روايات
رواية سيد القصر الجنوبي الفصل التاسع 9 بقلم رحاب ابراهيم حسن
رواية سيد القصر الجنوبي الفصل التاسع 9 بقلم رحاب ابراهيم حسن
رواية سيد القصر الجنوبي البارت التاسع
رواية سيد القصر الجنوبي الجزء التاسع
رواية سيد القصر الجنوبي الحلقة التاسعة.
اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي، وأنا عبدك لمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك.
صلِ على النبي 3مرات
لا حول ولا قوة إلا بالله 3مرات
جحظت عينا جيهان بدهشة، رغم أنها لم تفهم تمامًا ما يقصده الصغير “بُقلظ” ألا أنها تشعر أن بالأمر خطرا شديد ..!
فسألت بتوتر :
_ مش فاهمة ؟
تولّى شامي المسؤولية وقال بإيضاح:
_ هتتنكري وهتبقي الواد هريسة صاحبنا، بشكل مؤقت بس على ما نشوفلك طريقة أمان ترجعي بيها لبيتك، وعلى ما ده يحصل مش هينفع تفضلي تهربي منه كل شوية لأنه في مرة هيكشفك اكيد.
وأكمل الحديث شاندو وقال بجدية مبالغ فيها:
_ يا أبلة جيهان المجرم اللي كان عايز يخطفك لسه بيحوم حوالين القصر، يعني لو فكرتي تمشي هيلحقك ومحدش فينا هيعرف يعملك حاجة، لأننا اصلًا مش هنعرف نخرج من القصر، وهنا ممنوع دخول النسوان بصراحة بقا.
ضربه شامي ضربة خفيفة على ذراعه بنظرة غاضبة، وقال لها بطريقة أقل فظاظة:
_ شاندو يقصد أن ممنوع حد غريب عموما يدخل القصر، عشان أنتي عارفة أننا في مكان مقطوع وأي حد غريب هيكون مشكوك فيه.
شهقت جيهان وفغرت فاها من الذهول، هل ما سمعته للتو صحيحا أم إنها فهمت الحديث خطأ ؟! لا يعقل أن تنجرف بتلك المؤامرة التي حتما ستجعلها إما حل إدانة واتهام أو امرأة دون عقل انصاعت لخطة ساذجة من هؤلاء الصغار ..!
وقالت وهي لا تصدق ما سمعته:
_ مستحيل اعمل كده !!! … أنتم عايزني أتنكر وأبقى راجل ؟!! ، اعملها إزاي دي ؟!
كتم شاندو ضحكة وقال بخفوت:
_ فعلًا جدًا، الحلاوة دي كلها هتستخبي إزاي ؟!
رد الصغير بقلظ وقال:
_ عندنا دقن وشنب تركيب، كان الزعامة بيستعملهم وهو خارج متنكر برضه قبل ما يربي دقنه وشـ…
وكزه شاندو بغيظ من إفصاحه أكثر من اللازم حتى صمت الآخر، فضيّقت جيهان عينيها بريبة وشعرت بأن هذا الرجل يخفي الكثير من الاسرار، وقال شاندو مجددًا :
_ نجرب الأول ، بس المشكلة دلوقتي في الشعر ؟! … هنخبي شعرك الحرير المُشرق ده إزاي ؟! بس قوليلي بتحطي عليه إيه بيخليه ريحته قالبة القصر كله كده ؟!
كادت أن ترد جيهان بعدما اندمجت في زهو أنثوي بحديث شاندو، حتى قاطعهما شامي وقال لصديقه:
_ مش وقته يا شاندو .. خلينا في موضوعنا أهم ونشوف هنرتبها إزاي!!
نظرت لهما جيهان وقالت بغيظ:
_ أنتم خلاص قررتوا أني وافقت ؟! … أنا مستحيل أقبل بخطتكم دي، مستحيـــــــل ..!
ونظر شاندو وشامي لبعضهما وعرفا طريقة مضمونة لموافقتها والتأثير عليها..
