روايات

رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم سارة علي

رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم سارة علي

رواية حبيسة قلبه المظلم البارت الخامس والأربعون

رواية حبيسة قلبه المظلم الجزء الخامس والأربعون

حبيسة قلبه المظلم
حبيسة قلبه المظلم

رواية حبيسة قلبه المظلم الحلقة الخامسة والأربعون

كانت تتفحص حقيبتها تتأكد من أخذها جميع ما تحتاجه وأهمهم مستمسكات السفر عندما سمعت طرقات على باب غرفتها فسمحت للطارق بالدخول لتدخل الخادمة فتشير ليلى الى الحقيبة متوسطة الحجم :-
” أنزليها الى الأسفل …”
هزت الخادمة رأسها بطاعة وسارعت تسحب الحقيبة وتجرها خارج الغرفة عندما أغلقت ليلى سحاب حقيبتها الأنيقة وحملتها بعدما وضعت فيها هاتفها أخيرا …
وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها للمرة الأخيرة حيث تتأكد من كمال هندامها قبل أن تغادر غرفتها حيث ستودع عائلتها أولا ثم تغادر المنزل مع كنان متجهة إلى إيطاليا …
ما إن خرجت من الغرفة حتى رأت مريم تتقدم نحوها فإبتسمت لها لتبتسم مريم بدورها بخفوت وهي تسألها بعدما وقفت أمامها :-
” هل ستتأخرين هناك ..؟!”
ردت ليلى بجدية:-
“فقط ثلاثة أيام …”
ثم صمتت تتأمل وجوم شقيقتها والذي لم تفهم سببه فهمست بصدق :-
” ما بالك يا مريم ..؟! لماذا يزعجك سفري الى هذا الحد ..؟!”
أجابت مريم بتردد :-
” سأشتاق لك ..”
ثم أطلقت تنهيدة بطيئة وعقلها يأمرها أن تخبر شقيقتها الحقيقة لكنها تتراجع ككل مرة عندما همست ليلى متعجبة :-
” تتحدثين وكأنها المرة الأولى التي أسافر بها أو أترك بها المنزل …”
أكملت وهي تلوي ثغرها بتهكم :-
” وكأنني لم أعش لأعوام بعيدا عنكم …”
تقدمت مريم نحوها تربت على كتفها تهمس برجاء خالص :-
” لا تتأخري يا ليلى ..”
توترت ملامح ليلى وهي تسأل بتوجس :-
” هل هناك شيء ما يا مريم ..؟! يمكنني إلغاء الرحلة حالا ..”
قاطعتها مريم بسرعة :-
“كلا ، لا داعي لذلك … انا فقط مكتئبة قليلا ..”
أكملت وهي تبتسم لها لتصنع :-
” جميعنا نعلم مدى أهمية هذه الشراكة لنا .. دعك مني وفكري بهذه الشراكة …”
أكملت وهي تحتضنها :-
” سأشتاق لك … عودي بسرعة …”
ابتسمت ليلى وهي تربت بكفيها فوق ظهر مريم قبل أن تبتعد عنها وهي تخبرها بإبتسامة هادئة :-
” وأنا سأشتاق لك كثيرا .. إعتني بنفسك جيدا حتى أعود …”
أكملت بتحذير مصطنع :-
” إياك وإفتعال المشاكل في غيابي يا مريم …”
ضحكت مريم مرغمة وهي ترفع كفها بإستسلام مصطنع :-
” سمعا وطاعة يا هانم ..
توقفت ليلى عن ضحكاتها بعدها وهي تتمتم بجدية :-
” إهتمي بعبد الرحمن حتى أعود ..”
ظهر عدم الرضا على ملامح مريم عندما أضافت ليلى برجاء خاص :-
” لأجلي يا مريم .. إعتني به في فترة غيابي … ”
زمت مريم شفتيها بعبوس والرفض ظهر في عينيها عندما نطقت ليلى إسمها بحزم لتهز مريم رأسها مرددة على مضض :-
” حسنا ..”
” عديني يا مريم أن تهتمي به جيدا حتى أعود ..”
قالتها ليلى بجدية وهي تنظر الى ملامح شقيقتها الواجمة لتجد السكون مسيطرا عليها فتكرر بإصرار :-
” عديني يا مريم ..”
زفرت مريم أنفاسها بتأفف خفي وهي ترد :-
” حسنا .. أعدك …”
ابتسمت ليلى وعانقتها بخفة مجددا قبل أن تبتعد عنها وهي تقرصها من وجنتها تردد بمشاغبة :-
” صغيرتي العنيدة …”
ابتسمت مريم لها بينما تحركت ليلى حيث ذهبت الى والدها الذي كان معتزلا كالعادة في غرفته الجديدة …
دلفت ليلى الى تلك الغرفة التي إستقر بها بناء على قرار والدتها لتجده جالسا يقرأ في أحد الكتب بهدوء عندما رفع وجهه نحوها فإبتسم لها لا إراديا لتتقدم نحوه وتعانقه بحنو قبل أن تهمس له :-
” جئت لتوديعك قبل السفر .. ”
ربت على كتفها وهو يقول بصدق :-
” سأشتاق لك يا صغيرتي ..”
أضاف وهو يربت على جانب وجهها بكفه بعدما إبتعدت عنه قليلا :-
” أعلم إن المسؤولية باتت ثقيلة عليك .. لكنني أعدك إنني سأعود في أقرب وقت و …”
قاطعته بصدق :-
” ليس مهما .. المهم أن تبقى بخير ..”
أضافت تتسائل :-
” هل أنت بخير حقا …؟! أنت تثير قلقي ومخاوفي عليك …”
ابتسم مرددا بخفوت :-
” انا بخير يا ليلى ..”
اكمل بعدما تنهد بصوت مسموع :-
” لا تقلقي بشأن صحتي فالطبيب طمأنني على وضعي …”
همست بجدية :-
” وطمأنني أنا أيضا وأوصاني أن تبقى ملتزما بعلاجك وزياراتك الدورية له ..”
هتف أحمد بجدية :-
” وأنا أفعل ذلك ..”
ابتسمت وهي تردد :-
” نحن نحتاجك يا بابا .. إعتني بنفسك … إذا لم يكن لأجلك فلأجلنا نحن …”
أضافت بتردد :-
” عبد الرحمن يحتاجك .. انت مبتعد عنه تماما .. أعلم إنك متباعد عنا جميعا ولكنه صغير … يكفي إن والدته تخلت عنه فلا تتخلى عنه أنت أيضا ..”
هتف يطمأنها :-
” لا تقلقي يا ليلى… لن أبتعد عنه ولا عنكم .. انا فقط أحتاج بعض الوقت … أحتاج أن أنفرد بنفسي بعيدا .. ”
ابتسم يضيف بصدق :-
” كل شيء سيعود كالسابق قريبا بإذن الله ….”
عادت تعانقه مجددا قبل أن تبتعد وتودعه مغادرة غرفته لتلقي نظرة على غرفة شقيقها الذي كان نائما وقد ودعته هي في وقت سابق ووعدته أن تجلب له الهدايا …
هبطت الى الطابق السفلي حيث وجدت والدتها هناك لتودعها حيث أوصتها والدتها وصاياها المعتادة وهي تدعو لها أن يوفقها الله وتسافر وتعود سالمة ..
وأخيرا خرجت من الفيلا بعدما أخبرها الحارس بوصول السيارة التي ستقلها الى المطار ..
كانت تنوي الذهاب الى المطار بمفردها مع السائق كما إعتادت ولكن كنان أخبرها إنه سيمر عليها بنفسه ويقلها معه في سيارته وهي بدورها لم ترفض حيث لم تجدد مبررا للرفض فهما في النهاية سيذهبان في رحلة عمل كلاهما شريكان فيها ومن الطبيعي أن يكونا سويا ..
تحركت ليلى نحو السيارة السوداء الضخمة عندما إستقبلها السائق يبتسم لها بلباقة مرحبا قبل أن يفتح لها الباب لترد تحيته وهي تدلف الى الداخل لتجد كنان جالسا يترقب قدومها عندما منحته إبتسامة هادئة وهي تلقي تحية الصباح عليه ليرد تحيتها بهدوء ..
ركب السائق في مقعده وسألهما إذا ما يتحرك أم إنهما ينتظران شيئا ما فسألها كنان إذا ما يستطيعان المغادرة لتهز رأسها بصمت ليخبر كنان السائق أن يتحرك نحو المطار …
أخذت ليلى تتأمل الطريق بصمت من خلف النافذة بينما كنان كان منشغلا في مراجعة أعماله على جهازه اللوحي حتى وصلا الى المطار أخيرا…
مرت الإجراءات سريعا حيث علمت ليلى إنهما سيسافران في طائرته الخاصة فصمتت دون تعليق وهي تفكر في مدى ثراء كنان الفاحش فهي رغم ثرائها من جهة والدها ووالدتها لكن لم يمتلك أيا من أفراد عائلتيها طائرة خاصة للسفر …
بعد مدة من الزمن كانت ليلى تجلس على مقعدها والمضيفة تقدم لها الشراب الدافئ الذي طلبته بينما كنان يجلس على المقعد المقابل لمقعدها بمسافة ليست قريبة عموما وما زال يعمل بتركيز بينما وضعت المضيفة أمامه قهوته التي على ما يبدو إعتادت أن تضعها أمامه في كل رحلة …
حملت ليلى مشروبها وبدأت ترتشفه بهدوء ثم أخذت قطعة من الحلوى الموضوعة أمامها تذوقتها فأعجبها طعمها لتلقي ناظرة عابرة على ذلك الجالس يعمل منهمكا فتعود وتسترخي في جلستها وهي ترتشف شرابها ببطأ وتلذذ …
بعدما إنتهت ليلى من تناول مشروبها شعرت بالإسترخاء يسيطر عليها وقد ذهب توترها تماما عندما سحبت هاتفها الخلوي ومعه السماعات خاصتها فشغلت إحدى أنواع الموسيقى الكلاسيكية التي تحبها بعدما وضعت سماعاتها داخل أذنيها ثم إسترخت في جلستها أكثر وأغمضت عينيها وشردت بعيدا مع أنغام تلك الموسيقى ..!!
بعد مدة ليست بطويلة إستدار كنان نحوها وهو الذي كان يتجنب النظر لها متعمدا فوضع تركيزه على بعض أعماله التي نجحت في إشغاله عنها بجدارة عندما قاده فضوله أخيرا ليلتفت نحوها فيجدها بتلك الوضعية حيث تميل برأسها الى الخلف فوق المقعد وعينيها مغمضتين وتلك السماعات الموضوعة في أذنيها وعلى ما يبدو إنها غرقت في نومها دون أن تعي …
تأمل ملامح وجهها الساكنة بجمالها الرائع ليرى أمامه لوحة فنية متكاملة وكم أعجبه منظرها وهي نائمة بسلام فبدأت التخيلات تجتاح عقله وهو يعد نفسه إنها قريبا ستنام بنفس الطريقة جانبه وفي سريره ..
كان يود بشده أن يعرف نوع الموسيقى التي تسمعها رغم كونه يخمن إنها تفضل الإستماع الى الموسيقى الكلاسيكية الهادئة وليست تلك الإيقاعية الصاخبة …
عاد بظهره الى الخلف يبعد بصره عنها مرغما يخبر نفسها ألا يستعجل فالأمور تصب في صالحه حتى الآن وكل شيء سيحدث كما يريد …
مرت حوالي ثلاثة ساعات عندما تقدمت المضيفة تسأله إذا ما تقدم طعام الغداء أم تنتظر أكثر فأخبرها أن تنتظر ساعة أخرى ثم توقظ تلك النائمة بعمق وهدوء جذاب كي تتناول الطعام ..
وبالفعل بعد ساعة تقدمت المضيفة تربت على كتف ليلى التي أخذت ترمش بعينيها قبل أن تفتحهما وهي تتمتم ببعض الكلمات برقة سلبت لبه وهو الذي يتابعها بتركيز عندما إنفرجت عن شفتيها أخيرا إبتسامة ناعمة رائقة وهي تومأ برأسها فتبتعد المضيفة لتجلب الطعام بينما تلاقت عينيها بعينيه أخيرا فعاد التوتر يغزوها ليمنحها هو إبتسامة هادئة متحفظة وهو يجبر نفسه على العودة ببصره الى الأمام منشغلا بأي شيء غيرها كي لا يقلقها أو يشتتها أبدا …
أخذ الإثنان بعدها يتناولان طعامهما بصمت وقد كانت ليلى تشعر بالجوع الشديد خاصة والطعام كان شهيا ولذيذا …
عندما إنتهيا من تناول الطعام أخبرها كنان إنه لم يتبقَ سوى ساعتين على الهبوط وقد كان ما حدث عندما ربطت هي حزامها بعدما تم إبلاغهما إنهما على وشك الهبوط لتهبط الطائرة في مطار ليوناردو دا فينشي الشهير …
سألها كنان ما إن هبطا من الطائرة :-
” هل كانت الرحلة مريحة …؟!”
أجابته بصدق :-
” جدا ..”
إبتسم لها برزانه ثم تقدما الى داخل المطار كي يتم إنهاء الإجرائات المطلوبة قبل مغادرتهما المطار متجهين الى احد أشهر الفنادق في العاصمة الإيطالية روما ..
بعد مدة من الزمن ..
دلفت ليلى الى جانب كنان الى فندق جراند بلازا في روما الشهير بتصميماته الفريدة التي تحاكي تصاميم العصور الوسطى …
تأملت ليلى المكان بإعجاب شديد فهي رغم زيارتها روما مرتين سابقتين الثانية كانت في سنتها الجامعية الأولى لكنها أقامت كالعادة في إحدى الفنادق العصرية الشهيرة وليس في هذا الفندق الرائع بتصاميمه الآثرية العتيقة التي تعشقها …
أفاقت من تأملاتها على صوت أنثوى جذاب يرحب بهما لتستدير فتجد فتاة شديدة الجمال تحتضن كنان الذي بدوره قبلها من وجنتيها وهي تتحدث بلهجة عربية تماثل لهجتهما :-
” إشتقت لك كثيرا …”
ابتسم كنان بود وهو يردد :-
” وأنا أكثر يا جوان …”
أشار نحو ليلى يخبر الفتاة التي ما زالت تحتفط بإبتسامتها الرحبة :-
” ليلى سليمان يا جوان .. شريكتي في المشروع الجديد ..”
ثم أشار ناحية ليلى يخبرها :-
” جوان يا ليلى… صديقتي والمسؤولة عن إدارة أعمالي في روما ..”
ابتسمت ليلى بتحفظ عندما هتفت جوان بترحيب :-
” اهلا ليلى هانم … سعدت برؤيتك حقا …”
ابتسمت ليلى وهي ترد تحيتها بهدوء عندما أشارت جوان لكليهما :-
” حجزت لكما جناحين ملكيين رائعين … ”
أكملت وهي تسأل كنان بفضول :-
” مع إنني إستغربت رغبتك بتغيير مكان إقامتك المعتاد …”
إسترسلت وهي تشير الى ليلى :-
” المكان سيعجبك بالتأكيد .. كما ترين هو يحمل عبق تاريخ روما الرائع …”
ردت ليلى بخفة :-
” إنه يبدو رائعا بالفعل …”
استدار كنان نحوها يسألها :-
” بالطبع تحبين أن ترتاحين أولا …؟!”
هزت ليلى رأسها بتأكيد ليهتف كنان بجدية :-
” حسنا … الآن إرتاحي وسنتناول العشاء مساءا سويا اذا لم يكن لديكِ مانع
” لا مانع لدي بالطبع ..”
قالتها ليلى بتروي عندما أشارت جوان الى أحد الموظفين تخبره أن يوصل ليلى الى جناحها لتستأذن ليلى وهي تسير مبتعدة عنهما تاركة جوان مع كنان حيث سألته وهي تتأمل تلك الراحلة بعينيها :-
” هل إخترت هذا الفندق تحديدا لأجل تلك الجميلة ..؟!”
ابتسم كنان ببرود قائلا :-
” لطالما أعجبتني فراستك يا جوان …”
ثم عاد البرود يكتسيه وهو يضيف :-
” لكنه ليس من شأنه ..”
مطت شفتيها بإمتعاض ليغمغم وهو يشير الى الموظف الآخر كي يتجه الى الجناح :-
” والآن إسمحي لي فأنا أحتاج الى الراحة بعد هذه الرحلة الطويلة …”
…..:……………………………………………………….
بعد مرور ثلاثة ساعات ..
فتحت ليلى عينيها على صوت منبه هاتفها فسارعت تغلقه وهي تتمطى داخل فراشها بتعب ..
إعتدلت في جلستها وهي تتأمل المكان حولها بديكوره المميز والذي يحمل عبق الماضي في كل شيء فإبتسمت لا إراديا وهي تتذكر كم إنها تحب العصور القديمة وتعشق كل ما هو مرتبط بها دائما حتى إنها كانت تتمنى لو ولدت في إحدى تلك الحقبات ..
ورغما عنها وجدت نفسها تتسائل عن السبب الذي جعله يختار هذا الفندق لها تحديدا …
تذكرت كلام جوان تلك وتعجبها من تغيير الفندق الذي إعتاد أن يقيم به فيعتمل شعور قوي داخلها بإنه إختار هذا الفندق عن قصد ولكن كيف أدرك إنها تحب هذا النوع من الأماكن وكل ما يتعلق بالماضي والتاريخ ..؟!
كيف علم شيئا كهذا ..؟!
من أين سيعلم كنان نعمان بذلك ..؟!
كذبت شعورها ذلك بكونه يعرف ما ترغبه وأخذت تقنع نفسها إنها تتوهم ليس إلا …
أزاحت الغطاء عنها ونهضت من فوق سريرها متجهة الى الحمام الملحق في غرفتها في الجناح الفخم الذي حجزه كنان لها …
وقفت أمام المغسلة تتأمل وجهها في المرآة للحظات قبل أن تغسل وجهها ثم تفرش أسنانها لتخرج وتقرر تبديل ملابسها استعدادا لعشاء الليلة ..
خرجت من الحمام وإتجهت تبحث عن شيء مناسب ترتديه فإختارت فستانا أسود قصير يصل الى منتصف فخذيها ذو حمالات عريضة وتصميم بسيط للغاية كعادتها في إختيار فساتينها …
إرتدت مع الفستان حذاء أسود اللون ذو كعب عالي بعدما سرحت شعرها الأشقر الطويل بشكل مموج جذاب …
وأخيرا حملت حقيبتها وجلست خارج الغرفة في صالة الجلوس الملحقة بالجناح تنتظر اتصاله او ربما مروره …
أخذت تتأمل المكان حولها بصمت وعاد عقلها يشرد لكن بنديم هذه المرة عندما تذكرت رؤيتها له في شركة كنان فعاد الشك يعتمل داخلها والقلق يسيطر عليها رغما عنها كلما تسائلت عن سبب وجود نديم في شركة كنان في نفس الفترة التي تعاقدت هي معه على هذا المشروع فهي لا تستطيع التصديق إن ما يحدث ليس إلا صدفة …
لا تستطيع الإقتناع بهذا …
زفرت أنفاسها بتعب من التفكير الذي لا ينتهي والمشاكل التي لا تلبث أن تحيطها بإستمرار ..
إنتبهت على صوت الطرقات على باب الجناح فنهضت من مكانها بلا وعي وعاد التوتر يسيطر عليها فنهرت نفسها كما تفعل بالعادة وهي تشمخ برأسها وتتجه نحو الباب بعدما حملت حقيبتها …
فتحت باب الجناح بتأهب لتجده أمامها بكامل لياقته مرتديا بذلة شديدة الأنيقة ذات لون كحلي أسفلها قميص أسود اللون وقد ترك زره العلوي مفتوح حيث تظهر بشرته البرونزية الجذابة وتفاحة آدم البارزة التي تظهر بوضوح ..
منحها إبتسامة هادئة رزينة ضاعفت جاذبيته وهو يخبرها بصدق :-
” تبدين رائعة …”
إحمرت وجنتيها بخجل فطري وهي تجيب بخفوت :-
” أشكرك ..”
ثم تحركت خارج الغرفة وهي تحمل حقيبتها الصغيرة في يدها عندما أغلقت الباب ليشير هو لها :-
” سنتناول العشاء في المطعم الخاص بالفندق .. سيعجبك كثيرا ..”
هزت رأسها بصمت وسارت جانبه مطرقة الرأس في بادئ الأمر حتى لاحظت ذلك فسارعت ترفع ذقنها عاليا وتسير جانبه بشموخ لطالما تحلت به ولكن وجوده حولها يبدد ثباتها بشكل يثير أعصابها ولا تفهمه …
كانت لا تفهم كيف يمكنه أن يمتلك هذا التأثير عليها وكلما بحثت عن جواب لا تجد جوابا مقنعا ..
أبعدت تلك الأفكار كالعادة عن رأسها وهي تدلف الى داخل المصعد يتبعها هو عندما ضغط على زر الطابق الأرضي فوقفت هي جانبه تنظر أمامها بصمت تتعمد عدم النظر نحوه لأي سبب كان وكأنها تخشى أن يقبض عليها متلبسة بنظراتها نحوه ..!!
خرجت من المصعد يتبعها هو لتسير جانبه مجددا بإتجاه مكان المطعم عندما دلفا سويا الى القاعة الواسعة لتتأمل ليلى المكان بإعجاب ليس بجديد فهي رغم كل شيء أعجبها المكان رغم كونها لم تستكشفه بعد لكنها قررت أن تفعل ما إن تجد الوقت الكافي …
سحب كنان الكرسي لها لتجلس عليه وهي تشكره برقة قبل أن يتجه ويجلس على الكرسي المقابل لها ليبتسم لها برزانة عادت تشتت مشاعرها …
بادلته إبتسامته وهي تسحب قائمة الطعام بعدما وضعها النادل أماميهما …
أخذت تقرأ بلا تركيز عندما سمعته يسألها :-
” ماذا تفضلين أن تتناولين ..؟!”
أكمل بهدوء :-
” الطعام الإيطالي رائع .. لكنني أنصحك بتجربة المأكولات البحرية .. ستحبينها كثيرا ..”
همست بتردد :-
” لا أعتقد ذلك .. في الحقيقة لا أظن إنني من محبين المأكولات البحرية …”
سألها بإهتمام :-
” هل جربتها من قبل ..؟!”
أجابت وهي تهز رأسها نفيا :-
” أبدا .. لم أفكر يوما في تجربتها .. في الحقيقة تناولت احدى المرات ذلك المحار في إسطنبول ولم يعجبني طعمه أبدا ومنذ ذلك الوقت وأنا لم أفكر في تناول المأكولات البحرية لإنني أتذكر طعمه مباشرة …”
ابتسم قائلا :-
” جربيها هنا ولن تندمي ..”
أضاف بجدية :-
” دعيني أنا أختار لك طبقا مناسبا على ذوقي وأعدك إنه سيعجبك …”
نظرت له بحيرة فقال وهو يمنحها إبتسامة رحبة :-
” ثقي بي ولن تندمي ..”
هزت رأسها بصمت معلنة موافقتها فأشار هو الى النادل يحدثه بلهجته الإيطالية والتي وجدته يتحدث بها بطلاقة ولكنة إيطالية تماما خالية من أية أخطاء على ما يبدو ..
سألته بعدما غادر النادل :-
” أنت تتحدث الإيطالية بطلاقة … هل درستها أم هذا بسبب عملك المستمر على ما يبدو هنا ..؟!”
ابتسم بخفوت وقد نجح في جذب إنتباهها دون أن يخطط لدرجة إنها من بادرت الحديث عندما أجاب بجدية :-
” انا أجيد الإيطالية منذ أن كنت طفلا ..”
نظرت له بقليل من الدهشة ليضيف شارحا :-
” لقد قضيت سنوات طويلة من عمري هنا ..”
أكمل موضحا :-
” جدتي لوالدتي كانت إيطالية …”
تمتمت :-
” حقا ..؟!”
اومأ برأسه وهو يسترسل :-
” ولدت في البلاد وعشت بها أربعة أعوام ثم ما لبثت وإنتقلت مع والدي الى إيطاليا وبقينا هناك حتى أكملت عامي العاشر لنعود بعدها الى البلاد مجددا وفي تلك المدة أتقفنت الإيطالية انا وشقيقتي عليا وحتى سيف …”
توقف للحظة ثم أكمل :-
” عندما عدنا الى البلاد لم نتوقف عن زيارة إيطاليا عاما واحد حتى .. أستطيع القول إن إقامتنا كانت بين هنا والبلاد … ”
هتفت تبتسم بخفوت :-
” أنت تمتلك جذوروا إيطالية إذا ..؟!”
اومأ برأسه وقال مضيفا :-
” وأمتلك الجنسية الإيطالية أيضا …”
قالت بصدق :-
” إيطاليا بلد رائع .. لقد سبق وزرتها مرتين .. مرة مع ماما وبابا عندما كنت في الثانية عشر من عمري ومرة أخرى في سنتي الجامعية الأولى مع أصدقائي ….”
وافقها قائلا :-
” إيطاليا رائعة .. انا لن أنقطع عن هنا إطلاقا .. أسافر هنا بين الحين والآخر … عملي هنا يجبرني على عدم الإنقطاع إضافة الى كوني أحب البلاد هنا كثيرا …”
سألته بتفكير :-
” أنت بالطبع تمتلك فرع لشركاتك هنا …”
هز رأسه مؤكدا فسألته بشك :-
” هل تعني إن الشركة المسؤولة عن التصميمات والتي أتينا هنا لأجلها هي تابعة لمجموعة شركاتك …”
هز رأسه وإبتسامته ظهرت على شفتيه بوضوح لتغمغم :-
” الآن فهمت ..”
هتف بعملية واضحة :-
” لم أكن لأتعاقد مع شركة ما وأنا لدي شركة كاملة متخصصة في هذا المجال بالطبع ..”
هزت رأسها توافقه :-
” بالطبع …”
أضاف يخبرها :-
” جوان التي رأيتها .. تكون مديرة فرع الشركة هنا .. ”
” تبدو فتاة جيدة …”
قالتها بهدوء ليقول بجدية :-
” إنها فتاة مجتهدة ورائعة .. والدها من كبار الأثرياء لكنها رفضت أن تعمل معه وقررت الإعتماد على نفسها ..”
إسترسل يخبرها :-
” لقد قررت دخول مجال العمل منذ سنتها الجامعية الأولى لكن بعيدا عن شركات والدها وكون والدي صديق والدها المقرب وتعتبره بمثابة عم لها طلبت منه أن تعمل معنا فعينتها في فرع الشركة هنا وهي لم تكذب خبرا حيث سارعت في إثبات وجودها لأقرر منحها مسؤولية إدارة أعمال الشركة هنا بعد خمسة سنوات فقط …”
سألته بإهتمام :-
” كم عمرها ..؟! ”
رد عليها :-
” في الرابعة والعشرين من عمرها …”
هتفت بدهشة :-
” ما زالت صغيرة جدا .. يعني لا أقصد التدخل ولكنها تبدو صغيرة على الإدارة ..!”
