روايات

رواية سيد القصر الجنوبي الفصل الخامس عشر 15 بقلم رحاب ابراهيم حسن

رواية سيد القصر الجنوبي الفصل الخامس عشر 15 بقلم رحاب ابراهيم حسن

رواية سيد القصر الجنوبي البارت الخامس عشر

رواية سيد القصر الجنوبي الجزء الخامس عشر

رواية سيد القصر الجنوبي الحلقة الخامسة عشر

اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي، وأنا عبدك لمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك.
صلِ على النبي 3مرات
لا حول ولا قوة إلا بالله 3مرات
وصمت بعدها ، ولكن دموع الصغار لم تصمت، وارتفعت الأصوات بالبكاء ، فخرج أكرم من الغرفة ولم يعد يحتمل الموقف أكثر من ذلك .. وعاد لغرفته، ولكن في طريقه للعودة لاحظ أن بكاء الصغار وأصواتهم انقطعت فجأة .. فما الذي حدث ؟!
وقف هذا السؤال بمقدمة أفكاره وشعر بالغرابة في الأمر، ولكنه تابع طريقة حيث سيعود لعزلته كالأسد الجريح الذي دفن نفسه كي لا أحد يرى أنينه.
*********
بينما قد همست جيهان للصغار أن يقتربوا لتخبرهم شيء، شيء اعتبرته سرًا الفرصة الأخيرة لهما .. بينما قالت متحججة :
_ خلاص مش همشي ما تعيطوش .. هفضل عشانكم.
تهللت أساريرهم وملأت الفرحة صفحات وجوههم البريئة، ولم يكن هذا الاعتراف قيل بمحمل التبرير والكذب، ولكن السبب الأقوى كان يعود لرغبة قلبها بالبقاء … بعدما شعرت أنها بدأت تتعرف على شخصيته الحقيقية، الذي يخفيها بكل ما أوتى من قوة، ولكن قلبه ينتصر عند سماع دفوف الفراق.
والرغبة التالية كانت لشدة تعلّقها بهؤلاء الصغار بتلك الفترة القصيرة.
وتابعت جيهان بابتسامة ماكرة وهي تهمس لهم:
_ هتقولوله أن رجلي اتلوت تاني ومش عارفة أمشي عليها كويس.
قفز عصفور بحماس وقال:
_ هروح أقوله أنا.
اوقفته جيهان معترضة بقوة:
_ لأ .. محدش يكلمه، هو هيسألكم من نفسه.
وشددت جيهان على الصغار بالتعليمات الهامة حتى لا ينكشف أمرها، وعندما اصبحت بمفردها بالغرفة تمددت ونامت على ظهرها وهي تنظر للأعلى بابتسامة نابعة من القلب.. شعور ممتع للمراة عندما يقع في حبها رجل ما كان يعترف بالحب قبلها .. رجل يبدو أنه لم يقول للحب نعم مرةً واحدة!!.
شعورها بهذه الفترة لم تكن حتى تتخيل أنه سيطرف قلبها يوما، شعور نادر كـ رؤية خيوط الشمس الساطعة مع هطول المطر .. برودة دافئة، كأن حبات المطر ترافق النسمات الدافئة وتستفيها بمحبة اللقاء.
واطلقت تنهيدة طويلة لفظت فيها الوحدة واليأس والحزن، كأن مُرًا مر من القلب وذهب بلا عودة.
*********
وبحفلة صغيرة قد أقامها أمجد بشقته للمقربين بعدما عقد قرانه اليوم على حبيبته “سمر” .. قرر أخذها والذهاب لقضاء بعض الوقت بمفردهما، واختارت سمر متابعة الاحتفال بأحد المطاعم المّطلة على النيل مباشرةً للجلوس وحدهما لبعض الوقت.
فقال أمجد عندما وجدها جالسةً تنظر لمياه النيل بشرود وملامح لا تدل على البهجة:
_ مالك يا سمر ؟ … بعد ما كتبنا الكتاب شوفتك مبسوطة وفرحانة فرحة مش شايفها على وشك من وقت ما وصلنا المطعم ده؟! .. لو مش عاجبك نمشي ونروح مكان غيره؟!.