وبعد قليل دخل الصغير “عصفور” إليها في مكانها السري بعدما تركاها الصبيّان، ونظر لها بضجر ثم قال:
_ أنا مخاصمك ..!
ولم تفكر جيهان كثيرًا فالأمر واضحا وقالت بتنهيدة آسفة:
_ وأنا كمان مخصماني ! …
اقترب إليها عصفور بنظرات عينيه الطفولية البريئة وقال عاقدًا حاجبيه بضيق:
_ البت أشهاد مفحومة من العياط في أوضتها ومش راضية تنزل تفطر، وأحنا باين على وشنا الهم والنكد، وأنتي قاعدة هنا ولا همك ! … يا قلبك يا شيخة !.
توترت جيهان ودخلت بموجة خانقة من الحيرة والتردد، فجلس بجانبها الصغير عصفور واستغل حيرتها ووسوس لها قائلا:
_ هتمشي هتبقي في خطر وممكن المجرم يموتك، وأحنا هنقلبها عزا بمجرد ما تمشي، لكن لو فضلتي هنفرح وانتي هتكوني في أمان لحد ما نشوفلك طريقة كويسة ترجعي بيها بيتك .. وافقي بقا الله يسترك.
نظرت له جيهان وهي مقتنعة تمامًا أن هذا أكثر رأي صائب بهذا الوقت، ولكن ما يُخيفها ظهر بترددها وحيرتها فقالت:
_ مش هقعد في مكان غصب عن صاحبه، وكمان اتنكر وابقى راجل ؟! .. ده تهريج ومايصحش!!.
رد عليها الصغير وقال صراحةً:
_ ما هو لو عرف دلوقتي مش هيوافق لأنه مش بيحب أي حد غريب، لكن ممكن بعد كام يوم تقوليله الحقيقة، بعد ما يتأكد إنك فعلًا كويسة ومأذتيش أي حد فينا ولا حتى هو.
تعجبت جيهان وقالت ولا زالت بحالة التردد العنيفة المُلمة بها:
_ طب ما أقوله من دلوقتي وخلاص ؟!
قالت ذلك وهي تعترف لنفسها سرا أنها سترتعب بمجرد أن تقف أمامه حتى لو بهيئة ذكورية، فتدخل شاندو بعدما دخل للمكان السري :
_ مش هيصدقك، لأنك هربتي منه كذا مرة، فطبيعي يطردك من قبل حتى ما تتنفسي، أنما لو اتأكد فعلًا أنك أمان على الأقل هيفكر ! .. وزي ما قالك عصفور ممكن تبقي بعد كام يوم تقوليله، والأحسن نتجمع كلنا ونقوله.
راود جيهان فكرة طارئة وقالت بحماس:
_ طب ما ممكن أمشي وأنا متنكرة في زي راجل ؟
وتشجعت لهذه الفكرة وهي تنهض مبتسمة لذكائها، بينما كشر عصفور بغيظ وقال شاندو بغيظ مماثل:
_ ماينفعش، بقولك المجرم برا القصر وشايف اللي طالع واللي داخل، يعني لو شافك ممكن يعمل فيكي حاجة على أساس أنك عيل من العيال لإننا مرمطناه ضرب أنتي ناسية !.. وبعدين المشكلة برضه ما اتحلتش ، فين المواصلات اللي هتوصلي بيها !! ، هتضطري تمشي على رجلك كتير أوي ويمكن تلاقي ويمكن لأ.
ذهب حماس جيهان بلا راجعة وقالت بتعجب وغيظ بآنّ واحد :
_ طب ما هو الزعامة بتعاكوا ده دخل القصر والمجرم ده ما عملوش حاجة !!!
كتم عصفور ضحكته ورد شاندو بسخرية:
_ ده لو الزعامة كح بس في وشه هيسوايه بالأسفلت، هو مجنون عشان يروحله ولا يقرب منه !! ، لكن أنتي حتى لو اتنكرتي وبقيتي الواد هريسة هتباني جاتوه برضه وحاجة كده صغيرة سهل ينتقم منك .. ها بقا قولتي إيه ؟!
ابتلعت جيهان ريقها بصعوبة وهي ترتجف من مجرد التخيل أنها ستتعامل مع السيد المُخيف، حتى لو كانت تختبئ بمظهر ذكوري واكتفت بهزة موافقة من رأسها … لم تستطع النطق حتى من شدة الخوف والتوتر ..
*************
كانت ” سمر” تستعد للمغادرة بعد نهاية دوام عملها، ولكن أوقفها موظف الاستقبال بالمشفى ظهر من نظراته وابتسامته المباشرةً لعينيها إنه سيخصها بما يُريد قوله، وبدأ قائلًا:
_ أستاذة سمر بعد إذنك ممكن اتكلم معاكي خمس دقايق بس ؟
لو كان الأمر يخص العمل لكان تحدث دون مقدمات، هكذا فكرت فأجابت قائلة بثبات:
_ تمام .. اتفضل، في إيه ؟
تحدث الشاب الذي يبدو عليه تخطى الثلاثون ببضع سنوات وقال:
_ بصراحة عايز آجي أزوركم في البيت واتكلم مع أهلك ..
تأكد حدسها وقالت :
_ أنا عايشة لوحدي، وأهلي متوفيين ..
لم يعرف تلك المعلومة نظرًا لإنها لم تتحدث عن حياتها الشخصية على الإطلاق، وهذا كان نقطة تعجب شديدة من زميلاتها في العمل، فقال بأسف :
_ أنا متأسف، مكنتش أعرف، وبصراحة أكتر أنا عايز اتقدملك، مش شايف أن المكان هنا مناسب للكلام خالص وأعرفك كل حاجة عن حياتي، فلو تسمحي نتقابل برا في أي مكان تختاريه بنفسك ونتكلم بوضوح أكتر.
مجرد المناقشة حول هذا الأمر مجددًا تجعل قلبها يرتجف خوفاً، رغم أنها سترفض بجميع الأحوال، ولكن الذي جمدها للحظات وجعلها ترجع بالذاكرة للخلف هو عندما تذكرت كيف تقدم لها زوجها السابق، وبنفس الطريقة !! .. وقبل أن تجيب بالرفض نهائيًا تدخل طرف ثالث!، وقال عنها بصوت حاد ويبدو إنه استمع لمَ قاله موظف الاستقبال :
_ الإستاذة سمر مخطوبة .. هو في حد عاقل يجي يخطب واحدة مخطوبة ؟!!
ضيق الشاب عينيه على أمجد وقال بنظرة متشككة فيه:
_ مش لابسة دبلة! .. هو في واحدة مخطوبة ما تلبسش دبلة ! ..
نظرت سمر لأمجد بغضب، أن يحبها شيء، وأن يأخذ القرار عنها بأمور تخصها وحدها شيء آخر، فسألها الشاب الموظف وقال:
_ هو حضرتك مخطوبة ؟! ..
رد أمجد بغيظ منه وقال: بعصبية:
_ ما أنا قولتلك !!
أجابت سمر وهي تنظر لأمجد بغضب كأنها تتحداه:
_ لأ مش مخطوبة ، ومش عايزة اتخطب !
وتركتهما يقفان وغادرت المكان وهي تسير بأنفعال، فنظر الشاب له بمقت حيث قال له أمجد :
_ كنا مخطوبين وفركشنا وهنرجع لبعض عادي ، أظن الأمور واضحة !..
ويبدو أن الشاب الموظف أخذ الموقف بشكل شخصي وقال له بتحدٍ:
_ لما اسمعها منها بنفسي ..
تحكم أمجد بنفسه كي لا يلكمه فقال :
_ ما هي قالتلك مش عايزة تتخطب أنت ما بتسمعش ؟! ..
ابتسم الشاب بسخرية وقال :
_ ما اعتقدتش كان ده هيكون رد فعلها لو حضرتك مكنتش اتدخلت !!! … عموما ده ما يعتبرش رد … لما اتأكد أنها فعلا رافضة، ومن غير تدخل من حد .. هبعد
ولولا إنه متمسكا بعمله بالمشفى من أجلها ولا يريد افتعال كارثة الآن لكان كسر عظام هذا الذي يقف أمامه ويتحدث باستفزاز ، فرد عليه أمجد بثقة :
_ خلاص ، هخليها تقولك كده بنفسها ، طالما أنت غبي ومابتفهمش !!
ورماه بنظرة محتقرة وغادر خلفها ، حتى لحقها بالثوان الأخيرة في السيارة الأجرة والسائق يستعد للسير .. وارتبكت سمر عندما جلس بجانبها رغم حالة الغضب التي كانت تمتلكها منذ لحظات قبل ظهوره …
وبمجرد أن تحركت السيارة وابتعدت عن المشفى حتى صاح فيها أمجد وقال :
_ أبقي عامليني كويس قدام الناس وردي عليا عدل ! …
أجابته بعصبية :
_ وأنت تدخل ليه في حاجة ماتخصكش وتحطني في الموقف ده !!! … وبعدين أنا اتخطبت أمتى وأزاي وليه تكدب الكدبة دي ؟! …
نظر لها أمجد للحظات وكأنه يشاهد النسخة القديمة والقاسية منها تعود من جديد !! … فقال بدهشة :
_ أنتي كنتي هتفكري في طلبه يا سمر ؟! … يعني زعلتي أني غيرت عليكي واتمسكت بيكي ؟!..
صاحت بوجهه وهي تبك فجأة :
_ أفكر ولا ما أفكرش ده شيء يخصني برضه!، كلكم زي بعض، بمجرد ما تضمنوني تتحكموا فيا وفي كل نفس بتنفسه وكأني مش موجودة ! …
رد امجد عليها بغضب وقال :
_ أنا مش محمود يا سمر عشان اعاملك كده ؟! .. أنا …
قاطعته بأنفعال شديد:
_ أنت بتضغط عليا وجيت ورايا في أكتر وقت كنت محتاجة أبقى لوحدي فيه، ومحاوطني في كل مكان اروحه، يا أخي الحب مش بالعافية !!!
لم تعرف كيف قالت ذلك، وشعرت بغصة حارقة بمجرد أن قالت تلك الكلمات التي لا تعبّر عن امتنانها وفرحتها لظهوره بحياتها من جديد، ولكن فوبيا الخوف من تكرار التجربة يهزم الرغبة والمشاعر ببعض الأحيان، وعبّرت عينيها عن ندم مما قالته، فكيف هو يشعر إذًا !! … نظر لها أمجد مذهولًا من ما سمعه، فابتلع ريقه بصعوبة وعينيه التمعت بقوة مخيفة، ثم أمر السائق أنه يقف بالسيارة، وترجل منها بحركة سريعة بعدما دفع الحساب لكلاهما، وظلت سمر تنظر لخطواته المبتعدة ببكاء صامت، فقال السائق العجوز وهو ينظر لها بشفقة :
_ معلش يعني من التدخل أنتي زي بنتي ، بس لو بنتي واحد بيحبها كده والله لأخطبهاله حتى لو غصب عنها، هو يعني عمل ايه عشان العصبية دي كلها ؟!!
بكت سمر وهي تجيب:
_ معاملش حاجة، أنا اللي غلطانة، ولازم يبعد عني، خايفة عليه مني ! ..
رد السائق وهو يحرك السيارة من جديد:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله … شكلك بتحبيه، وهو كمان بيحبك، طب ما تتكلمي معاه بصراحة وتفهميه ؟!
اغمضت سمر عينيها وشعرت بمرارة تملأ حلقها، وقالت قبل أن تدخل بموجة بكاء شديدة:
_ لو سمحت وصلني بسرعة للعنوان اللي اديتهولك.
ولم يضغط عليها الرجل بالحديث، بل تركها تبك ودعا لها من قلبه أن تنال السعادة التي يبدو إنها تستحقها، حتى خرجت سمر من السيارة وهي تقريبًا تركض بعدما وصل السائق للعنوان المطلوب.
**************
أحيانــًا .. وببعض الأمور، تأخذ قراراتنا طريقان، قرار بمواصلة الطريق، وقرار بالتوقف والعودة، نتقدم بالخطوات وبداخلنا خطوات تراجع، وعند التوقف والتراجع للخلف يكون شيء بالقلب يصرخ لمتابعة ما بدأناه…
مثل المريض في غيبوبته، لا حيًا مع الأحياء، ولا نستطيع أن نعتبره ميتًا، هكذا بعض المشاعر …
لا نستطيع متابعتها والسير بدربها، ولا نقدر على التخلّي والنسيان والفراق!!
فكان هو زايد..!
الذي حمل بداخله جنونًا، ولكن ليس الجنون الذي ينعته به عدوه اللدود، وأنما جنون من نوع خاص، جنونا في القلب سيطر على عقله وقوة شخصيته النارية والمخيفة لأكثر من حوله .. كيف للحب أن يفعل ذلك برجلا مثله ؟!
وهي الآن بغرفتها، تعتكف فيها وترفض خطوات القرب، وأهانت رجولته بهذا التصرف، رغم ما فعلته لا زال يسعى لنقطة التقاء بينهما ..!
وهذا ما سيقوده للجنون …
ظل يذرع الغرفة ذهابا وإيابًا بتفكير وحيرة، ليس من شيمه أن يجبر مخلوق على شيء يبغضه أو حتى لا يريد فعله … فما الحال لو كان هذا المخلوق حبيبته وزوجته ؟!
كيف سيقبل أن تكن قريبة ويشعر منها بالرفض ويستمر رغم ذلك؟!
تنهد بقوة من فظاظة تلك الفكرة وكره نفسه لها .. ثم توقف وقرر أن يستنشق بعض الهواء بالخارج …
وبعد دقائق انتبهت فرحة لصوت باب يغلق ! … فأسرعت وفتحت باب غرفتها ولمحت باب غرفته مفتوح على مصراعيه … فخرجت من غرفتها وتنقلت بالمنزل وتأكدت أنه خرج كليًا من المنزل … وشعرت ببعض الخوف والحيرة … إلى أين ذهب يا ترى وماذا يدور بعقل هذا الرجل الغامض ؟! ..
****************
وظلت سمر منكمشة على فراشها بغرفة شقتها الصغيرة بعد ساعات كثيرة من البكاء والندم على ما قالته …
حتى أنها خرجت عدة مرات لترى شرفته أن كانت مفتوحة أم لا، وتتأكد أنه عاد لشقته، ولكن كل مرة ترى الشرفة مغلقة تمامًا …
حتى أنها لم تسمع باب شقته يُفتح ! ..
وارتعبت من مجرد التفكير إنها سيغادر من هنا وسيتفارقا .. مع كلماتها الجارحة سيكون الرد الطبيعي والمنتظر من أي رجل يحمل ولو القليل من الكرامة والكبرياء أنه يرحل عنها للأبد، فكيف برجل مثل أمجد ؟!
دق الذعر بقلبها من هذا الظن فقط، وفكرت في الحال بطبيبتها النفسية ” مروة” … وهنا قفزت من الفراش واسرعت لجلب الهاتف من حقيبتها ولكنها لم تجده !!!
فتشت جيدًا بالحقيبة ولم تجد له طيفا !! .. فقالت وهي تحاول التذكر أين آخر مرة رأته:
_ يمكن نسيته في المستشفى ؟!! … يمكن !
ولم تستطع التحديد، ريثما أن آخر دوامها بالعمل اليوم أنتهى بعاصفة !!..
جلست على الفراش بحيرة شديدة وحاولت أن تتذكر أرقام هواتف الطبيبة ولم تستطع ..!
فعادت متمددة على الفراش مجددًا وحواسها يقظة لأي صوت أو حركة تصدر بالشقة المجاورة ..!
ولكنها تاهت بغفوة دون أن تشعر …
**************
عاد أمجد لشقته وهو يكره كل يوم أحبت تلك المغرورة القاسية فيه، وحزم حقائبه وقد قرر الرحيل والأختفغء من حياتها للأبد، وكان لأول مرة منذ أن وقعت عينيه عليها أن يقرر هذا القرار الحاسم …ثم خرج من شقته ولم يلقي ادنى نظرة على شقتها … وحينما وصل لخارج المبنى وقف حتى يوقف سيارة أجرة ، ولكنه تفاجأ بالسائق العجوز الذي شهد على آخر لقاء بينه وبين سمر ، واقترب منه السائق مبتسما وقال :
_ كويس إني شوفتك … التليفون ده وقع في عربيتي من البنت اللي كانت معاك واتخانقتوا … أنا عرفت أنه بتاعها عشان فتحته ولقيت صورتها على الشاشة فعرفت .. هي ساكنة فين بالضبط ..
نظر أمجد بالهاتف الذي بيد الرجل وشعر بالحيرة، وكره ان يترك الرجل يصعد حتى شقتها وإن كان عجوزا ويبدو رجل طيب!
وأيضا لا يريد أن يلقاها مرةً أخرى بعد اليوم وتعتقد أنه يجتر معها الأحاديث مثلما كان يفعل!
وشعر العجوز بحكمته بالحرب الداخلية لأمجد وصمته الذي طال ، فقال له :
_ أقولك حاجة ؟
نظر له أمجد بتعجب وقال :
_ حاجة إيه ؟!
ابتسم له العجوز وأجاب:
_ البنت دي بتحبك ، بس خايفة عليك منها، مش عارف من إيه بالضبط ، بس هي قالت كده لما نزلت من التاكسي وسيبتها …
وكأنه وجد كوب ماء بصحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء !! … تفاجأ أمجد مما سمعه، وعادت الدماء لوجهه، صدم رغم أن هذا كان ظنه قبل أن تقول ما قالته ! … ولم يكثر العجوز أكثر من ذلك، وأعطاه الهاتف وغادر وهو يتمتم مبتسما ، فنظر أمجد وأشرقت الابتسامة وجهه وقلبه من جديد، ولكن ستكون الأيام القادمة مختلفة تماما عن الفائتة، سيعلّمها أن لا تكذب عليه مرةً أخرى، وأن لا تتفوه بالحماقات بسبب الخوف … ومع ذلك سيظل قلبه على ما هو عليه …
عاد أدراجه وهو مليء بالأمل ، وادخل حقائبه بشقته، ثم خرج ليطرق باب شقتها، ولكنه تفاجأ بأنها تفتح الباب وهي تلهث وتنظر صوب بابه!
نظر لها وتحلّى بالجدية والثبات، ثم قال لها بجفاء وهو يشير للهاتف :
_ السواق اللي كنا راكبين معاه لقى تليفونك في عربيته وجابهولك.
ابتلعت سمر ريقها وعينيها الحمراء تسرد كم ذرفت من الدموع وقالت بارتباك :
_ هو فين ..؟! عشان اشكره ..
صوّب لها أمجد نظرة حادة وقال :
_ أظن مكنتش هسيب راجل يطلعلك شقتك ! … أنا شكرته بالنيابة عنك …
أعطاها الهاتف واستدار بتعدًا عنها ومتوجها لشقته، فقالت قبل أن يختفي من أمامها بصوت على حافة البكاء
_ أمجد … أنا ، أسفة ..و…
قاوم بكل قوته حتى يدخل شقته ويغلق الباب وألا يعود ويظهر مسامحته، يجب أن تتعلم أن تحترم محبته لها وتترك خوفها بعيدًا مع رجل مستعد أن يغفر لها كل شيء، ويريدها زوجةً له، لا أقل من ذلك …
اجهشت سمر بالبكاء بعدما تركها وأغلق بابه عليه، ولا تلومه في ذلك … بينما ظل أمجد مستندًا على الباب وسمع صوت أنينها بضيقا شديد … ولكن ضيقه ذهب تدريجيًا عندما اكد أسفها حديث العجوز … وعادت ابتسامته لشفتيه وهو يعد لنفسه كوب قهوة …
************
وقبل أن تغرب الشمس ..
وقف “أكرم” يمشط شعره المبتل بالماء أمام مرآة غرفته التالفة تقريبًا وتحتاج للتغيير ولكن لا بأس بها بالوقت الراهن.
وتصاعدت الاحداث الأخيرة بمقدمة أفكاره وتذكر تلك المجهولة وهي بين ذراعيه بعينيها المرتعبتان وجسدها الأنثوي الرقيق بين قبضتيه … ولا يعرف لمُ …
أسكت أفكاره وأوقف منحناها بغضب من نفسه ودفع بالمشط بعصبية، ثم استعد لمتابعة اليوم مع الصغار وإعداد الطعام لهما ..
خرج من غرفته وتوجه مباشرةً للمطبخ وهو يفكر ويرتب بقيّة مهام اليوم، ويتجنب تفكيره الذي ينحني إليها عنوة، حتى اشتم رائحة حلوى نفاذة تخرج من جهة المطبخ !! ..
شعر بالحيرة لأن الصغار لا يعرفون شيء عن إعداد الحلوى خاصةً بتلك الرائحة الشهية !!
وحينما دخل المطبخ وجد فتى يقارب شاندو وشامي في الطول أو أنه اطول منهما بقليل، ويرتدي قميص من الچينز الأسود به ثقوب من أطرافه، وبنطال من الچينز الاسود أيضاً به بعض الرقع، ويرتدي قبعة عجيبة وأسفلها قبعة صوفية تناسب فصل الشتاء أكثر من الخريف !!!
ويبدو هيئة الفتى بمنحنيات جسده تلك غريبًا، حتى من قبل أن يراه، فقال بحدة :
_ بتعمل إيه ؟!!
كادت أن تسحق جيهان أسنانها من التوتر والرعب وهي تواليه ظهرها، وتمنت أن لا يرى ارتجاف يديها الواضحة …
فهب الصغير عصفور وقال والخوف بعينيه :
_ ده الواد هريسة بتاع الحلويات .
وأتى بقلظ خلفه ووقف أمامه كالأرنب بجانب صديقه عصفور وردد:
_ ده الواد هربسة بتاع الحلويات …
وأتت وصيفة وهي تركض للمطبخ وأشارت نحو جيهان قائلة بصوت يخرج بالكاد:
_ ده الواد هريسة بتاع الحلويات …
وهجم الصغار واحدًا تلو الآخر على المطبخ وهتفوا بصوتً واحد :
_ ده الواد هريسة بتاع الحلويات يا زعامة ..
اغمضت جيهان عينيها وتوسلت لرب العالمين أن لا ينكشف أمرها الآن بسبب غباء وبراءة هؤلاء الصغار … ضيّق أكرم عينيه على الفتى الغريب والذي قد ذكر شامي اسمه من قبل، واستئذن منه أن يأت للقصر وينضم لهم … ولكن المظهر العام لهذا الفتى غير مريح بالمرة ! ..
استند عصفور على صديقه بقلظ، وقال بخفوت وهو يشعر بالدوران:
_اسندني هقع ..
واقترب أكرم خطوات حيث تقف جيهان ترتعد كلما اقترب خطوة، ثم وقف خلفها وقال بصوت جعل الكلمات تقف بحلقها :
_ أطلعي برا …