ابتسم قائلا :-
” وانا فكرت كذلك في البداية بل رفضت تعيينها وهي لم تتجاوز عامها الثامن عشر ولكنني لاحظت منذ بداية عملها مدى فطنتها وذكائها الحاد فصببت إهتمامي عليها ومع مرور الوقت زاد إعتمادي عليها حتى قررت أخيرا منحها هذا المنصب المهم وأحد أسباب ذلك هي ثقتي الشديدة بها كونها تعتبر بمثابة قريبتي وليست فقط موظفة عندي ..”
هزت رأسها بتفهم بينما توقف هو عن حديثه عندما تقدم النادل وهو يحمل الأطعمة معه ..
تأملت ليلى الطبق الذي وضعه النادل أمامها بتردد لاحظه كنان فهتف بإهتمام :-
” صدقيني لن تندمي …”
رفعت عينيها العسليتين نحوه فتلاقت بعينيه ليبتسم لها بثقة أجبرتها على مد شوكتها نحو الطعام وتذوق قطعة صغيرة من الطعام …
تأملها وهي تقضم تلك الصغيرة وشفتيها الجذابتين بذلك اللون الرقيق الذي يزينهما فوجد جبينها يتغضن للحظات وهي تتذوق طعمه فيسألها بترقب :-
” ها .. ما رأيك …؟!”
أجابت وهي تمسح فمها بالمنديل :-
” لا بأس به ..”
هتف مبتسما داخله :-
” كلما تتذوقين لقمة منه كلما ستشعرين بطعمه أكثر ويعجبك أكثر …”
نظرت له بنصف عين ليمنحها إبتسامة صامتة قبل أن يطرق برأسه ويبدأ في تناول طعامه عندما نظرت هي الى الطبق مجددا وهي تفكر إن طعمه لم يكن سيئا كما توقعت فجذبت قطعة أخرى صغيرة منه وتناولتها بصمت وشعرت بالفعل إنها بدأت تتذوق طعمه بشكل أفضل ولم تشعر بنفور منه …
أخذت ليلى تتناول الطعام ببطأ وقد أعجبها الطعام عموما لكنها توقفت قبل أن تنهي نصف الطبق حتى حيث وضعت شوكتها جانبا وعادت تمسح فمها بالمنديل ليسألها بإهتمام :-
” هل شبعت أم إن الطعام لم يعجبك ..؟!”
ردت بصدق :-
” كلا ، إنه لذيذ عموما لكنني شبعت …”
أضافت بجدية :-
” لا يمكنني تناول المزيد حقا ..”
هز رأسه بتفهم قبل أن يسألها :-
” هل تشربين النبيذ ..؟!”
ردت بسرعة :-
” بالطبع لا …”
أكملت بصوت حازم :-
” لا أتناول الخمور بكافة أنواعها …”
هز رأسه بتفهم دون رد عندما سألها مجددا :-
” إذا ما رأيك أن نذهب الى الساحل بعد قليل .. سيكون الجو هناك رائعا …”
هزت رأسها موافقة ولم تستطع رفض طلبه ليبتسم هو بصمت مريب كعادته …
………………………………………………
في احد المقاهي المطلة على أحد شواطئ روما الشهيرة كانت ليلى تجلس وأمامها يجلس كنان عندما تقدم النادل ووضع أمامهما ما طلباه من مشروب …
هتفت ليلى بصدق وهي تتأمل مياه الشاطئ القريبة منها :-
” المكان رائع حقا ..”
هتف كنان مبتسما :-
” هذا المقهى المفضل بالنسبة لي .. عندما آتي الى هنا أزوره بشكل شبه يومي …”
جذبت قدح عصيرها ترتشف منه القليل قبل أن تضعه مكانه وهي تتسائل بتردد :-
” هل يمكنني سؤالك عن شيء ما ..؟!”
” بالطبع …”
صمتت للحظة تقلب أفكارها داخل رأسها قبل أن تنطق بتروي :-
” في الحقيقة انا لا أشعر بالراحة حيال الكثير من الأمور التي تخص شراكتنا ..”
رفع حاجبه يتسائل :-
” أمور مثل ماذا ..؟!”
أجابت بصراحة رغم لهجتها الحذرة عموما :-
” الشراكة بأكملها لا تجعلني أشعر بالراحة …”
توقفت عن الحديث ليسألها بتروي :-
” هل أنت نادمة على شراكتك معي ..؟!”
هزت رأسها وهي تجيب :-
” نعم ، نادمة كثيرا ..”
سألها وهو يتراجع بجسده الى الخلف :-
” لماذا ..؟!”
ردت بصدق :-
” لإنني أعلم جيدا إن لديك أهدافا محددة وراء هذه الشراكة .. أهدافا لن تعجبني ورغم هذا وافقت فقط لأجل أنقاذ شركة والدي بوضعها الحالي …”
همس وهو يرمقها بنظرة إعجاب لا إراديه بسبب صراحتها وهدوئها وعفويتها التي لم تؤثر على هدوئها ورقيها وهي تتحدث :-
” هل تعتقدين إن أهدافي تلك ستضرك أيا كانت نوعها ..؟!”
ردت بنفس الصدق :-
” نعم ، أعتقد ذلك ..”
أضافت وهي تنظر له بثبات :-
” في البداية كنت أعتقد إن شراكتك لي مرتبطة بعرض الزواج والآن أصبحت أشك في أمر مختلف ..”
أكملت ولهجتها كانت قوية ثابتة كليا :-
” لقد رأيت نديم ذلك اليوم … رأيته في شركته وعقلي لا يقبل التصديق إن وجوده في شركته في نفس وقت شراكتنا محض صدفة …”
ابتسم بصمت .. صمت امتد للحظات بينما عيناها كانت تنظران لعينيه بترقب ليهمس أخيرا :-
” حسنا توقعت ذلك .. كنت واثقا إنكِ رأيته ذلك اليوم فأنت وصلتِ الى مكتبي بعد خروجه بقليل …”
اومأت برأسها ليضيف بجدية :-
” هناك شيء ما يجمعني بنديم …”
توقف للحظة يتأمل حيرة عينيها فيضيف :-
” لكن ما يجمعني به بعيد عنك تماما … ”
توقف لوهلة ثم أكمل :-
” عليك أن تعلمي شيئا مهما يا ليلى .. انا عندما عرضت الزواج عليكِ جعلتك منطقة محظورة للجميع … بمعنى إنه لا أنا ولا غيري يمكنه المساس بك أو مجرد التفكير بك بطريقة غير لائقة لذا إياك أن تفكري أو تشكي ولو قليلا إنني قد أستغلك بهذه الطريقة وأنا أريدك زوجة لي …”
أخفت توترها بمهارة وهي تسأله بتحدي :-
” لكنك كنت ستفعل لو لم تفكر بي كزوجة ..؟!”
رد مستمعتا بتجاوبها معه مجددا :-
” نعم ، سأفعل ولن أنكر هكذا .. لكن لم أكن لأستغلك بتلك الطريقة التي تخطر على بالك .. يعني لن أسعى للتقرب منك مثلا وخداعك .. انا لا أحب الخداع بل انا شخص صريح جدا .. وواضح جدا يا ليلى …”
سألته بتردد :-
” ما يجمعك بنديم ، عداوة أم صداقة ..؟!”
سألها بدوره :-
” وهل يفرق معك ..؟! إذا كان ما يجمعني به عداوة فماذا ستفعلين ..؟! هل ستطلبين مني عدم إيذاءه ..؟! هل ستترجيني لأبتعد عنه ..؟!”
أكمل عن قصد :-
” أم ستنفذين ما أريده لي فقط لأجل حمايته مني …”
إتسعت عيناها بعدم تصديق لتنتفض من مكانها وتجذب حقيبتها وتهم بالمغادرة ليقف بدوره ويقبض على ذراعها فيجذبها نحوه لتنظر إليه بعينين حادتين بدتا كنيران لاهبة حارقة جذبته نحوها دون رحمة عندما همست من بين أسنانها وعيناها هبطتا نحو كفه التي تقبض على ذراعها :-
” اتركني …”
هتف بتروي :-
” إسمعيني اولا يا ليلى ..”
هدرت وقد بدأت تفقد تعقلها :-
” إتركني وألا سأفتعل فضيحة لك هنا …”
قال بثقة :-
” لست انت من تفعل هذا …”
هتفت بقوة :-
” لا تختبر صبري يا كنان …”
أضافت وهي تنظر له بتحدي ووهج عينيها عاد يجذبه في أعماقه دون رحمة :-
” إتركني ..”
حرر ذراعها من كفه فتركته بسرعة متجهة خارج المكان بخطوات راكضة تاركة إياه يتابعها بضيق جلي ..
خرجت من المقهى ودموعها تراكمت داخل مقلتيها تهدد بالهطول عندما إتجهت نحو الساحل تسير فوق الرمال قبل أن تتوقف وتميل بجسدها نحو الأسفل تخلع حذائها عنها وتحمله معها وهي تعاود السير أمام الشاطئ بصمت والدموع تتدفق فوق وجنتيها بغزارة …
لا يعرف كم آلمتها كلماته فهو ذكر تلك النقطة التي تشكل حاجزا منيعا بالنسبة لها ..
لقد عبث بتلك النقطة الحساسة جدا لها …
لقد قفز دون وعي الى الشيء الذي تجاهله طويلا عن عمد حيث لم يكن لديها خيار سوى ذلك …
توقفت أمام الشاطئ تنظر إليه بعينيها الحمراوين وتلك الدموع التي تغطي وجهها الحسن تهمس لنفسها بصوت لا يسمع :-
” ليلى الغبية .. الحمقاء .. المضحية …”
كانت تنعت نفسها بصفات لا تشبهها ولا تليق بها لكنها باتت ترى نفسها كذلك بالفعل وهذا أسوء ما في الأمر …
شعرت بصوت أنفاس متقطعة خلفها فتخشب جسدها وتلك النبرة تغزو قلبها وروحها :-
” لو تعلمين كيف تبدين في هذه اللحظة ..؟!”
نبرته العميقة بها شيء يجذبها كالمغناطيس .. شيء لا تفهمه ..
كل شيء به مبهم .. نظراته ، حديثه ، نبرة صوته وحتى صمته مبهم ورغم هذا تنجذب لكل هذه التفاصيل دون وعي منها .. بلا حول او قوة …
هو رجل مختلف لا يشبه الرجال الذين رأتهم في حياتها ..
لا يشبه الرجل الذي عشقته حد النخاع والموت ولا الآخر الذي تزوجته ..
رجل مختلف … وهذا الإختلاف غريبا عليها وجديدا للغاية …
نطقت بلا وعي :-
” كيف أبدو ..؟!”
رد وعيناه تتأملان شعرها المسترسل بخصلاته الشقراء المموجة الطويلة وذلك الفستان القصير الذي يحتضن جسدها الجذاب ببياضه الناصع وقدميها الحافيتين وسط الرمال الذهبية :-
” تبدين كالشمس وسط الظلام … ”
همست ساخرة عن قصد :-
” بل أبدو كالشمعة التي تحترق لأجل الجميع …!!”
شهقت عندما وجدته يقبض على ذراعها مجددا ويديرها نحوه لتتجمد تماما وهي ترى تلك النظرات في عينيه ..
نظرات مليئة بالشغف … الشغف الذي أشعل لهيب روحها ..
نظراته عميقة جدا وشغوفة جدا ..
سألها بصوت رجولي رخيم :-
” لماذا تبكين ..؟!”
أضاف وعيناه تتأملان وجهها بقوة تشع منهما :-
” لا يليق البكاء بك يا ليلى … أميرة مثلك لا يجب أن تبكي …”
أضاف وكفه تحرر ذراعها وتتجه نحو شعرها فتنزلق أنامله السمراء داخل خصلاتها الشقراء :-
” إذا كنت تعتقدين إن تضحيتك السابقة غباء فأنت مخطئة وإذا كنت تعتقدين إنك لم تجني شيئا بسبب تضحيتك هذه فأنت مخطئة …”
نظرت له بعدم تصديق ليبتسم بخفوت وهو يهز رأسه مرددا :-
” أنا أعلم كل شيء ….”
تجمدت ملامحها من جديد ليضيف وأنامله تهبط نحو وجنتها البيضاء الرطبة :-
” هل تريدين أن تعرفي رأيي بكِ بعدما عرفته عنكِ وعن تضحيتك تلك …؟!”
ظهر التأهب عليها ليكمل وإبهامه يتوقف جانب شفتيها :-
” تسائلت إذا ما كان يوجد إمرأة مثلك تمتلك هذا القدر من القوة والإخلاص …؟! إمرأة بقدر ما تحمل من جمال خارجي يوجد داخلها جمال لا يضاهيه جمال …!!! إمرأة نقية كالماس .. ثمينة كالروح وأكثر …”
توقف عن حديثه للحظة ثم أكمل :-
” ورغم إنني حسدت ذلك الغبي لكنني شكرته .. نعم شكرته لإنه إبتعد عن طريقك … وأشفقت عليه أيضا .. أشفقت عليه كثيرا يا ليلى .. فهو ترك جوهرة ثمينة مثلك لا يمكن تعويضها …”
همست أخيرا بضعف :-
” كنان …”
قاطعها بثبات :-
” لكنني أثق جيدا إنني سأفعل … منذ أن وضعك الله في طريقي وقد عاهدت نفسي أن أحافظ على تلك الجوهرة حتى آخر أنفاسي ..”
أكمل وعيناه تحاوطان عينيها بنظرة آسرة :-
” سأفعل كل شيء لأجلها وأمنحها كل شيء … ”
أطلق تنهيدة طويلة وهو يضيف :-
” أنت أثمن شيء أريده يا ليلى وسأناله .. ”
أكمل بثقة :-
” ستكونين لي يا ليلى .. انا واثق من هذا .. هل تعلمين لماذا أنا أثق بحدوث هذا …؟!”
ورغما عن كل شيء ظهر التساؤل في عينيها ليبتسم هو ويقول :-
” لإنني أريدك فعلا وقولا … لإنني أريدك الى الأبد … لإن الله يعلم ما هي نيتي اتجاهك ويعلم ما أحمله نحوك وما ينتظرك مني …. لإن جوهرة مثلك لا يستحقها سوى رجل يدرك قيمتها ويعرف جيدا كيف يعتني بها ويحافظ عليها من أبسط الأشياء …”
أنهى كلماته وعيناه طوقتا عينيها بنظرة طويلة ثابتة مليئة بالشوق والشغف لترتجف شفتيها لا إراديا …
إنحدرت نظراته نحو الأسفل حيث موضع شفتيها فإرتجف جسدها كليا وهي تتخيل ما هو مقدم عليه …
لم يستطع منع نفسه .. لم يستطع المقاومة …
هبط بشفتيه نحو شفتيها ولامس شفتيها برقة ..
قبلة خفيفة فوق موضع شفتيها …
شفتاها بالكاد لامست شفتيها وهناك فقاعات نارية تفجرت داخله بينما إختلطت هي مشاعرها كليا ولم تفهم ما يحدث معها لكنها سرعت ما دفعته وهي تتجه راكضة بسرعة بعيدا عنه ومعها حقيبتها وحذائها …
……………………………………………………..
في صباح اليوم التالي …
إستيقظت من نومها لتجده يقف أمام المرآة يمشط شعره فسألته وهي تعتدل في جلستها :-
” إلى أين ستذهب ..؟!”
أجابها وهو يستدير نحوها بعدما أعاد المشط الى مكانه :-
” لدي عمل هام …”
نظرت له بتوجس ليضيف بجدية :-
” بالمناسبة ، موضوع الجامعة سيتم حل آمره خلال أيام … يمكنك البدء غدا في دوامك حتى يتم حل الموضوع بشكل نهائي …”
ابتسمت بحماس وهي تنهض من مكانها :-
” حقا ..؟! الحمد لله ..”
ثم تقدمت نحوه تحتضنه بعفوية وهي تشكره بفرحة غامرة :-
” شكرا لك كثيرا يا نديم ..”
عانقها بدوره وهو يردد :-
” لا مجال للشكر بين الزوج وزوجته …”
ابتعدت عنه قليلا تخبره بحب :-
” سأعد طعام الفطور لك ..”
ثم تحركت الى الخارج بحماس دون أن تنتظر رده ليراقبها مبتسما وذلك الحماس منحه دفعة من الطاقة الإيجابية لبداية يوم جديد …
تقدمت حياة بحماس نحو المطبخ لتعد طعام الفطور عندما شعرت بدوار خفيف يسيطر عليها لتستند بكفها على الحائط للحظات حتى عاد توازنها الى وضعه الطبيعي ..
وضعت كفها فوق رأسها بإرهاق داهمها فجأة قررت تتجاوزه وهي تتجه لإعداد الفطور كما أرادت …
بعد لحظات تقدم نديم نحوها ليجدها تعد البيض المقلي وقد وضعت إبريق الشاي فوق الطباخ ليهمس وهو يسحب احد كراسي الطاولة الدائرية ويجلس عليه :-
” هل تحتاجين لمساعدة ما …؟!”
ردت وهي تلتفت له مبتسمة :-
” كلا ، شكرا …”
ثم عادت تنهي ما تفعله …
تقدمت بعد لحظات وهي تضع طبق البيض أمامه ثم جهزت كوب قهوته ووضعته أمامه قبل أن تصب الشاي لها فتشعر بنفس الدوار مجددا للحظات قبل أن يختفي فتتنهد بحيرة وهي تحمل كوب الشاي خاصتها وتتقدم نحو نديم وتجلس أمامه …
بدئا بتناول الطعام عندما قالت بجدية :-
” سأتحدث مع مي بعد الفطور كي ترسل لي جميع المحاضرات التي أخذتها في الفترة السابقة …”
سألها بإهتمام :-
” هل أخذوا الكثير من المحاضرات ..؟!”
ردت بجدية :-
” لا تقلق .. ليس كثيرا للغاية …”
أضافت تشاغبه :-
” وحتى لو كان ذلك .. لدي زوجي حبيبي يساعدني ويشرح لي جميع المواد ..”
ابتسم مرددا بخفة :-
” أشرح لك ما تريدين ولكن ليس دون مقابل …”
عبست ملامحها وهي تردد :-
” مقابل ..؟!”
أضافت تسأله :-
” وما المقابل الذي تريده يا بك …؟!”
رد وهو ينحني نحوها :-
” مقابل كل صفحة أشرحها قبلة …”
تخضبت وجنتيها بحمرة شديدة ليبتسم مرغما عندما تمتمت وهي تجذب كوب الشاي وترتشف منه :-
” توقف عن المزاح ..”
ضحك مرغما على منظرها لتهتف بعفوية :-
” ولكن حقا أنت رائع في شرح المواد .. هل تتذكر تلك المادة التي شرحتها لي ورغم صعوبتها إلا إنني حصلت على إمتياز فيها بعدما شرحتها لي وجعلتها بسيطة جدا .. انت صيدلاني رائع يا نديم …”
تجهمت ملامحه كليا عندما نطقت جملتها الأخيرة ليبتلع القهوة مرغما ثم يقول بهمس :-
” لم أعد صيدلانيا يا حياة ..”
تأملت ملامحه وقد أدركت خطأها فهمست بنبرة متأسفة :-
” نديم انا …”
أوقفها بإشارة منه :-
” لا يهم يا حياة ..”
ثم عاد يرتشف قهوته بصمت دون أن ينظر نحوها لتزم شفتيها بعبوس وهي تؤنب نفسها على تصرفها الأحمق ..
حملت كوبها مجددا وحاولت أن ترتشف الشاي لكنها لم تستطع فنهضت من مكانها وتوجهت نحوه لينظر لها بدهشة عندما وقفت أمامه مباشرة وأحاطت وجهها بين كفيه تخبره وعيناها تنظران نحو عينيه بثبات :-
” أنت صيدلاني رائع يا نديم … ”
أكملت بقوة وسيطرة تامة :-
” حتى لو قال الجميع عكس ذلك .. ستظل هذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها … يكفي أن يدرك الله إنها حقيقة .. يكفي أن تدرك أنت إنها حقيقة … حتى لو لم يصدقك أي أحد .. حتى لو كذبك الجميع .. يكفي إن الله عز وجل يصدقك …”
أكملت وهي تنحني بجسدها نحوه فيقابل وجهها وجهه لتبتسم وهي تضيف :-
” يوما ما سيدرك الجميع الحقيقة فالباطل لا يدوم مهما طال والحق سيظهر عاجلا أم آجلا …”
سألها بتردد :-
” هل تعتقدين ذلك ..؟!”
ردت بثقة :-
” بل متأكدة منه … الله لا يترك عبدا مظلوما للأبد .. لا بد أن يأتي يوم ويرد له حقه ويثبت إنه كان مظلوما أمام الجميع …”
ابتسم هو هذه المرة عندما مال يقبل كفها الذي يحيط وجهه قبل أن ينهض من مكانها فتهبط كفيها أرضا ليحيط بكفيه وجهها ويهمس لها بصدق :-
” لولاك ما كانت هناك حياة يا حياة …”
إبتسمت بإشراقة ليطبع قبلة فوق شفتيها وهو يردد :-
” حفظك الله لي يا حياتي …”
عانقته بسرعة وهي تهمس :-
” وحفظك الله لي يا حبيبي …”
شدد من عناقها وهو يستنشق عبيرها الرائع قبل أن يبعدها عنه وهو يردد :-
” سأشتاق لك حتى أعود ..”
ضحكت برقة تخبره :-
” عد بسرعة إذا …”
قال وهو يغمز بعينيه لها :-
” لن أتأخر ..”
هم بالتحرك عندما شعر بكفها تقبض على قماش قميصه لينظر لها متسائلا بقلق :-
” ماذا هناك يا حياة ..؟!”
جلست على الكرسي خلفها وهي تهمس بصوت ضعيف :-
” دوار خفيف .. لا تقلق …”
وضع كفه فوق وجنتها يتسائل :-
” هل تشعرين بشيء ما غير الدوار ..؟!”
هزت رأسها نفيا وهي تخبره :-
” انا بخير .. لا تقلق ..”
قال بجدية :-
” لنذهب الى الطبيب ..”
قاطعته بسرعة :-
” انا حقا بخير يا نديم …”
نظر لها بتوجس لتبتسم تطمأنه :-
” لا تقلق … هيا إذهب الى عملك .. ستتأخر ..”
هتف بجدية :-
” لن أذهب الى أي مكان .. لا يمكن أن أتركك وأنتِ بهذه الحالة … ماذا لو أصابك مكروه ما وأنا لست هنا …؟! ”
” ولكن يا نديم ..”
أوقفها بحزم :-
” ربما يصيبك الدوار مجددا وانا في الخارج … ماذا ستفعلين حينها وأنت هنا وحدك … سأبقى معك …”
أضاف وهو يشير لها :-
” إذهبي الى الغرفة وإرتاحي قليلا وأنا سأنظف المكان …”
أرادت أن تعترض لكن النظرة الحازمة في عينيه جعلتها تهز رأسها على مضض قبل أن تنهض من مكانها وتتحرك نحو غرفتها حيث جلستَ فوق سريرها وعاد شعور الإرهاق يسيطر عليها لتغمض عينيها وهي تسترخي فوق سريرها بسلام ..
……………………………………………..
خرجت من جناحها وهي ترتدي ملابس رسمية مكونة من بنطال أسود اللون فوقه ستره سوداء يوجد أسفلها قميص ذو لون أزرق غامق ..
شعرها الأشقر مرفوع عاليا بتسريحة بسيطة ووجها زينته بالقليل من مساحيق التجميل لتخفي آثار عدم نومها ليلة البارحة …
لقد قضت الليل بأكمله تتذكر ما حدث …
كلماته لها وحديثه عنها بتلك الطريقة وقبلته ..
كم نهرت نفسها على ما حدث رغم كونها لم تكن واعية تماما لما يحدث …!!
ورغما عنها أخذت تلوم نفسها مجددا وتفكيرها أخذ يأخذ مسارات عديدة كلها مرهقة لروحها ..
تارة تلوم نفسها وتارة تلومه ..
تارة تخبر نفسها إن كل شيء حدث بسرعة ودون إرادة منها وتارة تشعر إنها تداركت رغبته وصمتت أمامها …
أفكارها متداخلة كليا ومتشعبة بشكل قاسي على قلبها …
لم فعل هذا ..؟! لم قال ما قاله ..؟! لمَ فعل ما فعله ..؟! لمَ إقتحم حياتها بكل ما فيها ..؟! لمَ زعزع ثباتها التي جاهدت لتناله …؟! لمَ أتى ودمر كل شيء ..؟
من أين ظهر كنان هذا ..؟! أي حظ عاثر أوقعها معه ..؟!
كنان رجل خطير جدا كما أدركت من المرة الأولى التي رأتها فيه ..
رجل يرهق أعصابها بنظراته الغامضة وإسلوبه المنمق وجميع تصرفاته ..
رجل دخل حياتها وتغلغل داخلها بسرعة ودون إدراك منها لتجد نفسها بين ليلة وضحاها مرتبطة به …
نعم هناك رابط خفي يجمعها به .. رابط لا تدرك ماهيته لكنها تشعر به جيدا …
توقفت عن أفكارها وهي تتأمله مكانها للحظات وهو جالسا على احدى الطاولات يتناول قهوتها بهدوء منتظرا قدومها ليذهبا الى فرع الشركة ..
كان يجلس بهدوء وثقة كعادته .. يرتشف قهوته ونظراته مرتكزة فوق جهازه اللوحي ..!!
تأملته بتلك الجلسة فإضطربت مشاعرها تماما وفكرة أن تتقدم نحوه وتعمل معه ترهبها رغما عنها …
أخذت نفسا عميقا تحاول منح الثبات لنفسها …
تخبر نفسها إنها مجرد قبلة لا تكاد تذكر …
سارت بخطواتها البطيئة نحوه ليرفع وجهه لا إراديا وكأن حدسه أنبأه بقدومها ليمنحها نفس الإبتسامة الرسمية المهذبة التي يرسمها على وجهه كلما رآها فتسارعت أنفاسها بقوة لتحاول تهدئة نفسها وهي تقف أمامه تخبره بإقتضاب :-
” صباح الخير …”
رد بهدوء :-
” صباح النور ..”
أضاف وهو ينهض من مكانه برسمية :-
” هل أنت جاهزة للذهاب ..؟!”
هزت رأسها وهي تجيب :-
” نعم ، جاهزة ..”
سارت جانبه حيث خرجا من الفندق وركبت في السيارة المخصصة له حيث تحرك السائق متجها بهما الى مقر الشركة …
هبطا من السيارة حيث وجدا جوان تستقبلهما بإبتسامتها المرحبة في المقدمة ليتجه الثلاثة الى مكتب المدير العام والذي تعمل به جوان غالبا كنائبة عن كنان …
جلس كنان في مقدمة المكتب بينما ليلى على الكرسي المقابل له لتسألهما جوان بسرعة عما يحبان تناوله قبل أن يبدأ الإجتماع بينهم هم الثلاثة حيث تحدثوا عن التصاميم التي جهزتها جوان مسبقا وقد إنبهرت ليلى حرفيا بمدى روعة التصاميم …
إندمجت ليلى في الحديث عن العمل متناسية ما حدث حتى مرت حوالي ساعتين قبل أن ينتهي الإجتماع لتبتسم جوان وهي تهتف بعملية :-
” إذا إتفقنا على أهم الأمور .. سأخبر الجميع أن يصمموا كل شيء كما تريد …”
ثم خرجت من المكتب بعدما سألتهما عما يحبان تناوله مجددا حتى تعود …
ظل كلاهما جالسا مكانه بصمت عندما نهض كنان مرددا وهو يشير الى تلك الكنبة التي توجد قرب النافذة وجانبها كرسيين :-
” تفضلي نجلس هناك …”
نهضت من مكانها تحمل حقيبتها وتتجه نحو الكنبة يتبعها هو عندما جلست فوق الكنبة تضع قدما فوق الأخرى وجلس هو على احد الكراسي الجانبية ليتقدم موظف البوفيه وهو يحمل القهوة لكليهما ..
غادر الموظف لتدخل جوان بعده مباشرة وهي تبتسم قائلة :-
” كل شيء سيتم بأفضل مما أردتما …”
هتف كنان بجدية :-
” لا شك لدي في هذا يا جوان …”
منحته جوان إبتسامة رائقة ثم نظرت الى ليلى تخبرها :-
” سعدت حقا بمعرفتك يا هانم …”
أكملت وهي تتأملها بإعجاب :-
” يليق بك حقا أن تكوني سيدة أعمال …”
تنحنت ليلى تتمتم :-
” لم أصبح بعد .. ما زلت جديدة في هذا المجال .. ”
سألتها جوان بإهتمام :-
” كيف يعني ..؟! ألست مديرة شركات آل سليمان ..؟!”
قاطعها كنان موضحا :-
” ليلى هانم تولت إدارة الشركة مؤقتا حتى يستعيد والدها صحته ويعود لإدارة الشركة بدوره …”
سألتها جوان بفضول :-
” هل تعملين في مجال آخر ..؟! ”
رغما عنها تذكرت ليلى إنها لم تدخل ميادين العمل طوال تلك السنوات فنطقت بحسرة لم يشعر بها سوى كنان :-
” كلا ، لم أعمل من قبل للأسف ..”
قالت جوان :-
” برأيي أن تضعي تركيزك في عملك الحالي … هذه فرصة ذهبية لإثبات وجودك في عالم التجارة .. ”
قالت ليلى بجدية :-
” انا لا أميل لهذا النوع من الأعمال ..”
سألتها جوان مجددا :-
” ما هو تخصصك الدراسي …؟!”
هتف كنان بخفة :-
” ما كل هذه الاسئلة عزيزتي جوان ..؟!”
مازحته جوان :-
” انا فقط أحب التعرف عليها عن قرب عزيزي كنان …”
راقبت ليلى ابتسامة كنان الودودة عندما همس لها بشيء ما بالإيطالية لتجيبه جوان بعدما ضحكا بصوت مرتفع قليلا بنفس اللهجة …
ولأول مرة تشعر ليلى بالضيق لإنها لا تجيد الإيطالية فهي تتقن الحديث باللغتين الإنكليزية والفرنسية وعندما أرادت والدتها أن تتعلم لغة ثالثة فضلت الألمانية والتي تركتها ليلى في المنتصف بعد أن تعلمت أساسياتها …
سمعته يتحدث مجددا بتلك اللكنة التي بدت جذابة رغم كونها لم تفهم منها شيئا فعاد شعور الضيق يسيطر عليها فهما يتحدثان بلهجة لا تدركها وكأنها لا محل لها من الإعراب …
أنهى كنان حديثه بنفس الإبتسامة الودودة فرفعت ليلى حاجبها بتعجب ورغما عنها تسائلت إذا ما كانت جوان إحدى عشيقات كنان التي سمعت من نائلة عنهن ..
بالطبع ممكن أن تكون عشيقه ، هكذا فكرت وهي تتأمل الفتاة العشرينية بجمالها الغربي الجذاب وملابسها البسيطة وجسدها النحيل …
أشاحت بصرها بعيدا عنهما عندما سمعت صوت جوان يتسائل من جديد :-
” لم تخبريني ما هو مجال دراستك يا ليلى هانم ..؟!”
ردت ليلى وهي تنظر لها بجمود :-
” علاقات عامة ..”
ثم نهضت من مكانها تشير الى كنان بنفس الجمود :-
” هل يمكنني المغادرة الآن ..؟!”
نهض كنان من مكانه مرددا بسرعة :-
” بالطبع … لقد إنتهى عملنا أساسا ..”
ثم نظر الى جوان يخبرها :-
” سأغادر الآن وآتي غدا الى الشركة كي أطمئن على سير العمل قبل سفري صباح اليوم الذي بعد الغد ..”
ابتسمت جوان عندما قبلها من وجنتيها وهو يودعها لتسير ليلى أمامه بعدما ودعتها جوان وملامحها يسيطر عليها الضيق والتعب في آن واحد ..
ركبت جانبه في السيارة عندما تحرك السائق ليسألها كنان بعملية :-
” أتمنى أن يكون كل شيء على ما يرام ونال إعجابك ..!!”
ردت دون أن تنظر نحوه :-
” كل شيء جيد للغاية …”
ثم أخذت تنظر اتجاه النافذة تتأمل الشوارع الخارجية عندما رن هاتفها برقم شقيقتها فسارعت تجيبها ليأتيها صوت مريم الباكي تهمس بإسمها فتسائلت بصوت مرتعب :-
” ماذا حدث يا مريم ..؟! لماذا تبكين …؟!”
ثم توقفت أنفاسها داخل صدرها بينما إنتبه كنان لها ليأتيها صوت مريم بنبرة تسمعها من شقيقتها للمرة الأولى :
” أكرم يا ليلى … أكرم تزوج ..!!”
………………………….. ………………………………………
” توقف من فضلك …”
قالتها ليلى بلا وعي عندما أشار كنان الى السائق أن يتوقف فهبطت ليلى من السيارة بسرعة وإتجهت نحو الرصيف الجانبي وهي تسأل محاولة تهدئة شقيقتها :-
” من أخبرك بهذا ..؟! كيف عرفت ..؟! اهدئي ودعيني أفهم يا مريم ..”
جاءها صوت مريم الباكي بشهقات متتالية :-
” لقد رأيت صورة زفافه على حسابه الشخصي .. شاركها منذ قليل … هو وفتاة أراها للمرة الأولى معه .. لقد تزوج يا ليلى .. بهذه البساطة .. تخلى عني وكأنني شيئا لا يذكر .. شيء لا قيمة له ….”
إرتجف جسد ليلى كليا بينما قلبها يتمزق حزنا على شقيقتها والتي لأول مرة تسمع نبرة كهذه منها .. نبرة تدل على الإنكسار .. الألم والمرارة …
لم تعلم ما يجب أن تقوله فوجدت نفسها تشاركها بكاءها بصمت …
دموعها تساقطت فوق وجنتيها بغزارة عندما سمعت مريم تهتف بحرقة :-
” اللعنة عليه .. اللعنة على معشر الرجال جميعا … والله سأحرق قلبه .. اقسم لك يا ليلى إنني سأحرق قلبه …”
أنهت كلماتها بشهقة باكية ليختفي صوتها بعدها فتهتف ليلى بسرعة من بين دموعها :-
” توقفي يا مريم …”
لكن مريم كانت قد أغلقت هاتفها فحاولت ليلى الإتصال بها مجددا لتجد هاتفها مغلقا ..
ترنحت ليلى في مكانها بتعب قبل أن تتساقط دموعها مجددا وهي تستوعب ما حدث وتتذكر كلام شقيقتها وبكائها وإنكسارها …
وضعت كفها فوق فمها تحاول كتم شهقاتها لكنها فشلت فإرتفع صوت نحيبها وكأن جميع الضغوط التي مرت بها تجمعت فوق روحها في هذه اللحظة ..
كانت تعتصر الهاتف داخل كفها ودموعها تتساقط بغزارة مع أنفاسها التي تعلو وتهبط ….
وجدت كنان يخرج من السيارة يتقدم نحوها مرددا بلهفة :-
” ماذا حدث يا ليلى ..؟! لماذا تبكين ..؟!”
تأملت اللهفة والإهتمام في عينيه …
شعرت برغبة في أن ترتمي في أحضان أحدهم ولم يكن هناك سواه ..
أرادت أن تفعل لكنها تراجعت وهي تتذكر الواقع المرير ..
هو رجل .. مثله مثل جميع الرجال ..
همست بضعف تنفيه بعيدا عن محيط عذابها :-
” إبتعد .. دعني وشأني ..”
همس بإصرار وهو يتقدم نحوها حتى وقف أمامها مباشرة :-
” لن أفعل .. لن أترككِ وأنت على هذه الحالة …”
همست وهي بالكاد تسيطر على شهقاتها :-
” اتركني من فضلك .. انا متعبة تماما .. ”
هتف بجدية :-
” أعلم ..”
صاحت به بتمرد :-
” لماذا لا تتركني إذا طالما إنك تعلم هذا ..؟!”
رد ببساطة :-
” لإنني لا أريد … لا أريد أن أتركك لوحدك .. لا يمكنني أساسا أن أتركك بهذه الحالة ..”
هتفت وهي تمسح دموع عينيها :-
” انا بخير .. لقد توقفت عن البكاء .. هل يمكنك أن تذهب ..؟!”
سألها بهدوء :-
” لماذا تريدين مني الذهاب ..؟! لماذا تحاولين إبعادي عنك ..؟!”
صرخت بتعب :-
” لإنني لا أريدك جانبي .. لا أنت ولا غيرك … لإنني لا أحتاجكم جميعا .. انا لا أحتاج أي أحد …”
هتف محاولا احتواء ثورتها تلك :-
” ولكنك مثلك مثل جميع البشر .. لا بد أن تحتاجي أحدا ما تشاركينه آلامك ومشاكلك …”
ضحكت وهي تشير إليه بإستخفاف متعمد :-
” وهل أنت ستكون هذا الشخص ..؟!”
تجاهل نبرتها المستخفة به وهو يردد ببساطة :-
” ولم لا …؟! ”
بدت وكأنها توقفت عن البكاء لتعقد ذراعيها أمام صدرهل تسأله ببرود :-
” حقا ..؟! دور جميل … لكنه لا يليق بك .. ”
أكملت وهي تتأمله بخفة :-
” لا يليق بك هذا الدور يا كنان .. ”
” لا يمكنك أن تحكمي على شخص لا تعرفينه جيدا بناء على تجاربك السابقة يا ليلى ..”
ضحكت مرددة :-
” حقا ..؟! هذا سيكون أفضل من تكرار التجربة مجددا وعيش نفس الألم مجددا ..”
” ربما ستكون التجربة هذه المرة مختلفة ..”
قالها بهدوء يناقض ثورتها العاصفة لتمنحه نظرة قاتمة وهي تردد :-
” بطل التجربة السابقة جمعني به عشق طويل وسنوات من العشرة … جمعتني به صلة دم وقرابة .. ”
أكملت وهي ترفع إصبعها نحوه :-
” ماذا عنك ..؟! ماذا عنك وأنا لم أعرفك إلا من مدة قصيرة ..؟! هل تعتقد إنني ليلى القديمة حقا ..؟! ليلى الساذجة التي ستصدق كلامك المعسول الذي تفوهت به البارحة وتنغمس معك بكل غباء حتى تستيقظ على صفعة قاسية لا أمل في تجاوزها …”
قال بجدية :-
” انت لم تكونِ يوما ساذجة يا ليلى .. ما فعلتيه مسبقا لا يدل على السذاجة بل يدل على الإخلاص والقوة والتفاني والعطاء …”
صاحت بمرارة :-
” وماذا جنيت من كل هذا …؟! لقد خسرت كل شيء .. فقدت كل شيء حرفيا .. لم أجنِ شيئا سوى الألم والخسارة والعذاب وسنوات من عمري ضاعت هباءا …”
” لا يهم … كل شيء يمكن تعويضه يا ليلى .. الحياة لن تتوقف بسبب تجربة مؤلمة .. كم ضاع من عمرك ..؟! اربع سنوات ..؟! خمسة ..؟! ربما ستة ..؟! ستعوضينها … ستعوضين ما فاتك .. سوف تسترجعين نفسك القديمة وتبدئين صفحة جديدة من حياتك ولكن ليس قبل أن تطوي الصفحة القديمة …”
هدئت ملامحها قليلا وهي تستمع لما يقوله ليخبرها :
” هل تجربين شيئا ما …؟!”
أكمل وهو ينظر نحوها بتدقيق :-
” شيئا حتما سيفيدك …”
سألته بتردد :-
” شيء ماذا …؟!”
مد كفه نحوها يخبرها :-
” تعالي معي …”
نظرت نحو كفه بتردد فقال ممازحا :-
” لن أخطفك يا ليلى .. فقط تعالي معي …”
لا تعرف لماذا شعرت بكونها تريد الذهاب معه ..
تريد معرفة ما يتحدث عنه …
وضعت كفها داخل كفه بتردد ليقبض على كفها وهو يسير معها متجها الى الشاطئ الذي كان قريبا من المكان الذي يقفان فيه ..
وقفا أمام الشاطئ ليحرر كفها و يهتف بجدية لا تقبل مزاح :-
” خذي نفسا عميقا …”
أضاف وهو يتقدم خطوة نحو المياه الصافية :-
” إفتحي ذراعيك وأنت تواجهين المياه الواسعة ثم …”
توقف قليلا يتأملها وهو يضيف :-
” إصرخي بأعلى صوتك …”
همست بدهشة :-
” أصرخ ..!!”
إبتسم بجاذبية يؤكد ما قاله :-
” نعم إصرخي … حرري جميع ما يعتمل داخلك من تراكمات … إصرخي بأعلى صوتك .. إشتمي إذا أردت وإلعني كل من تسبب بأوجاعك … ”
أنهى حديثه ببساطة كما بدأه :-
” لا تتوقفي حتى تخرجي جميع ما يعتمل داخلك ثم خذي نفسا عميقا بعدها وستشعرين حينها بشيء مختلف وكأن هناك روحا جديدا نشأت داخلك من جديد …”
نظراتها بدت مبهمة لا توضح شيئا مما تفكر به فإبتسم بلطف لا يشبهه وهو يضيف وعيناه تجذبان عسليتيها بنظرة بدت لا نهاية لها :-
” جربيها ولن تندمي .. ثقي بي ..!!”
أنهى جملته وغادر تاركا لها المجال لتفرغ جميع ما في جبعتها هنا أمام تلك المياه الهادئة …
نظرت أمامها للحظات بدت طويلة وكل الذكريات بدأت تتجمع داخل عقلها ..
ذكريات عشق ما زال آثره محفورا داخلها …
ذكريات سنوات عاشتها في جحيم مع رجل دمرها كليا ..
كل شيء مر أمامها كشريط …
منذ البداية .. بداية الحب والإعتراف به والإرتباط .. سجنه وزواجها من أخيه .. سنوات عايشتها وحيدة تماما تعاني بصمت .. خروجه ونبذه لها وخذلانها منه … زواج والدها الصادم … خيانته لوالدتها ..
كل شيء كان يظهر متسلسلا تباعا حتى توقفت أفكارها عند هذه اللحظة فصرخت بلا وعي ..
صرخة تليها الأخرى …
صرخت عدة مرات وكأنها تريد تفريغ جميع آلامها هنا في هذا المكان ..
تريد تحريرها من موطنها الكامن داخل قلبها وروحها ..
تريد تحرير روحها من تلك الأوجاع والذكريات التي تقيدها ..
إستمرت في صراخها ..
صرخاتها كانت صامتة لكنها تحمل في صمتها الكثير من الكلام …
عادت دموعها تتساقط مع صراخها .. تتساقط بغزارة .. تصاعدت شهقاتها حتى شعرت بطاقتها تنفذ فسقطت على ركبتيها أرضا ودموعها تهطل بغزارة وشهقاتها تعلو أكثر ..
بكت كثيرا .. بكت ماضيا لا تريد تذكره وحاضرا تريد تغييره ..
بكت حب ضائع وحياة جديدة تخشى مما ينتظرها فيها ..
بكت نفسها ووالدتها وشقيقتها وحتى والدها ..
بكت وبكت وبكت حتى توقفت عن البكاء أخيرا لتغمض عينيها بإستسلام ونسمات هواء رقيقة لفحتها فشعرت بالسكون يملأ كيانها …
سكون غزاها تدريجيا حتى إحتل روحها وقلبها ففتحت عينيها مجددا لترى شعاع الشمس يسطع عاليا في السماء لتبتسم بخفوت وهناك يقين داخلها إن شعاعها هي سوف يسطع قريبا وتشرق شمسها من جديد …
…………………………………………..
بعد مرور يومين ..
كانت تتأمله وهو يشرب قهوته بصمت عندما سألته بإهتمام :-
” كيف يسير وضعك الحالي ..؟!”
رد نديم وهو يضع فنجانه فوق الطاولة :-
” جيد …”
سألته بإهتمام :-
” هل بدأت حياة دوامها الجامعي ..؟!”
هز رأسه مجيب :-
” نعم ، هي الآن في الجامعة …”
تمتمت بجدية :-
” تحدثت معها منذ يومين .. كانت تبدو سعيدة للغاية عكس ما كانت عليه في أمريكا ..”
رد وهو يبتسم :-
” نعم هي سعيدة بالفعل ..”
سألته وهي تنظر إليه :-
” وأنت ..؟! ”
نظر لها بإستغراب :-
” ماذا تعنين بأنت ..؟!”
سألته وهي تضع فنجانها مكانه :-
” هل أنت أيضا سعيد ..؟!”
هتف بجدية :-
” بالطبع ، هل تعتقدين غير ذلك …؟!”
تنهدت وهي تقول بتردد :-
” حاليا لا .. لكن مستقبلا نعم ..”
سألها بتوجس :-
” مالذي تعنينه يا غالية ..؟!”
تحدثت غالية بتروي :-
” انا لا يعجبني ما تفعله يا نديم … طريقتك مع حياة لا تعجبني .. السياسة التي تتبعها معها لا ترضيني ..”
هم بالنهوض وهو يردد بحنق :-
” إذا كنت ستعودين الى نفس حديثك المعتاد فدعيني أغادر أفضل ..”
أوقفته برجاء :-
” توقف يا نديم من فضلك .. عليك أن تفهم إنني أفعل هذا لأجلك ..”
قال بجدية وهو يعود مكانه :-
” انا بخير وحياة كذلك .. اطمئني ..”
سألته بجدية :-
” ألم تحبها ..؟! ألم تشعر بشيء نحوها ..؟!”
رد بإقتضاب :-
” جواب هذا السؤال تعرفينه منذ البداية ..”
هتفت وهي تجاهد لضبط غضبها :-
” كلا يا أعرف يا نديم .. وأريد جوابا محددا …”
رد بجمود :-
” ما بيني وبين حياة أعمق من الحب ..”
هتفت ساخرة :-
” هذا ليس الجواب المطلوب .. الجواب يكون نعم او لا ..”
رد بنفاذ صبر :-
” إذا لا …”
همست مصدومة :-
” إذا لماذا فعلت كل هذا ..؟! مفاجئة وسهرة جميلةوالكثير .. ”
رد بتعجب صادق :-
” ما الغريب فيما فعلته..؟! لمَ التعجب ..؟! أليست زوجتي ..؟! أليس من الطبيعي أن أفاجئها بين الفترة والأخرى ..؟! أليس من المنطقي أن نستجم سويا بين الحين والآخر مثل أي زوجين طبيعين ..؟!”
” هكذا فقط … هل هذا هو السبب الوحيد ..؟!”
سألته بجدية ليرد :-
” وهل يوجد سبب آخر مثلا ..؟!”
هتفت بتروي :-
” ألا يمكن أن يكون تصرفك بدافع التعويض …؟! تعويضها مثلا عن ..”
وهنا توقفت عن الحديث ليكمل نيابة عنها :-
” الحب .. أليس كذلك ..؟!”
هزت رأسها بصمت ليهتف بصدق :-
” كلا يا غالية .. ليس بدافع التعويض .. حسنا انا فعلت ما فعلته لأجل إسعادها وانا بدوري كنت سعيد ..”
” وهل ستبقى سعيدا يا نديم ..؟!”
سألته بمهادنة ليرد ببديهية :-
” لم لا ..؟! بالطبع سأبقى ..”
ابتسمت هازئة وهي تهتف :-
” هل تعلم أين المشكلة الحقيقية يا شقيقي ..؟! المشكلة إنك خططت لحياتك الجديدة ونظمت مستقبلك وحياتك القادمة بأكملها بناء على معاييرك الجديدة … معايير أنت تمسكت بها … راحة وسكينة وطمأنينة ولكن الحب كان خارج هذه المعادلة .. والمشكلة الأكبر إنك نجحت .. نعم نجحت والدليل إنك مرتاح وسعيد … نجحت في ترتيب حياتك بالشكل الذي تريده وحسب معايير محددة وحصلت على النتيجة المطلوبة لكنك تناسيت في خضم هذا كله حياة .. تجاهلت إنها الأخرى لديها معايير معينة للحياة .. كالحب مثلا .. الحب الذي تتجاهله أنت كليا بينما تتوق هي إليه بكل قطرة من روحها …”
نظر لها بتشتت لتخبره :-
” هل تعلم أيضا ما هو الشيء الأسوء من عدم وجود الحب ..؟! تجاهله رغم وجوده يا نديم …”
نظر لها بملامح باهتة لتكمل بقوة :-
” توقف عن تجاهل مشاعرك يا نديم … توقف قبل أن تندم ..”
قاطعها بتهكم مقصود :-
” تتحدثين وكأنكِ تدركين مشاعري يا غالية …”
هتفت بتحدي :-
” نعم أدركها مثلما أدرك مدى إرتباطك بحياة .. مثلما سمعت تلك النبرة في صوتك حيت قررتما الإنفصال .. مثلما رأيت الهلع في عينيك من مجرد سماع فكرة فقدانها .. مثلما رأيت اللهفة في عينيك أيضا كلما تراها أمامك .. رأيت الحب في نظراتك وإهتمامك وسعادتك بوجودها حولك .. رأيت الحب في لهفتك عند سماع صوتها او مجرد ذكر إسمها … رأيت الحب في تمسكك بها وتعلقك وانا التي لم أرك يوما متعلقا بواحدة على هذا النحو … إذا كنت أنت تتعمد تجاهل كل هذا فأنا لا أفعل ..إذا كنت تتجاهل مشاعرك متعمدا فأنا لا يمكنني تركك هكذا .. لن أتركك على عنادك متمسكا بأفكارك تلك حتى يأتي اليوم الذي تخسر فيه حياة وحينها فقط ستدرك إنك تحبها ولكن سيكون الآوان قد فات بعدها ولن تصدق حياة مشاعرك لو أقسمت لها بحبك مرارا وتكرارا لإن لهفة الحب ستكون قد ماتت داخلها ..”
إضطربت ملامحه كليا عندما أنهت حديثها بحزم :-
” اتمنى أن تراجع نفسك مجددا وتتوقف عن هربك المستمر من مشاعرك … يكفي يا نديم حقا .. إذا لم يكن من أجلك فليكن من أجلها هي … ”
نهضت من مكانها ترمقه بنظرات هادئة وهي تضيف ببرود :-
” بالمناسبة الشيء الوحيد الذي يكون أعمق من الحب هو العشق …”
ثم تحركت ببرود تاركة إياه متخبطا في مشاعره كالعادة وداخلها يقين إن هذه المواجهة ستغير شيئا ما …
………………………………….
غادر منزل عائلته بملامح متجهمة وعقله لا يتوقف عن التفكير في حديث شقيقته الذي جاء في وقت غير مناسب على الإطلاق …
أوقف سيارته على جانب أحد الأرصفة ينظر أمامه بصمت وعقله يتذكر كلماتها ..
عقله يخبرها إن شقيقته معها كل الحق فيما قالته فيعود قلبه ويأمره بالتجاهل …
زفر أنفاسه بتعب وعاد يقود سيارته متجها الى شركة كنان الذي عاد من رحلته أخيرا ليتحدث معه ويخبره بقراره المهم الذي إتخذه في فترة غيابه ..
هبط من سيارته ودلف الى الداخل متجها نحو مكان المصاعد الكهربائية لكنه وجدها أمامه وجها لوجه …
ليلى .. حبيبته الأولى وخطيبته سابقا …
ليلى… الإمرأة الأولى في حياته ..
ليلى … حبه الذي فقده مبكرا وعاش لسنوات يعاني حسرة فقدانه ..
ليلى .. شريكة الماضي المفعم بالجمال والأمل والسعادة ..
ليلى … وجع الأمس وألم الروح …
كان لقاءا لا بد أن يحدث يوما ما وقد حدث وها هما الآن يلتقيان بعد كل ما حدث … بعد الفراق والألم .. بعد الحب والوجع … بعد الشوق والحنين ….
نطق أخيرا :-
” ليلى …”
كانت صدمتها أقل … ربما لإنها رأته مسبقا هنا …
تقدمت نحوه تحييه ببرود :-
” اهلا نديم ..”
سألها وهو يتأمل وجهها المرهق :-
” كيف حالك يا ليلى ..”
ردت بهدوء وهي التي عادت صباح البارحة الى البلاد لتعيش أجواء ليست جيدة على الإطلاق قبل أن تأتي صباح اليوم الى كنان للتوقيع على بعض الأوراق المهمة سريعا ولولا أهمية تلك الأوراق وضرورة توقيعها عليها ما كانت لتخرج من المنزل إطلاقا …
سألها ويبدو إنه أدرك مكان وجودها أخيرا :-
” أنت ماذا تفعلين هنا ..؟!”
ردت بصوت عادي :-
” هناك شراكة تجمعني مع كنان نعمان ..”
نظر لها بتوجس لتبتسم مرددة بخفة :-
” شراكة لا علاقة لها بما يجمع بينكما ..”
عقد حاحبيه يتسائل :-
” ومن أين تعرفين ما يجمعنا ..؟!”
ردت ببساطة :-
” لا أعلم مالذي يجمعكما .. لكنني علمت بالصدفة إن هناك شيء ما بينكما عندما رأيتك هنا في احدى المرات وخمنت إن عداوتك مع عمار وعداوة كنان معه جمعتكما …”
أردفت تسأله ببرود :-
” هل تريد الإنتقام ..؟!”
تأملها بصمت وتلك النظرة الباردة في عينيها مختلفة عليه لكنه أجاب بصدق :-
” نعم ، أريد الإنتقام يا ليلى ..”
ظهر عدم الرضا في عينيها ليسأل بخفة :-
” ألا يعجبك ذلك ..؟!”
ردت ببساطة :-
” واقعيا لا يهمني … ولكن برأيي ألا تفعل …”
أضافت وهي تشرد بنظراتها بعيدا :-
” أنت لن تستطيع التغلب عليه .. ليس لإنه الأقوى ..ولكن أساليبه القذرة ستقضي على جميع محاولاتك لذا إذا أردت أن تنتصر عليه فعليك أن تلجأ لنفس أساليبه وإذا فعلت فحينها ستخسر نفسك …”
هتف ساخرا :-
” ألم أخسرها بالفعل يا ليلى …؟!”
منحته نظرة هادئة وهي تردد :-
” كلا يا نديم .. لم تخسرها حتى الآن ولكنك ستفعل إذا سمحت لشيطانك أن يتغلب عليك …”
تجاهل حديثها متعمدا وهو يقول :-
” هل تعلمين إنني كنت أريد رؤيتك من جديد ..؟!”
همست بتهكم :-
” حقا ..!”
هز رأسه وهو يسألها :-
” هل يمكن أن نتحدث قليلا …؟! في مكان آخر مناسب …”
هزت رأسها بصمت ويبدو إن تلك الفكرة راقتها .. فكرة أن يجمعهما حديث بعد كل هذه الفترة وبعد جميع ما عاشاه ..
ربما لإنها تدرك جيدا إن بعد هذا الحديث الذي سيجمعهما كل شيء حتما سوف يتغير ..
وافقت وذهبت معه الى احد المقاهي القريبة من مقر الشركة ليتحدثان كما أراد ..
…………………………………..
تأملته ليلى وهو يحاول إيجاد كلمة مناسبة لبدء الحديث معها فهمست مبتسمة بخفة :-
” لا أصدق إن بدء الحديث معي يتطلب كل هذا التفكير ..”
أضافت وهي تنظر جانبها :-
” في العادة كنا نتحدث دون تفكير …”
هتف بخفوت :-
” كنا الكثير يا ليلى …”
سألته وهي تنظر إليه :-
” أتمنى ألا تحمل جملتك تلك الحسرة …؟!”
سألها بتجهم :-
” أليس من الطبيعي أن أشعر بالحسرة ..؟!”
ردت بحزم :-
” كلا ، انت من إخترت قتل الماضي بكل ما فيه فلا تتحسر الآن …”
” هل تلومينني يا ليلى ..؟!”
سألها بجدية لترد بصدق :-
” أبدا ..”
نظر لها بدهشة لتجيب ببساظة :-
” انا حقا لا ألومك حاليا يا نديم .. مسبقا كنت أفعل .. كنت حينها عاشقة مخذولة .. مجروحة منك … لكن الآن وبعد مرور تلك الفترة تغير الكثير وتغيرت نظرتي للأمور ..”
تنهدت وهي تنظر بعيدا مجددا :-
” ربما لإنني أعرفك جيدا .. أعرفك أكثر من أي شخص .. أعرف مدى النقاء الذي تحمله داخلك .. أدرك إنك لا تجرح شخصا ما عن قصد … أدرك الكثير عنك مما يجعلني أتوقف عن لومك وأتفهم سبب تصرفك وأتقبله …”
” لم تتغيرِ يا ليلى ..”
قالها بصدق لتههف بثبات :-
” نعم لم أتغير يا نديم وأنت لن تتغير أيضا …”
أضافت بجدية :-
” لا تلوث نفسك بسبب إنتقام لن يجلب سوى التعاسة لك … ”
منحها نظرة غير مقتنعة لتسأله مغيرة الموضوع :-
” لماذا أردت الحديث معي ..؟؟”
تنهد وهو يجيب :-
” ليس لسبب محدد … ”
توقف لوهلة ثم قال :-
” ربما لإنني إشتقت لك او ربما أردت الإطمئنان عليك … ”
أوقفته بإبتسامة مستخفة :-
” لا تكذب يا نديم .. يمكنني تصديق الثانية لكن الأولى أبدا …”
نظر لها بدهشة لتحافظ على إبتسامتها وهي تسترسل :-
” انت لم تشتق إلي يا نديم .. على العكس تماما .. أنت نسيتني وتخطيتني منذ زمن .. ”
أكملت وهي ترفع أناملها إتجاه عينيه :-
” لقد عرفت هذا من نظرة عينيك … نظرة عينيك عندما رأيتني قبل قليل .. لم تكن تحمل تلك النظرات المعتادة .. لم يكن هناك لهفة او شوق فيهما … ”
أكملت وفمها يبتسم مرغما :-
” تلك النظرة التي كنت تنظرها إلي لم تعد موجوده … لقد أدركت هذا منذ مدة … مثلما أدركت إنني خسرتك منذ مدة طويلة .. منذ أن رأيتك معها ورأيتك كيف تنظر لها .. أدركت وقتها إنني خسرتك وإنها ربحتك وبجدارة …”
همس بخفوت :-
” ليلى انا ..”
أوقفته بجمود :-
” ماذا ستقول ..؟! هل ستعتذر مني مجددا ..؟! لقد إعتذرت مني من خلال تلك الرسالة ..”
قال بسرعة :-
” أقسم لك إنني كنت أعني جميع ما كتبته وقتها ..”
قالت بجدية :-
” أعلم ، أنت لا تجيد الكذب والإدعاء أساسا …”
مسحت وجهها بكفيها وهي تقول :-
” انا لست مستاءة لإنك لم تعد تحبني يا نديم ولا لإن هناك أخرى ملكت قلبك غيري ..”
ابتسمت بسماحة مرددة :-
” القلوب ليست بيدنا .. انا أكثر من يعلم هذا .. انا لا ألومك لإنك تمسكت بها .. من الطبيعي أن تفعل ذلك أساسا .. أي شخص في مثل وضعك سيبحث عن طوق نجاة يتشبث به بكل قوته .. حياة كانت طوق نجاتك وأنت تمسكت بها وهي نجحت في زرع حبها داخلك لذا أنا لا يمكنني لومك لإنني أدرك ظروفك ومدى صعوبة ما عشته …”
تنهد بتعب وهو يهتف :-
” لا أعلم ماذا أقول .. لا أعلم ما يمكنني فعله .. كيف أستطيع تعويضك … ”
أكمل بنبرة خافتة :-
” انا اتألم يوميا يا ليلى .. روحي تتألم .. لا يمكنني تجاوز ما فعلته بك ولا ما مررتِ به لأجلي … أقسم لك إنني لم أتوقف عن التفكير بك يوما واحدا .. انا لا أعرف ما يمكنني فعله .. أشعر إنني مقيد و …”
أوقفته تكبت دموعها داخل عينيها :-
” هذا الحب مقدر له ألا يكتمل .. لقد كتب الله له أن ينتهي كما كتب له أن يبدأ يوما ما .. انت لست نصيبي وانا لست نصيبك .. هذا نصيبنا يا نديم .. قدرنا الذي لا مفر منه …”
سأل بألم :-
” ربما ما تقولينه صحيح .. لكن تجاوز الماضي بكل ما فيه صعب جدا …”
همست بصوت مبحوح :-
” هو كذلك … لكننا سنتجاوزه .. مجبرين أن نفعل .. الحياة يجب أن تستمر … ”
رفعت عينيها نحوه تخبره :-
” أنت رغم كل شيء تستحق أن تحيا بسلام مع زوجتك وأفراد عائلتك وانا كذلك .. سنعاني في البداية ولكننا سنتجاوز هذه المعاناة .. لا بد أن نتجاوزها يوما ..”
نهضت من مكانها تخبره منهية الحوار :-
” انا يجب أن أذهب .. أتمنى لك مستقبلا أفضل …”
منحته نظرة أخيره تودعه من خلالها وهي تخبره :-
” الوداع يا نديم …”
ثم غادرت دون رجعة هذه المرة ..
غادرت وهي تدرك جيدا إن هذا الحديث الأخير بينهما مثلما تدرك بيقين إن بعد هذا الحديث سيتغير كليهما ..
لن يعود كلاهما مثل السابق بعد هذا اللقاء ..
لن يعودا أبدا ..

منذ أن غادرت ليلى وهو يجلس مكانه شاردا كليا وأفكاره كالعادة تتقافز داخل رأسه دون توقف ..
زفر أنفاسه بتعب وهو يجذب قدح الماء نحوه ويرتشف القليل منه وعقله يستعيد ذكرى لقائه بها منذ دقائق معدودة …
يراجع الذكرى ويراجع حديثهما وإقرارها بضرورة فراقهما الذي أقره هو قبلها …
يتذكر كلماتها التي تحمل في طياتها الغفران ويتذكر حديثها عن مشاعره لأخرى يتهرب منها …
هل هو حقا يتهرب من مشاعره ناحية حياة ..؟!
هل مشاعره تحركت نحوها بالفعل ..؟!
هل هو مغرم بها ..؟!
والأهم هل نسي ليلى ..؟!
هل توقف عن حبها أم دفنه داخله دون رجعة …؟!
عند هذه النقطة توقف عن أفكاره وعقله يسترجع لحظة اللقاء الأولى بينهما بعد آخر مرة رأها فيها وهي تودعه في المطار …!!
في البداية الصدمة لجمته فهو لم يتوقع رؤيتها فور عودته …
لكن ما تلا الصدمة لم يكن كما تخيل ..
لا ينكر إنه شعر بالحنين ..
ربما لها هي أو لأيام مضت كانت جميلة بكل ما فيها ..
لا يهم السبب لكنه شعر به وهذا منطقي جدا ..
لكن الغير منطقي هو الكثير ..
مشاعره التي لم تتدفق بسرعة شديدة حالما رأها ..
قلبه الذي لم ينتفض بلهفة داخل أضلعه عندما وقع بصره عليها …
في السابق كان ينتفض قلبه عشقا عندما يراها …
كل شيء به كان ينبض بالحب عندما يكون معاها …!
لكن الآن مشاعره لم تعد كالسابق ..
هناك شيء ما إختلف .. شيء لا يفهم كيف ومتى تغير ..
هو لم يعد كالسابق …
مشاعره تغيرت ..تغيرت كثيرا …
هل فقدت ليلى تأثيرها عليه أم إن قلبه من تحرر من هواها …؟!
أم ربما الإثنين معا ..؟!
أخذ يحاول تذكر شعوره أثناء حديثهما وما تلاه …
حاول أن يبحث عن لمحة ما تدل على عشق ما زال موشوم في صدره فلا يجد سوى الحنين …
لا يجد شوقا ملهبا لروحه ولا وجع على حب فقده مرغما ولا حسرة كبلت قلبه لسنوات …
لا يجد رغبة في العودة رغم كونه لم يتوقف عن التفكير بها أبدا طوال الأشهر الفائتة ..
هل حقا مشاعره نحوها إقتصرت على الندم وتأنيب الضمير كما قالت هي ..؟؟
هل حقا هذا ما جعلها رفيقة عقله طوال الفترة السابقة …؟!
نعم هو نادما على كل شيء ..
نادما على كل ما سببه لها ولو عاد الزمن به الى الوراء ما كان ليتصرف بنفس الطريقة ..
هو يقر ويعترف بذنبة ومستعد لتحمل العقاب الذي يناسب هذا الذنب …
ولكن هل مشاعره نحو ليلى باتت مقرونة بذنبه نحوها فقط ..؟!
هل مات العشق ..؟! الشغف ..؟!
هل ماتت مشاعر سكنته لسنوات ..؟!
ماذا يحدث معه ..؟! و مالذي كان ينتظره …؟!
وماذا عن حياة …؟! ما دورها في هذه الحكاية ..؟!
هل هي الفتاة التي إختارها كبداية جديدة لحياته ..؟!
هل هي الراحة والسكينة والأمان وكل ما يتم ضمه لهذه المسميات ..؟!
هل هي الروح التي تعلق بها على حين غرة ..؟!
هل مكانتها واضحة كما يدعي وثابتة لا جدال فيها ..؟!
هي الزوجة و المأوى والملاذ والسكن …!
هل هذه فقط مكانتها ..؟! أم إنها تخطت الدور الذي أراد منها تأديته ..؟! تخطت الحدود التي رسمها لها ولنفسه …؟!
قفزت الى قلبه دون إرادة منه وبلا وعي فملكته بأكمله ..؟!
هل حياة ليست زوجته فقط بل باتت حبيبته ..؟!
هل حقا هذه مشاعره نحوها ..؟!
عاد يسأل نفسه مجددا ولكن هذه المرة عن مشاعره ناحية حياة ..
يسأل قلبه ويريد منه جوابا صريحا ..
جوابا محددا لا شك فيه …
جوابا شافيا لا مهرب منه ..
هل هو يتهرب من مشاهره نحوها حقا …؟!
هل يتعمد تجاهلها ..؟!
هل كان العشق مشكلته العظمى ..؟!
كلا ، لم يكن كذلك ولن يكون ..!
هل يكره العشق ..؟! لا يعتقد ذلك ..
هل يهرب منه ..؟! ربما …
هل يرتاح بدونه ..؟! طبعا …
وهل يتألم بوجوده ..؟!
وأمام هذا السؤال وقف حائرا …
العشق جميل لكن دون شروط ..
العشق لذيذ لكن دون قيود ..
وهو رجل مقيد بسلاسل الإنتقام والماضي …!
لا يعلم إذا ما كان يخاف من العشق على نفسه أم عليها …!!
هل بات عشقه لعنه تصيب أي إمرأة تنال من ذلك العشق ..؟!
هل هو رجل موشوم بعشق مؤلم نهايته سوداء ..؟!
أم هذه مجرد هواجس تسيطر عليه ..؟!
هواجس لا أساس لها …؟!
العشق .. كلمة تتكون من ثلاث حروف …. كلمة جميلة .. محببة .. لطيفة …
العشق شعور يرغب الجميع أن يعيشه .. أن يتذوق حلاوته ..
وهو سبق وتذوقها … تذوق حلاوة العشق ومرارته ..
تذوق الحب وألمه .. الشغف والفراق …
لقد جرب العشق بمختلف صوره ..
لا ينكر إن ذكرياته مع العشق تحمل الكثير من الذكريات الجميلة .. ذكريات لطيفة … صور لماضي مشرق ولكن ذكرياته المريرة غلبت تلك الصور .. !
لقد جاهد لسنوات حتى يتخطى عشقه الأول .. حبه الضائع ونجح .. بشكل أو بآخر هو نجح .. تخطى عشقه وسار في دربه الجديد … درب أراد فيه كل شيء إلا العشق ..
لقد نجح في البداية وما زال كل شيء كما هو يريد ولكن رغما عنه هناك شيء ما يبرز في الأفق ..
شيء يخشاه ويرغبه في ذات الوقت ..
شيء ليس واثقا منه …
شيء لو صدقه سيدخل في جحيم جديد لا يختلف عن سابقه …
وهنا خفق قلبه .. نبض مجددا … لم تكن المرة الأولى التي ينبض بها هكذا لكنها المرة الأولى التي يرى تلك النبضة بمنظور مختلف …
المرة الأولى التي يشعر إنها ليست نبضة عادية …
هي نبضة تحمل الكثير ..
نبضة أتت بعد سنوات توقف فيها قلبه عن النبض ..
صاحبة تلك النبضة هي من أحييت قلبه الذي مات لأعوام …
صاحبة تلك النبضة هي التي منحته روحا جديدة وحياة مختلفة …
صاحبة تلك النبضة هي حياة …
هي الفتاة اللطيفة التي إنجذب لها من حديث عابر جمعهما وإبتسامة ناعمة أظهرت غمازتيها تصحبها لمعة خاصة في عينيها …
هي حياة التي لا يعلم إذا ما كان هو من جذبها نحو عالمه دون أن يعي أم هي من جذبته نحوها بكامل وعيها …
هي حياة التي دخلت حياته في وقت كل شيء فيه كان فاقدا لمعاني الحياة فمنحت الحياة مجددا لها …
هي حياة التي جعلت مشاعره تتحرك لأول مرة منذ سنوات ورغبته في العودة كما كان تسيطر عليه …
هي حياة التي أتت وهي تحمل معها قلبه فقدمته له على طبق من ذهب ..
هي حياة التي بعشقها حررته من عزلته التي ظن إنه سيبقى أسيرها لأعوام ..!
هي حياة التي باتت له كل شيء ..
الملاذ والمأوى الذي يلجأ إليه كلما ضاقت به دنياه فتستقبله بصدر رحب وتصبو عليه بعشقها الجارف الذي لا نهاية له ..
هي حياة التي سطعت شمسها في حياته لتنير ظلام قلبه السرمدي ..
هي حياة التي أحييته وحررته قلبه من ظلماته …
والعشق هو ذلك الشيء الذي يمنحك شعورا جديدا قد يكون محمل بالألم او الحياة …
نعم العشق قد يكون حياة جديدة تحيي العاشق من جديد …
إذا كان العشق هو الحياة ..
إذا فالعشق هو حياة …
…………………………………………..
إذا كان العشق هو الحياة ..
إذا فالعشق هو حياة …
نعم العشق هو حياة .. العشق يتمثل بحياة ..
لم يكن إعترافا منه بقدر ما كان شعورا صريحا أيقنه كلا من قلبه وعقله معا …
لقد أدرك نديم أخيرا الحقيقة التي لا يعلم إذا ما تجاهلها أم كان يتهرب منها أم لم يكن يدركها من الأساس ..!!
لكن لا يهم .. المهم إن الحقيقة باتت واضحة ..
مشاعره التي لم يجد لها مسمى باتت معروفة وتحمل مسمى واحد يتمثل بكلمة مكونة من ثلاثة حروف .. العشق …!
وأخيرا تحرر قلبه من تلك القيود وأعلن العشق مجبرا لا مخيرا ..
قلبه الذي قتله عشق سابق وأحياه عشق جديد ..
عشق يتمثل بالحياة ..
الحياة التي تنبض منها ..
نهض من مكانه متجها إليها بلهفة يدرك سببها للمرة الأولى ..
لهفة كان يمنحها جميع المسميات مسبقا ويعللها بكل الأسباب الممكنة بإستثناء شيء واحد .. حقيقة واحدة … وهي العشق…!!
قاد سيارته بصمت وقلبه لا يتوقف عن النبض …
وصل أخيرا فهبط من سيارته وسار بلا وعي الى شقته …
فتح الباب ودلف الى الداخل يبحث بعينيه عنها ..
يبحث بشوق لم يعد مشروطا …
يبحث بلهفة بات لا يستطيع إنكارها …
وأخيرا وجدها تقف في المطبخ تعد شيئا ما بتركيز شديد …
خفق قلبه بعنف وهو يتأملها بذلك الفستان القطني القصير حيث تقف وهي تضع بعض البهارات فوق شيء ما ..
تضع الملعقة داخل القدر ثم ترفعها وتتذوقها بتلذذ فتنفرج إبتسامة رضا تظهر غمازتيها …
كان يتابعها ببطء وكأنه يراها للمرة الأولى ..
نعم هو بالفعل يراها لأول مرة بنظرة عاشق …
تأمل تفاصيلها بسكون …
سابقا كانت تمثل الحياة له وهو لم يدرك وبكل أسف إن أسمى أنواع العشق ذلك الذي يتمثل بحياة كاملة تعيشها رغما عن كل الظروف …
حياة … حياته .. عشقه … ملاذه … وطنه …
حياة إمرأة دخلت حياته بكامل إرادته وزرعت حبها داخل قلبه دون إرادته …
هي إمرأة يصعب تجاوزها …
لا يستطيع المرء تجاهل مشاعرها ..
يعجز عن تخطي رحيلها …
هي روح كاملة وشمس دافئة وقطرات مطر رقيقة سقطت على قلب سكنه الجفاف لسنين ..
هي معجزة أتت في زمن باتت فيه المعجزات مستحيلة ..
هي أنثى بوجودها تختفي جميع النساء وبرحيلها يفقد كل شيء قيمته و
معناه ..
هي المرأة التي لا يريد سوى معانقتها للأبد والتمتع بنعيم جنتها ..
هي الأبدية..
إلتفتت أخيرا فخفق قلبه مجددا …
إبتسمت له رغم دهشتها من قدومه …
إبتسامتها العفوية تمنحه السعادة لا إراديا ..
تزرع الفرحة داخله وترسم البسمة فوق شفتيه …
إبتسامتها وحدها كفيلة بتهدئة روحه الثائرة وتحطيم قيوده المتعبة ..
إبتسامتها لوحدها كانت حياة يتوق لإمتلاكها …
نطقت إسمه بسعادة …
سعادة ظهرت في كل جزء منها ..
سعادة تملكت منه هو الآخر لا يعلم إذا ما إنتقلت إليه منها أم سيطرت عليه بعدما أدرك أخيرا حقيقة مشاعره نحوها ..
الآن لا شيء يهم …
الآن سيتجاهل كل شيء ..
سيحرر نفسه من قيوده جميعها …
سيتناسى عن قصد ماضيه وحاضره وما يخطط له مستقبلا ..
الآن وفي هذه اللحظة سيلغي كل شيء من عقله عداها هي …
هو وهي فقط ولا شيء غيرهما …
الليلة فقط سيسمح لنفسه بتجاهل كل شيء عداها وسيمنحها قلبه وعشقه كما منحته هي قلبها وعشقها منذ أشهر دون تردد ..
تقدمت نحوه ترتمي داخل أحضانه …
إرتجف جسده كليا …
لم يتوقع هذه المباردة منها ..
هل يعقل إنها شعرت بشيء ما ..؟!
هل أدركت مشاعره من عينيه فبادرت تعانقه أم هذا عناق عفوي ليس إلا ..؟!
سمعها تنطق بنبرة فرحة :-
” انا سعيدة جدا …”
وهو سعيد جدا في هذه اللحظة ..
هكذا فكر وهو يحيط جسدها بذراعيه ..
هي الآن داخل أحضانه … هي بين ذراعيه ..
نبضات قلبه تنبض بهدوء والسعادة تملأ كيانه والراحة المنشودة نالها أخيرا …
أغمض عينيه متلذذا بوجود جسدها داخل أحضانه …
طبع قبلة فوق شعرها ثم تمتم :-
” حياة …”
توقف للحظة فسمعها تقول :-
” نعم …”
غمغم وهو يبعدها قليلا من بين أحضانه محيطا وجهها بين كفيه :-
” شكرا يا حياة .. شكرا على كل شيء … ”
توقف للحظة يتابع نظراتها الحائرة قبل أن يسترسل :-
” شكرا لإنك هنا .. معي وحانبي .. شكرا لوجودك في حياتي …”
أخذ نفسا عميقا ثم هتف :-
” هل تتذكرين عندما أخبرتك إنه لولاك ما كانت هناك حياة يا حياة ..؟!”
هزت رأسها بتوتر ظهر في عينيها ليبتسم وهو يقول :-
” أنا كنت أعنيها بكل ما فيها … ”
صمت مرغما يتأمل الفرحة التي ظهرت في عينيها ليكمل بعدها :-
” أنت حياتي التي إمتلكتها رغم كل شيء …”
أخذ نفسا عميقا من جديد ثم سألها :-
” ما هو الحب يا حياة …؟!”
نظرت له للحظات ثم همست :-
” الحب .. الحب هو ما أشعره نحوك …”
سألها وهو يبتسم :-
” ومالذي تشعرينه نحوي …؟!”
ردت بعد لحظات من التفكير :-
” الكثير .. أشعر بالكثير نحوك ولكنني لا أعرف كيف أصف مشاعري تلك بدقة … ”
هتف أخيرا :-
” برأيي إن الحب لا يمكن حصره في قالب معين .. وإن المشاعر عندما تقتحم القلب لا يوجد شيء قادر على إيقافها ..”
أضاف وعيناه تلمعان ببريق مختلف تماما هذه المرة :-
” الحب أعمق من أن تصفه بضعة كلمات .. أكبر من أن يتم حصره بكلمة واحدة .. وأهم من أن يكون مجرد شعور يسيطر عليك .. الحب هو رباط روحي أبدي ومشاعر قوية تجتاح روحك وتستحوذ على قلبك كاملا فلا تترك به مجالا للخلاص …”
نظرت له بتشتت ليتنهد براحة أخيرا :-
” وهذا هو ما أشعره نحوك ..”
شعرت بنبضاتها تتوقف داخل صدرها وعقلها يحاول تفسير مقصده ..
هل فهمت ما يعنيه ..؟!
هل هذا إعتراف مبطن بالحب أم إنها تتوهم ذلك …؟!
ولكن الوهم بات حقيقة عندما إسترسل هو :-
” كل شيء بيننا .. جميع ما أشعره نحوك .. جل ما يربطنا لا يمكن سوى منحه مسمى واحد .. الحب …”
توقف للحظة وأكمل بثبات ويقين :-
” أنا أحبك يا حياة …”
إرتجفت كليا وهي لا تصدق ما سمعته ..
تلألأت العبرات داخل عينيها فأضاف وكفه تسير فوق وجنتها :-
” أحبك أكثر مما تتصورين …”
تساقطت عبراتها وهي تهمس بنبرة متوسلة :-
” نديم …”
” أنت حياتي .. شمسي وملاذي .. حبي الذي وجدته أخيرا .. أنت بدايتي ونهايتي … أنت كل شيء وبدونك أنا لا شيء …”
تأمل عينيها الباكيتين ليضيف وهو يبتسم لها بمشاغبة محاولا تخفيف أجواء اللحظة :-
” لقد ربحت يا حياة .. هزمتني انا وقلبي معا .. مبارك لك … مبارك لك يا حياتي …”
وما إن أنهى كلماته حتى هبط بشفتيه نحو شفتيها يقبلها بشوق ورغبة ولهفة والأهم بعشق حقيقي لا جدال فيه ..

كانت ممددة فوق سريرها تشعر بالغثيان المستمر عندما دلفت همسة الى جناحها وهي تحمل معها الحساء الدافئ ..
وضعت همسة الصينية أمامها وقالت لها :
” تناولي الحساء يا جيلان ..”
أشاحت جيلان بوجهها بعيدا وقد إزداد شعور الغثيان لديها عندما رأت الحساء لتهمس :-
” لا أريد .. لا أريد تناول أي شيء ..”
هتفت همسة بقلق :-
” أنت لم تتناولِ شيئا منذ الصباح …”
” لا أستطيع يا همسة .. ”
قالتها جيلان بنبرة مرهقة لتتأملها همسة بشفقة قبل أن تسمع صوت طرقات على الباب يتبعها دخول توليب التي تأملت جيلان للحظة قبل أن تهمس :-
” دكتورة منى في الخارج ..”
هتفت جيلان بدهشة :-
” دكتورة منى جائت عندي ..”
دلفت منى وهي تبتسم لها مرددة :-
” مساء الخير حبيبتي ..”
ردت جيلان وهي تبتسم رغم تعبها :-
” مساء النور دكتورة ..”
همت جيلان بالنهوض لكن منى أوقفتها بسرعة :-
” لا تنهضي حبيبتي …”
ثم أشارت نحو السرير :-
” سأجلس جانبك …”
نهضت همسة من مكانها ترحب بها قبل أن تشير الى توليب بعينيها لتتحرك الإثنتان خارج المكان تاركين الطبيبة مع جيلان ..
” كيف حالك يا جيلان ..؟!”
سألتها منى وهي تبتسم لها لتجيب جيلان بتنهيدة مرهقة :-
” انا مريضة قليلا ..”
هزت منى رأسها بتفهم وقالت :-
” أنا أتيت لأطمئن عليك وأتحدث معك أيضا ..”
قالت جيلان بعفوية :-
” أعتذر عن عدم قدومي الفترة السابقة ولكنني كنت مريضة جدا ..”
ابتسمت منى مرددة بنفس التفهم :-
” لا داعي للإعتذار حبيبتي … أساسا كنت سأتحدث معك بشأن هذا التعب ..”
رمشت جيلان بعينيها مرددة بحيرة :-
” تفضلي دكتورة …”
تحدثت منى بتأني :-
” انت صغيرة يا جيلان .. وجميلة … فتاة مميزة …”
صمتت للحظة ثم قالت :-
” لقد تحدثنا مسبقا عن الميزات التي تمتلكينها وكيف عليكِ إستغلالها وتحدثنا عن المستقبل وما ينتظرك فيه ..”
قالت جيلان بضعف :-
” نعم وأنا وعدتك أن أفكر في مستقبلي بشكل جدي وأسعى للإهتمام بدراستي حتى أحصل على معدل عالي وأدخل كلية الصيدلة ..”
رددت منى بصدق :-
” ستفعلين جميع هذا بإذن الله ..”
أكملت تشجعها :-
” أنتِ قوية وذكية يا جيلان .. تستطعين تجاوز أي شيء مهما بلغت صعوبته …”
هزت جيلان رأسها موافقة وهي تبتسم لها بأمل عندما ظهر التوتر على ملامح منى وهي تضيف :-
” لذلك ستعديني أن تكوني قوية مهما حدث … ”
قالت جيلان وهي تبتسم بصدق :-
” أعدك يا دكتورة …”
ابتسمت منى بنفس التوتر عندما همست لها :-
” إسمعيني إذا … هناك شيء ما يجب أن تعرفينه ولكن قبلها تذكري إنك وعدتني بأن تبقي قوية مهما حدث …!!”
أضافت وهي تقبض على كفيها بدعم شديد :-
” تذكري إننا جميعنا معك وجانبك .. نريد سعادتك وراحتك …”
تأملت نظرات جيلان البريئة التائهة بألم عندما نطقت بنفس التروي :-
” أنت تزوجت مهند يا جيلان .. بالطبع تتذكرين ..؟!”
أجابت جيلان بعفوية :-
” لكنني تطلقت ..”
اومأت منى برأسها مرددة :-
” أعلم ذلك ولكن قبل حدوث الطلاق هناك شيء ما جرى …”
تنهدت ثم قالت :-
” أنتما كنتما زوجين … والزواج ربما ينتج عنه أطفال …”
توقفت للحظة تراقب تغضن ملامح جيلان عندما أكملت متمهلة:-
” يعني بما إنك تزوجت لفترة فمن الطبيعي أن تحملي طفلا داخلك …”
همست جيلان بتساؤل متعثر :-
” هل تقصدين إنني أحمل طفلا الآن ..؟!”
ثم شردت ملامحها بتفكير امتد لثواني لتضيف بنبرة مرتجفة :-
” هل مرضي وتعبي بسبب الحمل ..؟!”
هزت منى رأسها دون رد لتتسائل جيلان مجددا بشفتين مرتعشتين :-
” كيف حدث هذا …؟! ”
” جيلان … حبيبتي ..”
قالتها منى وهي تضغط على كفها لتبدأ دموع جيلان بالتساقط بشكل جعل منى تتوسلها :-
” اهدئي من فضلك …”
همست جيلان بصوت بالكاد يسمع :-
” هذا مستحيل .. انت تكذبين .. انا لست حاملا .. هذا كذب ..”
إرتفع صوتها أكثر وهي تهز رأسها بنفي عنيف بينما تردد :-
” انا لست حامل … هذا كذب .. أنت تكذبين .. هذا مستحيل …”
حاولت منى إحتضانها لكن جيلان دفعتها بقوة قبل أن تنتفض من فوق السرير وهي تصرخ بهلع من الفكرة المخيفة بالنسبة لها :-
” انت كاذبة … انا لست حاملا … ”
ثم همت بفتح الباب لتتفاجئ بوجود زهرة أمامها وجانبها همسة لتحاول زهرة التقدم نحوها وهي تهمس :-
” جيلان صغيرتي ..”
لكن جيلان بدت وكأنها تحولت لشخص ثاني لا يستوعب سوى شيء واحد فقط .. إنها تحمل طفلا داخلها وكم بدا هذا الأمر مريعا لها …
عادت جيلان الى الخلف تصرخ بهما بلا وعي :-
” إبتعدا عني .. إتركاني … لا تقتربا مني ..”
حاولت منى تهدئتها عندما تقدمت نحوها من الخلف لكن جيلان عادت تدفعها وهي تبتعد عنها بدورها تصيح بها :-
” وأنتِ أيضا إبتعدي عني … إتركيني ..”
كانت دموعها ما زالت تتساقط عندما صاحت باكية :-
” أنا لا أريدكم … لا أريد أيا منكم .. إبتعدوا عني … إتركوني …”
قالت منى تحاول تهدئتها :-
” جيلان فقط اسمعيني …”
قاطعتها جيلان تصرخ بها :-
” لا أريد سماعك ..”
ثم توقفت عندما سمعت صوتا مألوفا يصدح بإسمها لتلتف بنظرها نحو الباب فتجد عمار أمامها يتأملها بضعف سيطر على ملامحه بالكامل …
توقفت عن البكاء بينما وقفت مكانها تنظر إليه بوجهها المبلل بسكون عندما أشارت منى لزهرة وهمسة أن يتبعانها نحو الخارج قبل أن تهمس الى عمار بكلمات غير مسموعة ليهز عمار رأسه بصمت فتربت منى على كتفه قبل أن تغادر المكان …
ما إن غادر الجميع حتى قال عمار مجددا :-
” جيلان …”
رمشت بعينيها للحظات قبل أن تهمس بتساؤل :-
” من أنت …؟!”
هتف بنبرة مترددة :-
” انا عمار .. أخوك يا جيلان …”
” كلا أنت لست أخي …”
قالتها وتلك القسوة في عينيها كانت وليدة اللحظة أم ربما هي نتاج تراكمات لن تزول …
” جيلان صغيرتي ..”
حاول إستعطافها لكنها لم تبالِ …
كل شيء بها تحطم … روحها ماتت وقاتلها واقف أمامها يطلب العفو الذي لا رجاء منه …
” أنت السبب …”
قالتها بصلابة وهي تكمل وكل كلمة تنطقها تنغرس كخنجر داخل قلبه :-
” انت سبب كل شيء … لولاك ما كان ليحدث معي كل هذا .. انا تحطمت بسببك … تعرضت للاغتصاب بسببك … تزوجت مجبرة بسببك .. زوجي نالني رغما عنك بسببك والآن أنا أحمل طفلا داخلي بسببك …”
حاول أن يقترب منها مجددا لكن تلك النظرة في عينيها أوقفته مكانه لتضيف بثبات لا يشبهها :-
” ماما كانت دائما تخبرني إنك سندي بعدها .. دائما كانت تطمئني إنك موجود … وإنه مهما حدث ستبقى انت معي وجواري .. ”
أضافت والدموع تلمع بعينيها :-
” وأنا صدقتها .. بكل أسف صدقتها .. بنيت آمالا عليك .. ظننتك ملاذي والحضن الدافئ الذي سيحتويني لكنك كنت جلادي يا عمار … كنت ذنبي الذي لم يغفره القدر لي …”
ترقرقت الدموع داخل عينيه لتكمل بنبرة باكية ؛-
” لقد ترجيتك يا عمار .. ترجيتك ألا تتركني هنا .. ألا تزوجني منه .. توسلتك ..هل تتذكر .. لكنك رفضت بكل تبجج كعادتك .. وزوجتي منه .. رميتني هنا ولم تسأل عني …”
إسترسلت وهي تبتسم بمرارة :-
” وما الجديد ..؟! منذ متى وأنت كنت تهتم بي وتسأل عني ..؟بعد وفاة بابا تركتني منبوذة في تلك الشقة الكئيبة مع مربيتي وعندما حدث ذلك الحدث قررت أن ترميني لعمي وتحت وصاية أبنائه .. دائما ما كنت تبحث عن طريقة للتخلص مني وكنت تنجح في كل مرة بينما انا كنت أفقد جزءا من نفسي في المرة ذاتها …”
كتمت شهقاتها وهي تكمل ؛-
” ما أصابني بسببك .. انت المسؤول عن كل شيء … ”
” جيلان اسمعيني من فضلك … سنجد حلا .. أعدك بهذا ..”
قالها بتوسل لتصرخ به :-
” لا تكذب مجددا … توقف عن الكذب .. مرة واحدة توقف عن خداعي …”
أكملت ودموع المرارة تساقطت فوق وجنتيها :-
” كيف ستحل الأمر هذه المرة …؟! هل ستقتل الطفل وهو داخلي أم ستنتظر ولادته وترميه لوالده كما رميتني من قبل ..؟!”
تقدمت نحوه هي هذه المرة تتسائل بإصرار :-
” كيف ستحل الأمر يا عمار بك ..، أخبرني …؟!”
” جيلان ارجوك …”
قاطعته وفي تلك اللحظة لم تعد تطيق حقا رؤيته :-
” اخرج من هنا … اتركني وشأني .. انا لا أريدك ولا أطيقك .. انا اكرهك .. اكرهك يا عمار ..”
حاول أن يستجديها وهو يتقدم نحوها فعادت تصرخ به بصوت عالي جهوري :-
” اخرج من هنا … اتركني .. لا أريدك …”
” جيلان ..”
عاد يكررها بهمس باكي وهو يحاول جذب كفها ليتفاجئ بها تضربه على صدره بعنف مخيف وهي تصيح بشكل مسبب للذعر :-
” أنا أكرهك .. أنت دمرتني … أنت السبب .. لا أريدك في حياتي …”
فجأة إندفع مهند من الخارج وكأنه أتى من العدم وإنقض عليه يدفعه بقوة صارخا به :-
” إبتعد عنها …”
دلف راغب خلفه مسرعا ومعه فيصل عندما انتفض عمار منقضا على مهند بينما انكمشت جيلان بعيدا :-
” أيها النذل الحقير … أنت سبب كل شيء .. سأقتلك … ”
وقف راغب في وجهه يباعد بينهما عندما صاح مهند بدوره :-
” أنت آخر من يتكلم عن النذالة .. أنت دمرت أختك يا هذا .. مهما فعلت أنا فلن أصل لدنائتك وقذارتك…”
حاول عمار يهجم عليه مجددا وهو يسبه بأفظع الكلمات عندما صاح راغب بحزم :-
” يكفي توقفا …”
بينما تبعه فيصل يصيح وهو يتجه راكضا نحو جيلان التي فقدت وعي ليحملها بين ذراعيه فيتجه عمار نحوها تاركا مهند خلفه متناسيا ما كان يحدث بينهماقبل ثوان……………………………………
………………………
غرقت جيلان في نومها بعدما أعطتها منى تلك الحقنة المهدئة وتركتها برعاية همسة التي قررت المبيت معها …
مر الوقت وهمسة تراقبها بملامح حزينة حتى سطع ضوء الصباح فسمعت همسة صوت الباب يفتح لتتفاجئ بمهند يدلف الى الداخل بملامح مرهقة فنهضت من مكانها تهمس له مؤنبة :-
” ماذا تفعل هنا يا مهند …؟!”
رد مهند بصوت منخفض :-
” جئت لأطمئن عليها …”
قالت همسة بتردد :-
” إخرج قبل أن تستيقظ وتراك … ”
قاطعها بنبرة مرهقة :-
” من فضلك يا همسة ، انا متعب بما يكفي ..”
حل الصمت المطبق بينهما عندما نطق بتردد :-
” فقط سألقي نظرة عليها وأغادر ..”
لمحت الندم في عينيه فشعرت بالشفقة عليه فرغم كل شيء يبقى هو مهند ابن خالتها وصديق طفولتها ومن كان دائما بمثابة شقيقها ..
ابتعدت عنه بصمت ليتقدم نحوها فيتفاجئ بها وقد فتحت عينيها الخضراوين تنظر له بملامح جامدة ..
تلعثم وهو ينطق إسمها فزادت دهشته وهي تعتدل في جلستها بنفس الجمود ..
وجد نفسه ولأول مرة عاجزا عن الحديث …
لا يعرف ما يجب أن يقوله ….
إتجهت جيلان بأنظارها نحوه .. تأملته بجمود دون أن ترمش عينيها ..
شعر في تلك اللحظة بإنه صغير .. صغير جدا …
نظراتها كانت مبهمة وهذا أسوء ما في الأمر ..
أراد منها أن تصرخ .. تنتفض .. تبكي وتلعنه كما فعلت في أخيها لكنها لم تفعل ..
بقيت على وضعها عندما نطقت همسة وهي تتقدم نحوها :-
” حبيبتي ، هل أنت بخير …؟!”
تجاهلتها جيلان ونهضت من مكانها تتجه نحوه فتلاقت عينيه بعينيها ..
نطق أخيرا :-
” جيلان .. نحن يجب أن نتحدث ..”
واقعيا لم يكن في باله أن يتحدث لكن في تلك اللحظة لم يكن يعرف ما يقوله فوجد نفسه يتحدث بهذه الجملة دون وعي منه ..
تفوهت جيلان بدورها بهدوء مريب :-
” تحدث … أسمعك …”
تأملتهما همسة عندما وجدت مهند يشير لها بعينيه أن تتركهما فنظرت له بطريقة تخبره عن قلقها من المغادرة لكنه منحها نظرة مطمأنة فإضطرت أن تخرج على مضض …
عادت جيلان تكرر حديثها الهادئ :-
” أسمعك ..”
أخذ مهند نفسا عميقا ثم قال :-
” انا اسف …. أنا أتحمل مسؤولية ما حدث …”
عقدت ذراعيها أمام صدرها وسألته بنفس اللهجة :-
” وكيف ستتحمل المسؤولية ..؟! ماذا ستفعل مثلا ..؟!”
كان سؤالا منطقيا وهو بدوره لم يمتلك إجابة محددة فهتف بجدية :-
” هذا الطفل مسؤوليتي .. تحملي الشهور القادمة حتى تنجبيه ثم …”
صرخت به تقاطعه :-
” أتحمل الشهور القادمة ثم ماذا ..؟! ماذا ستفعل ..؟! كيف يمكنك أن تتحدث بهذه البساطة ..؟! ألا تشعر بحجم المصيبة التي وقعت بها ..؟! كيف يمكنك أن تتحدث بهذه السهولة ..؟!”
” جيلان ..”
تمتم بخفوت لتكمل بثرثرة غاضبة سوداوية :-
” حياتي كلها ستتغير بعدما حدث .. كل شيء سيتغير نحو الأسوأ وأنتم السبب .. أنت وعمار والبقية ..”
أكملت وهي تشير الى نفسها بوجع :-
” انا لا أريد هذا الطفل .. لا أريد أن أحمل .. ”
إسترسلت ببؤس :-
” انا صغيرة .. لا يمكنني تحمل هذا.. لا أستطيع …”
قال مهند بصدق :-
” لهذا سأعفيك من هذه المسؤولية … سأتحمل انا مسؤولية الطفل ما أن يولد وأنت يمكنك أن تعيشي حياتك كما تريدين ..”
صرخت باكية :
” بعد ماذا ..؟! بعدما أنجبه ..؟! بعدما أصبح أما في هذا العمر ..؟! انت لا تفهم حجم ما أعيشه وما ينتظرني في المستقبل ..”
أضافت والدموع أخذت طريقها فوق وجنتيها :-
” لماذا فعلت بي هذا … ؟! انا لم أؤذيك يوما ولم أجبرك على شيء لكن أنت فعلت كل شيء .. حاسبتني على ذنب لم أرتكبه أو ربما إرتكبته دون قصد .. عاملتني بأسوء طريقة والآن تتحدث بكل بساطة .. تخبرني أن أنتظر عدة شهور ثم أتخلص من هذا الحمل الذي بليتني به …”
توقفت عن حديثها وقد بدأت بالبكاء فإنتفض بدوره من مكانه مرددا وهو يحاول التقدم نحوها :-
” جيلان ارجوك ..”
لكنها إنكمشت على نفسها بنفس الطريقة وهي تردد من بين دموعها :-
” أنت دمرت حياتي ومستقبلي .. أنا أكرهك .. أكرهك وأكره هذا الطفل الذي تكون داخلي بسببك .. لولاك أنت ولولا هذا الطفل اللعين ما كان ليحدث هذا .. بسببك انت وهو تدمرت حياتي وانتهى مستقبلي قبل أن يبدأ ..”
لم يتحمل ما يسمعه فعادت فورة غضبة تسيطر عليه عندما صرخ بها منفعلا :-
” ماذا تريدين أن أفعل ..؟! هل أقتل نفسي كي ترتاحين ..؟! أم أمنحك سلاحا تقتليني به …”
أكمل وهو يصيح بصوت أكثر علوا :-
” أنت تدمرت حياتك .. ولكن ماذا عني ..؟؟ هل تعتقدين إنني سعيد .. انا ايضا حياتي تدمرت وسأتحمل مسؤولية طفل لا أريده ولا أرغب به …”
ارتفعت شهقاتها فتضاعف غضبه ليتجه نحو احدى الفازات ويرميها أرضا بإنفعال شديد …
في تلك اللحظة سيطرت عليه شخصيته المعتادة بكل عصبيتها وحدتها المخيفة لتتجه جيلان بخطوات لا إرادية نحو الخلف حتى سقطت بجسدها فوق السرير بينما أخذ هو يصرخ ويحطم كل شيء يراه أمامه ..
………………………………..
كانت ساكنة تماما …
تجلس ووجها منخفض نحو الأسفل …
صامتةولم تتفوه بكلمة واحدة حتى طوال موجة غضبه التي سكنت أخيرا بعدما حطم الكثير وصياحه وصل الى أبعد نقطة ..
كان هو يحرر غضبه الكامن داخله منذ أيام بينما هي كانت شاردة في ملكوت آخر وكأنه ليس موجودا حولها ولا يفعل ما يفعله ..
وأخيرا إنتهت موجة الغضب وساد السكون التام وشرودها كما هو ..
تأملها بعدما هدأت أعصابه ..
وجهها المنخفض أرضا تغطيه خصلات شعرها البنية الناعمة الطويلة من الجانبين ..
فستانها الأبيض الرقيق والذي يبرز إنتفاخ بطنها الضئيل االذي لاحظه للمرة الأولى …
كفيها المعقودان بتشابك فوق فخذيها ..
زفر أنفاسه بتعب وحيرة وهو لا يعرف ماذا يقول …
هو فعليا لا يجيد التعامل معها ولا يظن إنه سيفعل …
يحاول أن يبحث عن أمل صغير في وضعهما المزري .. عن شعاع نور ولو كان ضئيلا لكنه لا يجد سوى العتمة تبتلعهما سويا دون فكاك ..
” جيلان ..”
همس إسمها أخيرا بترقب عندما رفعت عينيها الخضراوين نحوه لتصدمه تلك النظرة في عينيها ..
نظرة إستنجاد خالصة …
هي تستنجده هو … تستغيث به … فهل سيلبي ندائها …؟!
نطقت أخيرا ونظرتها ما زالت كما هي بينما شفتيها ترتجفان والكلمات تخرج من فمها متقطعة :-
” خلصني منه ….”
إتسعت عيناه بصدمة عندما أكملت وهذه المرة الدموع ملأت عينيها :-
” لا أريده ..”
بالكاد إبتلع غصته وكتم إنفعاله الذي يشي بنوبة غضب جديدة قادمة وهي التي تحطمه في كل مرة تتحدث بها وتقيده بذنبه في حقها أكثر…
هو مقيد بذنبها من رأسه حتى أخمص قدميه ..
قيد لا فكاك منه …
ولأول مرة ينطق بهكذا هدوء وصدق عصف بعينيه الزرقاوين اللتين تحملان داخلهما مزيج من المشاعر العاصفة :-
” لو كان بيدي لفعلتها .. لو لم يكن الأمر يتعلق بحياتك لقتلته قبل أن يولد لكن هذا قدركِ وقدري أنا أيضا … حياتك باتت متعلقة بحياته وأنا لا يمكنني المجازفة بك يا جيلان ..”
أنهى كلماته وغادر يهرب منها .. من ذنبها الذي يقيده كليا ..
اما هي فتسافطت دموعها بوجع وخوف غريزي ..
لم تعرف ماذا تفعل ..
شعرت إنها وحيدة بحق ..
نعم هي كانت وحيدة دائما لكنها المرة الأولى التي تشعر بها إن تلك الوحدة تبتلعها دون هوادة …
نهضت من مكانها ودون وعي منها جذبت حقيبة صغيرة ووضعت بها بعض الملابس والأموال التي كانت بحوزتها ..
ارتدت ملابس سريعة مكونة من بنطال جينز وتيشرت ذو أكمام قصيرة ..
ألقت نظرة على هاتفها فأرادت آخذه لكنها تراجعت وهي تتحرك خارج الجناح بسر في هذا الوقت المبكر من الصباح حيث الجميع ما زال نائما ومهند لا تعرف أين غادر بينما همسة عادت الى جناحها على ما يبدو ..
تحركت بسرعة تهبط نحو الطابق الارضي ومنه خرجت الى الحديقة لكنها توقفت تتأمل الحرس الذين يقفون عند بوابة القصر فزفرت أنفاسها بضيق …
لم تعرف ماذا تفعل فبقيت مكانها للحظات حائرة فيما ستفعله …
تأملت الحارسين بتردد استمر لثوان قبل أن تتحرك عائدة الى الداخل عندما اتجهت نحو المطبخ الخالي من الخدم لتأخذ احدى القداحات تنظر لها بتردد سرعان ما إختفى وهي تتجه خارجا من جديد وقد حسمت أمرها ..
ستهرب لا محالة وهذه الطريقة الوحيدة المتاحة أمامها ..

منذ أن غادرت ليلى وهو يجلس مكانه شاردا كليا وأفكاره كالعادة تتقافز داخل رأسه دون توقف ..
زفر أنفاسه بتعب وهو يجذب قدح الماء نحوه ويرتشف القليل منه وعقله يستعيد ذكرى لقائه بها منذ دقائق معدودة …
يراجع الذكرى ويراجع حديثهما وإقرارها بضرورة فراقهما الذي أقره هو قبلها …
يتذكر كلماتها التي تحمل في طياتها الغفران ويتذكر حديثها عن مشاعره لأخرى يتهرب منها …
هل هو حقا يتهرب من مشاعره ناحية حياة ..؟!
هل مشاعره تحركت نحوها بالفعل ..؟!
هل هو مغرم بها ..؟!
والأهم هل نسي ليلى ..؟!
هل توقف عن حبها أم دفنه داخله دون رجعة …؟!
عند هذه النقطة توقف عن أفكاره وعقله يسترجع لحظة اللقاء الأولى بينهما بعد آخر مرة رأها فيها وهي تودعه في المطار …!!
في البداية الصدمة لجمته فهو لم يتوقع رؤيتها فور عودته …
لكن ما تلا الصدمة لم يكن كما تخيل ..
لا ينكر إنه شعر بالحنين ..
ربما لها هي أو لأيام مضت كانت جميلة بكل ما فيها ..
لا يهم السبب لكنه شعر به وهذا منطقي جدا ..
لكن الغير منطقي هو الكثير ..
مشاعره التي لم تتدفق بسرعة شديدة حالما رأها ..
قلبه الذي لم ينتفض بلهفة داخل أضلعه عندما وقع بصره عليها …
في السابق كان ينتفض قلبه عشقا عندما يراها …
كل شيء به كان ينبض بالحب عندما يكون معاها …!
لكن الآن مشاعره لم تعد كالسابق ..
هناك شيء ما إختلف .. شيء لا يفهم كيف ومتى تغير ..
هو لم يعد كالسابق …
مشاعره تغيرت ..تغيرت كثيرا …
هل فقدت ليلى تأثيرها عليه أم إن قلبه من تحرر من هواها …؟!
أم ربما الإثنين معا ..؟!
أخذ يحاول تذكر شعوره أثناء حديثهما وما تلاه …
حاول أن يبحث عن لمحة ما تدل على عشق ما زال موشوم في صدره فلا يجد سوى الحنين …
لا يجد شوقا ملهبا لروحه ولا وجع على حب فقده مرغما ولا حسرة كبلت قلبه لسنوات …
لا يجد رغبة في العودة رغم كونه لم يتوقف عن التفكير بها أبدا طوال الأشهر الفائتة ..
هل حقا مشاعره نحوها إقتصرت على الندم وتأنيب الضمير كما قالت هي ..؟؟
هل حقا هذا ما جعلها رفيقة عقله طوال الفترة السابقة …؟!
نعم هو نادما على كل شيء ..
نادما على كل ما سببه لها ولو عاد الزمن به الى الوراء ما كان ليتصرف بنفس الطريقة ..
هو يقر ويعترف بذنبة ومستعد لتحمل العقاب الذي يناسب هذا الذنب …
ولكن هل مشاعره نحو ليلى باتت مقرونة بذنبه نحوها فقط ..؟!
هل مات العشق ..؟! الشغف ..؟!
هل ماتت مشاعر سكنته لسنوات ..؟!
ماذا يحدث معه ..؟! و مالذي كان ينتظره …؟!
وماذا عن حياة …؟! ما دورها في هذه الحكاية ..؟!
هل هي الفتاة التي إختارها كبداية جديدة لحياته ..؟!
هل هي الراحة والسكينة والأمان وكل ما يتم ضمه لهذه المسميات ..؟!
هل هي الروح التي تعلق بها على حين غرة ..؟!
هل مكانتها واضحة كما يدعي وثابتة لا جدال فيها ..؟!
هي الزوجة و المأوى والملاذ والسكن …!
هل هذه فقط مكانتها ..؟! أم إنها تخطت الدور الذي أراد منها تأديته ..؟! تخطت الحدود التي رسمها لها ولنفسه …؟!
قفزت الى قلبه دون إرادة منه وبلا وعي فملكته بأكمله ..؟!
هل حياة ليست زوجته فقط بل باتت حبيبته ..؟!
هل حقا هذه مشاعره نحوها ..؟!
عاد يسأل نفسه مجددا ولكن هذه المرة عن مشاعره ناحية حياة ..
يسأل قلبه ويريد منه جوابا صريحا ..
جوابا محددا لا شك فيه …
جوابا شافيا لا مهرب منه ..
هل هو يتهرب من مشاهره نحوها حقا …؟!
هل يتعمد تجاهلها ..؟!
هل كان العشق مشكلته العظمى ..؟!
كلا ، لم يكن كذلك ولن يكون ..!
هل يكره العشق ..؟! لا يعتقد ذلك ..
هل يهرب منه ..؟! ربما …
هل يرتاح بدونه ..؟! طبعا …
وهل يتألم بوجوده ..؟!
وأمام هذا السؤال وقف حائرا …
العشق جميل لكن دون شروط ..
العشق لذيذ لكن دون قيود ..
وهو رجل مقيد بسلاسل الإنتقام والماضي …!
لا يعلم إذا ما كان يخاف من العشق على نفسه أم عليها …!!
هل بات عشقه لعنه تصيب أي إمرأة تنال من ذلك العشق ..؟!
هل هو رجل موشوم بعشق مؤلم نهايته سوداء ..؟!
أم هذه مجرد هواجس تسيطر عليه ..؟!
هواجس لا أساس لها …؟!
العشق .. كلمة تتكون من ثلاث حروف …. كلمة جميلة .. محببة .. لطيفة …
العشق شعور يرغب الجميع أن يعيشه .. أن يتذوق حلاوته ..
وهو سبق وتذوقها … تذوق حلاوة العشق ومرارته ..
تذوق الحب وألمه .. الشغف والفراق …
لقد جرب العشق بمختلف صوره ..
لا ينكر إن ذكرياته مع العشق تحمل الكثير من الذكريات الجميلة .. ذكريات لطيفة … صور لماضي مشرق ولكن ذكرياته المريرة غلبت تلك الصور .. !
لقد جاهد لسنوات حتى يتخطى عشقه الأول .. حبه الضائع ونجح .. بشكل أو بآخر هو نجح .. تخطى عشقه وسار في دربه الجديد … درب أراد فيه كل شيء إلا العشق ..
لقد نجح في البداية وما زال كل شيء كما هو يريد ولكن رغما عنه هناك شيء ما يبرز في الأفق ..
شيء يخشاه ويرغبه في ذات الوقت ..
شيء ليس واثقا منه …
شيء لو صدقه سيدخل في جحيم جديد لا يختلف عن سابقه …
وهنا خفق قلبه .. نبض مجددا … لم تكن المرة الأولى التي ينبض بها هكذا لكنها المرة الأولى التي يرى تلك النبضة بمنظور مختلف …
المرة الأولى التي يشعر إنها ليست نبضة عادية …
هي نبضة تحمل الكثير ..
نبضة أتت بعد سنوات توقف فيها قلبه عن النبض ..
صاحبة تلك النبضة هي من أحييت قلبه الذي مات لأعوام …
صاحبة تلك النبضة هي التي منحته روحا جديدة وحياة مختلفة …
صاحبة تلك النبضة هي حياة …
هي الفتاة اللطيفة التي إنجذب لها من حديث عابر جمعهما وإبتسامة ناعمة أظهرت غمازتيها تصحبها لمعة خاصة في عينيها …
هي حياة التي لا يعلم إذا ما كان هو من جذبها نحو عالمه دون أن يعي أم هي من جذبته نحوها بكامل وعيها …
هي حياة التي دخلت حياته في وقت كل شيء فيه كان فاقدا لمعاني الحياة فمنحت الحياة مجددا لها …
هي حياة التي جعلت مشاعره تتحرك لأول مرة منذ سنوات ورغبته في العودة كما كان تسيطر عليه …
هي حياة التي أتت وهي تحمل معها قلبه فقدمته له على طبق من ذهب ..
هي حياة التي بعشقها حررته من عزلته التي ظن إنه سيبقى أسيرها لأعوام ..!
هي حياة التي باتت له كل شيء ..
الملاذ والمأوى الذي يلجأ إليه كلما ضاقت به دنياه فتستقبله بصدر رحب وتصبو عليه بعشقها الجارف الذي لا نهاية له ..
هي حياة التي سطعت شمسها في حياته لتنير ظلام قلبه السرمدي ..
هي حياة التي أحييته وحررته قلبه من ظلماته …
والعشق هو ذلك الشيء الذي يمنحك شعورا جديدا قد يكون محمل بالألم او الحياة …
نعم العشق قد يكون حياة جديدة تحيي العاشق من جديد …
إذا كان العشق هو الحياة ..
إذا فالعشق هو حياة …
…………………………………………..
إذا كان العشق هو الحياة ..
إذا فالعشق هو حياة …
نعم العشق هو حياة .. العشق يتمثل بحياة ..
لم يكن إعترافا منه بقدر ما كان شعورا صريحا أيقنه كلا من قلبه وعقله معا …
لقد أدرك نديم أخيرا الحقيقة التي لا يعلم إذا ما تجاهلها أم كان يتهرب منها أم لم يكن يدركها من الأساس ..!!
لكن لا يهم .. المهم إن الحقيقة باتت واضحة ..
مشاعره التي لم يجد لها مسمى باتت معروفة وتحمل مسمى واحد يتمثل بكلمة مكونة من ثلاثة حروف .. العشق …!
وأخيرا تحرر قلبه من تلك القيود وأعلن العشق مجبرا لا مخيرا ..
قلبه الذي قتله عشق سابق وأحياه عشق جديد ..
عشق يتمثل بالحياة ..
الحياة التي تنبض منها ..
نهض من مكانه متجها إليها بلهفة يدرك سببها للمرة الأولى ..
لهفة كان يمنحها جميع المسميات مسبقا ويعللها بكل الأسباب الممكنة بإستثناء شيء واحد .. حقيقة واحدة … وهي العشق…!!
قاد سيارته بصمت وقلبه لا يتوقف عن النبض …
وصل أخيرا فهبط من سيارته وسار بلا وعي الى شقته …
فتح الباب ودلف الى الداخل يبحث بعينيه عنها ..
يبحث بشوق لم يعد مشروطا …
يبحث بلهفة بات لا يستطيع إنكارها …
وأخيرا وجدها تقف في المطبخ تعد شيئا ما بتركيز شديد …
خفق قلبه بعنف وهو يتأملها بذلك الفستان القطني القصير حيث تقف وهي تضع بعض البهارات فوق شيء ما ..
تضع الملعقة داخل القدر ثم ترفعها وتتذوقها بتلذذ فتنفرج إبتسامة رضا تظهر غمازتيها …
كان يتابعها ببطء وكأنه يراها للمرة الأولى ..
نعم هو بالفعل يراها لأول مرة بنظرة عاشق …
تأمل تفاصيلها بسكون …
سابقا كانت تمثل الحياة له وهو لم يدرك وبكل أسف إن أسمى أنواع العشق ذلك الذي يتمثل بحياة كاملة تعيشها رغما عن كل الظروف …
حياة … حياته .. عشقه … ملاذه … وطنه …
حياة إمرأة دخلت حياته بكامل إرادته وزرعت حبها داخل قلبه دون إرادته …
هي إمرأة يصعب تجاوزها …
لا يستطيع المرء تجاهل مشاعرها ..
يعجز عن تخطي رحيلها …
هي روح كاملة وشمس دافئة وقطرات مطر رقيقة سقطت على قلب سكنه الجفاف لسنين ..
هي معجزة أتت في زمن باتت فيه المعجزات مستحيلة ..
هي أنثى بوجودها تختفي جميع النساء وبرحيلها يفقد كل شيء قيمته و
معناه ..
هي المرأة التي لا يريد سوى معانقتها للأبد والتمتع بنعيم جنتها ..
هي الأبدية..
إلتفتت أخيرا فخفق قلبه مجددا …
إبتسمت له رغم دهشتها من قدومه …
إبتسامتها العفوية تمنحه السعادة لا إراديا ..
تزرع الفرحة داخله وترسم البسمة فوق شفتيه …
إبتسامتها وحدها كفيلة بتهدئة روحه الثائرة وتحطيم قيوده المتعبة ..
إبتسامتها لوحدها كانت حياة يتوق لإمتلاكها …
نطقت إسمه بسعادة …
سعادة ظهرت في كل جزء منها ..
سعادة تملكت منه هو الآخر لا يعلم إذا ما إنتقلت إليه منها أم سيطرت عليه بعدما أدرك أخيرا حقيقة مشاعره نحوها ..
الآن لا شيء يهم …
الآن سيتجاهل كل شيء ..
سيحرر نفسه من قيوده جميعها …
سيتناسى عن قصد ماضيه وحاضره وما يخطط له مستقبلا ..
الآن وفي هذه اللحظة سيلغي كل شيء من عقله عداها هي …
هو وهي فقط ولا شيء غيرهما …
الليلة فقط سيسمح لنفسه بتجاهل كل شيء عداها وسيمنحها قلبه وعشقه كما منحته هي قلبها وعشقها منذ أشهر دون تردد ..
تقدمت نحوه ترتمي داخل أحضانه …
إرتجف جسده كليا …
لم يتوقع هذه المباردة منها ..
هل يعقل إنها شعرت بشيء ما ..؟!
هل أدركت مشاعره من عينيه فبادرت تعانقه أم هذا عناق عفوي ليس إلا ..؟!
سمعها تنطق بنبرة فرحة :-
” انا سعيدة جدا …”
وهو سعيد جدا في هذه اللحظة ..
هكذا فكر وهو يحيط جسدها بذراعيه ..
هي الآن داخل أحضانه … هي بين ذراعيه ..
نبضات قلبه تنبض بهدوء والسعادة تملأ كيانه والراحة المنشودة نالها أخيرا …
أغمض عينيه متلذذا بوجود جسدها داخل أحضانه …
طبع قبلة فوق شعرها ثم تمتم :-
” حياة …”
توقف للحظة فسمعها تقول :-
” نعم …”
غمغم وهو يبعدها قليلا من بين أحضانه محيطا وجهها بين كفيه :-
” شكرا يا حياة .. شكرا على كل شيء … ”
توقف للحظة يتابع نظراتها الحائرة قبل أن يسترسل :-
” شكرا لإنك هنا .. معي وحانبي .. شكرا لوجودك في حياتي …”
أخذ نفسا عميقا ثم هتف :-
” هل تتذكرين عندما أخبرتك إنه لولاك ما كانت هناك حياة يا حياة ..؟!”
هزت رأسها بتوتر ظهر في عينيها ليبتسم وهو يقول :-
” أنا كنت أعنيها بكل ما فيها … ”
صمت مرغما يتأمل الفرحة التي ظهرت في عينيها ليكمل بعدها :-
” أنت حياتي التي إمتلكتها رغم كل شيء …”
أخذ نفسا عميقا من جديد ثم سألها :-
” ما هو الحب يا حياة …؟!”
نظرت له للحظات ثم همست :-
” الحب .. الحب هو ما أشعره نحوك …”
سألها وهو يبتسم :-
” ومالذي تشعرينه نحوي …؟!”
ردت بعد لحظات من التفكير :-
” الكثير .. أشعر بالكثير نحوك ولكنني لا أعرف كيف أصف مشاعري تلك بدقة … ”
هتف أخيرا :-
” برأيي إن الحب لا يمكن حصره في قالب معين .. وإن المشاعر عندما تقتحم القلب لا يوجد شيء قادر على إيقافها ..”
أضاف وعيناه تلمعان ببريق مختلف تماما هذه المرة :-
” الحب أعمق من أن تصفه بضعة كلمات .. أكبر من أن يتم حصره بكلمة واحدة .. وأهم من أن يكون مجرد شعور يسيطر عليك .. الحب هو رباط روحي أبدي ومشاعر قوية تجتاح روحك وتستحوذ على قلبك كاملا فلا تترك به مجالا للخلاص …”
نظرت له بتشتت ليتنهد براحة أخيرا :-
” وهذا هو ما أشعره نحوك ..”
شعرت بنبضاتها تتوقف داخل صدرها وعقلها يحاول تفسير مقصده ..
هل فهمت ما يعنيه ..؟!
هل هذا إعتراف مبطن بالحب أم إنها تتوهم ذلك …؟!
ولكن الوهم بات حقيقة عندما إسترسل هو :-
” كل شيء بيننا .. جميع ما أشعره نحوك .. جل ما يربطنا لا يمكن سوى منحه مسمى واحد .. الحب …”
توقف للحظة وأكمل بثبات ويقين :-
” أنا أحبك يا حياة …”
إرتجفت كليا وهي لا تصدق ما سمعته ..
تلألأت العبرات داخل عينيها فأضاف وكفه تسير فوق وجنتها :-
” أحبك أكثر مما تتصورين …”
تساقطت عبراتها وهي تهمس بنبرة متوسلة :-
” نديم …”
” أنت حياتي .. شمسي وملاذي .. حبي الذي وجدته أخيرا .. أنت بدايتي ونهايتي … أنت كل شيء وبدونك أنا لا شيء …”
تأمل عينيها الباكيتين ليضيف وهو يبتسم لها بمشاغبة محاولا تخفيف أجواء اللحظة :-
” لقد ربحت يا حياة .. هزمتني انا وقلبي معا .. مبارك لك … مبارك لك يا حياتي …”
وما إن أنهى كلماته حتى هبط بشفتيه نحو شفتيها يقبلها بشوق ورغبة ولهفة والأهم بعشق حقيقي لا جدال فيه ..

خلعت جيلان سترتها وأخذت تنظر اليها بتردد للحظات قبل أن تحسم أمرها وتشعل النار فيها وهي ترميها أسفل جهاز إنذار الحريق ثم تركض مسرعة حيث تركت حقيبتها الصغيرة ثم وقفت هناك في ذلك المكان المعزول تنتظر أن يصدر الجهاز صوته ..
ما هي الا ثواني وعلا صوت الجهاز كما توقعت فصاح أحد الحارسين :-
“حريق ..”
ثم ركض كلاهما الى داخل المنزل لتقفز هي بسرعة من مكانها راكضة خارج القصر بأكمله وقد نجحت خطتها بالهرب …
اما في الداخل فإستيقظ جميع من في المنزل فمنهم من أيقظه صوت الجهاز وآخرون إستيقظوا بفعل صياح الموجودين ..
كانت زهرة تجلس بجانب ابنتها بفزع وهمسة تحتضن ولديها بينما خرج كلا من راغب ووالده ومعهما فيصل لفهم ما يحدث حيث وجدوا الحارس يحمل السترة بعدما نجح في اطفائها وهو يخبرهم :-
“هناك من تعمد وضع هذه السترة بعدما أشعلها بالنيران أسفل جهاز الإنذار …”
سأله راغب بنبرة حادة :-
“ما معنى هذا الكلام ..؟! من سيفعل هذا ..؟! ولم سيفعل ذلك .؟!”
ثم توقف عن حديثه للحظة قبل أن يسأل بإنفعال خفي :-
“هل تركتما البوابة الخارجية مفتوحة …؟!”
نظر الحارسان الى بعضيهما قبل أن ينطق الآخر بتردد :-
” نحن تحركنا بسرعة ما إن سمعنا صوت الجهاز ..”
لم يسمع راغب بقية حديثهما بل سارع يركض الى الخارج بحثا عن جيلان يتبعه فيصل عندما صاح به راغب وهو يشير بكفه :-
“شغل سيارتك وابحث عنها في هذا الإتجاه وانا في الإتجاه الآخر … إبحث عنها جيد فلا أعتقد إنها إبتعدت كثيرا ..”
ثم اتجه هو مسرعا نحو سيارته وشغلها ليقودها متجها يبحث عن جيلان هو الآخر …
بعد مرور حوالي نصف ساعة …
دلف كلا من راغب وفيصل الى صالة الجلوس بملامح جامدة لينهض راغب مرددا بإنفعال :-
” لم تجداها … أليس كذلك ..؟! لقد توقعت ذلك .. لقد هربت الفتاة .. ”
أضاف بعصبية بينما زوجته تحاول تهدئته لكن دون فائدة :-
” الفتاة صغيرة جدا .. الله وحده يعلم أين ذهبت الآن وماذا سيحدث لها …!”
حاول راغب تهدئته هو الآخر فقال له :-
” اهدأ من فضلك يا بابا وأنا أعدك إنني سأجدها …”
صاح عابد بنبرة متحاملة :-
“انت بالذات لا تتحدث … كل ما حدث كان بسببك أساسا أنت وشقيقك الأحمق … ”
أكمل يلوم نفسه :-
” وأنا أيضا أتحمل المسؤولية … ما كان علي الإعتماد عليك .. ما كان علي سماع كلامك وموافقتك على ما قررته …”
هتف فيصل بتردد :-
“اهدأ من فضلك يا بابا …”
لكن عابد كان غضبه يزداد فصاح بانفعال أكبر :-
“كيف تركتموها لوحدها..؟! كان يجب أن يبقى أحدكم معها ..”
نظر راغب الى همسة فنطقت بتلعثم :-
“في الحقيقة كنت معها ولكن …”
نظر عابد نحو همسة وصاح بها :-
“ولماذا تركتها يا همسة …؟! كيف تتركينها لوحدها …؟ ألا تعلمي وضعها وما تمر به ..”
أخفضت همسة رأسها بخجل بينما صدح صوت راغب الصلب :-
” من فضلك يا بابا .. لا تصرخ على زوجتي ..”
هتفت همسة بتأنيب :-
“راغب من فضلك …”
لكن راغب أوقفها بحزم :-
“انتظري من فضلك …”
أكمل يخبر والده :-
” لا تنسى إن زوجتي حامل يا بابا والإنفعال ليس جيدا عليها كما إنها لا دخل لها فعليا بما حدث فإبنك المبجل هو من طلب منها مغادرة الجناح ليتحدث مع جيلان على إنفراد بموافقة جيلان نفسها …”
أضاف وهو بالكاد يسيطر على أعصابه :-
” كما أرجو أن تتوقف عن لومي بإستمرار على ما حدث ولا تنسى إنك وافقت على هذا القرار الذي ما كنت لأنفذه دون موافقتك ولا تنسى أيضا إن فكرة الزواج كانت من أخيها فلا تلمني لوحدي لإنك وافقت وإرتضيت بينما كنت تستطيع أن تنهي الفكرة في مكانها برفض قاطع منك وما كان أحد يستطيع مجادلتك حينها …”
أنهى كلماته الجادة ثم غادر تاركا والده يتابعه بملامح متجهمة بينما وقفت همسة مكانها للحظات قبل أن تندفع خلفه ..
……………………………………………………………
دلفت خلفه الى الجناح لتتوقف مكانها وهي تجده يحاول الإتصال بشخص ما قبل أن يخبره بحزم أن يبحث عن إبنة عمه بعدما أعطاه المعلومات التي يحتاجها ليغلق الهاتف وهو يسألها بسرعة :-
” هل لديك صورة لها في هاتفك ..؟!”
هزت رأسها وقالت بتردد :-
“نعم ولكن أنا معها في الصورة ..”
قال بسرعة :-
” أرسليها لي فورا …”
سارعت تحمل هاتفها وترسل الصورة له ليفتحها ويتأمل إبتسامة جيلان الصادقة بجانب زوجته التي تبتسم هي الأخرى فيتنهد وهو يسارع في قص الصورة حيث حذف النصف الذي يحوي زوجته ثم أرسل صورة جيلان وحدها الى الشخص الذي كلفه بالبحث عنها ..
رمى بعدها هاتفه فوق السرير ثم اتجه نحو الكنبة وجلس عليها واضعا رأسه بين كفيه بتعب …
سمع صوتها تسأله بقلق :-
” هل أنت بخير ..؟!”
رفع عينيه نحوها يتأمل ملامحها الجادة فهز رأسه بنفي لتهتف برقة :-
” ستجدها ان شاءالله …”
نطق ببطأ :-
” كلانا يعرف إن الأمر ليس سهلا …”
هزت رأسها ثم قالت بجدية :-
” ربما تعود بنفسها فهي لا تعرف أحدا غيرنا …”
قال بقلق :-
” اتمنى أن تعود …”
زفر أنفاسه مضيفا :-
” يكفي إن الجميع يحملني ذنب ما حدث معها …”
نطقت بتردد :-
” لا بأس يا راغب … انت ايضا لم يكن عليك التحدث بهذه الطريقة مع عمي ..”
نظر لها بحدة تجاهلتها وهي تكمل بشجاعة :-
” لا تنسى إنه والدك والأهم هو قلق كثيرا على ابنة شقيقه ..”
قاطعها بحدة :-
” أنا كنت أدافع عنك يا همسة .. كنت أدافع عنك لإنني لا أقبل أن يرفع أي شخص صوته عليك حتى لو كان والدي .. ”
أخفضت عينيها أرضا بخجل فأكمل ببرود :-
” إذا كان هذا يرضيكِ فأنا لا يرضيني ..”
سألته بجدية وهي تعاود رفع عينيها نحوه مجددا :-
” إذا أنت تصرفت هكذا لإنه صرخ علي ، يعني لو كان صرخ عليك أنت ما كنت لتتصرف هكذا ..؟!”
أجاب راغب بجمود :-
” كنت سأضغط على نفسي كي أتجاهل الأمر لإنه والدي ..”
قالت بصدق :-
“ولهذا أنا فعلت نفسي الشيء وكان عليك أنت فعل ذلك أيضا ..”
نظر لها بدهشة لتقول بجدية :-
” أنت تعلم معزة عمي عابد عندي مثلما تدرك كم معزتي عنده وكم إنه يحبني ويعاملني مثلما يعامل جميع أبنائه حتى قبل أن نتزوج وأصبح كنته .. عمي عابد يتعامل معي طوال عمره كما يعاملكم جميعا .. يعاملني كإبنته تماما وعندما يغضب مني يؤنبني كنا يفعل مع تولاي .. لذا لم يكن هناك داعي لأن تتصرف هكذا فأنا طوال عمري واحدة منكم ووالدك بمثابة أب لي …”
مسح على وجهه بتعب مرددا بتهكم :-
” كالعادة .. دائما ما أكون أنا المخطئ من وجهة نظرك …”
قالت بجدية :-
” أنت دائما ما تعتقد ذلك .. تعتقد إنني أراك المخطئ ..”
سألها بتهكم :-
” أليست هذه الحقيقة ..؟!”
ردت بثبات :-
” نعم يا راغب .. إذا كنت تتحدث عنا فأنت المخطئ .. وإذا كنت تتحدث عن جيلان فأنت أيضا مخطئ وإن لم تكن المخطئ الوحيد وهناك غيرك من يشاركونك في هذا الخطأ …”
انتفض من مكانه يردد بقوة :-
” كلا يا همسة … انا وانت نعرف جيدا من دفع بنا الى هنا .. لا ترمي الأخطاء كلها فوق رأسي كي تظهري بمظهر الزوجة المسكينة المضحية .. كلانا يعرف إنك لست كذلك .. مثلما كلانا يعرف إن كلينا أخطأ ولكن هناك فرق بين خطأ وآخر …”
أنهى كلماته وهو يمنحها نظرة متسلطة لتنظر له بقسوة جديدة عليها وهي تقف أمامه عاجزة عن إيجاد الرد المناسب فيمنحها إبتسامة باردة وهو يخرج من الجناح بأكمله ..!
……………………………………………
في صباح اليوم التالي ..
فتحت عينيها على صوت طرقات على باب غرفتها لتعتدل في جلستها وهي تسمح للطارق بالدخول فتدخل الخادمة وهي تحمل باقة من الورود الجذابة تأملتها ليلى بحيرة لتضعها الخادمة على الطاولة أمامها وهي تخبرها :-
” لقد وصلت منذ قليل …”
سألتها قبل أن تهم بالمغادرة :-
” هل تريدين مني شيئا آخر يا هانم ..؟! ”
نطقت ليلى بخفوت :-
” كلا ، شكرا …”
غادرت الخادمة بينما نهضت ليلى من مكانها تسير نحو باقة الورد ..
حملت الباقة التي نالت إعجابها بورودها الأنيقة لتحمل الكارت وتقرأ ما به ..
” كان من المفترض أن تسمعين مني هذا الكلام بعد تلك السهرة في روما ولكن الظررف وقتها لم تسعفني …
لطالما عشقت اللون الأسود دون سبب محدد ، أما اليوم فأصبح لدي سبب يكفيني لذلك .. لو تعلمين كيف تبدين وأنتِ ترتدين الأسود يا ليلى !! تبدين قمة في الرقى والأنوثة والجاذبية .. تبدين أميرة بملامحك الأرستقراطية النبيلة وأناقتك الكلاسيكية والعصرية في نفس الوقت ..
في ذلك اليوم أخبرتكِ إنك نجمة إستثنائية ، آسف لإنني أخطأت الوصف بل ظلمتك بهذا التشبيه ..
انتِ لست نجمة ، انتِ شمس مشرقة ضيائها ينير العالم بأجمعه .. شمس يسعى الجميع للإقتراب منها حتى لو كلفهم ذلك الإكتواء بنيرانها …
إرتدي الأسود دائما فهو يليق بكِ ..!!
كنان نعمان ..”
تذكرت تلك السهرة التي تلاها إنهيارها …
الفستان الأسود الذي إرتدته وقتها وحديثهما وغزله الصريح بها وهو يخبرها إنها تبدو وسط الجميع كنجمة إستثنائية لا ينطفئ بريقها ..!
شعرت بتشتت شديد طغى عليه القلق ..
قلق بات يصاحبها منذ أن دخل حياتها هذا الرجل …
قلق لم تعرفه سوى بوجوده …
تمتمت بضيق :-
” ما هذه الورطة ..؟!”
نعم هي تشعر إنها تورطت .. تورطت معه ولكن ما لا تفهمه حقا هو ذلك الشعور الذي يملأها بوجوده .. مزيج من القلق والترقب والحذر .. مشاعر لا تعرف سببها ولا تفهمها ..
لم َ وجوده يبدو مقلقها لهذه الدرجة ولمَ مجرد رسالة قصيرة منه تمنح روحها كل هذا التشتت والتوجس ..؟!!!
سارعت تحمل هاتفها وتتصل به ..
غضبها يتفاقم داخلها وهي تتسائل عن كم الجرأة التي يحملها وهو يتحدث عنها ويغازلها بشكل صريح ..
جاءها صوته السلس يرحب بها ..
همت بالحديث وتأنيبه على تصرفاته لكنها فجأة وجدت نفسها عاجرة عن نطق ما أرادت قوله وكأن جميع الحديث الذي أعدته في رأسها خلال الدقيقتين الفائتتين تبخر …
” اهلا كنان بك ..”
قالتها برسمية وهي تضيف :-
” أشكرك على باقة الورد الجميلة لكن أرجو ألا يتكرر هذا الموقف مرة أخرى …”
رد ببرود :-
” للأسف لا يمكنني أن أعدك بذلك …”
كزت على أسنانها وهي تنطق بتحذير :-
” كنان بك … من فضلك ..”
قاطعها بهدوء :-
” ليلى هانم …”
توقف للحظة ثم قال :-
” هل يمكنني دعوتك على العشاء الليلة ..؟!”
سألته ببرود:-
” ما المناسبة ..؟!”
رد ببرود مماثل :-
” ستعرفين سبب الدعوة عندما تأتين …”
قالت بتحدي :-
” وإذا قلت لن آتي ..”
قال بخفة :-
” رفض دعوتي تصرف لا يليق بهانم راقية مثلك يا ليلى …”
ضغطت على فكيها بقوة ليضيف وهو يبتسم بإستمتاع :-
” إنها مجرد دعوة على العشاء وأنا أعدك إنك لن تندمين على قبولها ..”
زفرت أنفاسها ثم إلتزمت الصمت للحظات قبل أن تنطق بنبرة باردة :-
” حسنا أقبل ..”
ابتسم مرددا :-
” سأنتظرك مساءا في المطعم الذي سأرسل عنوانه لك بعد لحظات في رسالة …”
أنهت المكالمة معه وهي تنظر الى نفسها في المرآة بتردد ..
هي تعلم جيدا لماذا يريد رؤيتها على العشاء ..
تدرك سبب الدعوة الذي رفضته بحدة مسبقا …
زفرت أنفاسها بتعب وهي تجلس على سريرها لتسمع صوت طرقات على باب غرفتها مجددا فسمحت للطارق بالدخول لتجد والدتها تدلف الى الداخل وهي تردد :-
” صباح الخير حبيبتي …”
أكملت وهي تنظر الى باقة الورد الموضوعة جانبها فوق السرير :-
” من أرسل هذه الباقة يا ليلى ..؟!”
نظرت لها ليلى بصمت للحظات قبل أن تنهض من مكانها وتتجه نحو والدتها تضمها بقوة وهي تخبرها :-
” أنا أحتاجك يا ماما …”
ربتت فاتن فوق ظهرها وهي تقول :-
” وأنا هنا يا حبيبة ماما …”
أكملت وهي تنظر الى وجهها بعدما إبتعدت عن أحضانها :-
” تحدثي يا ليلى .. أنا أسمعك يا إبنتي ..”
تنهدت ليلى بتعب ثم جذبت والدتها من كفها وأجلستها على السرير ثم جلست جانبها ..
نطقت بتردد ظهر على ملامح وجهها :-
” كنان نعمان ..”
توقفت لوهلة ثم أكملت بنفس التردد :-
” يريد الزواج مني يا ماما ..”
…………………………………………
تحدثت ليلى عما حدث معها في الفترة الأخيرة لوالدتها ..
أفضت بمكنونات قلبها لها ..
حدثتها عن لقائها بنديم وحسم كل شيء جمع بينهما يوما ..
وأخبرتها عن كنان منذ أول يوم رأته فيه وحتى هذه اللحظة ..
قالت فاتن بجدية بعدما أنهت ليلى حديثها :-
” يعني كنان يريد الزواج منك وهو جاد في عرضه ..”
هزت ليلى رأسها بصمت لتضيف فاتن بتمهل :-
” وأنت رفضت عرضه في المرة الأولى …”
هزت ليلى رأسها بنفس الصمت لتسألها والدتها بجدية :-
” ورغم إنك تعلمين إن سبب دعوة الليلة هو نفس العرض وافقتِ على دعوته ..؟! هل هذا يعني إنك تراجعت عن الرفض ..؟!”
ردت ليلى بسرعة :-
” كلا ..”
سألتها والدتها بإهتمام :-
” لماذا وافقت إذا على الدعوة طالما جوابك لن يتغير ..؟!”
نهضت ليلى من مكانها وأخذت تسير بقميص نومها المحتشم وهي تخبر والدتها بتوتر خفي :-
” لإنني وجدت رفض الدعوة تصرف غير لائقا .. أليس كذلك يا ماما ..؟!”
قالت فاتن بجدية :-
” أخبريني يا ليلى ..؟! كيف ترين كنان هذا ..؟!”
توقفت ليلى عن سيرها تنظر الى والدتها بحيرة للحظات قبل أن تجيب بصدق :-
” رجل قوي .. جذاب وذو عقلية فذة .. ”
توقفت للحظة ثم أكملت بتردد :-
” لكنني لا أشعر بالراحة نحوه ..”
” لماذا ..؟!”
سألتها والدتها بتعجب قبل أن تضيف بتساؤل :-
” ما سبب شعورك هذا ..؟! هل الأمر يتعلق بأخلاقه ..؟! أم هناك شيء آخر …”
قالت ليلى بخفوت :-
” ليس أخلاقه .. يعني انا لا أعرف طبيعة أخلاقه .. نائلة قالت إنه ذو علاقات نسائية ولكنه لم يفعل شيء يظهر ذلك أو بالأحرى حتى اليوم هو يتصرف بأخلاق رفيعة رغم جرئته التي تزعجني كثيرا في بعض كلامه وتصرفاته ..”
حمحمت فاتن تسألها :-
” كيف يعني ..؟! ماذا قال لك أو فعل ..؟!”
أزاحت ليلى خصلة من شعرها الأشقر خلف أذنها وأجابت بوجه متورد :-
” هو يلقي كلمات الغزل على مسامعي .. لكن ليس غزلا وقحا بالطبع .. أساسا لو فعل هذا كنت سأتصرف معه بما يليق بذلك …”
تأملت فاتن تورد وجنتي ابنتها بإهتمام بينما شردت ليلى في تلك القبلة الخفيفة التي طبعها فوق شفتيها وهي تفكر إنها بالطبع لن تخبر والدتها عنها ..
اما والدتها فكانت تلاحط شيئا ما مختلفا في إبنتها وهي تتحدث عن كنان ..
شيئا غريبا ..وكأنه رغم ضيقها منه هناك حماس يشع من عينيها وهي تتحدث عنه …
قالت فاتن أخيرا بجدية :-
” عليك أن تتأكدي من أخلاقه أولا يا ليلى ..”
” ثم ..؟!”
سألتها ليلى بجدية لترد فاتن :-
” القرار لك .. لكن عليك قبل إتخاذ قرار نهائي سؤال نفسك ، هل أنت قادرة على الدخول في علاقة جديدة الآن ..؟! هل أنت مستعدة للإرتباط مجددا ..؟!”
نظقت ليلى بحيرة :-
” لا أعلم .. لو كنت أنتِ مكاني ، ماذا كنت ستفعلين ..؟!”
صمتت والدتها لوهلة بتفكير قبل أن تقول :-
” سؤال صعب يا ليلى .. هل تعلمين شيئا ..؟! من جهة أفكر إنه من الأفضل أن تنتظري .. تنتظري حتى تتجاوزي محنتك هذه وتتخطي مشاعرك القديمة … تنتظري حتى تكوني مستعدة كليا للدخول في علاقة جديدة ومرات أخرى أفكر إنه ربما يكون هذا ليس صحيحا .. إنه ربما من الأفضل أن يدخل أحدهم حياتك … يحرك أحدهم مشاعرك الراكدة تلك .. ربما يساعدك في تخطي مشاعرك القديمة بدلا من بقائك لوحدك .. أخشى إن وحدتك تنعكس بشكل سلبي عليك … انا حقا لا أعرف أين الصحيح …”
إسترسلت بجدية :-
” واقعيا .. كنان نعمان رجل بمواصفات أكثر من رائعة .. رجل تتمناه أي أم زوجا لإبنتها خاصة إذا تأكدنا من حسن أخلاقه وصدق نواياه وهذا ستكتشفينه أثناء فترة إرتباطكما .. منطقيا يجب أن تسمحي له بدخول حياتك … أن تجربي من جديد ولكنني في نفس الوقت أخشى أن يكون هذا القرار سريعا للغاية فيأتي بنتائج سلبية عليك …”
تأملت ليلى والدتها بنفس الحيرة وعقلها يراجع جميع ما قالته فتتسائل مجددا ..
هل تقبل عرضه أم ترفضه للمرة الثانية دون رجعة ..؟!
………………………………………………..
كانت تتأمل شقيقتها والدموع تملأ عينيها …
تتأمل ملامحها الهادئة وهي تنام بسلام في سرير المشفى غير واعية لأي شيء مما يدور حولها …
هي على هذه الحال منذ مدة طويلة ..
منذ أيام توقفت عن عدها …
لا تعلم متى سوف تستيقظ ورغم إن شريف يطمأنها يوميا على وضعها المستقر لكنها لن ترتاح حتى تستيقظ ..
حتى تفتح عينيها وتتحدث معها …
” نانسي …”
همست بها بصوت مبحوح وهي تمد كفها تمسك بها يدها الباردة قليلا تضيف بترجي :-
” متى سوف تستيقظين من غيبوبتك يا نانسي ..؟! لقد تأخرتِ كثيرا يا حبيبتي …”
تساقطت دموعها فوق وجنتيها بحرارة بعد أن فشلت في السيطرة عليها فأكملت تتوسلها وكأنها تسمعها:-
” انا خائفة كثيرا يا نانسي .. خوفي عليك يزداد كلما تأخرتِ في الإستيقاظ .. إستيقظي لأجلي …”
إنحدرت بنظراتها نحو بطنها المنتفخ لتسترسل بوجع :-
” الطفلان ما زالا متمسكين بالحياة … وضعهما يستقر تدريجيا .. أشعر إنهما سيولدان على خير …”
سيطرت على بكائها وهي تهمس لها :-
” يجب أن تستيقظي يا نانسي قبل موعد ولادتك … صغارك يحتاجون أن يجدوا والدتهم عندما يولدوا .. يحتاجونك قوية …”
عادت الدموع تشق طريقها فوق وجنتيها وهي تكمل بنبرة معذبة :-
” وأنا أحتاجك أيضا .. أحتاجك كثيرا …”
إنتبهت الى أشارة الممرضة التي تطلب منها المغادرة فقد إنتهى الوقت المحدد للزيارة لتهز رأسها بصمت وهي تعاود النظر نحو شقيقتها فتطبع قبلة خفيفة فوق وجنتها وتتحرك خارج المكان لتخلع تلك الملابس التي كانت ترتديها وتمنحها للممرضة قبل أن تجلس على احد الكراسي الموضوعة خارج الغرفة التي تمكث بها شقيقتها تمسح دموعها بأناملها عندما رن هاتفها فوجدت والدتها تتصل بها لتزفر أنفاسها بضيق فهي لم تعد تطيق حتى التحدث معها وهي ترى تجاهلها الواضح لنانسي وعدم الإهتمام بالسؤال عنها حتى بينما تقف هي عاجزة عن إخبارها عما يحدث تلتزم الصمت فقط وتتحجج بعمل كاذب كي تقضي معظم وقتها مع شقيقتها خارج المنزل …!
تجاهلت إتصال والدتها وهي تخفض صوت نغمة الهاتف عندما وجدت شريف يتقدم نحوها بنفس تلك الإبتسامة الهادئة فقال وهو يقف أمامها :-
” كيف حالك يا هايدي ..؟!”
وكأنه فجر جميع غضبها الكامن داخلها عندما إنتفضت من مكانها تصيح بصوت منفعل :-
” كيف سأكون مثلا ..؟! لست بخير .. شقيقتي لم تستيقظ حتى الآن وشقيقك المبجل لا أثر له … لقد تركها هنا وإختفى دون أن يكلف نفسه بالبقاء جانبها والإطمئنان عليها وكأنها ليست زوجته بل وتحمل طفليه ..”
أكملت بنفس الإندفاع ودموعهاعادت تملأ مقلتيها :-
” ألا يكفي إنه سبب ما حدث ..؟! أنا لم أر شخص مثله في حياتي ..! حقير وعديم المسؤولية ..كيف أمكنه أن يفعل هذا .. ؟! كيف تركها هنا دون مبالاة .. ؟! انا متأكدة إنه سيكون أكثر من سعيد لو ماتت وتخلص منها هي والطفلين ..”
توقفت عن حديثها وهي بالكاد تلتقط أنفاسها ليهتف شريف بتروي متفهما حالتها :-
” اهدئي من فضلك يا هايدي … من الواضح كم إنك متعبة جسديا ونفسيا …”
صاحت ودموعها عادت تتساقط فوق وجنتيها :-
” نعم أنا متعبة وكثيرا أيضا وهذا بسبب شقيقك .. كل ما أصاب شقيقتي بسببه .. ذلك اللعين .. عديم المروءة والإحساس …”
تنهد شريف مرددا بصدق :-
” أنا آسف حقا يا هايدي .. أعتذر لك عن جميهع تصرفات شقيقي …”
رأت الصدق والأسف في عينيه لتسمعه يضيف :-
” صدقيني لو كان بيدي لغيرت كل هذا .. ومع هذا أنا أعدك إنه سيدفع ثمن جميع أفعاله …”
توقف يأخذ نفسه ثم يضيف :-
” انا فقط أنتظر إستيقاظ نانسي والإطمئنان عليها ثم سأتصرف معه بالطريقة التي تليق به وبتصرفاته ..”
سألته بنبرة باكية والذعر إحتل عينيها :-
” وماذا لو لم تستيقظ ..؟! ماذا لو …”
ثم توقفت ولم تستطع نطقها ليقول بسرعة متأملا وجهها الذي إنخفض أرضا مستمعا لصوت نحيبها الخافت :-
” سوف تستيقظ .. صدقيني سوف تستيقظ بإذن الله .. وضعها مستقر عموما …”
تقدم نحوها يضع كفيه فوق كتفيها بدعم قائلا :-
” أنت فقط اهدئي لأجلها فهي تحتاجك وسوف تحتاجك أكثر عندما تستيقظ ..”
رفعت نظراتها نحوه تردد بأمل :-
” لتستيقظ فقط وسأكون بجانبها وأفعل لها ما تريد ..”
ابتسم قائلا :-
” سيحدث قريبا بإذن الله …”
تأملت إبتسامة الهادئة الرزينة وكفيه الموضوعتين فوق كتفيها تدعمانها فتنحنحت قائلة بخجل وهي تتذكر إنفعالها الشديد في وجهه قبل لحظات :-
” أنا آسفة حقا دكتور .. لقد صرخت بوجهك وكنت منفعلة بشدة وأنا أتحدث معك …”
قاطعها وهو يبعد كفيه عن كتفيها :-
” لا تعتذري يا هايدي .. أنا أتفهم حجم الضغوطات التي تمرين بها …”
نطقت بإستيحاء :-
” ولكن أنت لا دخل لك كي أتحدث معك بهذه الطريقة ويرتفع صوتي عليك …”
ابتسم قائلا بنبرة ودودة :-
” صدقيني هذا طبيعي جدا .. من الطبيعي أن تفقدي سيطرتك على أعصابك بين الحين والآخر خاصة في وضع كالذي تمرين به ..”
تنحنحت تهز رأسها بتفهم وحرج ليكمل بنفس الإبتسامة :-
” لا داعي للإعتذار ولا تنسي يا هايدي إننا أصبحنا أقرباء … ”
ابتسمت وهي تشكره بصدق :-
” شكرا يا دكتور .. قرابتك تسعدني حقا ..”
قال بصدق :-
” وأنا أيضا يا هايدي ..”
أكمل بنفس اللطف :-
” وتوقفي من فضلك عن كلمة دكتور .. كما قلت قبل لحظات .. نحن أصبحنا قريبين فلا داعي للرسميات .. يمكنك أن تناديني شريف فقط دون ألقاب …”
تنحنت تردد بحرج خفي :-
” حسنا يا شريف .. شكرا لك …”
اتسعت ابتسامته مرددا :-
” عفوا يا هايدي …”
أنهى حديثه وهو يربت فوق كتفها قائلا :-
” سأذهب لأتفقد بعض مرضاي .. تعالي إلي عندما تحتاجين أي شيء وأنا سأعود مساءا للإطمئنان على نانسي ..”
هزت رأسها بتفهم وهي تبتسم له مجددا بنفس الإمتنان ليتحرك هو بعدها متجها لعمله مجددا تاركا إياها تعود وتجلس فوق كرسيها وهي تدعو الله أن تستيقظ شقيقتها بأسرع وقت وتطمئن عليها …
…………………………………………..
كانت تتأمل هاتفها بشرود…
تريد الإتصال به والسؤال عنه ولديها الحجة لذلك لكنها ما زالت مترددة ..
لا تعرف لماذا تشعر بالتردد ..
هل تخشى أن يكشفها …؟!
أن يعرف حقيقة مشاعرها ..؟!
وما المشكلة في هذا ..؟!
هو أيضا يحمل مشاعرا نحوها …
يحبها مهما حاول إخفاء هذا …
أحيانا تتفهمه .. فالأمر ليس سهلا .. لكن مشاعرها تستحق المحاولة والنجاح …
هي لطالما كانت فتاة محاربة … لا تعترف بالهروب كوسيلة نجاة …
إذا ما أرادت شيء تحارب كي تناله طالما هي لا تتجاوز على حقوق غيرها ..
طالما ما تريده حق مشروع لها …
هذه طبيعتها … هكذا إعتادت أن تكون في جميع مراحل حياتها فلن تأتي الآن وتجبن أمام موقف كهذا .. موقف يتعلق بمشاعرها … مشاعرها التي تحركت لأول مرة اتجاه شخص ما …
حسمت أمرها وإتصلت به وقلبها أخذ يقرع كالطبول شوقا وليس قلقا او توترا …
هذه المشاعر برمتها جديدة عليها ..
من المفترض أن تخشى مشاعرها الوليدة لكنها لا تفعل ..
منذ متى وهي تخشى شيئا ما ..؟!
منذ متى وهي تسمح للخوف أن يتكمن منها ..؟!
جاءها صوته الرجولي المحبب لها يرحب بها بنبرته الرخيمة فردت تحيته وهي تسأله عن أحواله بنبرة إعتيادية لا تعكس مشاعرها على الإطلاق ..
سمعت رده المطمئن على صحته وسعدت عندما علمت بخروجه من المشفى وإستقراره في المنزل لعدة أيام …
قالت أخيرا تذكر السبب الدي جعلها تتصل به والذي لم يكن سوى حجة للتواصل معه :-
” في الحقيقة أنا إتصلت بك بسبب عمار … أخي عمار بعدما علم بما فعله فراس بات يريد أن يعاقبه ..”
أكملت تستمر في كذبها وإن كان ما تقوله عن نوايا عمار حقيقة :-
” أردت إخبارك بذلك كي تتصرف … يعني انا حاولت إقناعه أن يتراجع عما يفكر به لكنه على ما يبدو مصر على النيل منه .. انت لا تعرف عمار جيدا ولكنه صعب للغاية و …”
قاطعها بجدية :-
” واقعيا لا يمكننا لومه .. اي شخص مكانه سيتصرف هكذا .. ”
هتفت بتردد :-
” نعم أعلم ولكنك أخذت حقي وإنتهى الأمر .. انا بالطبع لا يمكنني إخباره بهذا … يعني لو أخبرته بما فعلته أنت سأفتح أبوابا لا نهاية لها .. أساسا هو يؤنبني على خطبتي منه …”
توقفت عن حديثها لوهلة ثم قالت بصدق هذه المرة :-
” ونديم لا يعرف شيئا وأنا بالطبع لا يمكنني إخباره بعد مرور هذه المدة عن ذلك الحادث .. حتى ماما وافقتني على عدم إخباره بعدما أكدت لها إن فراس لن يتعرض لي مجددا ..”
قال فادي بجدية :-
” في الواقع لا أعرف ماذا أقول حقا يا غالية .. يعني فراس تسبب بالكثير من المشاكل لك و ..”
قاطعته هي هذه المرة :-
” لا أنكر إنني من ساهمت بذلك يا فادي بعدما فعلته ..”
سألها بإهتمام :-
” هل أنت نادمة إذا ..؟؟”
ردت بسرعة :-
” أبدا ..”
أكملت بخفوت :-
” إعذرني على صراحتي ولكن شقيقك يستحق أكثر من هذا …”
تنهد مرددا بصدق :-
” لا تعتذري يا غالية .. انت محقة ..”
أضاف بجدية :-
” على العموم اطمئني …. انا سأتصرف في هذا الأمر .. لا داعي للقلق …”
هتفت بجدية :-
” حسنا .. مع السلامة اذا …”
شعر بنفسه إنه لا يريد إنهاء المكالمة الآن فهو لم يكتفِ من سماع حديثها ونبرة صوتها لكنه إضطر الى قول :-
” مع السلامة يا غالية ..”
ثم أغلق الهاتف ليتأمل صديقه الذي يبتسم بتهكم له ليرفع حاجبه مرددا بغلظة :-
” نعم يا سيف ..”
تقدم سيف نحوه مرددا بسخرية :-
” على أساس إنه لا يوجد شيء بينك وبينها يا فادي … على أساس إنك لا تحمل أي شيء داخلك نحوها …”
زفر فادي أنفاسه مرددا بتأفف :-
” توقف يا سيف .. لا مزاج لدي لسماع حديثك هذا …”
قال سيف ببرود :-
” إعترف إنك وقعت يا سيادة المقدم .. وقعت في حب تلك الفتاة .. ”
إسترسل عن قصد :-
” لقد غلبك الحب يا فادي …”
عانده فادي :-
” أنت مصر إذا … ليكن بعلمك أنت تتوهم فقط ..”
ردد سيف ببرود :-
” لو ترى نفسك وأنت تتحدث معها ستدرك ما أعنيه …”
أكمل وهو يتنهد بصمت :-
” توقف عن تصرفاتك هذه يا فادي … الإنكار لا فائدة منه كما يبدو إنها تبادلك نفس المشاعر ..”
أضاف وهو يتأمل تجهم ملامح صديقه :-
” لا أنكر إنه معك الحق في إنكارك … فعلاقتكما لن تكون سهلة خاصة وهي كانت خطيبة شقيقك …”
توقف يلاحظ تشنج ملامح فادي فيضيف بتمهل :-
” انا نفسي حذرتك من هذا الأمر ولكن طالما مشاعرك تحركت نحوها فإنكار تلك المشاعر ليس حلا ..”
نطق فادي أخيرا بجدية :-
” أنت من تقول هذا يا سيف ..؟! هل نسيت حديثك قبل مدة قصيرة ..؟! أنت اول من قلت إن هذه العلاقة لا يجب أن تتم وحذرتني من التمادي في علاقتي معها …”
قال سيف بجدية :-
” كنت أعتقد إن مشاعرك لم تتورط بعد معها .. لكن تبين لي العكس … ”
صمت قليلا ثم أكمل :-
” صحيح أنا لا أفهم في لغة المشاعر عموما ولم أجرب الحب مسبقا لكن هذا لا يلغي حقيقة ما تشعره .. هروبك من مشاعرك ليس هو الحل الصحيح ..”
نظر فادي له بصمت للحظات قبل أن يهتف أخيرا بجدية وثبات :-
” أنا أحبها يا سيف .. أحبها كثيرا ..”
أكمل وهو يقر بما يشعره نحوها :-
” لا أعرف كيف ومتى حدث هذا … كل ما أعرفه إنني أحببتها … أحببتها دون أن أعي ذلك … غالية تسللت لقلبي دون وعي منك .. فجأة إكتشفت إنني مغرم بها .. فجأة وجدت نفسها هائما بتفاصيلها .. ”
عاد يتنهد مجددا وهو يشعر بالراحة بعدما أفضى مكنونات قلبه ليكمل بجدية :-
“لو كان بيدي لما أحببتها .. لما سمحت لمشاعري بالتحرك نحوها لكن صدقني كل شيء حدث دون إدراك مني .. وقعت في غرامها فجأة .. فجأة وجدت نفسي أحبها …”
ابتسم سيف مرددا بصدق :-
” أعلم إن الأمر ليس سهلا لكنك قلتها يا فادي .. ما حدث كان دون إرادة منك ..”
قال فادي بإختناق :-
” لكن الأمر صعب … صعب جدا ..انت تعرف فراس جيدا …. ”
قال سيف بجدية :-
” دعك الآن من فراس … ما يهم حاليا هو أنت .. إذا وجدت نفسك قادرا على تجاهل حقيقة علاقتها السابقة بفراس وما جمعها به … إذا إستطعت تجاوز هذا فما يليه سيكون أسهل .. في النهاية أنت تستطيع الوقوف في وجه شقيقك لكن ليس قبل أن تتأكد من قدرتك على تجاوز علاقتهما السابقة بحيث لا يستطيع أي أحد أن يؤثر عليك من خلال هذه النقطة ..”
أنهى سيف حديثه ليشرد فادي في كلماته وهو يسأل نفسه مجددا ..
هل هو قادر على تجاوز حقيقة علاقة غالية السابقة بفراس ..؟!
هل سوف يستطيع نسيان إنها كانت خطيبة شقيقه ..؟!
ومجددا لم يجد جوابا واضحا فتمكنت منه الحيرة أكثر ..
…………………………………………………….
غادر المشفى وهو يحاول الإتصال بشقيقه ليجد هاتفه مغلقا كالعادة …
سيطر الغضب الشديد عليه وهو يلعنه داخله …
لم يتوقع يوما أن يصل شقيقه الى هذه الدرجة من الإستهتار واللا مبالاة ..
لا يفهم متى كان صلاح على هذا النحو …
شقيقه الذي يصغره بأعوام كثيرة نشأ في بيئة حازمة عموما فوالدته لطالما تميزت بشخصيتها الصارمة رغم حنانها المفرط وقت الحاجة لكنها سعت بكل قوتها أن تنشأ رجالا بحق خاصة بعدما فقدت زوجها في سن مبكرة وهي ما زالت شابة صغيرة لم تتجاوز عامها الأربعين بعدما أنجبت صلاح بأقل من عام ..
نعم لقد توفي والده قبل مرور عام على ولادة صلاح حينها كان يبلغ هو عامه الحادي عشر وقد تحمل المسؤولية كاملة بصلابة غرستها والدته فيه وهي تخبره إنه رجل البيت بعد والده وتوصيه برعاية شقيقه الصغير كأب له ..
ورغم إن صلاح نشأ يتيم الأب لكن لم يبالغ أحدهم في دلاله بل حرصوا على تنشئته بشكل صحيح وربته والدته بنفس الطريقة التي تربى هو عليها وهذا ما يجعله يستغرب كيف أصبح هكذا ولماذا ..؟!
لا يوجد مبرر واحد لتصرفاته فهو يعرف شقيقه جيدا ويتواصل معه دائما حتى في فترة دراسته خارج البلاد ..
لم يكن هناك سببا ليصبح هكذا فهو لم يمر بتجربة معينة حولته الى هذا الشاب المستهتر عديم المسؤولية …
من الواضح إنه طبع فيه وهذا بحد ذاته يجعله قلقا جدا عليه …
زفر أنفاسه بتعب مفكرا في وضع نانسي والطفلين القادمين في ظروف كهذه ..
كل شيء يبدو سيئا للغاية …
يشعر بالشفقة اتجاه الطفلين اللذين لا ذنب لهما في كل هذا …
يرى مستقبلا ليس جيدا لكليهما إذا بقي شقيقه على وضعه هذه إضافة الى خوفه على حياة نانسي التي لم تستيقظ بعد رغم إستقرار وظائف جسدها الحيوية مما يجعله يرجح إن سبب غيبوبتها بات نفسيا أكثر مما هو عضويا ..
ربما هي ترفض الإستيقاظ مجددا والعودة الى الحياة بعدما تعرضت له ..
اتجه نحو سيارته في كراج المشفى وهو يفكر في المكان الذي سيكون فيه شقيقه الآن ..
شقيقه الغائب منذ أيام …
صعد سيارته ورغما عنه تذكر ذلك النادي الليلي لكنه كذب أفكاره مؤكدا إنه من المستحيل أن يصل شقيقه الى هذه الدرجة من اللا مبالاة …
تطلع أمامه بتردد قبل أن يحسم أمره ويتجه الى نادي شقيقه المفضل والذي أخذه صلاح إليه ما إن عاد من السفر كي يحتفل وقد أغضبه ذلك بشدة فالمكان لم يعجبه إطلاقا …
بعد حوالي ثلث ساعة وقف شريف بسيارته أمام النادي ليهبط منها وهو يتجه الى داخل المكان ..
سار في المكان وهو يلعن شقيقه للمرة التي لا يعرف عددها فهو لم يكن ليدخل يوما الى مكان كهذا لولاه …
تأمل المناظر التي بدت مثيرة للإشمئزاز وهو يبحث بعينيه عن شقيقه متمنيا داخله ألا يجده هنا كما يتوقع …
لكن سرعان ما إنتبه إليه وهو يتوسط ساحة الرقص يراقص إحدى الفتيات التي ترتدي ملابس تظهر أكثر مما تخفي ..
إشتلعت عينيه بغضب حارق متأملا إياه وهو مندمجا في الرقص مع تلك الفتاة التي لا يناسبها سوى وصف عاهرة ..
إتجه بلا وعي نحو ساحة الرقص وجذبه من قميصه لينصدم صلاح من وجود شقيقه أمامه فيهمس متسائلا بعدم إستيعاب :-
” ماذا تفعل هنا شريف ..؟!”
وجد شريف الفتاة تمسك بصلاح من ذراعه تسأله بضجر :-
” من هذا ولماذا يمسك بك بهذا الشكل ..؟!”
دفعها شريف بكفه بقوة بعيدا عن شقيقه مرددا بنفور :-
” إبتعدي أنت الآن ..”
ثم أمر شقيقه بنظرات حازمة :-
” وأنت تعال معي …”
ثم دفعه أمامه ليسير صلاح على مضض خارج المكان يتبعه شريف بملامح متحفزة …
ما إن أصبحا خارج المكان حتى صاح شريف به :-
” هل جننت يا هذا ..؟! ماذا تفعل هنا …؟! ”
أكمل وهو يندفع نحوه قابضا على ياقة قميصه :-
” هل تعلم كم مرة إتصلت بك ولم أجد إجابة ..؟! هل تعلم كيف كنت أبحث عنك وأنت تعيش حياتك بالطول والعرض وكأنه ليس هناك فتاة راقدة في المشفى من المفترض إنها زوجتك وتحمل طفليك …”
صرخ صلاح وقد مل من هذا الحديث المكرر :-
” وما شأني أنا … ؟! هي من تسببت بكل هذا لنفسها .. لا علاقة لي بكل ما حدث …”
أكمل بعنجهية :-
” ألا يكفي إنني تنازلت وتزوجتها .. ؟! شخص آخر غيري ما كان لينظر في وجهها … كان سيتركها تتحمل نتيجة خطئها ..”
صحح شريف وهو بالكاد يسيطر على أعصابه :-
” تقصد خطئكما فالخطأ كان مشتركا بينكما يا بك ..”
قال صلاح بتجهم :-
” بل خطئها وحدها … هي من رمت بنفسها علي وانا رجل … فقدت سيطرتي على نفسي وهي كالبلهاء لم تكن تعي ما يحدث ..”
هز شريف رأسه مرددا بعدم تصديق :-
” هل جننت أنت ..؟! إلى أي درجة وصلك بك الحقارة والدناءة ..؟! تلك التي تتحدث عنها بهذا الشكل هي زوجتك يا حقير .. زوجتك يا أحمق وأم طفليك القادمين ..”
قاطعه صلاح بعصبية :-
” لن يحدث ذلك .. هذان الطفلان ليسا مسؤوليتي .. انا لا أريدهما وهي تعلم هذا جيدا …”
عاد شريف يقبض على ياقة قميصه يهدر به :-
” أقسم بربي إنني سأفقد آخر ما تبقى من تعقلي وأضربك …”
أكمل وهو يهز جسده بعنف :
” كن رجلا لمرة واحدة في حياتك .. مرة واحدة فقط تصرف كالرجال يا صلاح …”
أكمل وهو يدفعه بعيدا عنه بإشمئزاز :-
” الفتاة ما زالت في غيبوبتها وأنت هنا ترقص وتمرح دون أدنى إحترام لوضعها الحالي ودون مراعاة لكلام الناس عندما يرونك هنا لوحدك .. هل تريد فضحها أمام الجميع .. ؟! لكن عليك أن تعلم إن هذه الفضيحة لن تشملها وحدها بل ستشمل الطفلين أيضا .. طفليك .. طفلينا جميعا ..”
أكمل وهو يشير نحوه بحزم متجاهلا ملامحه الغير راضية :-
” إسمعني يا هذا .. لن أسمح لك بتدمير سمعة العائلة بعد كل هذه السنوات .. أنا أسعى بكل مقدرتي لمعالجة هذه المشكلة دون التسبب بأي فضيحة لأيا منا وأنت تعيش حياتك بلا مبالاة …”
نطق صلاح من بين أسنانه :-
” أنا حر …”
صاح شريف به :-
” كلا لست حرا …”
ثم توقف عن حديثه وهو يستمع الى رنين هاتفه ليسحب الهاتف من جيب سترته فيجد اسم هايدي يضيء الشاشة ..
شعر بالقلق وهو يجيب على هايدي فيأتيه صوتها على الفور فيردد بجبين متغضن :-
” نعم يا هايدي … هل نانسي بخير ..؟!”
تأمله صلاح بتجهم وهو يرى ملامح شقيقه التي لم يظهر عليها شيء سوى القليل من الدهشة ليسألته بتردد :-
” ماذا حديث يا شريف ..؟!”
نظر له شريف بطرف عينيه قبل أن يتنهد وهو يجيب بإقتضاب :-
” يجب أن نذهب الى المشفى حالا .. نانسي إستيقظت من غيبوبتها قبل قليل ..
……………………………………….
وأخيرا دلف الى منزله بعد يوم كامل قضاه خارج المنزل ..
يوم كامل أخذ يسير بسيارته في مناطق البلاد دون وجهة محددة ..
ليوم كامل وكلماتها تلاحقه وتقتله دون رحمة…
” انت السبب ..”
” أنا أكرهك .. أنت دمرتني … أنت السبب .. لا أريدك في حياتي …”
يتذكر إنهيارها … دموعها وضياعها والأهم ثرثرتها بحديث واقعي يدرك صدقه جيدا ..
” انت سبب كل شيء … لولاك ما كان ليحدث معي كل هذا .. انا تحطمت بسببك … تعرضت للاغتصاب بسببك … تزوجت مجبرة بسببك .. زوجي نالني رغما عنك بسببك والآن أنا أحمل طفلا داخلي بسببك …”
كلماتها التي ذكرته بوعده لوالدته .. حبيبته الأولى ..
” ماما كانت دائما تخبرني إنك سندي بعدها .. دائما كانت تطمئني إنك موجود … وإنه مهما حدث ستبقى انت معي وجواري .. ”
كلماتها التي ذكرته بحقيقة خذلانه لها وقبلها خذلانه لوالدته عندما أهملها وتسبب في ضياعها ..
” وأنا صدقتها .. بكل أسف صدقتها .. بنيت آمالا عليك .. ظننتك ملاذي والحضن الدافئ الذي سيحتويني لكنك كنت جلادي يا عمار … كنت ذنبي الذي لم يغفره القدر لي …”
نعم هو كان جلادها قبل الجميع …
لقد دمرها ..
تسبب في ضياعها ..
هو وحده من يحمل ذنبها فوق كاهله ..
ذنبها الذي يقيده دون أدنى رحمة ..
ذنبها الدي سيظل محفورا في روحه حتى آخر أنفاسه ..
أغمض عينيها يكتم دموعا ملأتهما وهو يتذكر كلامها …
كلامها الذي يحرق روحه …
روحها التي بقدر ما أحبتها بقدر ما ألمتها وتسببت في أذيتها ..
” لقد ترجيتك يا عمار .. ترجيتك ألا تتركني هنا .. ألا تزوجني منه .. توسلتك ..هل تتذكر .. لكنك رفضت بكل تبجج كعادتك .. وزوجتي منه .. رميتني هنا ولم تسأل عني …”
نعم ترجته .. ترجته لكنه لم يبال .. تصرف بعنجهية كالعادة ظنا منه إنه يفعل ما هو صحيح ..
اللعنة عليه .. سيظل يلعن نفسه دون توقف …
ليته سمعها .. ليته لم يفعل ما فعله .. ليته قام بتلبية رجائها …
إختنق حلقه بقوة وهو يقف منتصف صالة الجلوس يتأمل المكان حوله بوجع شديد وذكرى مواجهته الأخيرة بها تدمره كليا ..
يسمع صوتها وهي تصيح به .. ترشقه بكلمات الكره ..
جيلان تكرهه .. أخته الصغيرة تكرهه .. الذكرى الوحيدة التي بقيت له من والدته الحبيبته باتت لا تريده …
” اخرج من هنا … اتركني وشأني .. انا لا أريدك ولا أطيقك .. انا اكرهك .. اكرهك يا عمار ..”
عاد صياحها يصدح في عقله فيعتصر قبضته وهو يتذكر كلمات الكره السامة التي أطلقتها في وجهه ..
يحاول السيطرة على دموع ستظهر ضعفا لا يرغبه …
ومن الخلف صدح صوتها تنادي بإسمه فإلتفت نحوها بلهفة ..
لهفة رجل على وشك السقوط في حفرة مظلمة وهي وحدها من تمتلك طوق نجاته …
” شيرين …”
همس إسمها بنبرة ضعيفة تحمل أوجاع ملأت روحه لتتقدم نحوه تعانقه بسرعة وهي تتذكر حديث منى عما حدث مع جيلان وكيف ظلت تنتظر طول الليلة السابقة على أمل أن يعود حتى فقدت صبرها وكادت أن تبلغ الشرطة كي تبحث عنه ..
سمعته يهمس بنبرة حزينة :-
” جيلان يا شيرين .. ”
ثم أضاف بنفس النبرة المعذبة :-
” جيلان تكرهني يا شيرين … جيلان لا تريدني …”
همست شيرين له تواسيه :-
” اهدأ حبيبي .. اهدأ ارجوك …”
تمتم وهو يشدد من عناقها :-
” لا يمكنني يا شيرين .. ”
أضاف بصوت خافت :-
” إنها جيلان يا شيرين .. جيلان يا شيرين .. لا أستطيع تحمل هذا … لا أسطتيع تحمل ما قالته .. لا أستطيع تحمل خسارتها …”
إبتعدت عنه قليلا تنظر لعينيه الحمراوين مرددة بتوسل :-
” اهدأ ارجوك .. انت لن تخسرها .. صدقني ..”
هز رأسه نفيا يهمس بنبرة متحسرة :-
” لكنني خسرتها بالفعل .. هي لم تعد تريديني .. باتت تكرهني وتكره وجودي ..”
أكمل بضعف :-
” أنت لم ترِ نظراتها إلي ولم تسمعي حديثها معي … لقد طردتني بعدما أخبرتني إنها تكرهني ولا تريدني في حياتها …”
شهقت شيرين عندما شاهدت دموعه تتساقط بينما يسترسل هو :-
” انا أستحق هذا .. لقد دمرتها … دمرت حياتها ومستقبلها .. وها قد خسرتها كما خسرت والدتي …”
ثم تغضن جبينه وكأنه تذكر لتوه والدته وهو يسترسل :-
” والدتي لن تسامحني … لن تغفر لي .. يا إلهي … ماذا فعلت أنا ..؟! ماذا فعلت بنفسي وبها ..؟!”
تأملت شيرين ضعفه وضياعه ..
بدا وكأنه يهلوس .. فاقد للتوازن كليا ..
لأول مرة تراه بهذا الشكل .. بلا حول ولا قوة …
لم تتصور في أبشع أحلامها أن ترى عمار الخولي بهذا الشكل ..
زوجها وحبيبها يقف أمامه يبكي كطفل صغير ..
ينتحب أخته وخسارته لها ..
بدا ضعيفا للغاية … منهكا كليا .. وضائعا وعاجزا أيضا ..
لم تتحمل رؤيته على هذا النحو فسارعت تقبض على رأسه بين كفيها تخبره بنبرة قوية متماسكة :-
” تماسك يا عمار .. ما تفعله ليس حلا .. أنت يجب أن تتماسك … حتى لو أخطأت .. ستصلح جميع أخطائك .. تماسك من فضلك … لأجل جيلان نفسها يا عمار ..”
ابتسم بسخرية مريرة وهو يردد:-
” جيلان لم تعد تريدني يا شيرين .. إفهمي هذا .. لقد فقدتها يا شيرين ..”
نهرته بحزم :-
” كلا لم تفقدها .. لم ولن يحدث هذا .. صدقني …”
تأمل عينيها التي تنظران له بقوة وصلابة تخبره أن يتماسك ويشد أزره بينما تتحدث هي بنفس القوة والثبات :-
” كل شيء سيكون بخير ..فقط تماسك ولا تنهار .. ”
أضافت بصوت متوسل :-
” أنت لا يجب أن تنهار مهما حدث يا عمار .. يجب أن تبقى قويا ثابتا قادرا على مواجهة هذه العاصفة وتجاوزها بسلام … ”
سألتها بعدم إقتناع :-
” هل تعتقدين إنني سأتجاوزها ..؟!”
ردت على الفور بثقة :-
” ستتجاوزها بل سنتجاورها نحن الإثنان ومعنا جيلان …”
ثم فوجأ بها تسحب احد كفيه وتضعه فوق بطنها مرددة بعينين لامعتين :-
” ومعنا طفلنا القادم يا حبيبي ..”
……………………………………………………….
تأملت ليلى الفستان بتردد …
في داخلها كان هناك شعوران متناقضان ..
أحدهما يريد أن يذهب ويراه ويسمعه وآخر يريدها أن تهرب بأسرع ما يمكن …
تذكرت كلام والدتها … نصيحتها لها ..
تذكرت قرارها الأخير .. عزيمتها على التخطي … النسيان والبدء من جديد ..
ولكن ما زال هناك تردد .. خوف بديهي …
زفرت أنفاسها بتعب وهي ترمي الفستان بلا مبالاة فوق سريرها وتجلس جانبه فتنعكس صورتها على المرآة أمامها ..
تأملت إنعكاس صورتها للحظات فعاد السؤال يتردد داخلها بنفس الحيرة ..
لماذا هي …؟!
لماذا هي دونا عن غيرها ..؟!
مالذي وجده بها ..؟!
مالذي جعله يختارها هي دونا عن البقية ..؟!
هناك العديد من النساء حوله .. نساء أكثر منها مالا وجمالا وجاه …
نساء لا تحمل قلوبهن أوجاع ماضي ما زال حاضرا …
مالذي يجعله يترك جميع أولئك النساء ويختارها هي ..؟!
سؤال يتردد داخلها منذ ذلك اليوم الذي عرض فيه عليها الزواج بشكل جدي وما زال يتردد دون إجابة …!!
على أي أساس إختارها ..؟!
على أساس العقل أم القلب ..؟!
هي بالطبع ليست إختيار عقل .. فإذا عقله أراد أن يختار فبالتأكيد لن تكون هي خياره ..
وأما إذا كان القلب من أختار ،
توقفت عند هذا الحد وعقلها ينفض تلك الفكرة عن رأسها ..
هي لا يمكنها تصديق إن رجل مثل كنان قد يحب ..!!
ولكن إذا لم تكن هي إختيار العقل ولا القلب فعلى أي أساس إختارها ..؟!
عادت تنهض من مكانها ..
تجهز نفسها للسهرة ..
تعد نفسها ألا تتراجع ..
لقد إنتهت حكايتها الأولى وبدأت حكاية جديدة …
حكاية سوف ترسمها هي بنفسها هذه المرة ..
حكاية ستبدأ بناء على رغبتها لا رغبة الآخرين …
لأجلها هي وليس لأجل غيرها ..
إرتدت فستانها بلون البنفسج …
تركت شعرها الأشقر حرا طليقا …
إرتدت في قدميها حذاء من نفس اللون لكن بدرجة أغمق قليلا …
وقفت أمام المرآة ترتدي طقم اللؤلؤ الذي أهداه والدها لها يوم تخرجها من الجامعة وأخيرا وضعت عطرها الهادئ بعدما اكتفت بكحل العين وملمع الشفاه لتزيين وجهها ..
غادرت الغرفة بعدما حملت حقيبتها الصغيرة ..
وجدت سائق العائلة ينتظرها فركبت في السيارة الفخمة وطلبت من السائق أن يتحرك الى المكان المنشود …
وصلت الى هناك بعد حوالي ربع ساعة ..
هبطت من السيارة تتأمل المطعم الذي زارته مرتين أيام الجامعة أي منذ سنوات طويلة …
تحركت بخطواتها الواثقة الى الداخل حيث وجدت النادل يدلها على مكان الطاولة لتجده في إستقبالها ..
كان جذابا كالعادة .. أنيقا كما هو الحال .. يبتسم بطريقة توترها …بينما نظراته تحاوطها بحرص يروقها رغما عنها ..
وقف حالا ما إن رأها أمامه تتقدم نحوه بخطواتها البطيئة الحذرة …
أخذ يتأملها من رأسها حتى أخمص قدميها …
يتأملها جمالها المشع دون تكلف ..
جمال طبيعي واضح …
يتأمل أناقتها رغم بساطة ملابسها التي تذكره دائما بملابس الأميرات …
إبتسامتها الأرستقراطية المترفعة التي تجذبه بقوة …
بل هي كلها تجذبة دون تروي ..
لا يعرف متى بات منجذبا إليها هكذا ..
لكن ما يعرفه إن كل يوم يمر عليه يفقد السيطرة على مشاعره نحوها ورغبته فيها أكثر ..
هي إمرأة يصعب تجاوزها ..
إمرأة يأتي الزمن بها مرة واحدة فقط والشاطر فقط من يسبق الزمن وينالها ..!!
يعلم إنه طريقه نحوها طويل ويدرك حجم الأسوار التي تحيط قلبها ..
قلبها الذي ما زال ملوثا بآثار عشق قديم ..
لكنه لا يهتم ولا يخاف ولا يتردد ..
قد يكون الأمر أشبه بتحدي وهو يعشق التحديات عموما ..!!
يحارب .. يقاتل بشراسة وتحدي سافر ولا يستسلم حتى يرفع راية الإنتصار …
وهي تستحق ذلك .. تستحق أن يحارب ويناضل لأجلها ..
بل هي وحدها من تستحق ذلك ..
هي دونا عن كل النساء ..
لن يتراجع أبدا حتى ينال ما يريده .. حتى يمتلك القلب والروح والجسد وكل شيء ..
هو لن يقبل بها كزوجة فقط .. لن يرتضي بأنصاف الحلول ..
هي ستكون له بكل كيانها .. قلبها سينبض له وحده وروحها ستهيم به …
سيفعل المستحيل لتسقط في غرامه وتعلن إستسلامها أمام عشقه .. عشقه الذي سيقتحمها دون هوادة …
هكذا قرر وهكذا سينفذ وهكذا سيحدث ..!!
سحب له الكرسي لتشكره بخفوت وهي تجلس عليه ..
عاد يجلس فوق كرسيه فيتقدم النادل نحويهما وهو يضع قائمتي الطعام أماميهما …
جذب قائمة الطعام وفعلت هي المثل عندما سألها إذا ما قررت ما ستتناوله فأومأت برأسها ليشير الى النادل فتخبره عما تريد تناوله ويفعل هو المثل ..
ما إن غادر النادل حتى هتف وهو يتأملها :-
” تبدين رائعة ..”
تنحنت تشكره :-
” شكرا …”
ابتسم بجاذبية وقال :-
” انا سعيد جدا إنكِ قبلتِ دعوتي يا ليلى …”
هتفت بجدية :-
” لم يكن من اللائق رفضها يا كنان …”
هز رأسه بتفهم ثم قال :-
” أنت بالتأكيد تدركين السبب الحقيقي وراء دعوتي لك …”
نظرت له بصمت ليضيف بتروي :-
” سبق وعرضت عليك الزواج وأنت رفضتِ دون سبب محدد … وأنا أخبرتكِ وقتها إن طلبي سيظل قائما طالما لا يوجد سبب واضح لرفضك ….”
تأملته بصمت للحظات فأضاف بثقة :-
” أخبرتك أيضا إنني رجل صريح .. وإنني رجل لا يجيد التراجع عن شيء يريده .. وأنا أريدك … أريدك بحق .. أريدك كزوجة وشريكة حياة … ”
تحدثت أخيرا تسأله بجدية :-
” لماذا أنا ..؟!”
رد بسؤال مشابه :-
” ولماذا لستِ أنتِ ..؟!”
صمتت للحظات قبل أن تنطق بإقرار :-
” انا لا أناسبك .. ”
سألها بهدوء :-
” لماذا ..؟! لماذا لا تناسبيني ..؟! هل يوجد سبب محدد ..؟!”
ردت بتعقل :-
” لست مستعدة بعد لهذه الخطوة … أحتاج المزيد من الوقت ..”
التوى فمه بإبتسامة مرددا عن قصد :-
” ألا تخشين أن تتمادي في الإنتظار فيغلبك الوقت دون أن تشعرين …؟!”
تجهمت ملامحها فأكمل :-
” ألا تشعرين إنه آن الآوان لتتجاوزي الماضي .. ؟! أنت لم تجربي بعد كي تحكمي …”
قاطعته بإباء :-
” لا أحبذ الدخول في تجربة جديدة فاشلة …”
هز كتفيه مرددا :-
” وربما عكس ما تتوقعين … ستكون تجربة ناجحة …”
قالت بعناد :-
” ها أنت قلتها ، ربما وليس أكيد …”
هتف بحزم :-
” توقفي عن المراوغة يا ليلى … مرة واحدة فقط حكمي عقلك … دعي القلب وما يجول فيه جانبا وإختاري القادم بعقلك …”
تمتمت بجمود :-
” انت لن تستفيد شيئا من هذه الزيجة لإنني لا أمتلك أي شيء يمكنني منحه لك ..”
قال ببساطة :-
” وأنا موافق … أقبل بهذا ..”
همست بتهكم :-
” لماذا ..؟! مالذي يجبرك على القبول بهذا … لا تقل إنك تحبني مثلا …!!”
رفع حاجبه مرددا :-
” ولم لا ..؟! مالذي يجعلني لا أحبك …؟!”
سألته بدوره :-
” ومالذي يجعلك تحبني …؟!”
ران الصمت كليا بينهما فمنحته إبتسامة باردة تخبره إنه لا يمتلك جوابا على سؤالها وبالتالي هي إنتصرت عليه هذه المرة ..
لكن سرعان ما إنحسرت إبتسامتها وهي تسمعه يجيب بثقة :-
” الحب لا يحتاج الى أسباب يا ليلى .. الحب الحقيقي يحتل القلب فجأة ولا يكون قائما على أسباب معينة .. الحب الحقيقي أن أحبك لإنك أنت .. لإنك ليلى بعيدا عن جمالك ولطافتك ومالك … بعيدا عن أيا من صفاتك الجميلة .. ”
صمتت لوهلة تشعر لأول مرة بعجز كهذا أمامه لكنها سرعان ما عادت وتحدثت ببرود :-
” كن صريحا يا كنان .. انت لا تحبني .. ”
قال ببرود :-
” حتى لو ، هذا سيكون افضل أساسا .. ليس من الضروري أن نحب بعضنا .. يكفي أن نريد بعضنا ونتفاهم ونرتاح سويا ونعيش زواجا نجاحا ..”
سألته بغيظ مكتوم :-
” ومالذي يجبرك على الزواج مني وأنت لا تحبني ..؟!”
قال بخفة :-
” عجبا لك يا ليلى .. عندما قلت إنني أحبك تجهمت ملامحك ورفضتِ الفكرة وعندما قلت العكس لم يعجبك ذلك ..! أين تكمن مشكلتك أخبريني ..؟! حسب كلامك فأنت لا تحملين مشاعرا نحوي وبالتالي من المفترض ألا تهمك مشاعري إلا إذا ..”
سألته بتجهم :-
” إلا إذا ماذا ..؟!”
رد وهو يبتسم ببرود :-
” إلا إذا كنتِ تخافين أن تحبيني مع مرور الوقت بينما تبقى مشاعري نحوك حيادية وحينها سيكون حبك من طرف واحد …”
تجمدت ملامحها وهي تستمع لما يقوله وشعرت بنفسها تقع في الفخ مجددا عندما ظل هو محافظا على إبتسامته التي تحمل إنتصارا خفيا بينما يسحب كأسه ويرتشف الماء منه بصمت ..
………………………………………….
كان يقف أمام قبرها …
يتأمله بصمت وألم محفور في قلبه ..
لقد مرت سنوات وألمه ما زال كما هو ..
رغم كل شيء يظل وجع فقدانها راسخا في روحه …
نعم هو يتعايش والحياة لا تتوقف ولكن رغما عنه يشتاق لها ..
يتألم لخسارتها ..
لقد إحتاج وقتا طويلا لتقبل فقدانها ومع هذا ما زالت الذكرى تحتل قلبه دون توقف ..
قرأ الفاتحة أمام قبرها ثم تطلع إليه بنظرة أخيرة قبل أن يغادر المكان يهم بالتوجه خارح المقبرة في هذا الوقت المتأخر عندما تجمد مكانه وهو يسمع صوت نحيب خافت يأتي من مكان ما ..
أخذ يبحث عن المكان الذي يصدر منه الصوت وبحدسه إستطاع تمييز المكان فسار بتمهل حتى وصل وفوجئ بجسد صغير مكتوم بجانب أحد القبور وصوت أنين ينبعث من هذا الجسد لينادي عليها فتنتفض الفتاة بهلع …
حاول تهدئتها وهو يخبرها بينما يقبض على ذراعها :-
” اهدئي .. لا تخافي .. انا لن أفعل لم شيئا ..”
سألته بنبرة مذعورة :-
” من أنت ..؟! ماذا تفعل هنا ..؟!”
رد بسرعة يحاول طمأنتها :-
” أنا أتيت لزيارة أحدهم و سمعت صوتك ..”
ثم سارع يخرج الهاتف من جيبه ويفتح ضوئه أمام وجهه لتخفي عينيها بسرعة ..
نطق بتروي :-
” لا تخافي ..”
أكمل يتسائل :-
” ولكن مالذي أتى بك الى هنا ..؟!”
أجابته وهي تنظر نحو بقلق :-
” أنا أتيت عند والدتي …”
نظر نحو القبر ثم عاد ينظر إليها بتركيز قبل أن ينطق :-
” أنتِ نفس الفتاة التي رأيتها المرة السابقة ..!”
نظرت له بحيرة ليكمل يذكرها :-
” رأيتك وأنت تبحثين عن قبر والدتك .. وقتها أخذتك عنده لإنك كنت تائهة تقريبا ..”
هزت رأسها تخبره وقد تذكرت ذلك الموقف بالفعل:-
” نعم تذكرت …”
تأملها مجددا للحظات وضوء هاتفه مرتكز عليها..
نظراته كانت عابرة لكنها قيمت بسرعة ملحوظة سنها الذي لا يتجاوز الثمانية عشر عاما أو ربما أصغر ..
ملامحها البريئة المنهكة تماما وشعرها البني المرفوع بجديلة غير مرتبة ..!!
وأخيرا إستقرت عينيه فوق بطنها البارز قليلا .. ورغم بروزها الضئيل بينت إنها تحمل طفلا داخلها ..
هز رأسه مستنكرا .. الفتاة صغيرة جدا .. كيف تحمل طفلا في هذا العمر ..؟! كيف هانت على عائلتها وزوجوها …؟!
رباه إنها طفلة .. شكلها طفولي بحت وجسدها الصغير لا يناسب حقيقة كونها ستصبح أما بعد أشهر قليلة …
توقف عن أفكاره وهو يهتف بحسم :-
” أعطني عنوانك يا آنسة كي آخذك الى منزلك …”
ظهر الهلع في عينيها وهي ترد بسرعة :-
” كلا ، شكرا لك .. لا أريد ..”
زفر أنفاسه ببطأ ثم قال بتروي لا يشبهه :-
” من فضلك .. دعينا ننهي الأمر بسرعة …”
أكمل وهو يشمل المكان حوله بنظرة تقييمة :-
” يجب أن تغادري المكان هنا بسرعة .. وجودك هنا غير مقبول .. نحن على مشارف الليل …”
همست وعيناها تدوران في المكان لا إراديا ثم تنظران الى السماء التي بدأت شمسها تغرب لتحتضن جسدها بعفوية وهي تنطق بخفوت وبؤس :-
” لا منزل لدي لأذهب إليه …”
لا يعرف لماذا شعر إنها تكذب ..
فكر للحظة عما يفعله ليحسم أمره قائلا :-
” يمكنك أن تأتي معي …”
سألته بفزع :-
” إلى أين ..؟! كيف يعني أذهب معك ..؟!”
منحها إبتسامة مطمأنة وهو يقول :-
” سأخذك الى منزلي .. هناك حيث يسكن والدي … ”
صمتت تنظر له بتردد فيسألها بتدقيق :-
” بالمناسبة ، ما هو إسمك ..؟!”
ردت بحذر :-
” جيلان ، اسمي جيلان …”
هز رأسه بتفهم قبل أن يعرف عن نفسه :-
” وأنا سيف يا جيلان … سيف نعمان …”

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية حبيسة قلبه المظلم)

اترك رد

error: Content is protected !!