ونهض بالفعل، فأوقفته سمر قائلة بتوضيح:
_ لا مش كده .. اقعد بس الأول.
جلس أمجد وراقبها بنظرات قلقة وعابسة، ثم قال بشك:
_ أنتي ندمانة إننا اتجوزنا ؟!
اسرعت سمر وقالت بابتسامة قت ثغرها مرةً أخرى:
_ لا يا أمجد أنت فهمتني غلط، أنا وإن كنت شايفة أننا كتبنا الكتاب بسرعة بس مش ندمانة أبدًا، على الأقل دلوقتي هعرف امل.ي عيني منك براحتي .. لو واحشني هقولك وحشتني من غير تردد .. أنا كنت محتاجة معاك أبقى مرتاحة كده.
واستطردت ببعض الضيق:
_ اللي مزعلني أني معرفتش أوصل لجيهان، كان نفسي أوي أوي تبقى معايا .. وخايفة عليها وقلقانة ومحدش عارف هي فين؟! .. جيهان وقفت جانبي في اصعب وقت مر عليا في حياتي .. من حقها تبقى هي أول واحدة موجودة في فرحتي كمان.
ربت أمجد على يدها بمحبة وقال:
_ على ما معاد الفرح يجي هتكون ظهرت ونعزمها، وأظن الدكتورة مروة طمنتك عليها شوية؟!.
تنهدت سمر وقالت بقلق :
_ الدكتورة مروة آخر مرة كلمتها كان من فترة مش قليلة، وبعدها اتقطع الاتصال وتليفونها مقفول، ده اللي مخوفني أوي .. جيهان كانت في جالة اكتئاب في آخر مرة شوفتها فيها، وخطر تفضل لوحدها وهي في الحالة دي !!.
طمئنها أمجد وقال:
_ اللي أعرفه عن مدام جيهان إنها ست قوية مش ضعيفة، وحاسس إنها قريب أوي هتكلمك وهطمنك عليها وهتلاقيها كمان في أفضل حال .. عشان خاطري اضحكي بقا .. احنا النهاردة يوم مش عادي لو فاكرة ؟! …
ابتسمت سمر بسعادة حقيقية وقالت :
_ مش مصدقة بجد إننا كتبنا الكتاب بالسرعة دي!!… بس أنا فعلًا مبسوطة وجدًا كمان.
نظر لها بنظرة عاشقة طويلة ثم قال:
_ هنأجل ليه؟! .. احنا الاتنين مالناش حد .. محتاجين لدفا الأسرة والبيت، وموافقين وراضيين نبني بيتنا وحياتنا واحدة واحدة .. يبقى نأجل ليه ؟!.
وافقته سمر وقالت بحياء وبابتسامتها الرقيقة:
_ عندك حق ..
أخرج أمجد من جيبه علبة صغيرة بداخلها خاتم ذهبي، وتفاجئت سمر وقالت :
_ كلفت نفسك ليه بس كفاية عليك تكاليف الفرح؟
وضعه أمجد بأصبعها وقال بعدما طبع قبلة سريعة على أصابعها:
_ ما تقلقيش كله مترتب، المهم إيه رأيك ؟
نظرت سمر ليدها في بهجة وقالت بصدق:
، تحفة .. ذوقك حلو أوي أوي.
غمز لها أمجد وقال بمكر ومشاكسة:
_ ذوقي مش حلو بس .. ده يجنن .. مجنني بقاله سنين وأخيرًا رضي عليا !! ..
ضحكت سمر بملء فمها من طريقته بالحديث، ثم ظلت تنظر له بانتباه وابتسامة عاشقة وهي تنظر لسعادته وهو يخبرها عن خططه القادمة وأحلامه.
*********
وقد حان وقت الغداء ..
وقد تاهت جيهان بسُباتٍ عميق حتى أيقظتها وصيفة برفق، واستفاقت جيهان واعتدلت في تيهة لبعض الثوان، واستجمعت وعيها بعد قليل خينما قالت وصيفة:
_ تعالي معايا الغدا جهز …
تعجبت جيهان وشعرت أن فاتها الكثير بالوقت التي غفت فيه وقالت بتردد:
_ لأ .. هو ..
قاطعتها وصيفة وقالت بابتسامة ماكرة :
_ هو اللي بعتني ليكي … وهو اللي حضر الغدا كله، حتى سألني عن الاكلات اللي بتحبيها عشان يعملها .. وقولتله اللي أعرفه، أنا أول مرة أشوفه كده!!.
تسحبت ابتسامة على ثغر جيهان، ثم تظاهرت بالثبات وقالت برفض :
_ لأ مش عايزة أكل .. قوليله كده.
عبس وجه وصيفة وعاتبتها:
_ هتكسري بخاطره بعد التعب ده كله؟!.
ردت جيهان بابتسامة خبيثة :
_ قوليله كده بس يا وصيفة .. المفروض أني لسه زعلانة وكده ..
أطبقت الفتاة شفتيها باستفهام وحيرة، ولكن قالت بموافقة :
_ خلاص هقوله كده طالما ده اللي هيريحك.
وعندما كادت أن تخرج وصيفة من الغرفة أوقفتها جيهان ثانيةً وسألتها بارتباك :
_ هو .. هو أنتم قولتوله أن رجلي اتلوت تاني؟!
ضحكت وصيفة ثم كتمت ضحكتها وكأني تخبئ سرا، فشعرت جيهان بفضول قاتل لتعرف وقالت بإلحاح :
_ حصل ايه قوليلي ؟!
سردت وصيفة بضحكة :
_ فضل في أوضته مش عايز يخرج نهائي، وكل ما حد يخبط على الباب يزعق ويقوله أمشي … لحد ما وصلت أشهاد قدام أوضته .. اصله مش بيحب يزعقلها حتى لو غضبان .. وقالتله أن رجلك تعبتك تاني ومش هتقدري تتحركي كتير بيها .. واتحايلنا عليكي تقعدي لحد ما وافقتي بالعافية .. لحد بس ما تقدري تمشي على رجلك تاني .. وساعتها لقينا الباب اتفتح والباشا المكشر دايمًا وشه نور من الابتسامة والفرحة هتنط من عينه .. ومن ساعتها وهو في المطبخ.
ولكن أنتاب جيهان ابتسامة دافئة بعينان زائغتان للبعيد حتى تحولت الابتسامة لضحكة وقالت بعد ذلك :
_ طب روحي قوليله اللي قولتلك عليه ..
نفذت وصيفة الأمر وذهبت راكضة .. وعادت جيهان ممددة بابتسامة ونظرة متلاعبة وهي تقول :
_ أما نشوف أنا ولا أنت يا أستاذ مكشر ؟!.
وكتمت ضحكتها على ما قالته وسمعته من وصيفة منذ لحظات …
************
وبعد دقائق قليلة وجدت جيهان نقر خفيف على باب الغرفة، فتظاهرت بالجدية والثبات وهي تسمح بالدخول، حتى دخل أكرم بخطوات هادئة واثقة، لم تكن تتوقعه يكن بهذه الثقة والاتزان؟! .. ظنته سيبدو مرتبكا مترددا حائرًا .. فتنهدت بيأس وظهر الضيق على وجهها طبيعيا دون زيف .. فقال أكرم بصوتً ارغمها على النظر له من قوة تأثيره عليها:
_ لو مش هتطلعي تاكلي معانا هنجيب الأكل ونجيلك هنا ..
نظرت له بعصبية وقالت:
_ مش عايزة أكل ؟! هو بالعافية ؟!
هز رأسه بابتسامة صادقة وقال :
_ لأ .. بس أحنا اتعودنا عليكي وحبينا وجودك معانا ..
واتسعت ابتسامته برقة وأضاف ناظرًا لها بمحبة ظاهرة:
_ عملنا كل الاكلات اللي بتحبيها، اعتبريها رشوة عشان نتصالح ..
اطرفت جيهان بدهشة، ولم تشعر بالابتسامة التي ظهرت على ثغرها، فقابلها بنظرة عميقة تتحدث بالكثير .. فاعتدلت وهتفت بحدة كي تخفي تأثرها :
_ تفتكر أنا بتراضى بالأكل؟! .. أنت شايفني مفجوعة للدرجادي ؟!
ضحك للحظات وظهرت غمازتيه بوسامة مدمرة، ثم قال بنظرة ماكرة :
_ خليكي معانا .. يمكن نوصل لطرق تانية تحبي نصالحك بيها ..
اتسعت عينيها بصدمة، أي غباء يجعلها تتحدث بكلمات تنعكس ضدها ؟! … ودت لو تصفع نفسها الآن .. فقالت بغيظ وتصميم :
_ مش هاكل برضه !!.
ظهرت ضحكتة ذات الصوت الخافت مرةّ أخرى، ثم قال بقبول:
_ خلاص مافيش مشكلة .. هنجيلك أحنا هنا .. المهم تبقي معانا وخلاص.
وخرج دون أن ينتظر ردها، ووقعت بين رغبتها الملحة في الابتسامة والضحك، وبين التوتر والقلق من طريقته ومكر عينيه !!… يبدو أنه عرف خطتها !!
تنفست جيهان بانفعال وقالت :
_ اكيد حد من الولاد قاله أو حتى لمح !… لا وهو ما شاء الله عليه بيفهمها حتى من قبل ما تطير كمان وتلاقيه كشفني !! ..
كانت ستبك من الغيظ حتى وجدت جمهور الصغار يقتحمون الغرفة وبين أيديهم أطباق الطعام والحلوى .. ومجموعة أخرى يحملون طاولة مستطيلة دخلت بصعوبة للغرفة واستطاعوا الصفار فعلها .. وأتى هو أخيرًا ومعه صينية واسعة من مختلف الطعام والحلوى .. وترك الصغار يأكلون بنهم وذهب جالسا أمامها على الفراش قائلًا بابتسامة لطيفة :
_ كل الأكل ده بتحبيه .. أنتي ما فطرتيش من الصبح واكيد جوعتي.
ابتلعت جيهان ريقها بشدة وهي بالفعل تتضور جوعا، ولكنها كذبت وقالت :
_ لا مش جعانة ..
اقتربت منها وصيفة وأشهاد وتحدثن بتصميم:
_ طب عشان خاطرنا ..
ووجدته جيهان تبريرًا وأخذت تأكل بشهية كبيرة، حتى أنه كان يبتسم من حين لآخر ويبعد عينيه عنها حتى لا تلاحظ وتنتبه لنظراته.
وتنهدت بارتياح حينما شعرت أخيرًا بالشبع، ولكنها صعقت باللحظة التالية عندما وجدت الاطباق أمامها تقريبًا فارغة وارتبكت وهي ترفع عينيها له بالتدريج .. حتى اتسعت ابتسامته التي تسمرها للحظات وقال :
_ بالهنا والشفا ..
اشاحت بصرها عنه بحرج وقالت :
_ متشكرة.
ضيّق أكرم عينيه بمكر وقال :
_ الولاد قالولي أن رجلك تعبتك تاني .. تحبي اخدك للدكتور ونكشف عليها ؟!
شعرت بطيف سخرية يمر عبر كلماته فرمقته بحدة وأجابت بعصبية وهي تنظر مباشرةً له بعينيه المتسليتان :
_ لأ شكرًا .. بمجرد ما أقدر أقف واتحسن شوية همشي على طول .. معلش هتقل عليك شوية كمان واضايقك بوجودي.
مرت نظراته عليها كأنه يعاتبها على ما تفوهت به للتو، فـ رد بكل صدق :
_ أنتي عارفة يا چيهان إن وجودك مش مضايقني .. بالعكس.
ابتلعت جيهان ريقها بتوتر وارتباك شديد وهو يحدثها هكذا .. وأخفت ابتسامة تعاركت لتشق ثغرها .. وطالعته بنظرات استفهام، كأنها تسأله كيف يكون له وجهان بتلك الطريقة!!.
وجه حين يظهر تقسم أنه لم يلتفت لها من الاساس .. ووجه آخر يظهر عند الرحيل والفراق؟!… أيهما هو ؟!.
فقالت وكأنها قررت ذلك بالفعل :
_ على العموم أنا برضه في كل الأحوال لازم أشكرك أنك استضفتني في بيتك وتحملتني الأيام اللي فاتت .. مكنتش مجبر أبدًا على ده… وبأكدلك أني مش هطول المرة دي .. يوم أو أتنين بالكتير وهمشي ..
رماها بنظرة شديدة العتاب على تصميمها بالرحيل فأحتدت نبرته حينما رد:
_ حتى لو مشيتي هوصلك لحد بيتك ومش همشي غير لما اتأكد إنك في أمان .. عربيتك وشنطك اتسرقوا على ما أظن .. يعني اللي سرقهم ممكن يعرف عنوانك بسهولة.
سأل شاندو باهتمام بالغ:
_ لازم تبلغي عن سرقة العربية أول ما ترجعي ..
أجابت جيهان بيأس :
_ حتى لو بلغت العربية مش هترجع يا شاندو، لأني اتسرقت قبل كده ومافيش حاجة رجعت برضه والعربية اختفت
اكد شاندو وقال :
_ ايوة عارف بتتفك وتتباع خردة، بس لازم تبلغي حتى لو عارفة إنها مش هترجع .. انتي ما تعرفيش عربيتك ممكن يتعمل بيها إيه! .. دي مع مجرمين !.
تدخل أكرم مرةً أخرى بعصبية وقال بحسم:
_ مش هترجعي لوحدك، هكون معاكي .. وهفضل معاكي .. على الأقل لحد ما اتأكد أنك في أمان.
نطق عصفور بعفوية دون ادراك خطورة ما سيقوله :
_ طب ما أنت كمان البوليس بيدور عليك وفي خطر !! .
شهقت جيهان من الصدمة، بينما نظر شاندو وشامي لعصفور بغيظ شديد وكأن ما ثرثر به سرًا حربيا فائق الخطورة، فشحب وجه الصغير وركض نحو أكرم واحتضن ذراعه وهو يرفع رأسه بنظرات أسف وخوف بريء … فتنفس أكرم بضيق شديد ورفع يده الأخرى ومررها على رأس الصغير برفق كأنه تقبّل أسفه، ثم غادر الغرفة دون توضيح الأمر .. واستطاعت جيهان أخيرًا النطق بعد صدمتها وقالت برعب :
_ البوليس بيدور عليه ليه ؟!
نظر الصغار لها ساهمين بدهشة، ويبدو أن المُطلعين على هذا الأمر عددًا بسيط بينهم .. فأجابها شاندو بتوضيح بسيط للأمر كي لا يسوء فهمها :
_ مش زي ما أنتي فاهمة .. بيدور عليه عشان الزعامة ساب كل حاجة ومشي .. ساب شغله وثروته وأهله وخدنا احنا بس وجينا على هنا… ومحدش من أهله ولا صحابه يعرف هو فين لحد دلوقتي .. لكن هو معملش حاجة غلط والله.
تنفست جيهان بهدوء ثم نظرت لشاندو وسألت بتصميم ومعرفة تفاصيل القصة كاملة، فاعتذر شاندو وقال :
_ معلش مش هقدر اقولك أكتر من كده .. لو عايزة تعرفي الحكلية ممكن تسأليه شخصيا.
اغتاظت منه جيهان وسكتت بعد ذلك .. وقالت اشهاد بضيق :
_ هو مش بيحب إننا نتدخل في حياته الشخصية يا ماما جيهان وبيضايق .. واحنا بنحبه ومش عايزين نزعله.
قالت جيهان بتفهم :
_ خلاص يا أشهاد اعتبروني مسألتش .. المهم أني اطمنت إنه مش مجرم ولا حاجة.
افصحت وصيفة عن شيء بالصدفة وقالت :
_ مجرم ايه ده نجم مشهور وعنده فيلا كبيرة وغني أوي..
لكمتها أشهاد بغيظ في ذراعها، بينما فغرت جيهان فاها من الصدمة، ولكن لم تقتنع بتلك الهفوة، فلو كان كذلك لكانت تعرفت عليه سريعا .. واعتبرت الأمر مدح مبالغ فيه وابتسمت للفتاة .. وبعد دقائق انصرف الصغار من الغرفة، وعادت جيهان لطيارات فكرها المتضاربة ..
************
وفي المشفى ..
دخل وجيه مكتبه وعلى وجهه الضيق الشديد والغضب، ثم جلس وهو ينتظر المحامي الخاص بشؤونه .. وبعد وقت دخل رجل خمسيني وبيده حقيبة سوداء متوسطة الحجم، واستقبله وجيه بترحيب مقتطب ..حتى قال الرجل وهو يجلس :
_ أنت ايه اللي مضايقك بس وقلقك يا وجيه؟! ده مجرد استدعاء باسمك وأنتهى امره ؟!.
نظر وجيه للرجل و رد بعصبية :
_ مجرد أستدعاء ؟! .. دي كانت مراتي في يوم من الأيام أزاي مش عايزني اضايق وأنا معرفش هي فين ؟!
قال الرجل بعد صمت وتفكير :
_ لحد دلوقتي مش عارفين نتأكد أن كانت البنت اللي هربت من المستشفى هي طليقتك مدام جيهان ولا واحدة تانية .. بما أن العربية قدروا يعرفوا نمرها بعد اللي حصل .. لو مراتك ظهرت هنقدر نوصل لحاجات كتير .. بس الأهم يكون معاها اثبات وشهود بوجودها في المكان اللي كانت فيه فترة الاختفاء … عشان البنت اللي هربت دي لو مش طليقتك ممكن تدبس طليقتك في مصيبة بسبب اللبس اللي حاصل بينهم.
تنهدت وجيه بعصبية وقال :
_ أنا دورت عليها في كل مكان ومش لاقيها .. جيهان مالهاش حد غيري يا توفيق ولازم اقف جنبها .. أنا وعدتها أني مش هتخلى عنها في أي أزمة تواجهها بعد الطلاق .. وأنا عمري ما خذلت حد.
طمئنه الرجل وقال :
_ هي بس تظهر وكل شيء هيتحل أمره بإذن الله ما تقلقش .. الموضوع ليه ثغرات وحلول .. بس مقدرش اعمل حاجة وهي مختفية كده!.
شعر وجيه بالمسؤولية الشديدة اتجاه ما يحدث لها، ورغم ذلك لم يخبر احدًا عن أمر اختفائها ويحدث بلبلة وأحاديثٍ لن تنتهي ..
************
تأففت جيهان من جلسوها بمفردها وقد مر ساعاتٍ طوال منذ آخر مرة تحدثت مع أحدًا .. فنهضت وتوجهت نحو النافذة لتجدد الهواء لرئتيها، حتى شاهدت الفتى الصغير “شامي” وهو جالسا وحيدا وشاردا ويبدو على صفحة وجهه العبوس والحزن … فشعرت جيهان أن اللحظة الحاسمة للحديث معه قد أتت، ولم تتردد في التحرك والخروج من الغرفة مع الحذر والترقب من أن يراها احد.
وتظاهرت بالعرج وهي تتجه نحو الصبي الذي بدوره تفاجأ بظهورها وهي تجلس بجانبه على كومة من الأخشاب، وقد بدأ قرص الشمس يبتعد شيئا فشيء .. وقالت مبتسمة:
_ قاعد لوحدك ليه يا شامي ؟ ..
نظر الصبي أمامه ونظرته كأنها تنظر لعالم آخر وهو يجيب بتقطيبة:
_ وفيها إيه يعني .. ما أنا طول عمري لوحدي!.
شعرت جيهان بعاطفة الأم نحو الصبي .. فقالت برقة :
_ طب ينفع نبقى صحاب ؟
التفت لها الصبي ونظر لها بتمعن، ورغم ادراكه انها ربما اشفقت عليه ولكنه وافق بترحاب وقال :
_ اكيد ينفع.
صمتت جيهان للحظات ورتبت بداية الحديث بعقلها ثم قالت :
_ أنا مبسوطة إنك غيرت رأيك وفضلت في القصر، كده احسن وافضل ليك وللجميع.
تعجب شامي وقال :
_ أنا ما غيرتش رأيي .. بس يعني تفتكري وجودي مهم كده للباقي ؟!
اكدت جيهان وقالت :
_ رغم أني غريبة عنكم وبقالي فترة بسيطة معاكم، بس ااكدلك أن وجودك مهم وجدًا كمان .. لأشهاد والولاد اللي هنا .. وقبل كل شيء لأكرم .. الزعامة زي ما بتنادوله.
شك الصبي بقولها وقال :
_ مكنش أهاني كده .. تفتكري لو انا أبنه بجد كان عاملني كده ؟
وظهر بعين الصبي الحزن والألم وعذاب اليتم، فأجابته جيهان برقة:
_ رغم أختلافي معاه بس هو فعلًا بيحبكم وبيعتبركم ولاده مقدرش أنكر… وعايزاك تسأل نفسك سؤال .. هو ليه ساب كل حاجة وراه واختاركم انتوا بس عشان تبقوا معاه ؟! .. ليه مختارش حد غيركم مثلًا !!.
ظهرت الحيرة بنظرات الصبي حتى تابعت جيهان :
_ يا شامي أنت لسه صغير .. بكرا لما تكبر هتعرف أنك في أشد وقت هيمر عليك مش هتبقى محتاج لحد جانبك غير اللي بتحبهم وبس .. إيه اللي مخليه يرعاكم ويعيش عمره معاكم من وسط كل الناس إلا أنه فعلا بيحبكم ؟! .. واللي عمله معاك تقدر تعتبره عقاب أب لأبنه ، أو حتى لحظة غضب .. بس ليه اعتبرته إهانة ؟
سقطت من عينان الصبي الدموع وقال :
_ لأني شبعت من الضرب والاهانة يا ست جيهان .. أنتي متعرفيش عشان الاقي لقمة اكلها كان بيحصلي ايه !! .. ولما كبرت شوية وقدرت اشتغل دوخت واتمرمطت عشان اخر اليوم الاقي كام جنيه يصرفوا عليا وعلى العيال اللي معايا … وأولهم أشهاد .. لما دخلنا ملجأ وجالنا في مرة زيارة حبيناه أوي .. رغم أني كنت حاسس أنه مش طايقنا .. بس لما كنا بنشوفه بنفرح ، عشان كان بيجبلنا لعب واكل كتير أوي ..
ربتت جيهان عى كتفه بحنان وواسته حتى هدأ الصبي، ثم شعرت أنها وجدت اخيرا أول الخيط لمعرفة سر هذا الرجل، فحست الصبي أن يتابع وقالت :
_ أنتم عرفتوه في ملجأ ؟!!
اومأ الصبي بالايجاب وقال:
_ آه .. بس لما لقينا الناس في الملجأ بيعاملونا وحش هربنا أنا والعيال .. ما استحملتش حد يزعق لأشهاد ولا يشخط فيها .. وفي يوم لقينا الولا عصفور جاي جري ومعاه ورقة جرنان فيها صورة أكرم بيه .. ولما خليت حد يقرأ الجرنال عرفنا أنه عمل حادثة وناشرين صورته مع الخبر .. خدت العيال وجرينا على عنوان المستشفى ..
تلهفت جيهان للمتابعة وقالت:
_ ها وبعدين ؟
تابع الصبي وهو يسرد ما حدث قبل أشهر عديدة:
_ معرفناش ندخل المستشفى بسهولة، بس دخلنا من غير ما حد يحس .. ودورنا عليه لحد ما لقيناه، اتلمينا حواليه وهو نايم على سريره مش حاسس بينا وفضلنا نعيط وندعيله يقوم بالسلامة .. مكناش عارفين نعمله ايه عشان يرد علينا .. احنا حبيناه اوي والله واتعودنا على زيارته لينا .. كنا خايفين نتحرم منه.
مسحت دموعها تأثرًا بحديث الصبي وقالت :
_ وهو حس بيكم ؟
أجاب الصبي وقال :
_ لأ .. كان تعبان أوي .. وفجأة دخلت واحدة مش عارف قريبته ولا خطيبته وطلعتنا برا .. طردتنا تقريبًا.
دهشت جيهان لهذا الافصاح وتسمرت للحظات، وأضاف الصبي شامي وقال مبتسما وهو يتذكر:
_ ولما مشينا انا والعيال حاولنا ندخله تاني يوم ومعرفناش .. بس سيبنا مع الممرضة عنوان المكان اللي ممكن يلاقينا فيه لما يفوق .. وبعد يومين لقيناه جايلنا في الشارع .. كان حد تاني ، حسيته أبويا وهو بياخدنا في حضنه .. وقالنا أنه كان سامعنا وحس بينا … وقرر ياخدنا للقصر اللي اشتراه من فترة.
تنهد الصبي وقال بضيق:
_ أنا حسيت انه حزين أوي الفترة دي بس مش عارف من أيه .. كل اللي عرفناه أنه ساب كل حاجة ومشي .. وكنت مستغرب .. أزاي واحد في شهرته وغناه يمشي كده بسهولة ؟!
استوقف جيهان الجملة الأخيرة وقالت :
_ شهرته ؟! … ليه هو كان بيشتغل ايه ؟!
رد شامي وقال :
_ ملحن مشهور .. عمل أغاني لمطربين كتير أوي ومشاهير .. وبيغني كمان وصوته جميل ..
صدمت جيهان لوهلة، وتذكرت تلك الالة الموسيقية التي رأته بيده ذات يوم، وطريقته المحترفة في العزف عليها وربطت الأمور ببعضها ، ثم شهقت عندما تذكرت شيء وقالت :
_ هو ده اللي كانت الجرايد والاخبار بتتكلم عن اختفائه ؟! ايوة أنا افتكرت أني شوفت الخبر ده في التليفزيون من كام شهر !!.
أجاب الصبي وقال :
_ أيوة هو .. أكرم حجازي .. الملحن المشهور اللي أختفى ومحدش عارف مكانه.
دهشت جيهان وشعرت بالحيرة أكثر وقالت:
_ يا ترى ايه اللي خلاه يعمل كده ؟! … ايه اللي وصله أنه يرمي الدنيا دي بحالها ورا ضهره ويجي في المكان المقطوع ده ؟!
رد عليها وقال بنفس حيرتها:
_ مش عارف .. بس هو في فعلًا حاجة حصلت وتقريبًا بخصوص الست اللي طردتنا من المستشفى … لأني مرة وأنا بحكيله عن اللي عملته زعق وغضب وحذرنا ما نجبش سيرتها تاني … وفضلنا هنا لحد ما وصلتي أنتي.
نظرت جيهان للصبي وعادت للموضوع الأساسي وقالت :
_ يعني تفتكر هتقدر تمشي بسهولة وتسيبه بعد اللي عمله عشانكم ؟ … هيهون عليك ؟!
نظر الصبي للأسفل بهم ثقيل وأجاب بصدق:
_ لا مش هاين عليا أمشي وأسيبه .. أنا فعلًا بحبه وبعتبره أبويا وصاحبي .. بس هو وجعني لما ضربني بالقلم ..
ربتت جيهان على كتفه وقالت :
_ أنا مش هفسرلك القلم ده كان ليه، أنا عايزاك تتكلم معاه وتفهم منه .. وعايزاك كمان توعدني أن مهما حصل تفضلوا كلكم إيد واحدة .
نظر لها الصبي بمحبة وقال :
_ أوعدك … بس نفسي تفضلي معانا، أنتي مش متخيلة هنزعل أزاي لما تمشي .. احنا حبيناكي زي ما حبيناه بالضبط ..
ابتسمت جيهان ببهجة وقالت :
_ مش عايزة اتكلم في موضوعي دلوقتي، سببها بظروفها، المهم إنك وعدتني …
اومأ الصبي رأسه بالايجاب والموافقة .. وفجأة انتبهت جيهان لخطوات قادمة فشعرت بالقادم، وقالت للصبي :
_ روح فرح اخواتك وفرح أشهاد بالخبر يا شامي ، يلا قوم بسرعة وقولهم.
نهض الصبي وفطن أنها تريد التحدث مع أكرم لبعض الوقت … وتعجب أكرم الذي نظر لشامي بنظرة عاطفة أبوية تجاه الصبي … حيث قالت جيهان فجأة وهي لا زالت جالسة بارتياح على كومة الأخشاب:
_ ممكن نتكلم شوية ؟
ابتسم اكرم ابتسامة خفيفة بنظرة مرحبة بالاقتراح، وجلس على بُعد مسافةً منها وقال:
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سيد القصر الجنوبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *