان ” يعني على أي أساس حضرتك كُنت هتوافق و أنا لسه شاب في مقتبل حياتي، عشان كده جيت لوحدي أترجى حضرتك ما توافقش على أي حد يتقدم لها لحد بس الأمور تظبط معايا و اجي أتقدم رسمي إن شاء الله، حقك تشوف بنتك مبسوطة في حياتها مع زوجها و تطمن عليها في بيته بس أنا والله العظيم بحبها و الظروف هي اللي منعتني اطلبها رسمي.. أنا ها اشتغل بجانب كُليتي عشان اجي اخطبها و ما يكونش برضو طولت في التأخير، لأني برضو على دراية إن للصبر حدود و روان زي أي بنت بيبدأ يجي لها عرسان لما تدخل الجامعة و البنات معروف إنهم بيتزوجوا بدري عننا إحنا الشباب، بالله عليك وافق عليا من حيث المبدأ ده و أنا اوعدك اشتغل و اجيب أخويا و عمامي و نيجي رسمي، ممكن استلف فلوس الشبكة.. بس أنا عاوز دبلتي اللي ها تبقى في ايد روان إن شاء الله من تعبي و شقايا، عشان أحس إني استاهلها فعلًا.. قولت إيه ؟ يعني إيه رأي حضرتك ؟ ”
كان ” حافظ ” على معرفة سابقة بهذا الشاب، فقد أخبرته ابنته و زوجته بالأمر مُنذُ أن كانتا الاثنتين ذاهبتانِ للخياطة القابعة في الحارة التابعة لعائلة الخياط.. علمَ بل و أدرك من حديث ابنته عنه أنها أيضًا واقعة في غرامه، و لكن خوفًا من الله تحبس هذا الحُب بداخل قلبها الدافئ، و لأن حافظ يتخذ ابنته الوحيدة صاحبةً له فكان يسمعها باهتمام و بلُطف؛ حتى لا يشعرها بالخوف منه..
هذا الرجل لم يكمل تعليمه و لكن الدُنيا علمته الكثير و الكثير، الحياةُ و خبراتها لا تتوقف على الشهادات الدراسية، بل إن الدروس الحياتية التي تعطيها لنا الأيام أهم بكثير من دروس المدرسة و الجامعة.. تنتهى الشهادات عند مرحلة معينة و تبقى دروس الحياة مستمرة معك للممات، و من الصفات و الطباع التي اكتسبها ” حافظ ” على مدار خمسون عامًا، كانت صفة التفهم و التقَبُل لواقع الأمور.. يعلم جيدًا أن الحُب من أجمل المشاعر التي يحظى بها الإنسان و هي هبة و نعمة من الله يهبها لمن يشاء، و قد رُزقت بها ابنته البتول تجاه زُمرد العينين الفتى المثابر الخلوق، و لا يسعه أن يهزم ذلك الحُب بوضع العوائق و العواقب في طريقهما، بل سـَيُسهل عليهما الارتباط الشرعي إذا كانا يُحبانِ بعضهما بحفاوة هكذا.
اعتاد ” حافظ ” أن يرى الأُمُور من الوجْهَة الحَسنة، فقال:
” وعد الحُر دين و الدين لا يسده إلا الرجال، يعني ينبغي أن يوفّي به و أنت رَجُل محترم و واثق بإذن الله إنك قادر على السداد ”
عقب قول ” حافظ ” ذلك و الذي يوحي بالموافقة على المبدأ، استقام و اعتدل ” سيف ” في مجلسه باستيعاب بطيء من الدهشة لم يقدر على إخفائها بقلبه و تجلت راقصة على ملامحه الغربية الجميلة، فبدا أحمقًا مُضحكًا و همّ عقله في تَرْكِيبِ الخيالِ و تَنْسِيقِهِ بزفافه منها، و قبل أن يغوص شاردًا في ملامحها بعينيه التي بدأت ترسل القلوب في أرجاء حجرة المعيشة، أيقظه
” حافظ ” باسمًا بقوله:
” بس اللقاء السري ده يفضل سري بينا لحد ما ربنا يريد ”
أومأ ” سيف ” في سعادة و انشرح قلبه هاتفًا:
” ده أكيد يا أستاذ حافظ، حضرتك مش متخيل أنا فرحان ازاي.. هاين عليا أقوم ابوسك والله ”
” نعم ! ”
تراجع ضاحكًا:
” أنا فرحان أوي والله ربنا يخليك للغلابة ”
انفجر ” حافظ ” في ضِحكٍ مُتواصِل و بصوت عالٍ من ارتباك ” سيف ” و إلقائه للكلمات دون حسابٍ لها، مما شاركه سيف الضحك هامسًا لنفسه:
” قوم روح أحسن بدل ما تنيل الدنيا ”
صات صَوتًا واطئًا بخجل:
” استأذن أنا بقى بعد إذن حضرتك ”
” اشرب العصير الأول ”
قالها في ودٍ، مما جلس سيف و أكمل كوبه ليس طاعةً للرجُل، و لكن لأنه أعجبه مذاق العصير.
_________
في شقة الثلاثيني الحازم، تلك الشقة التي تُوحي بتواضعها من الخارج، و لكن إذا حالف الحظُ جَنابُك و دَخلتُها سـَتغرق حواسك في تفاصيلها المبهرة و الأنيقة، كأنك بداخل متحف خاص للتُحف سوداوية اللون فقط.. عشقه للون الأسود فاق الحدود، فتجد الأرائك مزيج بين اللوني الأسود و الفضي، و الفراش أسود رائع ذو تطريزٍ مخفف بلون الذهب من الحواف، أما الجدران و الأعمدة في منتصف الصالة الشاسعة نجت بنفسها من اللون الأسود ليُصبح لون البعض منها أزرق سماوي و الآخر رصاصي متنوع ما بين الداكن و الفاتح مع بعض الديكورات الحجرية في الحائط، لإضفاء لمسة من الحيوية على المظهر مثل السقف المُعلق و غيره، و كأن المرء إذا جلس لدقائق بها يظن أنه جالس داخل إحدى اللوح الفنية العائدة لـِ ” بيكاسو ” أما في هذا البَهْو الباهر تَكْثُرُ الأَنْتِيكة من كلّ صنف، و كلها غالية الثمن رائعة و جذابة المظهر..
العجيب في الأمر أن ” كريم ” لم يكتفْ بجعل الأسود هو السائد في شقته الواسعة، بل امتد الأمر و وصل لملابسه و كأن هذا اللون قد سحره سحرٌ أسود خاص، أو بينهما علاقة لا يفهمها غيره.
ها هو الآن يقف بطوله الفارع يُطعم بلُطف تلك الأسماء الجميلة و الملونة في حوض السمك الكبير الخاص بها، و بعدما انتهى ألقى عليها نظرة راضية مغزاها أن تلك الأسماء ملكية خاصة له فقط، يُطعمها متى أراد و تسبح في حوض مُحدد لها و ما عليها سوى طاعته في مواعيد طعامها و الاكتفاء بالمساحة التي تسبح فيها، دون شكوى أو أي اعتراض يصدر منها.
حُب تَملكه للأشياء يكبر يومًا بعد يوم، إذا أراد شيء و أحبه بشدة لا يتركه إلا عند قبض روحه..
اتجه بثباتٍ و بوجه جامد خالٍ من أي تعابير، ليعد فنجال من مشروبه المُحبب لنفسه؛ ألا وهي القهوة باللبن من النوع الفرنسي الرائع..
انتهى منها و جلس يشربها على ما يسمونه ( البار) وهو مجلس مفتوح على الصالة يكون فقط في المطابخ ذات التصميم الأمريكي، يسمونه هكذا لأنه يشبه ذاك الموجود في ( الحانات) و لكن “كريم” ليس بشارب خمرٍ؛ لأنه مُحافظ على الفرائض الاسلامية.
جاءته رسالة من تطبيق ( الواتساب) مُسجلة بإسم
( فراشتي لأبَدَ الآبدين) فور رؤية الاسم تهلل وجهه، و نحمد الله بدأت تظهر تعابير عليه وهي تعابير السعادة..
قرأت عيناه الرسالة القصيرة و التي محتواها
” روحت على الفاضي و المحاضرة اتلغت ”
لم يُكذب خبر و قام بالاتصال عليها، ليأتيه نبرة صوتها التي أسرت قلبه تقول برّقة و خفة الفراشة:
” السلام عليكم، إيه السرعة دي ؟ فكرتك مشغول ”
” ولو مشغول افضى لك ”
سمع صوت أنفاسها المضطربة و الخجولة دون ردٍ منها، فتابع يريد اشعال خجلها أكثر..
” أنا في الشقة، و بصراحة الشقة محتاجة لوجود فراشة في جمالك تكون فيها ”
” ماشي ”
همست بها في خفوت بالكاد استطاع سماعها، فضحك و قال:
” استنيني مسافة السكة و أكون عندك إن شاء الله، هاجي اخدك و نروح بيتكم عشان وحشتني عيونك الحوراء و طبعًا فراشتي منتقبة مش هعرف أشوفها قدام الناس ”
ردت في توتر فور سماعها أنه قادم لأخذها..
” لأ.. لأ ما هو.. أصل ها اعدي على روان زمانها خلصت محاضراتها هي كمان و نروح نشتري شوية حاجات لها و ليا ”
أَجْفَلَ الظَّليمُ عينيه الكهرمانية، و قال بنبرة حادّة بعض الشيء تعجبت هيَ لها:
” لأ، ها تروحي معايا.. أنا جاي أخدك، سلام ”
لم يترك لها مجال للحديث، و بالفعل نهض في ضيق بدا عليه فأظهر الجمود ثانيةً في ملامحه، و يبدو أننا لن نَخلُص من هذا الجمود لفترة طويلة.
ارتدى ملابسه المُرتبة و المكونة من بنطال قطعًا صرنا نعلم ما لونه، أما القميص نجا مثل ما نجت حوائط شقته من اللون الأسود، و أحرز هدفًا في مرمى اللون ( البيج) و على عجلة من أمره نثر عطره النشاز، ثُم أخذ مفاتيح سيارته و أغراض أخرى و قاد السيارة لمبنى كُلية ( الطب الصيدلي)
وقفت المسكينة تنظر بأعين بريئة كطفلًا صغير ينتظر عقابًا من مُعلمه، أصابتها الدهشة لنبرة صوته التي تغيرت فجأة فور رفضها طلبه، و لكنها لم تقصد الرفض بمعنى الرفض، كان غرضها أن تلحق بصديقتها لشراء بعض الأشياء، و لكن على نهج المُتنبي تجري الرياحُ بما شاءَ الإلهُ لها للهِ نحنُ و موجُ البحرِ و السُّفُنُ.
همسٌ بداخلها يخبرها أن ” كريم ” يريد أن يفصلها عن العالم ليكون هوَ عالمها فقط، يريدها ألا تشارك حُبها و قلبها البريء و مُزاحها و بُكائها مع أحد غيره، هو وحده من يحق له أن يسحب كل تلك المشاعر نحوه كما تسحب الرمال المتحركة جسد المارٌ عليها، و برغم أنها تحبه و تكن له جميع المشاعر الجميلة إلا أنها تتوجس خيفةً إلى الصوت الخفي في رأسها الذي يخبرها بشخصية كريم المالكة لكل شيء؛ فتصاب بالخوف كلما أوحى لها أنها مِلكٌ له هو فقط !
بعد أقل من نصف ساعة بسيارته السريعة وصل إليها، ليجدها تنتظره بمسافة قصيرة عند مدخل الجامعة..
أخذت تَرَقَّبَ ما هو مُقدَّر حدوثه بأعين خائفة، بينما هو أقبل عليها يمشي في صلابة، فقد عرفتها عينيه حينما وقعت عليها.
أخيرًا تبسم وجهه وهو يقترب منها، فليس من عادته في الحقيقة الطبع المقطَّب، و لكن الصفة المرضية و المندفعة في حُبه لامتلاك أي شيء يعجبه و يحبه و يروق له؛ تجعله أحيانًا فظ لا يُطاق و أحيانًا يستطيع التحكم في أنانيته..
” وحشتيني ”
قالها عندما وقف أمامها بحُبٍ اتضح في عينيّ الأشعة الشمسية خاصتهُ، فتبسمت في صمت و قلق منه..
أردف وهو يمسك يدها برّقة يجعلها تتأبطّ ذراعه:
” تعالي أجيب لك حاجة حلوة و نطلب دليفري يوصل لنا للبيت عندكم، أنا كلمت والدك على فكرة ”
صمتت لدقيقة تُفكر في ذلك الهاجس الذي يزورها كثيرًا بشأنه، ثم قالت:
” أنت بتخوفني، أنا بقيت أخاف منك يا كريم ”
فتح لها باب السيارة في المقدمة، و اتجه هو ليقود بصمت يفكر فيما قالته بعفوية نابعة من قلبها، جعلته يعترف لذاته المُحبة للتملك جازمًا أن العطاء حق خاص له فقط، و التضحية لا بُد أن تكون من أجله و ليس من أجل صديقاتها أو حتى عائلتها..
تحدث في هدوء أخافها أكثر:
” أنتِ حقي و أنا حقي مِن حقي يبقى حقي ”
رمقته بعين التعجب و الدهشة في صمتٍ يأبه لسانها على لفظ حرفٍ واحد.
زفرت بهدوء تُحاول الحديث معه بأريحية، قالت برّقتها المعهودة:
” حقك في حالة واحدة بس يا كريم، لما أكون أنا سجينة و أنت السجان ”
نظر لها نظرة جانبية تسبقها ابتسامة جانبية أيضًا بدت مخيفة بعض الشيء لفتاة رقتها تذيب الحجر مثل ” رُميساء ” ثُم أردف:
” و أنتِ خدتِ مؤبد في سجن كريم، مرحبًا بك”
دموع ترقرقت في عينيها الخائفة، و فضلت تلك المرة الصمت على المجاكرة، فـَكُلما تحدثت و أباحت بخوفها فوجئت بـِرَدٍ يُثير زوبعة من القلق و الخوف أكثر.
ما هي إلا لحظاتٍ مرت عليهما في صمتٍ شديد لا يخلو من صوت أنفاسهما المنتظمة من كريم و المُضطربة من فراشته.. طرد ذلك الصمت الغليظ بتلك القصيدة التي صدحت من مذياع السيارة، و التي تعود أبياتها إلى ” يزيد بن معاوية ”
أغار عليها من فمي المتكلمِ
أغار عليها من أبيها وأمها
إذا حدثاها بالكلام المغمغمِ
نظرت له بدموع ممزوجة بالحُب الصادق.. كم تُحب هذا المجنون ! أول رَجُل غريب في حياتها، لم يتسنَ لها الحُب من قبل، أو لم تعِش هذا الشعور الجميل سابقًا، و رغم اختناقها من أسلوبه الأناني معها؛ لم تستطع الكف عن حُبه..
أَعُدُّ اللَيالي لَيلَةً بَعدَ لَيلَة
وَقَد عِشتُ دَهرًا لا أَعُدُّ اللَيالِي
أُصلّي فما أدري إذا ما ذكرتُها
أثنتّينِ صلّيتُ العشاء أَم ثمانيا
تلك المرة ظهر صوته الرجولي بـِدندنة مع تلك الأبيات، التي أثارت القلق من معاملته لها في المستقبل.. هل سـَيُعاملها كما يُعامل ممتلكاته الخاصة ؟!
سألت نفسها هذا السؤال وهي تختلس النظرات له بين الحين و الآخر، بينما هو التفت لها مُستدعيًا التواصل البصري العميق و المطوّل بينهما باهتمامٍ وتمعّنٍ، و قال على طريقة (قَيْسُ بْنُ اَلْمُلَوَّحِ):
(لو كانَ لي قلبان لعشت بواحدٍ وأفردت قلبًا في هواك يعذبُ، لكنَّ لي قلبًا تّملكَهُ الهَوى لا العَيشُ يحلو لَهُ ولا الموت يقربُ )
” قيس بن الملوح كان مُلقب بمجنون ليلى، أما الآن لدينا كريم بن الكردي و الملقب بمجنون رُميساء..
و الله إنه لشيء مُضحك ! ”
لقد أحاطتها نظراته العاشقة و التي يظهر بها حُب التملك لديه واضحًا، مما لفت وجهها تجاه النافذة مُدركة تمامًا أنها أصبحت سجينة لديه و لن تستطيع الخلاص من ذلك الحُب الكِلف.
أوقف السيارة على مقربةٍ من سنترال للهواتف حديثة الاصدار، ثُم تَرَجَّلَ قائلًا:
” خمسة و جاي ”
” رايح فين ؟ ”
كان قد ابتعد قبل أن يصل سؤالها له، و اتجه جهة السنترال.. يمشي بهيبتهُ غير مُختال و لكن تلك مشيته، تبدو واثقة و مغرورة لمن يجهله..
انتبه له صاحب المحل قادم، فأسرع باستقباله بترحاب مُبالغ فيه:
” كريم باشا أهلًا و سهلًا، المحل نور والله يا باشا”
” شُكرًا، الطلب جاهز ؟ ”
” طبعًا يا باشا اتفضل اقعد ”
” لا مستعجل، خد اسحب فلوسك ”
قال جُملته الأخيرة وهو يُعطيه بطاقته البنكية لسحب المال المطلوب من أجل تلك الهدية الثمينة التي اشتراها خصيصًا لـِرُميساء، و التي في الحقيقة استغرقت أسبوعًا كاملًا حتى تجهز.
الهاتف الذي طلبه كان ذا إصدار حديث لم يسود في المتاجر بعد، و إنما يأتِ عن طريق وكيلٍ مُعتمد.
بعد لحظات أعطاه الرجل ( كوبون) بمبلغ السحب، والذي كان قدره خمسة و ثمانون ألف جُنيهًا !
” الوَيْحٌ للأغنياء ! ”
عاد يحمله في علبة الهدايا التي تم تغليفه بها، ثُم ركب سيارته تحت عينيها التي تأكلها من الفضول..
ظلت تُقلب بصرها بين ما يحمله و ما يظهر على ملامحه، و تساءلت بهدوء:
” إيه ده ؟! ”
” افتحي و شوفي ”
قالها بهدوء مماثل وهو يعطيها لها.. أخذتها و فتحتها لِـيُخيم الصمت عليها ثانيةً، و لكن تلك المرة بدهشة لم تكن في الحُسبان..
” ايفون ! ”
” أحدث إصدار، يارب لونه يعجبك ”
لقد أحضره بلونها المُفضل لديها و ليس لونه هوَ، الهاتف باللون الأزرق القاتم.. هل هذا يعني أنه يهتم للأشياء التي تحبها ولا يتحكم في ذلك أيضًا ؟ هل معنى ذلك أنه يهتم لأمرها و عشقه لها لم يقصد أن يصل لحد الوجْد و التملُك ؟!
ابتلعت ريقها استعدادًا لقولها:
” بس.. بس يا كريم مالوش لزوم، أقصد يعني.. بابا بعد نتيجة الثانوية جاب لي واحد جديد.. أي نعم مش أحدث حاجة بس شغال و تمام و مش محتاجة موبايل جديد ”
” أنا لما جبته ما أخدتش رأيك عشان تقولي لي الكلام ده ”
رمقته في صدمة من رده، و ظهرت العصبية عليها لتقول:
” أنا مش محتاجة هدايا يا كريم، مش عاوزة المعاملة بينا تتبني على أساس الهدايا و الماديات، أنا عاوزة المعاملة يكون أساسها الأمان، كريم أنا بحبك بس خايفة من تحكماتك الزايدة، عاوزة أحس بالأمان معاك.. أرجوك ”
قالت كلمتها الأخيرة في محاولة منها لاستعطافه.. تجاهل ما قالته و مد يده في المقعد الخلف يحضر علبة أخرى من الهدايا، و قال بلهجة رومانسية يشوبها الأمر:
” افتحيها ”
تأملته للحظات بغضب مُختلط بالحُزن منه، و فتحت الهدية لتجد نقاب أسود له غطاء طويل ينسدل ليحجب شكل العين تمامًا، فقط شبكة خلفية تمكنها من الرؤية ولا يرى الرائي عينيها.
قبل أن تنطق بكلمة، أردف وهو يستعد لقيادة السيارة:
” عيونك ليا أنا و بس ”
ضغطت على أسنانها بغيظً، و ظلت تتنفس في حدة هامسة لنفسها:
” أنا هقول لبابا.. مش ها اسكت هقول لبابا ”
” طلعي الشريحة من الموبايل القديم حُطيها في في الجديد ”
قالها بهدوء استفزها.. نظرت له برفض و قالت:
” دي هدية من بابا و ذكرى نجاحي في الثانوية، مش عاوزة ابدله ”
” و أنتِ دلوقت على ذمتي، يعني حياة جديدة معايا ”
” كريم.. أنت ملكش الحق تحرمني من أهلي و من أي شيء يخصهم، دول أهلي فاهم ! يعني اللي ملوش خير في أهله ملوش خير في حد.. أنا بجد بجد بقيت مرعوبة منك مش خايفة بس ”
” متخافيش، كل اللي أنا عاوزه منك تكوني بنت شطورة و مطيعة ”
ثم التفت لها و تابع بنبرة حادة عكس تلك النظرة العاطفية في عينيه:
” تعرفي تكوني مُطيعة ؟ ”
” أنت مش طبيعي بجد ”
همست بها في خفوت قد وصل لمسامعه بالفعل، ولكنه تجاهله عن عمدٍ.
ترجل من سيارته أمام بيتهم، و استدار بهدوء يفتح لها الباب؛ لتنزل ناظرة له بغضب مُسرعة للدخول للمنزل و كأنها وجدت النجاة منه أخيرًا.
قابلت والدها في الصالة، و ما أن رأته ارتمت في حضنه باكية في صمت، فتساءل في خوف عليها:
” حبيبة بابا في إيه ؟! ”
صممت للحظات فور أن وصل لأنفها رائحة عطر
” كريم ” يدخل من باب البيت، ابتعدت عن والدها قليلًا و هزت رأسها بنفي:
” ما فيش حاجة يا بابا، أصل جو الكلية غريب عليا و المناهج شكلها ما يطمنش ”
ربت والدها على ظهرها بحنوٍ و ضمها إليه قائلًا:
” ده الطبيعي في سنة أولى في أي كلية يا حبيبتي، الخوف و التوتر مش ها يفيد بحاجة غير إنه يخليكِ فاقدة تركيزك و تتعبي أكتر، بنتي قوية و اعتبري دي معركة و تحدي نفسك تكسبيها، و أنا جنبك يا حبيبتي ها اساعدك في المذاكرة ”
رغم أن كلام والدها لم يكن له علاقة بـِأُس الموضوع، و لكنه ترك أثرًا آمنًا و طيبًا في قلبها..
شاهد ” كريم ” هذا المشهد البريء بعد ما دخل، و بالطبع شعر بالغيرة الشديدة عليها من سماعها هذا الحديث الآمن من والدها وليس منه هوَ، شعر بالغضب من نفسه لعدم استطاعته توصيل تلك المشاعر إليها مثلما يفعل والدها، و لكنه يعشقها حقًا و هذه هي طريقته في التعبير عن مدى شغفه و عشقه بتلك الفراشة الصغيرة.
لقد وصل دليفري الطعام الذي طلبه من أحد المطاعم السورية الراقية قبل وصولهما بربع ساعة، و قامت حماته بتجهيزه لهما على طاولة متوسطة في غرفة استقبال الضيوف..
صافح والدها ” كريم ” و جلس يتحدث معه عن أحواله، بينما ” رُميساء ” راحت تلقي التحية على والدتها و أخواتها، ثُم اختفت في غرفتها تبدل ملابسها و اتجهت للحمَّام تأخذ دُشًا باردًا تزيل به أثر الارهاق و التفكير عليها.
ها قد انتهت بعد نصف ساعة قضتها في حوض الاستحمام ” البانيو ” شاردة الذهن بعمق مُتناسية ذاك الذي ينتظرها في الخارج على أحر من الجمر، أما والدتها استدعتها أكثر من مرة و في كل مرة تُجيب بأنها ستخرج بعد خمس دقائق، و أصبحت الخمس دقائق ثلاثون دقيقة !
خرجت أخيرًا مُرتدية بنطال جينز و تيشيرت أبيض عليه رسومات كرتونية، اتضح فيما بعد أنه يعود لشقيقتها الوسطى، و لكنها لم تنتبه لذلك و تناسب التيشيرت مع جسدها الضعيف من كثرة التفكير و الأرق.
اتجهت لغرفتها غير مُبالية تمامًا لانتظار ” كريم ” بالخارج.. بدأت في تجفيف شعرها المُبْتَلّ بمجفف شعرٍ، كان قد أحضره والدها لبناته اللَّواتي يتميزن بشعرً ثقيل و طويل ( بفضل الجاز في طفولتهم).
أصبحت رائحة عطره قريبة منها للغاية،
أيُعقل أن عقلي يتهيئ وجوده معي الآن !
بالفعل فوجئت به يأتِ من خلفها في صمتٍ مريب، ثُم أخذ المجفف منها و بدأ يجفف شعرها الذي كَومهٌ في قبضة يده بلُطف؛ كأنه بنظراته العميقة تجاهه يخبره ( أنك أيضًا تخصُني).
تأملت انعكاس صورته في المرآة أمامها تاركة المجال له رغمًا عنها يفعل في شعرها ما يشاء..
تحولت نظراتها الخائفة منه إلى ابتسامة صغيرة بعد دقيقة من تجفيفه لشعرها عندما وجدته يتعامل معه برّقةٍ ممزوجة بالحُب و الخلاص في الحُب..
تلك المرة لم يظهر عليه أي علامات للامتلاك، فقط نظرات الحنان و الحُب هي المسيطرة، و كأنه بذلك يثبت غيرته من طريقة والدها الحنونة تجاهها و يريد أن يفعل مثله؛ حتى لا تحتاج لحضن والدها بعد الآن !
انتهى مما يفعله، و راح يُمشط شعرها ببطء و بحذر مثلما فعل مُنذ قليل، ثُم تساءل باسمًا:
” تحبي أربطه ازاي ؟ ”
” ديل حُصان ”
فعل ما طلبته منه، فاستدارت له باسمة:
” ممكن تخليك كده على طول ؟ بلاش الطريقة التانية ”
ابتسم دون ردٍ، و اصطحبها من يدها لغرفة الطعام تحت أنظار والدها الذي كان يراقبهما عن بُعد، رغم ثقته التامة في كريم بعدم تخطيه الحدود مع ابنته؛ حتى تذهب لبيته و تكون زوجة شرعية له، و ليس فقط مكتوب كتابهما.
قال كريم بنبرة مرحة أذهبت الخوف بقلب رُميساء:
” فراخ مشوية بالطريقة السوري و معاهم التومية اللي بتحبيها ”
اتسعت ابتسامتها و شكرته، ثم ذكرت اسم الله و بدأت تأكل في رقة..
الحقيقة ليست من الفتيات اللواتي يتصنعنّ الرقة أمام أزواجهن أو أمام الغرباء، هيَ فتاة رقيقة بطبعها، حساسة للغاية.. أثر الكلمة تتحكم في مزاجها، ضحكتها رقيق و حُزنها رقيق حتى في بكائها و مُزاحها، تأكل الطعام بكل رّقةٍ كأنها تخشى عليه من المضغ أو ما شابه !
تأخذ بالملعقة بضع حبيبات من الأرز الأصفر بقدر حجم فمها و تأكله في بطء..
أما هوَ يأكل طعامه و عينيه نُصْب كل تركيزها على كُتلة الرّقة التي تجلس أمامه تأكُل بِلاَ تَكَلُّفٍ وَلاَ تَزْيِينٍ أَوْ تَزْوِيقٍ، تجعل صرامته تذوب ذوبان السُكر في الماء.
فجأةً و بدون سابق إنذار تركت الملعقة من يدها، و هتفت مُتذكرة حديثهما في السيارة:
” أنا خايفة ”
لقد قرأت في الروايات أن الرجل الذي لديه حب تملك، لا ينفك يتلذذ بتعذيب و ضرب محبوبته، هل هكذا سيكون التعامل بعد ذهابها لبيته ؟
هل سيضربها مثل هؤلاء الرجال المختلين عقليًا، هل كريم مثلهم أيضًا مُختل ! أم أنه لعشقه الشديد لي على هذا الأساس يتعامل ؟
و إن كان.. لا يمكنه التحكم في بتلك الطريقة الخانقة، أنا لست جماد !
هكذا دار الحوار بينها و بين ذاتها وهي تبتلع الطعام ببطء و خوف، مما نتج عن ذلك تركها للملعقة فجأةً و هتفت ببراءة مميتة:
” أنا خايفة ”
( ذكرني ذلك المشهد، ببديعة ابنة ريا عند استجوابها من قبل وكيل النيابة، عندما تركت الطعام من يدها في فزع و هتفت:
” أنا خايفة من أمي و جوز أمي و خالتي سكينة يموتوني “)
وجه رُميساء الآن يشبه وجه بديعة البريء و المذعور.
” رُميساء، أنا عارف أنتِ بتفكري في إيه.. أنا مستحيل مستحيل أمد ايدي عليكِ، الراجل اللي يمد ايده على مراته و حبيبته أو أي كائن أضعف منه عامةً يستاهل الحـرق، و يتسحب منه لقب رجل.. أنا.. أنا عشان أكون صريح معاكِ، مش ها اقدر اتخلص من طريقة حُبي ليكِ، بس أوعدك إني أسعدك بأي شكل كان و أعرف أحسسك بالأمان اللي بتدوري عليه معايا ”
قالها بصدقٍ نابع من قلبه، فتساءلت:
” أعتبر ده عهد بيني و بينك ؟ ”
” للأبد.. بيني و بينك لأبد الآبدين ”
قالها ضاغطًا على كل حرف من الكلمتين الأُخْرَيَيْن، فأعادت النظر في طعامها تأكله بخوف عاد لها ثانيةً.
مرت ساعات لم يشبع بعد من جلوسه معها و محادثتها بشأن ما تحبه و تكرهه؛ حتى يستطيع الوفاء بعهده إلى أن رنّ هاتفه بإسم
” اللواء عزمي” فغادر تاركًا إياها تُذاكر بعض من موادها الجديدة عليها.
أجاب عليه، وهو يتحرك بسيارته:
” ايوه يا عزمي باشا.. القسم نور والله، أنا جاي في الطريق أهو.. مع السلامة ”
_________________
( ليست مُجرد وَرْدَة جميلة، هي تَنحَدِر مِنْ سُلالة
وَرْدَة ديفيد أوستن التي وهبها اللّٰه جمالًا أَخَّاذ للعقول. ” لـ نرميـنا ” ).
~~~~~~~~~~~~~~~~~
موسم عودة الطُلاب للجامعات و المدارس، هو أكثر موسم مُتعب و مُرهق عليهم، كان الله في عونهم.
تنتهي محاضرات ” وردتنا الحمراء ” و تخرج برفقة صديقاتها، تضع يدها خلف ظهرها بتعب، فهي الآن تحمل ذكر و أنثى في الرَّحم الذي أخذ حجم التوأم و صار حجم البطن ملحوظ.
رغم أنها في السنة الثالثة لكلية الفنون الجميلة و شارفت رحلتها الجامعية على الانتهاء، إلا أن هذا العبء أصبح ثقيلًا جدًا عليها؛ عندما علمت بحملها خاصةً في طفلين.
وقفت لدقائق تنتظر زوجها وهي تُسبح الله على مسبحة الاصبع، حتى اتضحت سيارته من بعيد و رسم وجهها اللطيف تلقائيًا الامتعاض، مُتذكرة ما حدث صباحًا بينهما وهو يصلها للجامعة.
فتح لها باب السيارة بابتسامة مشتاقة و ركبت دون أن تبادله ابتسامتهُ، ليقول وهو يتحرك بالسيارة تجاه بيتهما.
” وحشتوني ”
” ملكش دعوة بيا ”
” أنا بقول لعيالي مش بقول لك أنتِ ”
” امم عيالك ! طيب ماشي ”
اقترب منها مازحًا، ثُم أضاء خدها الغاضب بـِقُبلة تلاها قوله:
” و أم العيال وحشتني أكتر ”
” و أنت كمان وحشتني، بس برضو ملكش دعوة بيا ”
قالتها بغضب حقيقي بدا مُضحكًا بتلك الشفتين اللاتين مطّـتهُما بانزعاج.. قال ضاحكًا في توسُل:
” حقك عليا يا وردتي، أنا آسف والله ”
” زياد.. اسكُت أحسن لك عشان ما اخليش العصافير تلف حوالين دماغك ”
همس في دهشة وهو يعتدل مكانه:
” إيه شُغل توم جيري ده ! ”
وصلا البيت، و نزلت تخطو خطواتٍ سريعة للداخل، مما خاف عليها و هتف يستوقفها:
” امشي براحة أنتِ شايلة اتنين ”
استدارت تقول بصوتها الغاضب
” اصمت و إلا أرسلتك للدار الآخرة ”
” ماذا ! قصدي إيـه ! ”
دلفت للداخل و دلف وراءها يترجاها في مسامحته، مما تجاهلته و اتجهت لحماتها تشكو لها:
” ماما.. خلي ابنك يبعد عني عشان أنا زعلي وحش ”
جاء من خلفها يقول ببراءة:
” جوزك حبيبك اللي بيحكي لك حواديت كل يوم، تبعدي عنه ؟ ”
رمقته بتحذير ألا يُكمل، فهي بالفعل لا تدعه ينام إلا بعد أن يحكي لها الحكايات، و كأن بحملِها حدث تصادم في الهرمونات لديها..
يبدو أن الصغيرين يَتَشَاجَرَانّ في الداخل و هذا أثر على عقلها.
تساءلت ” سارة ” بقلق عليهما:
” أنتم زعلانين مع بعض ولا إيه ؟ ”
” من الصبح و أنا بصالح فيها مش راضية.. اسأليها زعلانة ليه ؟ ”
ردت هاجر وهي تشير له بدموع حقيقية:
” ينفع كده يا ماما.. أقوله من يسكن البحر و يحبه الناس يقولي مش عارف !! ”
استدارت له بعصبية و تابعت في جدية:
” اسامحك ازاي بعد ما سألتك من يسكن البحر ويحبه الناس و قولت لي معرفش ! ”
وضع ” زياد ” يده على فمه يكتم صوت ضحكته، فَهاجر الآن أخذت الأمر على محمل الجدية، أما سارة كادت أن تضحك، ولكن لحقت نفسها قبل أن تُرسلها ” هاجر و هرموناتها ” للدار الآخر مع ابنها.
في تلك الفترة و مع ضغط المحاضرات عليها، أصبحت حساسة للغاية، تضحك لأتفه الأشياء و تبكي لأتفهها.
” بس أنا بجد مكنتش عارف الصبح، بس دلوقت عرفت.. السمك ”
” السمك ده اللي أمك بتنضفه لك عشان ما بتعرفش تاكله لوحدك.. لا مؤاخذة يا ماما ”
” لا يا حبيبتي خُدي راحتك ”
بعد مدة طويلة من الجدال، استطاع ” زياد ” الفوز برضاها أخيرًا.. فليُعطيك الله الصبر يا زياد على تلك الهرمونات المُختلة.
_____________
الآباء الحقيقيون هُم أحنّ شيء خُلق على وجه الكرة الأرضية .
~~~~~~~~~~~~
عادت ” روان ” للبيت بعد يوم شاق في كلية تربية طفولة من ازدحام و سباق الطلاب على شراء الكُتب الجامعية و أيضًا المواصلات العامة، و لكنها نفدت من المواصلات بسبب السيارة التي أهداها لها والدها.
بعد الرسالة التي وصلتها من ” رُميساء ” تخبرها بذهابها مع زوجها، قادت هيَ سيارتها و عادت للبيت.
ألقت التحية على والدها و قَبلتُه من خده و كذلك إيناس، ثُم بدلت ملابسها و ألقت بجسدها المتهالك من التعب على الفراش.. تركها والدها ترتاح قليلًا و دلف لغرفتها بعد استئذانها في الدخول.
جلس بجانبها و طوق كتفيها في حنانٍ، فأراحت بدورها رأسها على كتفه قائلة بتعب:
” كان يوم متعب أوي يا بابا، الحمدلله عرفت أجيب الكتب قبل ما تخلص ”
” الحمدلله.. احكي لي بقى يومك كان عامل ازاي غير موضوع الكتب ؟ ”
ابتسمت و أخذت تحكي له تفاصيل اليوم، ثُم أخرجت من حقيبتها ايراد الشهر الخاص بروضتها، و قامت بتقسيمه لأجزاء أمام والدها..
” دي فلوس الحضانة، بُص يا بابا.. أنا هقسمها لأجزاء.. جُزء يبقى صدقة عشان ربنا يبارك لي في شغلي و رزقي، و جُزء لبرهومي حبيبي لما يطلع من الحضّانة إن شاء الله ناوية اغرق اوضته لعب و أجيب له لبس على ذوقي، و جُزء مصروف ليا و جُزء بعد إذن حضرتك يعني أجيب بيه حاجات حلوة لأخواتي من ماما، عشان حضرتك عارف إن زوجها اتقبض عليه تاني وأخد اعدام وهي دلوقت لوحدها و أخواتي يعتبروا أيتام ”
مسد والدها على شعرها في حنانٍ و قال:
” من غير ما تاخدي إذني اعملي اللي شايفاه صح”
اتسعت ابتسامتها و عانقته..
” شكرًا يا أحلى بابا ”
” بما إننا أصحاب فأنا عاوز أتكلم معاكِ في حاجة بدون احراج ”
أردفت في تفكير لقوله..
” اتفضل يا بابا طبعًا ”
” مُتأكدة من حُبك لسيف ؟ ”
صمتت للحظات تخفض بصرها بخجل، ثُم أومأت بأعين صادقة:
” قلبي مش عاوز غيره يا بابا ”
” و أنا وعد مني إن شاء الله إني أجمعكم مع بعض في حلال ربنا، أنا يهمني سعادتك يا نور حياة أبوكِ ”
أدمعت عيناها بسعادة تلقائيًا و عاودت احتضانه هامسةً بامتنانٍ شديد:
” شكرًا يا بابا شُكرًا، ربنا ما يحرمنيش منك أبدًا”
” ولا يحرمني منك يا بنتي ”
_______________
( ليست امرأتي فقط، و إنَّما حبيبتي و طفلتي و صديقتي و الضَلِعَ الذي بدونه تَعَوَّجٌ أَضْلُعِ)
لـ ” نرمينا ”
~~~~~~~~~~~~
عاد ” بدر الشباب ” من عمله بعد يوم شاق كباقِ الأيام التي مرت عليه في تعب كان فيها كادح و مجتهد لأبعد حد في مشروعه، الذي يربط بين تجميع السيارات المتهالكة لاعادة تصنيع سيارة بنظام طيران آلي لم يتجرأ أحد و يفكر في مشروع ضخم و غير منطقي مثل هذا، و لكن
” بدر ” لشدة شغفه بعلم الميكانيكا أبدع قدر الامكان في تصميم هذا المشروع، الذي سيجلب له الرزق الوفير بمشيئة الله.
وفر له ” المهندس مرتضى ” الامكانيات اللازمة و العمال المَهَرَة أيضًا لمساعدته في الانجاز و يكونون تحت اشراف ” بدر ” فقط.
كما تقابل ” زين ” مع عمه و قابله بترحاب كبير، و بدأ أيضًا العمل في الشركة التي يديرها صديق عمه.
أما ” سامح ” فقد فُضح أمره بعلاقته مع السكرتيرة ” سُهى ” عن طريق كاميرا المراقبة التي وضعها مرتضى في مكتبها دون علمٍ منها؛ لسوء ظنه بها، و ها قد رجحت ظنونه و اتضح أنها تحمل جنينه في رحمِها.
فكانت آخر جملة قالها مرتضى لسامح قبل أن يتم ارسال الأخير لمؤتمر خاص بالشركة الأم..
” لأ أنت مش ها تروح المؤتمر، أنت ها تروح جهنم ”
و بالفعل زَجّ به لخارج البلاد بتلك الواسطة القوية التي يملكها، فأصبح سامح محكوم عليه بالنفي للأبد و إذا فكر في الرجوع يتم القاء القبض عليه، و لم ينسٰ ارسال ” سُهى ” معه.
فضل ” مرتضى ” النفي عن القتل؛ لأنه لم يسبق له و لوث يده بدماء أحد أيًا كان مَن هو، عوضًا عن ذلك هو في النهاية والد أحفاده، و لكن الأهم الآن أن سامح لم يعد موجود و لن يجرؤ على فعل أي شيء بعد الآن.
كانت ” عائشة ” قد عادت أيضًا من كُليتها قبله بساعة، و ساعدت حماتها في اعداد الطعام.
ألقى بدر عليهما التحية و تساءل عن سيف، فأخبرته أمه أنه ذهب للجامعة.
لثم قُبلة صغيرة على خد زوجته، ثُم دلف لأخذ حمَّامًا يُزيل به جُهد اليوم الجهيد.
وبعد تناول طعام الغداء و شُكر الله، فجر لهما “بدر” مفاجأة جعلت ابتسامتهما من الأُذن للأذن
” جاي بكرة معاكِ يا عائش الكلية إن شاء الله عشان أقدم ورقي ”
” بجد !! ”
أومأ ضاحكًا:
” و نروح و نيجي و نذاكر مع بعض يا جميل ”
” طب وشغلك ؟ ”
” أنا ها اروح أحضر الأيام المهمة بس، و ممكن اذاكر في البيت و أحضر الامتحانات و خلاص ”
قالت مُفيدة باسمة:
” ربنا يوفقكم يابني، فرحتني والله أخيرًا ها تحقق حلمك ”
” كان أول و أهم أحلامي إني اتزوج من عائشة، و الحمد لله اتحقق ”
قالها غامزًا لعائشة التي بادلته الابتسامة بحُبٍ صادق مُخلص.
نهضت ” عائشة ” تُشغل الغسالة، مما انتهز
” بدر ” الفرصة و انفرد بوالدته يقول لها في خفوت:
” ماما.. في موضوع مهم لازم اتكلم معاكِ فيه ”
ردت بقلق:
” خير يا بدر ”
ألقى نظرة اختلاس على عائشة، و بعد أن اطمأن بانشغالها.. قال:
” أنا عايز أعمل فرح لعائش ”
انْكَمَشَ حاجبها و تساءلت بعدم فهم:
” تعمل فرح ! مش فاهمة ! ”
” بصي، أنا عامل حسابي إن شاء الله الفلوس بتاعت المشروع أعمل بيها كذا حاجة.. أنا عملت جدول بالحاجات دي.. البيت بتاعنا ده كلها ها اعيد ترميمه إن شاء الله و زين هو اللي ها يشرف عليه، في الوقت اللي البيت بيتبنى من أول وجديد ها نكون إحنا قاعدين في بيت عمي محمود الله يرحمه و ها اخد إذن عائشة طبعًا، و إن شاء الله هيكون فيه جزء كبير من الفلوس رايحة للصدقة و ها نطلع عُمرة أو حج سوى، المشروع ده بإذن الله ها ينقلنا نقلة تانية خالص و أنا كُلي ثقة بالله إنه ها ينجح، بس حق عائش لازم يطبق زيها زي أي بنت.. ها اعمل لها فرح اسلامي محصلش و كل اللي تطلبه ها يتنفذ إن شاء الله.. ”
استمعت له مفيدة بفم فارغ باستيعاب بطيء،
و قالت:
” ها تعملوا فرح ازاي و أنتم متزوجين أصلًا ؟ ”
” إيه المشكلة مش جديدة الفكرة دي ”
” ايوه بس أنا مش قصدي كده.. قصدي يعني.. إن.. إن افرض عائشة طلعت حامل، ها تعمل فرح ازاي ؟ ”
” ما هو ده الموضوع اللي عاوزك فيه و طالب منك تتكلمي مع عائشة، عشان أنا محروج بصراحة ”
قالها في خجل خفيف لامس نبرة صوته، و لكن من الواضح أن مفيدة استيعابها بطيء اليوم..
” أنت بتتكلم بالألغاز ليه ؟ أنا مش فاهمة حاجة”
تنهّد بتوتر قبل أن يردف:
” عائشة لسه بنت ”
” يا مُصيبتي ”
قالتها ” مفيدة ” في فزع ضاربة بيدها بخفة على صدرها، و أخذت تربت على كتف بدر بحزن:
” كان مستخبي لك فين يابني ده كله ”
اتسعت عين بدر يرمقها بذهول، فقد فهمته خطأ تمامًا، قال في دهشة:
” هو إيه ده اللي مستخبي لي ؟؟ ”
” طب أنت ما كشفتش ؟ عائشة قالت لك إيه طيب ؟! ”
” ينهار أبيض !! دماغك راحت فين ؟! ”
قالها وهو ينهض ليفرّ هاربًا مما تقوله.. قالت بنبرة شفقة:
” ربك ها يعدلها متزعلش نفسك، هي بتحبك و ها تصبر معاك ”
كاد أن يلطم وجهه وهو يقول بترجي:
” يا ماما افهميني بالله عليكِ.. عائشة أصلًا لسه عذراء ”
” يا مصيبتك يا أم بدر، هونها علينا يارب.. يارب اشفيه يارب.. يارب اشفي ابني ده غلبان ”
ظل يتأملها للحظات بصدمة قائلًا في نفسه بغضب حاول كتمه:
” الحمدلله إنه خلق كظم الغيظ و إلا كُنت خسرتك يا أم بدر ”
أشارت له بأن يجلس بجانبها:
” تعال يا حبيبي اقعد جنبي، أنا ها اقف جنبك و مش ها اسيبك غير اما تكشف و تخف ”
” اكشف و أخف ! أحمد.. أنا غلطان إني اتكلمت معاكِ.. سلام يا ماما ”
تركها و خرج يضحك بصدمة على ما تفوهت به أمه بدون قصد، أما هي همست بدموع:
” و أحمد كمان تعبان ! لا حول ولاقوة الا بالله.. ابني طيب و قلبه على صحابه مش على نفسه بس.. يارب اشفيهم ”
اتجهت لعائشة تواسيها، فوضعت يدها بحنوٍ على شعرها و قالت:
” عائشة حبيبتي.. بتعتبريني أمك ولا لأ؟ ”
تعجبت عائشة منها و قالت..
” ايوه يا ماما.. خير ؟ ”
” أنا كل اللي عاوزاه منك تصبري مع بدر، و ها يبقى كويس إن شاء الله.. هو غلبان و بيحبك والله ”
هتفت عائشة في قلق على زوجها:
” في إيه ؟ بدر فين ؟ بدر كويس ؟! ”
احتضنتها حماتها بشفقة، و أجابت:
” هو كويس بس مش كويس ”
” يعني إيه ؟ ”
” واحدة واحدة و الأمور ها تبقى تمام إن شاء الله.. بكرة ربنا يرزقكم الذرية الصالحة ”
ردت بعفوية:
” بس إحنا مش مستعجلين يا ماما ”
خفضت ” مفيدة ” رأسها هامسة لنفسها:
” يا حبيبتي شايلة و معبية ”
نظرت لها و تابعت:
” اسمهم ايه الدكاترة بتوع المواضيع دي ؟
آه.. دكتور نسا باين.. خدي بدر يكشف عند دكتور نسا شاطر، و إن شاء الله الشفا يجي على ايده ”
هتفت عائشة في دهشة غير مستوعبة اطلاقًا ما تهذي به حماتها:
” أخد بدر لدكتور نسا ! ”
” شوفوا واحد معروف بقى ”
” و أروح أنا بقى لدكتور مسالك بولية ! اللهم صلِّ على النبي دي احلوت أوي ”
قالتها وهي تكاد تفقد أعصابها مثل زوجها تمامًا.
_____________
وأشد من الحزن أن تخفيه وتبتسم، و أشدّ من أي شيء أن تبدي عكسه.
– زيد العريقي.
~~~~~~~~~~~~~~
” رحمة، يلا يا حبيبتي الأكل جاهز ”
جُملة قيلت من والدة ” منة ” تستدعيها بحنان لطعام الغداء، بعد مجيئها من صالتها الرياضية.
كانت تناديها أمها ” رحمة” لقد أرادت تسميتها منذ ولادتها بهذا الاسم، و لكن والدها كتبها في شهادة الميلاد ” منة” فانقسم ممن يعرفونها لقسمين، منهم من ينادونها “رحمة” و المعظم يعرفوها بـ ” منة ”
لذا فلنعتاد أي الاسمين، الاثنان متقاربين في المعنى..
لكنها تكره اسميها و تكره نفسها و تكره تلك الحياة البائسة، بل من المفترض مُنادتِها
” تعيسة ” لأنها تعيسة دائمًا بخلاف ما تظهره من قوة طوال الوقت.
خرجت في صمتها المعتاد الذي يلازمها طوال الوقت، لتجلس بجانب ( شمس) التي وافقت على خطبتها من ” رحيم ” و أقاموا أمس حفلة خطبة صغيرة و أنيقة كما أرادت، و هي الآن تضع محبس الخطبة في اصبعها الأيمن..
يجلس في قبالة الفتاتانِ والد شمس و الذي يعتبر والد ” منة ” أيضًا من معاملته الجيدة لها..
رجل الأعمال المعروف في الاستثمارات العقارية مثل الشركة التي أسسها ” أُبَيِّ ” و لكن
” مُنير الأنصاري ” أقدم في هذا السوق التجاري بكثير، فهو له اسمه المرموق بين رجال الأعمال، و لنكن واضحين.. هذا الرجل هو الذي يعمل ” زين ” في شركته دون معرفة أحد من عائلة الخياط بأنه والد شمس و زوج والدة منة، و حماه لرحيم أيضًا، فعندما أرسله ” بدر ” بمشاركة عمه
” مرتضى ” ليعمل في الموقع الخاص بشركات
” الأنصاري ” لم ينتبه ” بدر ” أنه والد الطبيبة
” شمس “.
نظام الطاولة عندهم مثل نظام الأكل في الطبقات العليا، فتجدهم لا يأكلون سوى لقيمات صغيرة حفاظًا على أجسادهم و بواسطة الشوكة و السكينة فقط.
” رحيم عازمنا على خروجة برا، تيجي معانا؟ ”
وجهت شمس هذا الحديث لأختها بلُطف، فهي على علم أنها تكره التجمعات في أي مكان..
ردت “منة” بلا مبالاةٍ لما يحدث حولها مِن أساسه:
” أنتِ عارفة إن مليش في الحاجات دي ”
” تعالي يا منة غيري جو حتى ”
” شمس.. سيبيني على راحتي ”
” لحد امتى ها تفضلي كده يا رحمة ؟ ”
قالتها والدتها بحُزن على حالة ابنتها الميؤوس منها، فقالت الأخرى في هدوء وهي تنهض بعد أن أنهت طعامها السريع:
” أنا داخلة أنام، جاي تعبانة.. عن اذنكم ”
قال منير بحزن عليها أيضًا:
” البنت دي لازم تتغير.. لازم تحب و تتحب و يبقى لها صحاب و بيت و أطفال عشان تخرج من حالة الانطواء اللي فيها دي ”
ردت الأم بأسى:
” ياريت يا منير.. ياريت ”
أسندت ” منة ” رأسها على الوسادة بحُزن يُصعب شرحه، و كأن حُزن العالم لم يجد مكان سوى قلبها الصغير ليَكتسيه و يُسيطر عليه..
رغم ما لديها من نشاطٍ و حيوية و حُب شغوف بالرياضة، إلا أن هذا الحُزن العميق ما نقص ذلك مما عندها من تلك الروحٌ النشِطة؛ إلا كما ينقص المِخيَط إذا أدخل البحر !
داهمت الذكريات السوداء رأسها كَكُل مرةٍ تحاول فيها النوم، فلا تستطيع بسبب تلك الذكرى المأسوية التي لا تبرح رأسها بتاتًا، و التي تتعلق بما فعله ( والدها و أصدقاءه) في طفولتها..
*****
كانت طفلة لها أحلام بريئة مثلها كمثل باقي الأطفال، بريئة الملامح ذات طموح كثيرة.. كانت طفلة مرحة و شقية دائمًا متحمسة للعب و المرح مع صديقاتها..
ذات يوم كئيب شمسه تغرب و تسحب معها أشعتها بحُزن، جاء والدها المدمن على الكحوليات و الخمور و لعب القمار مُصطحبًا معه ثلاثة من أصدقاءه السكارى، و في هذا اليوم تشاجرت معه زوجته و تركت له البيت، و أبت ” منة” أن تغادر معها حتى لا تغيب من مدرستها، فقد كانت من أنجب الطُلاب و أكثرهم حماس لحصة العلوم التي يذهبون فيها للمختبر لإجراء التجارب العلمية؛ لذلك تركتها أمها و غادرت هيَ..
كان والدها رجل فظّ معدوم الضمير و المشاعر، كل ما يهمه هو امتاع نفسه فقط.. بدأوا يشربون و يتعاطون المخدرات، ثُم أخذوا يلعبون ( الكوتشينه) في استمتاع و لهو، و بعد مرور نصف ساعة على هذا الحال المزري..
جاءت الصغيرة ” منة ” و معها دُميتها التي تأخذها معها عند اللعب كأنها و نيس دائم لها.. تزامُنًا مع قول أحد الرجال بنظرة انتصار للأوراق أمامه..
” أنا كسبت الرهان و مش هاخد منك فلوس ”
رد والدها وهو يسحب نفسًا من سيجارة الحشيش..
” اومال ها تاخد إيه ؟ ”
” بنتك ”
قالها و لعابه يسيل كالذئب المفترس، و الذي اتضح من نظراته لتلك المسكينة أنه مخبول بالتحرش الجنسي بالصغار، و يجد في ذلك مُتعة رهيبة لإشباع رغباته الشيطانية..
رد والدها بلا مبالاة و كأن تلك الطفلة ليست ابنته ولا تعنيه شيئًا البتة..
” اتفقنا ”
تقشعر جسد ” منة ” بهلع من نظرات ذلك الشيطان لها، و قبل أن تفرّ هاربة من أمامه.. لحق بها و حملها بقوة وهو يردد بقلب متحجر
” تعالي يا حلوة.. متخافيش.. ده أنا ها العب معاكِ ”
أغلق الباب، بينما تحاول الصغيرة الافلات من يده و تبكي في توسل قائلة ببراءة و عقلها لا يستوعب ما يحدث:
” لا يا عمو.. كده عيب.. سيب فستاني ”
” اخرسي يا بت ”
صاح بها الرجل مُتابعًا ما يفعله بعدم اكتراث لصراختها.. أخذت تنادي على والدها في رعب و فزع..
” بـابـا.. بــابــا.. الحقني يا بـابـا ”
لم تشعر بنفسها بعد ذلك، إلا وهي بين أحضان والدتها في المشفى تبكي بُحرقة على ما حدث لفلذة كبدها..
********
تَنهُد ثقيل و زفير قوي يخرج منها مع دموع غزيرة تنساب بتدفق من عينيها، التي كحلها الحُزن و الألم.. احتضنت وسادتها بضعفٍ لم يشهده و لم تدع أحد يشهده اطلاقًا، ثم أغمضت عينيها في محاولة بائسة منها للنوم.
_____________
( ‏أشياء لا تُشترى : صدق المشاعر، عفوية الحديث، والأصدقاء الأوفياء . لقائلها )
~~~~~~~~~~~~
فيما انقضى من أيامٍ و أشهر كان الجميع في انجراف دوامة الحياة، و لم يسع الوقت للتعرف على بيت و أسرة ” مُجاهد الخياط ” الابن الأكبر لرُشدي الخياط و أكبر أحفاد الخياط عن قُرب.
فقد حان الوقت الآن للتجسس على تلك الأسرة الجميلة.
” لين ” زوجة ” مُجاهد ” يهودية الأصل مسلمة الديانة، لا زالت تحتفظ بجمال الشباب و ريعانه في ملامحها التي تتميز بصفة الحُسْن فيها رغم اتمامها الخمسون عامًا، و قد ورث هذا الجمال الرباني أبنائها الأربعة خاصةً المشاكس ” قُصي”
تقوم الآن باعداد الطعام، و الذي يخلو من أي سعرات حرارية قد تزيد الوزن، فقط السعرات المطلوبة لصحة الجسد، فكل طعامهم إما مسلوق أو مشوي و طبق السلطة بأنواعه العديدة هو الطبق الأساسي على ( السفرة ) الخاصة بهم، و قد ربت و عودت أبنائها و زوجها أيضًا على ذلك؛ لذا تجدهم ذوِي صحة جيدة و جسد رشيق صحي يتميز بالنشاط الدائم.
و من الواضح أن نظام الأكل الصحي هذا يقوم بتطبيقه معظم الطبقات العُليا، تاركين لنا القتل و المبارزة بالنعالِ على آخر اصبع المحشي متبقي في ( الحلة).
فوق هذا البيت الواسع و المصحوب بحديقة جميلة حوله، كالتي عند ” مُصطفى ” و لكنها أوسع و أجمل.. أقام “قُصي” غرفة على السطح بواسطة ” والده ” للمكوث فيها بأريحية كلما شاء، تلك الغرفة واسعة من الداخل بها كل اللوازم كَالغرف في الفنادق..
قد بناها خصيصًا لاختراعاته و التجارب العلمية البسيطة التي يفعلها مع نفسه دون علم أحد.. عقله المخيف و الذكي يُهديه أفكار لاختراعات لم يفعلها عالم من قبل؛ لذلك صمم على دخول كلية العلوم خاصةً قسم الفلك، لأن اختراعه الذي عزم على تنفيذه يخص علم الفلك بأشكاله.
و الآن هو يمكث مع صديقه تُركي الأصل
” إبراهيم إيمير ” الذي تعلم اللغة المصرية العامية منه، لكن إذا وُضع في موقف محرج أو مخيف أو فيه توتر؛ يلفظ بلغته الأم تلقائيًا.
” عاوز اشتري لبس جديد، اللبس ده بقى ضيق عليا ”
قالها ” قُصي ” وهو يحاول ادخال التيشيرت جسده، ثُم زفر بضيق و ألقى به في غضب..
” طب أعمل إيه دلوقت بقى ؟ حتى لبس أُبَيِّ ضيق عليا، و أنت كمان لبسك ها يبقى ضيق بجسمك اللي شبه العيال ده ”
هتف إبراهيم في اعتراض يشوبه المزاح:
” أنا ! لا يا حبيبي أنا جسمي مثالي إنما أنت اللي بقيت شبه المصارعين، روح قدم في مسابقة كمال الأجسام أحسن ”
” الله أكبر في عينك، هو إياد الله يسامحه اللي طلع عيني من التمارين ”
” وحشني أوي.. ها يجي كتب الكتاب ؟ ”
” ها يجي الفرح إن شاء الله، بس على ما أعتقد مش ها يجي كتب الكتاب لأنه مش فاضي ”
بعد معاناة في البحث عن تيشيرت أو حتى قميص واسع.. وجد تيشيرت أخيرًا، بينما
” إبراهيم ” انشغل باللعب مع صديقٍ تعرف عليه اليوم.
نزلا الاثنان عندما وصل لمسامعهم صوت ” لين ” ينبئ بأن الطعام صار جاهزًا الآن.
جاء ” سيف ” و اتجه لبيت عمه ” مُجاهد ” يشارك قُصي آخر الأخبار الخاصة به.
دلف للبيت ثُم باتجاه المطبخ و فتح الثلاجة قائلًا لعمته التي تغرف الطعام:
” عطشان.. عمتو اعملي حسابي في الأكل ”
” من غير ما تقول يا حبيبي ”
قالتها في ابتسامة حنونة، و خرج هوَ ليُقابل أخاه ” قُصي ” و صديقه الجديد ” إبراهيم ” الذي شعر بالغيرة منه لقربه الشديد من قُصي.
جاء مُجاهد و استدعى بناته ” شهد التي تمر بمرحلة ضغط و اكتئاب بسبب الثانوية العامة، و ملك صاحبة الأربعة عشر عامًا التي بالكاد إذ رأيتها ظننت أنها لا زالت في المرحلة الابتدائية)
اتصل ” أُبَيِّ ” العريس المنتظر على والده و أخبره أنه سيتأخر في العمل ولا عليهم انتظاره على طعام الغداء.
جلسوا جميعًا على تلك السُفرة الطويلة، أخذت
” شهد ” طبقها و الشوكة و قالت أنها ستأكل في غرفتها وهي تُذاكر، أما الصغيرة ” ملك ” جلست بجانب والدها و على شمالها والدتها.
هتف ” سيف “عندما وجد طبقه فيه طعام قليل كالبقية وهو ليس معتاد على ذلك:
” ايه ده يا عمتو ؟ هو أنا بسنن ! أنا عاوز كمان ”
ضحكت و نهضت تحضر له المزيد:
” من عنيا يا حبيب عمتو ”
” بيني و بينك ياض يا سيف أنا نفسي أقول لها زيك بس خايف ”
قالها مُجاهد في خوف مصطنع من زوجته، فصاح ” قُصي ”
” و بابا كمان عاوز ”
” جاك بو، بيهزر يا لين يا حبيبتي أنتِ عارفة معدتي قد العصفورة ”
” يا كناري يا جميل أنت ”
” ما تتهد ياض بقى ”
هتف بها “مُجاهد” في خفوت عندما وجد زوجته تخرج من المطبخ.. وضعت لـ “سيف” طعام أكثر من البقية، فتبسم راضيًا و أخذ يأكل بنظرة انتصار يجاكر بها عمه.
أثناء ذلك الصمت الذي يَعُم مع بدء تناول طعام، هتف ” إبراهيم ” في عفوية شديدة:
” بعد الأكل ها اوريكوا البُلبُل بتاعي ”
وضع ” مُجاهد ” الشوكة من يده و رمقه في صدمة غير مستوعب ما قاله، بينما ” قُصي ”
سعل بقوة وهو يشرب الماء، و ظل يسعل بشدة كأن روحه تُسحب منه، نهض ” سيف” و ضربه على ظهره عدة مرات، وهو يقول بضحكاتٍ يُصعب كتمانها:
” انطق الشهادة يا قُصي، هيقولوا مات بسبب البلبل ”
هتفت ” ملك ” في حماس و ببراءة:
” أنا عاوزه أشوف بُلبُلك يا إبراهيم ”
” حاضر دقيقة و جاي ”
كانوا يعلمون عما يتحدث ” إبراهيم ” و تلك الضحكات التي دوت بسبب ردة فعل مُجاهد، الذي لم يكن على علم بالأمر.
جاء إبراهيم وهو يحمل قفص لبُلبُل جميل الخَلق
صغير أبيض الخدين كان قد اشتراه صباحًا، فَتنهّد مُجاهد بارتياح و وضع يده على جبهته يهمس:
” استغفر الله و اتوب إليه ”
كان إبراهيم يتحدث ببراءة، و لم يقصد ما فهمه عقل مُجاهد المُتَّسِخ..
أنهوا طعامهم و قبل صعود الثلاثة شبان للسطح، أردف مُجاهد يوجه حديثه لابنه:
” أنتم بتعملوا إيه فوق ؟ مش تبدأوا مذاكرة بقى ! كتب كتاب أخوك مع امتحانات الميد تيرم و ها تنشغلوا عن المذاكرة، اجدعنوا دلوقت أحسن ”
” أنا معايا واسطة ها اذاكر ليه ! ”
قالها إبراهيم بلا مبالاة و تابع سيف:
” ها نذاكر يا عمو متقلقش ”
عندما وجد قُصي صامتًا، سأله بغضب:
” و أنت يا اخويا ! إيه الدنيا ؟ ”
” ها اذاكر ليه و أنا المنهج موجود على شريحة في دماغي ”
” ليه.. فاكر نفسك اللمبي تمانية جيجا ؟! ”
لم يستطيع إبراهيم منع نفسه من الضحك و سبقه سيف، فنظر لهما قُصي في توعد:
” بتضحكوا ! ماشي يا خونة ”
عاد والده يقول:
” ذاكر يا قُصي، أنا مش بهزر.. بلاش تعتمد على دماغك بس ”
” بابا.. أنا مليت من كُتر ما بطلع الأول، سيبني أجرب شعور الملحق في مرة ”
” أنت ها تستعبط ! جاي تقول الكلام ده في آخر سنة ليك ؟! ”
” ريح دماغك، ها اطلع السنة دي الأول برضو و ها تشوف ”
قالها في ثقة، ثم صعد للسطح يرافقه الآخران.
و ما إن جلسوا استعدادًا لخوض معركة من
” البلايستيشن ” قال سيف باسمًا:
” روحت لحمايا و عرفته كل حاجة و وافق ”
رمقه قُصي بعدم تصديق:
” بتهزر ! ”
” لا الموضوع بجد ”
” أنت بتحبها أوي للدرجة دي ! ”
أومأ بعيون لمعت بهما مشاعر الحُب الصادقة:
” أنا مدلوق عليها.. زي ما بيقولوا كده غرقان لشوشتي ”
” ربنا يجمعك بيها قُريب على خير يا سيف ”
” يارب.. عقبالك لما تجرب الشعور ده ”
هتف في نفي و بعدم اهتمام للأمر:
” لأ، مبحبش حد يخنقني.. أنا زي الطير أحب الحرية، الحبسة تموتني.. حياتي تبقى بكيفي أنا، أخرج براحتي أروح براحتي أعمل اللي أنا عاوزه من غير أسئلة و ازعاج.. أنا مش ها تجوز ولا عاوز أحب ولا أتحب أصلًا.. أنا حابب حياتي كده، أعيش عشان نفسي و بس ”
” ده كلام كُنا بنقوله لما مكنش حد في حياتنا، لكن لما ربنا يرزقك الحُب ها تعرف إنك كُنت غلطان ”
أردف في تأكيد لكلامه و قراره:
” سيف.. أنا خارج عن السيطرة، الارتباط و الزواج سجن و أنا زي الطير الجارح في الحياة ما ليش نقطة نهاية غير الموت، طليق حُر براحتي أهبش في الدنيا زي ما أنا عاوز من غير ما حد يفرض عليا قيود أو ضوابط ”
” الله يرحم لما كنت مصاحب بنات ”
قالها إبراهيم مازحًا، تابع قُصي بجدية:
” كان بكيفي برضو، لكن والله ما في واحدة عرفت تملك قلب قُصي، أنا قلبي صعب حد يملكه.. هو حُر و ها يفضل حُر لحد ما ربنا يوقف نبضه ”
صمتا إبراهيم و سيف عن مجادلة قُصي، و فضلا اللعب حتى جَنّ الليل عليهم و اتجه إبراهيم للمرحاض و في الخارج اتفقا الاثنان المُشَاغِبَي على الفتى التُركي المسكين، و الذي يخاف من كلمة اسمها ( الجان أو الاشباح)
نهض ” قُصي ” و ارتدى وجه من الجلد له شكل مرعب، و لف نفسه بقماشة سوداء كبيرة، لا أعلم من أين أحضرها، ثُم انتظر خروج صاحبه من المرحاض خلف الحائط، و ظل سيف في مجلسه يأكل بعض رقائق البطاطس..
تساءل إبراهيم عن قُصي فأخبره أنه ذهب لاحضار بعض الفاكهة..
فجأة انقطع الضوء بفعل فاعل، ثم خرج قُصي ليقف أمامهما رافعًا يديه يلوح بها في الهواء و يصدر أصوات مخيفة حمقاء مثله.
في تلك اللحظة التي انقطعت فيها الكهرباء، قفز إبراهيم على حِجر سيف، الذي دُهش لفعلته و كتم ضحكته بصعوبة؛ لئلا تُفسد خطتهما الدنيئة.
و أشعل ” قُصي ” الضوء مما أصاب ” إبراهيم ” الفزع و قفز من على حجر سيف؛ ليقفز في أماكن مختلفة من الغرفة مثل قفز الأرنب تمامًا، وهو يصرخ بلكنته:
” أنّى.. أنّى.. الله كهرت سين.. أدب ياهو.. سيزي أيب الله جانين أل سن ”
سقط ” سيف ” على الأرض يضحك بشدة و يضرب بكفه على فخذه و على كل شيء يجده أمامه، و ” قُصي ” الذي أدمعت عينيه من كثرة الضحك وهو يصفق بيده مثل البطريق.
نظر لهما إبراهيم بغضب فور اكتشافه للمقلب السخيف، و راح يضرب فيهما بالوسائد و الاثنان لا زالا مستغرقان في الضحك لأعلى ذروته.
بعد مدة من الوقت ساد فيها الهدوء بينهم بصعوبة، قال سيف بندم على منظر إبراهيم:
” أنا افتكرت حاجة بدر كان قال لي عليها من زمان.. كُنت عملت مقلب في هاجر برضو و قعدت تعيط.. بدر قال لي الرسول عليه الصلاة و السلام قال..
بتلقائية وضع إبراهيم يده على قلبه و همس:
” اللهم صلِّ و سلم و بارك على حبيبي المصطفى”
تابع سيف:
” لا يحل لمسلم أن يروع مسلما. ”
( رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني.)
شعرا الاثنان بالندم إزاء ما فعلان، و قال سيف آسفًا و كذلك قُصي:
” سامحنا يا إبراهيم إحنا آسفين ”
” مانياك ”
هتف بها إبراهيم في غضب منهما.. ضحك قُصي و قال:
” يبقى مسامحنا ”
أما سيف الذي لم يفهم معناها، صاح يود العراك
” هو أنت عشان قولنا لك متزعلش و آسفين ها تستعبط فيها ! ما تحترم نفسك ! ”
رمقه إبراهيم بدهشة و أعاد قوله تلك المرة بغضب أكبر:
” سان مانياك مِسِن ؟! ”
” أهو أنت اللي ستين مانياك.. يلا بقى ”
صاح بهما قُصي:
” اهدوا.. في إيه ! بيقول لك يا سيف أنت معتوه باللغة بتاعته.. ردها بقى باللغة بتاعتنا ”
” أنا معتوه ! و الله لأوريك ”
قالها سيف وهو ينهض له، فَنهض إبراهيم سريعًا يحاول الهروب منه و يصيح كالدجاج:
” بان دان أوزاك دور.. هاديني أشما ”
( إليك عني / لا تتجاوز حدودك)
” مجانين ”
همس بها قُصي وهو يستعد لنومٍ عميق.
____
في الأسبوع الثالث لوجودهم في منطقة
” قُصي ” الخاصة بسطح بيته، يذهبون الثلاثة لمباراة كرة القدم التي ستقام على مستوى محافظة المنصورة، و المشارك بها كابتن ماجد خاصتنا ” سيف الاسلام ” منذ نعومة أظافره وهو شغوف بلعب الكُرة، حتى باتت تجري مجرى الدمِ في عروقه.
لقد انتهى من جلسات العلاج الطبيعي منذ أسبوع، و سمح له الطبيب بممارسة هوايته الأقرب لقلبه.
ينتظر قُصي مع سيف أسفل بيته، و إبراهيم يأتِ بعُلب صودا لهم منهم واحدة بدون سكر و سعرات أعطاها لقُصي.. كانوا في انتظار ” بدر ” ليحضر مباراة شقيقه، و لم يفوت ” زياد ” الفرصة ليحضر معهم، و سيُقابلهم في النادي ” أُبَيِّ و زين ” بعد خروجهما من العمل.
أراد سيف اخبار قُصي بشيء على انفراد، فقال لإبراهيم بنبرة مزاح:
” يلا ياض هوينا دلوقت ”
أومأ ” إبراهيم ” بعفوية، و صعد لبيت سيف.. وجد مفيدة تجلس في الصالة تتابع التلفاز، قال بأدب:
” طنط، سيف عاوز المروحة ”
عبس وجهها و تساءلت:
” مروحة ! ليه ؟ ”
” حران ”
قالها ثُم حمل المروحة المكتب التي كانت أمامه، و نزل بها، قائلًا لهما في براءة:
” المروحة أهي، بس إحنا في الشارع.. ها تحط الفيشة فين ؟ ”
تبادل سيف و قُصي النظرات في دهشة شديدة، و أردف قُصي يتساءل:
” أنت حد قال لك هات المروحة ؟؟ ”
أشار لسيف:
” مش هو قالي هوينا قدامك ! ”
” أنت ياض مجنون ؟ آه أنا نسيت إن أنت نص الكلام بالمصري بيمشي معاك غلط ”
” ها.. أين أضع الفيشة ؟ ”
” تحب بقى أرد عليك بالمصري و أقول لك أين، ولا أنت إيه نظامك ؟ ”
قالها سيف بجنان كاد أن يُصاب به من تحت رأس إبراهيم.
تم حل الموضوع من قِبَل العاقل ” بدر ” قَبلَ أن يضربون بعضهم الثلاثة.
***
اجتمعوا كلهم يشجعون في المدرج ” سيف ” الذي راح يلعب بكل ما أوتي من شغف و حماس، حتى أحرز هدفًا في الدقيقة قبل صفارة الانتهاء و على طريقة ابن فلسطين الغالي
” وسام أبو علي” تدخل الكرة في مرماها باحتراف لاعب موهوب..
ظل يركض في الملعب وهو يصيح بفرحة عارمة
” سيف واحد بس، و الباقي هُس هُس ”
رآه أحد المدربون للأندية المشهورة و أعجب ببراعته جدًا، و طلب أن يكون هذا اللاعب الموهوب ضمن فريق مصر الأول ” الأهلي”.
بالطبع جن جنون سيف من الفرحة و السعادة، و وافق أخوه على اللعب بفريق الأهلي بجانب استكمال دراسته في الطب، و لكن سيف نوي في قلبه أن يتجه للكرة فقط و يترك الطب بعد ما درس فيه ثلاث سنوات.
______
جاء اليوم الموعود و الخاص بـ ” نورا و أُبَيِّ ”
كان حفل كتب الكتاب في حديقة منزل مُجاهد الكبيرة، التي تشبه قاعة المناسبات الصغيرة، و قد زُينت الحديقة بالبالونات و الأنوار و الزينة الرقيقة..
حضر تلك المناسبة معظم معارف مُجاهد و الأهل و الأقارب و الأصحاب، كما حضرها الضابطان
” رحيم و كريم ” و خال العريس اللواء عزمي، و رجلا الأعمال عم زين المهندس مُرتضى، و
” منير الأنصاري ” الذي اتضح أنه كان صديق قديم لمُجاهد قد فرقتهما الأيام.
أثناء خروج ” زين ” من بيت جدته لمحه ابن خاله السكير ” عصام ” و أصر أن يأت معه ليأكل من طعام الشيف، و أحضر عصام كيس أسود كبير وضعه في جيبه دون علم ” زين ” ليضع فيه الطعام و كأنه محروم منه.
” مش فاتح تاني الباب، ده أنا كل مجايبي هباب ”
دندن بها ” أُبَيِّ ” بينما يربط له قُصي ربطة العُنق، فَدُهش الأخير و قال:
” مش ده مش ده، أنت انهارده ها تتجوز البنت اللي بتحبها ”
” منا عارف، أنا بس بغزي العين ”
” آه، فكرتك خايف من الحسد ”
في الشهر الماضي و قبله، كان ” أُبَيِّ ” يحافظ على الذهاب لطبيبه النفسي للعلاج من التلعثم، و ها هو قد أبلى بلاءً حسنًا و أصبح يتكلم جيدًا عن ذي قبل بمراحل.
بداخل بيت ” مصطفى ” كان تزيين ” نورا ” من نصيب خبيرة مستحضرات التجميل خاصتنا
” عائشة “.
وضعت لها عائشة لمسات من المكياج خفيفة جدًا، تتناسب مع ملامح وجهها، و بينما هي تضع
” الماسكرا ” قالت نورا:
” خلي رموشي طويلة زيك كده، و حطي بقى بلاشر كتير.. زودي يعني ما يهمكيش كده كده أنا في البيت ”
” لأ.. أنتِ ملامحك هادية مينفعش معاها ميك أب كتير، سيبيني أعمل بطريقتي و ما تتكلميش عشان لو حاجة باظت ها الطشك بالألم ”
رمقتها نورا في خوف و فضلت الصمت حتى لا تنال هذا الكف.
ارتدت فستان أبيض خاص بكتب الكتاب رقيق و جميل جدًا تناسب مع قامتها الطويلة و الرشيقة، و قبعة صغيرة فوق الحجاب تأخذ ميلا على رأسها.
رسم الفستان خصرها النحيل و امتد بوسع من بعد الخصر، و بذيل قصير خلفها.
” عاوزه أحط لينسيز ”
قالت هاجر في اعتراض:
” لأ، عيونك حلوين مش محتاجين ”
” عارفة بس عاوزه أحط لينسيز ”
” يا بت اسكتي بدل ما افتح دماغك ”
قالتها عائشة في عصبية، وهي تضع لها الكُحل الخفيف.. و بعد الانتهاء تمامًا و قفت نورا لتقوم عائشة ببعض التعديلات البسيطة على الفستان، و أخذوا من حولها يرددون اسم الله على جمالها الرقيق و البسيط.
تعالت أصوات الزغاريد و بدأ الجيران و الأهل في التزايد، و تعالى أنشودة بارك الله لكما و بارك عليكما و جمع بينكما في خير.
جاء المأذون وتم كتب الكتاب، و حان الوقت لتضع ” نورا ” بصمتها الزرقاء في قسيمة الزواج.. كانت متوترة للغاية كأي فتاة في كتب كتابها..
بصم ” أُبَيِّ ” بقوة كأنه لا يريد إزالة العلامة الزرقاء من ابهامه أبدًا، و ما إن بصمت نورا و تم الاعلان أنهما صارا زوجًا و زوجة..
رفع إبهامه يشير للحضور بفرحة طاغية ابتسم لها الجميع
” تـَزوجتُها.. أنا وحدي من حَظيتُ بهـا ”
و لا زالت الأحداث مستمرة في كتب الكتاب، فما سيفعله ” عصام ” لن يمرّ بسلام.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *