روايات

رواية مملكة سفيد الفصل السابع عشر 17 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الفصل السابع عشر 17 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد البارت السابع عشر

رواية مملكة سفيد الجزء السابع عشر

مملكة سفير
مملكة سفير

رواية مملكة سفيد الحلقة السابعة عشر

#رثاء_صديق
حابة أوضح شيء البعض معتقد أنه ليه لغاية دلوقتي الابطال محبوش بعض، يعني بقالنا ١٦ فصل ولسه محبوش بعض؟!
حابة اقول إن لو فعلا حبوا بعض بسرعة ومن نظرة واحدة يا جماعة هيكون شيء غير منطقي، يعني تخيلوا في الحياة الواقعية وفي الظروف العادية اساسا الإنسان عشان يميل لإنسان بياخد وقت قد ايه، وبعدين عشان يحبه بياخد وقت اكبر، فما بالكم بيهم هما في ظروف اقوى وأشد، يعني مفيش حد هيحب حد بالسرعة دي وبالدرجة اللي تخليه يحارب عالم كامل عشانه، اصبروا لأن الأحداث مش بالشكل ده، مقدرة لهفتكم إن تشوفوا الابطال وتفرحوا بيهم فرحة الأم بعيالها، لكن بمنطقية يا شباب، خلي الأمور تسير بمنطقية، لأن لو عملت اللي أنتم عايزينه ببساطة هكون كروتت تفاصيل كتير اوي هحتاجها قدام …
كل همسة في الرواية لسبب .
ومتنسوش أن الرواية مش اعتمادها الاول على قصص الثنائيات في حروب وقصص أخرى جنب القصص دي .
فكل اللي أقدر اقوله، إن كل شيء متخطط ليه وكل شيء له وقته، وصبرًا لأن القادم باذن الله هيبهركم، فقط استمتعوا .
صلوا على نبي الرحمة….
___________________
كانت صرخة إيفان هي الكلمة الناهية لأي احاديث جانبية داخل القاعة، كلٌ ابتلع كلمته التي كانت على وشك مغادرة فمه، حينما ابصروا غصب الملك وانتفاضة جسده على العرش، ومن يعلم الملك جيدًا يدرك مقدار كرهه لأي تجاوز داخل أسوار مملكته، وخاصة قاعة عرشه، وتحديدًا أمامه .
وهذا ما يراه أمامه تجاوز ليس فقط داخل مملكته، بل وايضًا أسفل سقف قصره، وهذا ما لن يسمح بحدوثه طالما هناك انفاس داخل صدره .
” أن تتجرأي و تمسي فردًا من أفراد شعبي لهو تجاوز، لن أسمح به ما دمتُ حيًا، والآن آنستي امنحك دقائق قليلة تجدين فيها حجة قوية يمكنها أن تخفف من عقابي لكِ ”
نظرت له زمرد بحنق شديد حاولت قدر الإمكان ألا تظهره على ملامحها، لكنها فشلت ، ولم تكتفي بذلك بل قررت أن تزيد الطين بلة وتفتح فمها لتجادل الملك :
” أنت يا …”
” مولاي .”
كانت تلك الكلمة الأخيرة الخافتة والرقيقة صادرة من كهرمان التي رأت أن تتدخل في الحال لحقن الدماء، فهي تدرك كيف ستتصرف زمرد في مثل هذه الحالات ولن تفرق بين ملكٍ وجندي .
تحركت أعين إيفان من زمرد حتى استقرت نظراته على كهرمان التي اقتربت من عرشه بمنتهى الهدوء تقول :
” مولاي، اسمح لي بالحديث رجاءً ”
رمقتها زمرد بسخرية تكتم صيحة حانقة كادت تخرج منها، يبدو أن حياتها الفوضوية وسط المنبوذين _ حيث لا قوة تعلو فوق صاحب الصوت الاعلى _ أثرت عليها إذ أضحت نافرة لكل القوانين والتقاليد وهذه الأشياء الروتينية المملة.
هي ورغم أنها تنبذ وتنفر أصلها وانتمائها لهذه الفئة من الأشخاص، إلا أنها لا تستطيع أن تنبذ عادات وتصرفات تربت عليها .
وكهرمان النقيض لزمرد، والتي تربت بين طرقات القصر على يد ملكة كوالدتها، وتعلمت على يد ملكٍ عظيم كشقيقها، كانت تدرك جيدًا التصرف الصحيح في هذه اللحظات، أن تعاند الملك وتصرخ في وجهه، تصرف قد يودي بك لحتفك، هذا ما لم ولن تدركه زمرد التي كانت معتادة على الصراخ في وجه والدها ” زعيم المنبوذين” بل والتقليل منه أمام الجميع ومقاتلة اخوتها .
” مولاي عذرًا منك على تصرف صديقتي، لكن جلالتك هذه الفتاة امامك ليست البريئة التي تعتقدها، لقد جاءت لرفيقتي برلنت يومًا وهددتها أمامنا بالاذية فقط لأن برلنت منعتها من إثارة المتاعب، ولم تكتفي بذلك بل تجرأت وضربتها على مرأى ومسمع من الجميع، ثم هذه الجروح التي تراها على جسدها لم تكن رفيقتي هي المتسببة بها على الاطلاق ”
وعند هذه النقطة وجدت زمرد مدخلها تقتحم الحديث بجدية كبيرة :
” نعم يا مولاي هذا صحيح، أنا عندما اكتشفت فعلتها وذهبت لاصارحها وجدتها بهذه الهيئة ولا اعلم حتى من فعل بها هذا، حتى أنها هي من هاجمتني واصابتني بجرح غائر في يدي ”
ختمت حديثها تشير صوب خدشٍ صغير يتوسط ظاهر كفها والذي لم يكن واضحًا حتى لايفان الذي رفع حاجبه لا يقتنع ولو بمقدار شعرة بما سمع .
ويبدو أن إيفان لم يكن الوحيد الذي لم يقتنع بحديث زمرد، فدانيار والذي جاء يستدعي الملك كي يتفقد القافلة الراحلة صوب مشكى، وكي يحضر تميم للتحرك، صُدم بمجرد دخوله وسماعه حديث تلك الحرباء المتلونة، يا ويلي لو أنه يجهلها لكان الآن صدق أنها الضحية، يدرك جيدًا أنها هي من فعلت هذا بالفتاة .
” تلك الكاذبة كدت أصدقها، مسكينة أُصيبت بخدشٍ أثناء محاولتها التخلص من الفتاة .”
استند بكتفه على الجدار خلفه يراقب ما يحدث بسخرية لاذعة وكأنه يشاهد عرضًا أو ما شابه، ينتظر أن تنتهي هذه الحرباء من دورها ليصفق لها .
نظر إيفان صوب الفتاة الملقاة ارضًا يقول بقوة :
” هل ما تقوله هذه الفتاة صحيحًا؟! لم تكن هي من ضربتك وهددتك ؟؟”
نظرت الفتاة صوب زمرد التي ضيقت عيونها وكأنها تحذرها التحدث بكلمة، أو تتحداها لقول شيء :
” لا …لا أدري، لقد …لقد كان المكان مظلمًا ولم أبصر شيئًا، كان جسدًا يرتدي الاسود هو من هجم عليّ مولاي وابرحني ضربًا، ثم اختفى كالضباب وبعدها بثواني معدودة هجمت تلك الفتاة على غرفتي تجرني مجبرة إياي على المجئ هنا والاعتراف بما فعلت ”
صاحت زمرد بانتصار :
” ها رأيت، أخبرتك أنا لم أمس منها شعرة واحدة حتى مولاي ”
ختمت حديثها ترفرف برموشها في شكل جعل دانيار يعتدل في وقفته وهو يضع يده أعلى فمه يكتم ضحكة كادت تفلت منه وهو يراقبها بإعجاب وفخر، رغم عدم معرفته لما يحدث هنا، لكنه فخور بها فخر الأب بصغاره وهو يراها تقترف المصيبة وتهرب من العقاب .
صدح صوت إيفان في القاعة يتجاوز عن تلك النقطة رغم شكه الكبير أن تلك الفتاة هي المتسببة فيما يحدث :
” إذن هل ما قالته العاملة صحيح ؟! أنتِ من دسستي الخاتم في ثيابها لأجل توريط الفتاة ؟!”
انتفض جسد كهرمان لثواني انتفاضة لطيفة بعد سماعها له يخصها بالحديث وكأنها خشيت أن يكتشف شيئًا من مجرد الإشارة لها، رفعت عيونها له تحدق به من خلف غطاء وجهها بأعين مراقبة لكل لفتة تصدر منه، رجل ملئ بالهيئة والذكاء، هو كتلة متنقلة من كل الصفات التي تجذب أي امرأة صوبه .
بكت الفتاة حين تذكرت همس زمرد لها بالقتل، أقسمت لها أنها ستقتلها إن كذبت بكلمة واحدة ولن يستطيع أحد حمايتها ولو عادت لرحم والدها فستخرجها بيدها وتتخلص منها بنفسها، لذا دون شعور تحدثت بما حدث فعقاب للملك سيكون أخف من تلك المختلة .
وهاجس صغير وسوس لها الاحتماء بالملك منها، لكن نظرات زمرد لها ارعبتها وبحق .
وزمرد تلك المسكينة التي لم تكن تتحدث بصدق فهي بالطبع لن تقتلها، لكن يبدو أن نبرتها وملامحها كانوا مقنعين وبشدة للفتاة .
أفاقت زمرد من شرودها على صوت برلنت :
” اقسم أنني لم أرفع اصبعًا على شيء لا يخصني مولاي، وهذه الفتاة هي من أوقعت بي ”
كانت تتحدث وهي تشير صوب الفتاة المتهمة، غير واعية بنظرات تميم الذي لم ينزع عيونه عنها منذ سمع باسمها، هل …هل يعقل أنها هي نفسها برلنت خاصته؟؟ برلنت الحبيبة ؟؟ هل هي نفسها من جاب الأرض من شرقها لغربها فقط ليبحث عنها ليكتشف الآن أنها تقبع أسفل القصر الذي يسكن به .
شعر بقلبه يرتجف لتلك الفكرة، ياالله هل تكون هي ويرتاح أخيرًا ؟؟ لكن إن كانت هي كيف لم تتعرف عليه ؟؟ وهو رآها مرات قليلة لكن مظهرها لا …صمت عن تلك الأفكار وهو يسمع صوت الملك يصرخ بصوت جهوري :
” تلك الألاعيب لا تُمارس في مملكتي وبالطبع ليس في قصري، ولأنه خطأك الأول فسأكون رحيمًا بكِ واكتفي بنفيك خارج أسوار قصري، اذهبي وابحثي عن رزقك في مكان آخر يا امرأة ”
ماذا ؟؟ هل سيبعدها ؟؟ هو لم يتأكد بعد إن كانت برلنت نفسها أو لا، لا لن يسمح للملك بأبعادها قبل أن يتأكد، انتفض تميم وهو يفتح فمه ليعترض، لكن فجأة توقف حين سمع بكاء الفتاة وهي تتوسل الملك بالسماح قبل أن تسحبها العاملات للخارج .
حرك عيونه صوب برلنت التي كانت تقف مرفوعة الرأس تسمع حديث الملك لها :
” ولأن ظلمًا نالك داخل قصري وقضيتي ليلة داخل جدران سجني دون ذنب، وتعويضًا عن كل ذلك سوف امنحك خمسة أيام من الراحة، ومبلغًا ماليًا، ولكِ كامل الحرية بالخروج من القصر في أيام العمل ولمدة شهر كامل ”
ختم حديثه يهبط عن عرشه مستأذنًا من الجميع يتحرك خارج القاعة بكل هدوء كي يتفقد الجيش المتحرك لمشكى، بينما تميم ظلت أعينه معلقة بها يبحث فيها عن رائحة من عزيزته بيرلي، لكن لا شيء ..
تحرك خلف الملك بهدوء شديد وقد أخذ وعدًا على نفسه بمعرفة كل ما يخص تلك الفتاة، فلا يعقل أن يتشابها باسم هو اختاره بنفسه مميزًا نادرًا لأجل صغيرته .
ولحق بهم دانيار الذي ابتسم لزمرد حينما التقت عيونه بخاصتها التي تظهر من اللثام، غمز لها غمزة صغيرة، ثم تحرك خلف الملك وتميم وهي ظلت تنظر لاثره بصدمة كبيرة تحاول معرفة ما يقصد من تلك الغمزة .
___________________
” هؤلاء أعداء الله استحلوا دماء إخوانكم مرات ومرات، قتلوا منهم الكثيرين، وعذبوا فيهم الباقيين، وإن اعطاكم الله قوة عجزتم عن مساعدتهم بها فالعار لكم ما حييتم، والخزي مصيركم ومصير ابنائكم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ”
صمت سالار يحرك عيونه بين رجاله، يرى وجوه بلا ملامح أو تعبيرات، فقط جمود وسواد غطى الوجوه، وكأن كلماته لهم تخترق افئدتهم ويخزنوها داخلهم لتشحنهم بطاقة تنتظر يوم تنفجر في وجوههم .
” نحن لم نكن يومًا دعاة حربٍ، ولا متفاخرين بقوتنا، ولم ننتصر يومًا سوى بتوفيق من الله، والآن نحن لسنا ذاهبون لحربٍ، ليس الآن، لم تقرع طبول الحرب بعد، لكن إن اضطررنا لها، فنحن أهلٌ بها، سوف نسير خلف قوافل المملكة ونحميها، حتى تصل لشعب مشكى، إن اعترضت حشرة طريقكم ادهسوها أسفل اقدامكم، فهمتم ؟؟”
ارتفعت صيحات الجميع بصوت واحد :
” فهمنا سيدي ”
ابتسم لهم سالار بسمة صغيرة يهز رأسه هزة خفيفة، يستدير خلفه ليرى إن عاد دانيار مع الملك وتميم أم لا، لكن ما حدث هو أنه رآها تقف على بُعد صغير منهم تراقبه بأعين غريبة جعلته يرفع حاجبه، وهي فقط ابتسمت له بسمة صغيرة خفيفة تهز رأسها له في تحية صامتة، وسالار رفع حاجبه بتعجب شديد .
لكنه وبعد ثواني لم يملك سوى أن وضع يده على قلبه يميل بعض الشيء برأسه وفي احترام شديد يؤدي تحيته للملكة، ثم استقام يبتسم لها يهز رأسه له .
بينما عند تبارك والتي خرجت منذ الصباح صوب الحديقة حيث ابلغها العريف أنها ستكون مكان درسهم بعدما استبعد فكرة دخول تلك الفتاة لمكتبته، أو أي إنسان حتى لمكتبته العزيزة .
خرجت تسير بملل وهي تنتظر حضوره، قبل أن ينتفض جسدها لسماع صوت جهوري جعلها تهرع ظنًا أن حربًا أخرى ستندلع، لكن ما رأته وسمعته جمدها بأرضها وهي ترى ما يحدث أمامها.
سالار يتقدم الجيش ويهتف بهم بكلمات جعلتها ترتجف وتتمنى، فقط تتمنى بكل ذرة داخل قلبها أن يحصل عالمها على سالار خاص به ..
فجأة وجدته يستدير وهو يدور بنظراته حوله، قبل أن تلتقي نظراتهما، فلم تملك سوى أن تبتسم له بتقدير وهي تهز رأسها له باحترام وتحية، ولصدمتها رأته ينحني بعض الشيء مؤديًا لها تحية هزت جوانب قلبها وجعلت بسمة لا إرادية ترتسم على فمها :
” في رعاية الله وحفظه ”
أبصرت تبارك الملك يقترب بكامل هيبته من سالار وخلفه رجلين تعلم أنهما من رجال سالار، راقبتهم من بعيد لا تسمع ما يقال بينهم، وحين قررت أن تقترب أكثر بفضول، تصنم جسدها في ارضها حين سمعت صوتًا خلفها يقول :
” لطالما كان سالار محط أنظار الفتيات داخل القصر، لكن يومًا لم تتجرأ فتاة على النظر له علنًا مخافة أن يزجرها هو بنظرة ترديها ارضًا، لكن ها هو يحدث، فتاة تنظر له بإعجاب شديد على مرأى ومسمع من الجميع وهذه الفتاة ليست سوى الملكة، مثير للاعجاب ها ؟؟”
استدارت تبارك ببطء صوب الخلف تحاول تبين صاحبة الصوت لتبصر امرأة في متوسط عمرها ترتدي تاجًا وثياب مرصعة بالاحجار الكريمة وتقف أمامها بكبرياء شديد، لكن عيونها كانت تلقي لها نظرات غريبة جعلت تبارك تقول بصوت خافت :
” عفواً ؟؟”
وعلى بُعدٍ منهم كان الملك يتفقد أمور الجيش ويطمئن عليه، ثم توقف أمام سالار يربت أعلى كتفه بهدوء وبسمة صغيرة :
” أثق أنك ستعود مرفوع الرأس يا صديقي، اوصل سلامي لبافل ورجاله ”
ابتسم له سالار يهز رأسه هزة صغيرة :
” سأفعل مولاي، اطمئن، والآن اسمح لنا بالتحرك ”
” يمكنك ذلك ”
وتلك الكلمة من إيفان كانت بمثابة رصاصة السباق التي منحت الجميع الإشارة الخضراء للتحرك فانتطلق جيش المقاتلين بقيادة يتقدم الجميع، ثم خلفهم سارت قوافل الملك ومن بعدهم تحركت كتيبة آخرى بقيادة تميم، ومن ثم كتيبة الرماة التي تحمي ظهورهم .
ابتسم سالار الذي جلس على صهوة جواده ينظر لجيشه يأمرهم بصوت جهوري :
” تقدموا يا رجال ”
وبالفعل تحرك الجميع بسرعة كبيرة، وسالار يسبقهم، لكن وقبل الخروج بالكامل من باب القصر أبصر بطرف عيونه مشهد جعل عيونه تتسع بصدمة وهو يرى الملكة الأم تسقط تبارك ارضًا ليتوقف خيله فجأة بقوة جعلت جميع أفراد الجيش يتوقفون بسرعة كبيرة وريبة .
وقبل أن يتحدث سالار بكلمة واحدة أو يتحرك خطوة أبصر الملك يتحرك بقوة مرعبة صوب الملكة وكأن الشياطين تتبعه، ليتنفس هو بقوة يغمض عيونه، قبل أن يقول بصوت هادئ :
” لنكمل طريقنا ”
وبالفعل سبق الجميع بجواده، تقدم كتيبته بهيبة والكل خلفه، وقد أصبحت ملامحه صخرية بشكل مخيف وكأنه للتو ألغى تفعيل الإنسان داخله، وأصبح في هذه اللحظة رجل حرب وآلة قتل ..
وكذلك الجميع منذ خطوا خارج القصر تناسوا كل ما يرهقهم ويشغل عقولهم ولم يتذكروا سوى شيئًا واحدًا فقط…القصاص .
______________________
انتهى من تفقد جميع الجنود المصابين، وأخيرًا حانت لحظة راحته التي يرجوها كل ثانية، ألقى بجسده على الأريكة يغمض عيونه فقط لينال قسطًا صغيرًا من الهدوء، لكن ذلك لم يتحقق مع كل تلك الضوضاء داخل عقله.
هل هي الآن جالسة تفكر في ذلك الشاب الذي تقدم لخطبتها، هل تعرفه جيدًا وستوافق عليه ؟! ليلا الصغيرة تقدم لخطبتها أحدهم ؟!
تنفس يشعر بالفوضى تعم عقله، هو لم يحسب حسابًا لهذا اليوم، متى نضجت الفتاة وأصبحت مقصد كل شابٍ يبحث عن الاستقرار ؟؟
” سيدي الطبيب نحتاجك في غرفة خمسة بسرعة ”
انتفض مهيار عن مقعده يركض سريعًا صوب الغرفة التي نطق بها مساعده، يشكر الله أن أرسل له هذه المهنة كي تشغل عقله قبل أن يُصاب بالجنون، والآن في هذه اللحظة ولأول مرة يشعر بامتنان شديد لعمله الذي جعله يصرف انتباهه عن كل ما يشغله .
لكن وبعد ساعة تقريبًا فرغ من كل ذلك فقرر أن يجد شيئًا يصرف انتباهه عن التفكير بليلا، ألا وهو الذهاب لها بنفسه .
هل هناك طريقة أفضل من ذلك ؟
وبالفعل وضع مهيار خطته قيد التنفيذ وهو يتحرك خارج المشفى مستغلًا فترة راحته ووجود مساعديه في المكان .
خرج من القصر ومنه تحرك صوب محل النباتات والأعشاب الخاص بوالد مرجان وليلا، لكن وحينما اقترب منه وجده مغلقًا.
حسنًا الآن هذه إشارة له كي يتراجع عن جنونه المفاجئ ويعود كأي شخص عاقل صوب عيادته ويرى عمله .
لكنه في هذه اللحظة لم يكن عاقلًا البتة وهو يغير طريقه صوب منزل ليلا :
” نعم هذه إشارة، وُضعت فقط لاتجاهلها ”
وبعد دقائق كان يقف أمام منزلها ولا يدري مبرر وجوده هنا، ليعود، فقط تراجع مهيار وعد صوب عيادتك الدافئة الآمنة و….
قاطع كل تلك الأفكار داخل عقل مهيار سماعه لصوت طرق على الباب أمامه، طرقه هو للباب، حيث ارتفعت قبضته دون شعور وضرب الباب في انتظار الرد والذي جاءه سريعًا.
فتحت ليلا الباب :
” تفضـ….”
توقفت عن الحديث فجأة بصدمة كبيرة حين أبصرت مهيار أمام الباب، ليبتسم لها الاخير بسمة صغيرة يبحث داخل عقله عن مبرر :
” مرحبًا، ذهبت للمحل ووجدت أنه مغلق، وقد كنت في حاجة ماسة لبعض الاعشاب الضرورية للمشفى ”
وليلا التي لم تخرج بعد من صدمتها ابتعدت عن الباب دون شعور :
” نعم هو أبي اغلقه لأجل تناول الطعام وسيعود بعد قليل و…تفضل ..تفضل للداخل ”
نظر لها مهيار بهدوء يشعر بمقدار تسرعه :
” لا شكرًا لكِ أنا فقط جئت لإحضار بعض الاعشاب الضرورية، يمكنني العودة بعد ساعة ريثما ينتهي العم من طعامه ”
ولم يكد يتحرك هاربًا منها ومن نظراتها التي جعلته يشعر كما لو أنه نبت له قرنين، حتى سمع صوتها تقول بسرعة كبيرة :
” لحظة ”
توقف مهيار يستدير لها بتعجب لتقول هي بعجلة من أمرها :
” لحظات قليلة سأحضر مفتاح المحل واعود لاعطيك ما تريد ”
” ماذا ؟؟ لا لا، سوف اعود بعض دقائق لا ترهقي نفسك ولا تشغلي رأسك بالأمر حقًا و…”
قاطعته ليلا بجدية وهي تركض للداخل :
” اعطني لحظات قليلة واعود ”
وبالفعل اختفت داخل المنزل تاركة إياه ينظر لاثرها وهو يوبخ نفسه بقوة، يشعر برغبة عارمة في الصراخ وجلد ذاته على كل تلك الأفعال الطفولية الغبية التي ما عرفها قبل هذا اليوم، لكن خرجت ليلا ورحمته من كل ذلك وهي تقول مبتسمة .
” هيا ”
” نعم لنتحرك ”
تحرك خلفها صوب المحل الذي لا يبعد عن منزلها الخاص سوى بشارع واحد فقط، وبمجرد أن توقفوا أمامه أخرجت المفتاح لتفتح الباب، قاطع كل ذلك صوتًا خلفهم تعرفه هي ويألفه هو .
” ليلا جيد أنك أتيتِ، كنت على وشك الذهاب لمنزل ”
استدار مهيار ببطء صوب الصوت ليبصر الشاب نفسه أمامه يبتسم تلك البسمة المستفزة له :
” لقد نسيت حقيبة مشتريات خاصة بي جوار مكتب العم حينما جئت للحديث معه ”
هزت له ليلا رأسها مبتسمة بسمة صغيرة :
” أوه، حسنًا ثواني سأحضرها لك ”
وبالفعل فتحت المحل تدخل وقبل أن يتحرك خلفها مهيار دفعه الشاب دون انتباه يلحق بها بسرعة كبيرة، ومهيار ظل واقفًا في الخارج يراقب ما يحدث أمامه ببسمة جانبية قبل أن يدخل المحل بكل هدوء .
يرى ليلا وقد بدأت تدور في المكان بحثًا عن الحقيبة التي يتحدث عنها ذلك الشاب حتى قالت :
” يبدو أن ابي حفظها في الداخل حين وجدها، لحظة أبحث لك عنها ”
نظرت صوب مهيار الذي كان يعبث بأنامله في بعض النباتات لا يعطيهم أي اهتمام :
” اعذرني سيد مهيار لن أتأخر”
ابتسم لها مهيار بسمة صغيرة يهز رأسه هزة خفيفة يراقبها تتحرك صوب المخزن بحثًا عن تلك الحقيبة، تاركة الاثنين في الخارج .
راقبها مهيار بأعين غير مهتمة حتى اختفت من أمامه، ولن يكد يستوعب الشاب ما يحدث، فبمجرد أن غابت ليلا عن عيونه حتى وجد جسده يلتصق بالجدار خلفه وهناك حسد يحاصره وصوت يخرج كالفحيح :
” ستخرج من هنا ولن تعود لا الآن ولا لاحقًا، لا بمفردك أو حتى بوالديك، وفكرة الزواج من ليلا ستتخلى عنها نهائيًا سمعت ؟!”
اتسعت أعين الشاب بقوة وهو يحدق في وجه مهيار الذي كان محمرًا بغضب وبشكل مخيف، وعيونه تنطق بشر جعله يبتلع ريقه :
” أنت الآن ترتكب خطأ سيكلفك حياتك، فمن هددته للتو هو أحد جنود الملك وفرد من جيش الرماة الملكي ”
ابتسم له مهيار له بسمة أظهرت أسنانه التي كان يضغط عليها بقوة مخيفة :
” ومن هددك هو الطبيب الملكي الذي لن يجعل في جسدك جزء صغير دون أن يحطمه إن لم تبتعد عن ليلا ”
صمت ثم قال بتهديد وبصوت خافت يستغل لمرة في حياته مرتبة أخيه داخل الجيش، لمرة واحدة يتفاخر بمكانة دانيار :
” أو سأخبر اخي العزيز عنك واوصيه بك خيرًا ”
” اخوك ؟؟”
” القائد دانيار ”
اتسعت أعين الشاب بصدمة كبيرة وهو يحدق في مهيار الذي لم يكن يمزح البتة بأي كلمة نطق بها، وشعر بجسده ينتفض وهو يرى الجدية تعلو وجهه، لذلك ابتلع ريقه يهز رأسه:
” أنا فقط أردت أن أطلب…..”
” مرفوض، طلبك مرفوض، فهذه التي وضعت عيونك عليها هي امرأتي، ولي منذ نضجت، والآن أخرج واختفي من أمام عيوني قبل أن يعلم أخي أنك وضعت عيونك على زوجة شقيقه المستقبلية ”
ولشدة خوفه لم ينتبه الشاب لشيء سوى الهروب من بين قبضة مهيار، لم ينتبه أن لا أحد ذكر أمر زواج ليلا من مهيار، وأن والد ليلا ما كان ليوافق على مقابلته إن كانت بالفعل له .
” اسف سيدي، لم يخبرني أحد، اعتذر لك ”
تركه مهيار وهو يمنحه بسمة صغيرة اخذها الشاب وهرول خارج المكان تاركًا ما جاء لأجله يتنفس الصعداء بمجرد أن هرب منه .
دقائق قليلة وخرجت ليلا تقول بجدية :
” لم اجد شيئًا في الداخل ربما ابي ا….ماذا ؟؟ أين رحل ؟؟”
استدار مهيار بملامح هادئة مبتسمًا بسمة صغيرة كعادته :
” لا ادري حقًا، فجأة انتفض وكأنه تذكر لتوه شيئًا مهمًا ”
هزت رأسها بعدم فهم وهي تتحرك في المكان تنير جميع اضوائه :
” اوه لا بأس إذًا، أخبرني سيدي الطبيب ما الذي تحتاجه”
«أنتِ » كلمة صغيرة كادت تفلت من بين شفاهه إلا أنه تداركها يقول ببسمة صغيرة وهو يجلس على المقعد أمام المكتب يطيل النظر لها بلطف كعادته :
” أرجو فقط أنني لا اعطلك عن اعمالك ”
” لا سيدي أنت لا تفعل، لا تقلق ”
ابتسم لها بسمة واسعة وقد عقد العزم أنه حان الوقت لأخذ خطوة جدية فعلية بعد ترقب لسنوات لحين يشتد عود آنسته الصغيرة :
” إذن، اريد الكثير من الأشياء، دعيني آخذ من وقتك الكثير آنستي فأنا طلباتي عديدة …”
___________________________
شعرت تبارك برائحة الخبث تفوح من تلك المرأة أمامها، فربما تكون هي مجرد فتاة منعزلة انطوائية، لكنها تكتشف الخبث والمكر على بُعد أميال، وربما ما زاد من هذه الموهبة لديها هي عيشها في جُحر الأفاعي حيث نساء حارتها، وهذه السيدة أمامها بهذه النظرات التي تخبرك أنك اصغر من أن تنظر في عيونك مباشرة، ما هي إلا امرأة كنساء حارتها، لكن الفرق بينها وبين ” أم عيد ” جارتها أن هذه ترتدي ثياب ثمينة ولا تحمل نعلها في يمناها، وترتدي تاجًا على رأسها، عدا ذلك فهي تشبه أم عيد، بل إن أم عيد تمتلك نظرات أكثر براءة من تلك المرأة .
” اعتقد أنكِ بالفعل سمعتني ”
” نعم، وسأتظاهر أنني لم افعل، لذا رجاءً اعذريني عليّ الرحيل ”
نعم تهرب كعادتها كما تفعل مع نساء الحارة في أي مواجهة، تركض صوب شقتها لتحتمي بها، لكن تلك المرأة أمسكت بمرفقها قبل أن تهرب كعادتها.
ألم تخبركم أنها أشد مكرًا من أم عيد ؟؟
جذبت الملكة تبارك أمامها تنظر لعيونها وهي تردد بنبرة خافتة :
” لا يبدو هذا استقابلًا مناسبًا لوالدة الملك وزوجك المستقبلي ”
والدته إذن ؟؟ هذا يفسر وجود تاج أعلى رأسها، كيف أنجبت هذه المرأة شخصًا كالملك ؟؟ هل يوجد حموات سيئات هنا كعالمها ؟؟
” أوه، اعذريني مولاتي لم أقصد أن أكون وقحة و ..”
حسنًا نفذت كل كلماتها المجاملة ولم تستطع نطق واحدة إضافية ويبدو أن الملكة أدركت ذلك لتقول ببسمة :
” واخيرًا التقينا، جئت البارحة وطلبت رؤيتك، لكن يبدو أن الملك نسي اخبارك بالأمر وحدثت تلك المعركة وانشغل عن الأمر”
تمتمت تبارك بسخرية شديدة :
” قدمك خير علينا ”
” عفواً”
تنحنحت تبارك بهدوء ترفع طرف فستانها كما اعتادت في الآونة الأخيرة تميل بعض الشيء تحت أعين الملكة المتفحصة لكل حركة تفعلها :
” انرتي المملكة مولاتي ”
ابتسمت الملكة بسمة جانبية ساخرة ثم قالت بلا مقدمات :
” لا تليق بكِ أفعال الملكات ”
نظرت تبارك لعيونها بصدمة من صراحتها المبالغ بها، ويبدو أن الملكة التقطت تلك النظرات لتقول :
” أخبرت الملك سابقًا أنكِ لا تصلحين ملك لمملكة بحجم سفيد، لكنه تمسك بكِ على أمل أن تكوني مناسبة، لكن مما أراه يبدو أن أمله قد خاب ”
ختمت حديثها تشمل تبارك بنظرات مستاءة، أو مستحقرة بعض الشيء، لا تعلم لكن كل ما تعلمه أنها لم تحب أبدًا نظرات تلك المرأة؛ لذلك فضلت الانسحاب مكتفية بهذا الحديث بينهما :
” حسنًا لا اعتقد أن الملك يشاركك الأمر نفسه مولاتي، والآن اعذريني عليّ الرحيل لأن العريف ينتظرني ”
لكن وقبل أن تخطو تبارك خطوة واحدة بعيدًا عنها جذبتها الملكة بقوة كبيرة جعلتها تتراجع بعنف شديد ولم تتمالك تبارك نفسها وهي تحاول البحث عن شيء صلب تتمسك به، لكن خابت مساعيها حينما لم تجد سوى الهواء خلفها وسقطت ارضًا بقوة كبيرة مطلقة شهقة مرتفعة .
تتذكر الآن أن قدمها المصابة تؤلمها وبحق، قدمها التي وجدت الطبيبة أمام جناحها في الامس كي تعالجها، ولم تدرك حتى كيف علمت بإصابتها هي فقط تركت لها حرية علاجها .
رمقتها الملكة بنظرات ساخرة وهي تميل بعض الشيء :
” لا اعتقد أن الأمر سيستمر طويلًا، سرعان ما سيدرك إيفان أنكِ لا تصلحين لتكون مجرد خادمة في قصره وليس ملكة على عرش مملكته، وحينها أنا بنفسي سألقيكِ خارج هذا القصر ”
رفعت تبارك عيونها للملكة ترمقها بنظرات مرعبة وقد نجحت تلك المرأة في استحضار شياطينها وهي تقول بصوت مرتفع وقد جن جنونها في نادرة من النوادر التي تحصل معها تتناسى كامل قواعد هذا المكان، وقد لغى غضبها الفصحى التي تتحدث بها ونست كل شيء لشدة غيظها :
“لو اتجرأتي ورفعتي ايدك دي عليا مرة تانية أو لمستني مجرد لمسة تاني ولو بحسن نية أنا هنسى عمرك وهوريكِ الويل سامعة ؟؟”
انتفضت تبارك تنفض ثيابها وقد كان جسدها يرتجف غضبًا بعدما فقدت التحكم في أعصابها، ثم رفعت وجهها صوب الملكة التي كانت مصدومة مما سمعت وتبارك قالت بغضب جحيمي :
” لعب دور الشريرة في هذه الحكاية لا يليق بعجوزٍ مثلك، اقترح أن تعتزلي كل ذلك وتجلسي في حجرتك تتضرعين لله وتستغفريه فلا أظن أن امرأة مثلك تمتلك ما يكفيها من الأعمال الصالحة لتقابل ربها، مجرد ظن فقط والعلم عند الله ”
ختمت حديثها وهي تطيل النظر داخل أعين الملكة التي أصابتها صاعقة مما سمعت، وتبارك التي لم يخرجها غضبها سوى مرات معدودة على نساء حارتها كتلك المرة التي تحدثوا بها عن فارس أحلامها، والآن على هذه العجوز، لحظات نادرة لا تشعر بنفسها فيهم .
في هذه اللحظة سمعت صوت الملك يهتف بصوت قوي :
” جلالة الملكة ..”
استدارت تبارك لترى الملك يقترب منهم بملامح غاضبة عاصفة وقد اعتقدت للحظات أنه أبصر ما حدث، لكن وحينما أصبح على خطوات منهم قال بصوت جامد :
” يبدو أنكِ قابلتي الملكة …مولاتي ؟؟”
نظرت له والدته وما تزال ملامح الصدمة مرسومة على وجهها، لم تجبه بكلمة وهو ابتسم يقول بهدوء :
” كنت اتمنى أن يكون اللقاء أكثر رسمية ومناسبًا أكثر، لكن لا بأس”
أشار إيفان صوب والدته يعرف تبارك عليها :
” جلالة الملكة شهرزاد…. أمي، وهذه مولاتي هي جلالة الملكة تبارك …ملكة سفيد المستقبلية”
حدقت تبارك بالملكة ثواني قبل أن تبتسم بلطف شديد وكأن ما حدث منذ ثواني كانت مجرد أوهام من عقل شهرزاد، رفعت طرف فستانها تميل قليلًا :
” مرحبًا مولاتي تشرفت بمعرفتك ”
هزت شهرزاد رأسها دون كلمة ليبتسم إيفان بسمة صغيرة :
” مولاتي اعتقد أن الآن لديكِ دروس مع العريف صحيح ؟؟”
” آه صحيح، لقد تأخرت كثيرًا، عفواً اعذرني مولاي، عن اذنك مولاتي ”
ختمت حديثها تركض بعيدًا عنهما بسرعة كبيرة تهرب من تلك المرأة ونظراتها التي تكاد تحيلها رمادًا في وقفتها، بينما وبمجرد رحيلها استدار إيفان صوب والدته يقول بهدوء :
” سأتظاهر أن ما حدث منذ ثواني ورأيته لم يكن، لكن مولاتي حذاري وأن تمسي الملكة بسوء ”
” هل تهددني إيفان ؟؟”
اتسعت أعين إيفان بقوة يقول بنبرة عادية بعض الشيء :
” أوه لا العفو مولاتي، أخبرتك مئات المرات وسأعيدها لست أنا من يتطاول أو يهدد والدته، أنا فقط أخبرك أن الخطأ في حق الملكة والتجاوز في حقها هو تجاوز في حقي كذلك، وأنتِ خير من يعلم هذا، والآن اعذريني فأنا مشغول بالعديد من الأمور ”
وبهذه الكلمات اختتم إيفان حديثه مع والدته، وكذلك اختتم صبرها الذي حاولت حشده كي تهدأ وحوش غضبها .
ابتلعت ريقها وهي تراقب أثر رحيل ابنها وتبارك تفكر في القادم، الملكة ليست كما تخيلت بلهاء، بل هي حقيرة تجرأت ورفعت صوتها في وجهها وهددتها بشكل غير مباشر، وهذا اسوء مما تخيلت …..
_______________________
يقفون أعلى اسوار قلاع مشكى يتضاحكون ويتلاعبون، لا يعنيهم ما يحدث حولهم وقد اغرتهم اسوارهم واوهمتهم أن الاقتراب منهم محظور، احتموا بالقلاع والقصور وخلف المدافع آمنين مكر الجميع، جعلوا أسلحتهم تجيب على كل تسائل يوجه لهم، حتى إن مر بهم شخصٌ ما وألقى عليهم التحية لانتفضوا فزعين يصرخون ويلولون حاملين أسلحتهم مرتعبين .
فأين لهم من أمنٍ وقد اختاروا الغدر سبيلًا، ومالهم من سكينة وقد حازوا نصرًا بالخديعة ؟!
ومن بين أمنهم المزعوم، سمع أحدهم صوت خطوات تنهب الأرض، وشعروا جميعهم بالحصى تهتز أسفل أقدامهم .
تقدم أحد الرجال صوب سور القلعة يحمل منظارًا متواضعًا لا يذكر حتى مِن مَن سرقه يرفعه أمام عيونه يحاول رؤية المتسبب في تلك الأصوات، وفجأة اتسعت عيونه بقوة حينما أبصر جسدًا يعرفه تمام المعرفة يظهر أمامه، جسد لا يود تذكر آخر مرة قابله بها .
كان جسد سالار الذي يركض بحصانه يتقدم الجميع هو ما يظهر لذلك الشاب والذي سرعان ما شهق حين ظهرت له باقي الرجال الذين ظهروا دون سابق إنذار خلف سالار ليشعر بقلبه يكاد يتوقف رعبًا وهو يتراجع دون أن ينزع المنظار عن عيونه :
” أنه هو …لقد جاء ينتقم هجوم البارحة، لقد جاء ”
كان يصرخ وهو يتراجع بسرعة كبيرة مما جعله يتعثر بأحد رفاقه مسقطًا إياه ارضًا فدفعه رفيقه صارخًا :
” ما بك أيها الاحمق كدت تحطم عظامي أسفل جسدك الـ”
ولم يكد يكمل جملته حتى أبصر اهتزاز حدقتي الشاب وارتجافه :
” لقد جاء ينتقم منا هجوم البارحة، لقد جاء وأحضر معه جيشه لقد رأيته”
نظر له رفيقه دون فهم :
” من هذا الذي جاء ؟؟ ”
صرخ الشاب يشير بيده لأطراف القلعة :
” سالار …سالار لقد رأيته يقود جيشًا صوب القلعة، سنهلك أجمعين ”
وبنهاية حديثه انطلق جميع الرجال صوب السور بسرعة كبيرة يشهدون صدق حديث رفيقهم متسعي الأعين شاخصي الأبصار مضطربي القلوب، جزعين مرتعبين وأنى لهم من أمنٍ وهم أهل الغدر ؟!
فجأة انطلقت أبواق وصرخ رجل بصوت جهوري هز أرجاء القلعة :
” هجوم من سفيد ..هجوم من سفيد ”
وفي الاسفل وبمجرد أن أضحى سالار على مشارف مشكى توقف يرفع يده في الهواء يأمر رجاله بالتوقف وهو يبتسم لسماع صوت الأبواق والصراخ الذي انتشر داخل قلاع الحدود الخاصة بمشكى، ردد باستمتاع وهو ينظر بطرف عيونه لرجاله :
” يبدو أن صدى خطواتنا وصل لهم اسرع مما توقعت يا رجال ”
رفع سالار أنظاره صوب القلعة يبحث عن رجلٍ واحد فقط كي يحدثه بهدوء للدخول دون قتال، لكن ما رأى منهم ظلًا حتى، كل ما أبصره هو خيالات تركض يمينًا ويسارًا .
اتسعت بسمة سالار أكثر وهو يترك جيشه بعدما رفع لهم كفه يأمرهم بالثبات اماكنهم، يتقدم صوب القلعة بجواده رافعًا رأسه يصرخ بصوت جهوري :
” السلام على شعبٍ لا يعلمون عن السلام سوى أحرفه، أما بعد جئتكم من سفيد بجنودٍ مستعدين لخوض معركة تستمر حتى تتمنوا الموت لانتهائها، فإما أن تدعونا ندخل في سلام ونرحل في سلام، أو ندخل بالقوة ونخرج بدمار، أحضروا لي أحدكم أتحدث معه رجلٌ لذكرٍ، وإن كان قائدكم يخشى مواجهتي فأي صبي منكم يستطيع أن يحل مكانه لا فرق ”
صمت سالار ينظر صوب القلعة وقد جعله الزمان يشهد لتوه مقدار سخريته، فالقلعة التي كانت تستقبله قديمًا بالورود، تأبى اليوم فتح أبوابها، والبلاد التي كان شعبها يستقبلونه بالبسمات أمس، الآن يجهزون له الاسلحة ليستقبلوه .
مرت دقائق في صمت كان جيش سالار بها على أهبة الاستعداد لتحطيم بوابات القلعة واقتحام البلاد وتوزيع المعونات على أهالي مشكى، ورغم معرفة سالار لثغرات كثيرة في البلاد يستطيع الدخول منها دون شعور، إلا أنه أراد أن يمنحهم مرارة الذل حين يطأ مشكى ويوزع الطعام على شعبها أمام أعينهم دون أن يمتلكوا القدرة على البث بكلمة واحدة اعتراضًا على الأمر .
فجأة شعر سالار بظل يخيم عليهم من الاعلى وجسد يمنع أشعة الشمس، رفع عيونه ببطء يبصر جسدًا ضخمًا يعلق سيفًا في حزامه واعين تراقبه بشر وبسمة مخيفة ترتسم على فم ذلك الشخص .
اتسعت بسمة سالار يبادله البسمة بالمثل وهو يهتف بصوت ساخر :
” مرحبًا ببافل العزيز، مرت أيام منذ رأيتك آخر مرة، تحديدًا حينما كنت تغط في نومة هنيئة أعلى فراش صديقي وأنا كنت انحر رجالك في الخارج ”
امسك بافل بالسور في غضب شديد وكأنه يحتاج لشيء يتمسك به ليمنع ذاته من القفز والانقضاض عليهم :
” ما الذي جاء بك لمملكتي سالار ؟؟ لا تظن أنني سأمرر لك هجومك ذلك، بل انتظر مني ردًا في غاية القسوة ”
ابتسم سالار بسمة هادئة يجيبه :
” القائد سالار بالنسبة لك بافل، فمتى تساوت مكانتي مع الحثالة امثالك لينعتوني باسمي دون لقب ؟!”
صمت ثم قال بأعين خبيثة يدرك جيدًا كيف يتحدث مع أمثاله وله سابق خبرة مع والد بافل في ذلك :
” وفيما يخص ردك، فالبارحة رأيت كيف هو واحضرت لك ما تبقى منه ”
ختم حديثه وهو يشير صوب دانيار الذي هبط عن حصانه يتحرك لمؤخرة الجيش يجر أحدهم، ثم تقدم من سالار وهو يدفع شاب في العشرين من عمره ثم القاه ارضًا جوار اقدام حصان سالار ليبتسم سالار وهو ينظر بطرف عيونه صوب بافل الذي اشتدت عيونه وقال :
” إذن نتحدث بهدوء أم نأخذ بقايا ردك ونعامله نفس معاملتك لشعب مشكى ؟!”
وفي ثواني صرخ بافل بصوت جهوري مرتفع :
” ســـــــالار، ايــــــاك ”
ابتسم سالار بسخرية :
” أوه لهذه الدرجة معاملتك سيئة لهم ؟؟ لا تقلق فنحن نحسن معاملة الأسرى لسنا أمثالكم ”
صمت ثم قال بحسم :
” والآن إما أن تفتح ابواب مشكى لنا وتدعنا ندخل دون ترويع ساكنيها، أو نأخذ شقيقك اسيرًا لنا المتبقي من عمره ونقتحم أبواب مشكى ونروع جنودك ”
نظر لهم بافل من الأعلى والنيران الملتهبة حوله زادت من حدة الأجواء، لا يوجد غيره في مرمى بصر سالار وهذا بعدما اختبأ جنوده خلفه في انتظار أمرٍ منه، ولم يتأخر في ذلك إذ قال :
” افتحوا الابواب ”
تنفس سالار بصوت مرتفع، ثم أشار بإصبعه لدانيار الذي تقدم ينتزع شقيق بافل عن الأرض يجره صوب الخلف، وما هي إلا دقيقة وارتفع صوت فتح اقفال بوابات مشكى أمام جيش سالار، وهذه المرة لم تكن زيارة ودية كالمعتاد، بل كانت زيارة على صفيح ساخن .
نظر سالار لما خلف الأبواب بأعين متفحصة، فاشخاص كبافل ورجاله ليسوا ذلك النوع الذي قد تأمن غدره، وبعدما تيقن أن لا خدعة أو غيره تقدم سالار جيشه مرفوع الرأس وخلفه الجميع .
ليستقبله بافل الذي قال بمجرد أن أصبحوا داخل مشكى :
” اتركوا أخي وارحلوا بهدوء ولن نمسكم بسوء ”
أطلق سالار ضحكة صاخبة ساخرة جعلت أعين البعض تتسع، بينما هو توقف يقول بهدوء :
” وهل ترانا تكبدنا عناء المجئ هنا وجهزنا كل تلك القوافل، فقط لنزف لك شقيقك الصغير ؟! هيا بافل أنت اذكى من هذا حسب اعتقادي ”
” ما الذي تريده سالار ؟!”
قال سالار بصوت قوي جاد :
” للمرة الثانية سأصحح لك خطأك وأخبرك أنني القائد سالار، وما أريده انتزعه لا اطلبه، لذا فالسؤال الحقيقي هو ما الذي ستفعله قائد سالار ”
ابتسم له بافل بسمة جانبية :
” وما الذي ستفعله قائد سالار ؟!”
” جئنا بهدية من سفيد لشعب مشكى، هناك قوافل ستتوزع على الجميع هنا ”
” ومن سيسمح لتلك القوافل بالمرور !؟”
” ومن سيمنع تلك القوافل من المرور ؟! فحسب معرفتي أن ملك هذه البلاد توفاه الله، لذا نحن سندخل ونوزع ما نريد على شعب مشكى وأنت لن تتفوه بكلمة أو تعترض طريق الرجال أو حتى تفكر في نزع كسرة خبز من يد طفل من أطفال مشكى ”
رمقه بافل بأعين ضيقة وقد شعر بالغضب يستحوذ على كامل أرجاء جسده :
” وإلا ؟؟!”
رفع سالار رأسه يهتف بين رجاله دون أن يتردد لحظة :
” وإلا فلتجهز كفن شقيقك العزيز.”
كان الحوار الدائر بين سالار وبافل ما هو إلا ستار لتتم باقي خطة سالار التي وضعها مع الملك، إذ خرج من بين قافلته عدد من الرجال بثياب العامة وتحركوا داخل البلاد والأسواق بكل هدوء وانغمسوا بين شعب مشكى وذابوا فيهم وكأنهم منهم .
ابتسم دانيار يراقب ما حدث، ثم أشار بعيونه للجزء الآخر من الرجال والذين تحركوا بكل هدوء خارج القافلة يحملون حقائب أعلى ظهورهم، وساروا بعيدًا عنهم رفقة الشيخ محمد ومرافقه .
كل ذلك وبافل لا يشغل باله سوى بسالار وشقيقه .
وبعد نظرات متبادلة بين الجميع قال بافل بأعين غامضة يظهر خضوعًا وهميًا لهم ونظرات لينة وحديث مسالم كان لينجح في خداع سالار لولا مئات المعارك التي خاضها ضدهم :
” انتصرت سا ..قائد سالار، انتصرت عليّ واستغليت نقطة ضعفي الوحيدة، يمكنك العبور مع جيشك وقوافلك وفعل ما تريد داخل مملكتـــي وبـــلادي، فقط لتعلم أنني ما لجأت يومًا للعنف سوى لادافع عن نفسي وشعبي، نحن شعب مسالم لم نطمح يومًا للحرب، أنتم من طاردتمونا من مشارق الأرض لمغاربها ”
ابتسم سالار بسمة جانبية يردد بسخرية يدحض بجميع حججه للأرض السابعة :
” وشعب مشكى الأعزل ؟؟ ”
” نحن لم نمسهم بسوء ولم نؤذهم أو نرفع عليهم سلاحًا إلا حينما هاجمونا هم، كانوا هم من بدأوا بعدما قررنا أن نتعايش في سلام معًا، وجدتهم يحتشدون محطمين فقاعة السلام ”
” أي سلام هذا وأنت من سلبت أرضهم بافل ؟!”
” بل ارضي وارض أجدادي، أنا انحدر من مشكى وهذه مملكتي وحقي أنا وشعبي أم نسيت ”
الاصرار في عيونه والكلمات التي انبثقت منه كانت مرعبة وبحق، مرعب أن يكون لص كبافل مقتنع تمام الاقتناع أن تلك البلاد هي بلاده وبلاد أجداده بعدما نبذوها هم قديمًا وفروا منهم هاربين، لم يتحدث سالار بكلمة ولم يناقشهم فامثاله، لا نقاش له معهم ولا مودة تجمعهم.
هز رأسه هزة صغيرة ثم قال بصوت مرتفع :
” تأكدوا أن تصل الغلال والأطعمة لكل فم في مشكى يا رجال …”
أطلق رجاله صيحات مرتفعة مستجيبة وهم يندفعون بسرعة مخيفة داخل البلاد وبافل يراقبهم بأعينه مبتسمًا بسمة تظهر رضى غريب على ملامحه، رضى يدرك سالار أنه يخفي خلفه أمواج عاتية من الغضب، فبافل ليس بالمسكين الذي يفعل ما لا يحب مجبرًا، وإن كان سمح لهم الآن بتنفيذ ما يرغبون فهو الآن لا بد وأنه يفكر في عقله لضربات يرد بها ما حدث، وسالار ابتسم له بسمة أخرى تشبه خاصته، لكنها كانت ابعد ما يكون عن الرضى .
وما بين هذه البسمة وتلك، اندلعت شرارة صغيرة تتحرك في طريقها صوب كومة قش لتشعل بها حروبًا بين الجانبين.
_________________________
في المساء وداخل حديقة القصر وبعد الانتهاء من تناول العشاء، كان يجلس معها بهدوء مبتسمًا وقد انتهى لتوه من اخبارها بعض الأمور التي قد تفيدها في حكم البلاد .
” إذن أرى أنكِ تمتلكين خبرة لا بأس بها في التفكير الإداري ”
ابتسمت له تبارك ثواني قبل أن تطلق ضحكة صغيرة تقول بجدية :
” أنا مصرية مولاي، حيث الجميع خبراء حروب وإدارة، حسنًا لأكون صادقة معك، نحن نعرف كل شيء في هذه الحياة، لا تجد مصريًا يخبرك أنه لا يعلم شيئًا، بل سيسارع ليخرج لك بإجابة ”
ختمت حديثها بضحكة خافتة، ثم أضافت بجدية :
” للحق، نحن لسنا بذلك الشعب الذي يعيش يومه ليستيقظ ويحيا غيره، بل على مدار اليوم نعاصر من الاخبار ما يكسبنا خبرات كبيرة، بل ونسارع لتحليلها دون أن يطلب منا ”
ابتسم لها إيفان بتقدير ولم يدرك المعاني التي تخفيها كلمات تبارك البسيطة :
” حسنًا أنا معجب كبير الآن لكم مولاتي ”
ابتسمت تبارك بخجل كبير تنظر ارضًا، ثم رفعت عيونها تتنفس بصوت مرتفع وهي تقول :
” هل تظن أن الجيش نجح فيما ذهب لأجله ؟!”
نظر لها إيفان ثواني بتفكير قبل أن يدرك ما ترمي إليه:
” اطمئني مولاتي أنا أثق أنهم الآن في طريقهم للعودة منتصرين، أنا لم ارسل جميع قادة جيوشي لأجل لا شيء”
ابتسمت له تبارك تدرك ثقته الكبيرة في قادة جيوشه، تتمنى الآن في نفسها أن يا ليت لو كان وكان …
فجأة سمعت صوت إيفان يردد بجدية :
” إذن مولاتي أنا لم تسنح لي الفرصة لاعتذر منكِ عما حدث صبيحة اليوم من والدتي و…”
” لا لا ارجوك، لا تعتذر، صدقني لم يحدث شيء يستحق اعتذارك مولاي، والدتك لم تخطأ بشيء ”
تنهد إيفان بتعب شديد يفرك وجهه وعيونه تتحرك في المكان بأكمله يفكر في القادم والذي لأول مرة يجهل كيف سيكون، لطالما كان هو المتحكم الاول في مجرى حياته، لكن الآن أصبح متفرج فقط يشاهد حياته تسير دون أن يتمكن من التحكم بها .
” أمي امرأة حازمة بعض الشيء، لكنها تظل والدتي التي ساندتني حين أمسكت حكم البلاد في مراهقتي”
ابتسمت له تبارك ولم تعلق بكلمة، فهي لم تعش يومًا أو تجرب كيف تكون الأم؛ لذا لا يحق لها الاعتراض عما يصدر من تلك المرأة، تنهدت وهي تتحدث بجدية متسائلة :
” حكمت البلاد وأنت مراهق ؟!”
ابتسم لها يهز رأسه :
” صحيح، وقتها حتى تاج والدي كان أكبر من رأسي، سمعت كلمات مترامية حولي ساخرة أن العرش والتاج اكبر من مجرد مراهق في الخامسة عشر من عمره، وقتها كان الوحيد الذي ساندني دون والدتي هو سالار، كان جنديًا في جيش والدي في الثامنة عشر من عمره، وقد كان رفيقي منذ الطفولة، أنا وسالار و… أرسلان ”
ويبدو أن الاسم الاخير يحمل للملك ذكريات ليست بالسارة أبدًا، فحين ذكر اسمه تغضنت ملامح إيفان واسودت بقوة وقد تعكر مزاجه مما جعل تبارك تتلاشى الحديث له وتصمت تقدر لحظاته مع نفسه .
وإيفان لم يكن يعي لكل ذلك وهو لأول مرة ينطق اسم رفيقه منذ سنوات، فدائمًا ما كان يشير له بملك مشكى أو الملك فقط متجنبًا ذكر اسم أرسلان، لكن في لحظة انتفض جسد إيفان يقول دون مقدمات :
” اعذريني مولاتي هناك أمر هام عليّ رؤيته ”
ختم حديثه يشير لأحد الجنود يقول بجدية كبيرة :
” رافق الملكة حيث تريد وتأكد أن أمورها بخير ”
هزت له تبارك رأسها تراه يرحل بسرعة كبيرة من أمامها وهي متسعة الأعين لا تفهم ما حدث، أرادت أن تبتعد بالحديث عن والدته كي لا تتألم هي، فدفعته بالخطأ صوب منطقة تؤلمه هو كما يبدو، أرسلان …من هذا أرسلان هي سمعت اسمه سابقًا لكن أين ؟؟
سمعت تبارك صوت الحارس جوارها يقول بصوت منخفض :
” مولاتي هل تريدين الذهاب لحجرتك أم تفضلين البقاء هنا ؟!”
نظرت له تبارك تشعر بالحيرة، هي لا تريد العودة في هذه اللحظة صوب حجرتها وتظل بها وحدها، لذا قررت أن تستغل الفراغ الذي تحيا به وقالت :
” ما رأيك أن تأخذني للمشفى أود الحديث مع الطبيب هناك ؟!!”
ورغم صدمة الحارس من الأمر إلا أن أوامر الملك كانت أن يأخذ الملكة حيث تريد، وهو فقط هز رأسه بطاعة كبيرة يتحرك معها صوب المشفى ……
______________________
خلع ثيابه يلقيها في سلة الثياب التي تقبع في ركن حجرة الملابس، تنفس بصوت مرتفع وهو يتحرك صوب نافذة حجرته ينظر لجميع أرجاء مملكته، يمنح لنفسه أخيرًا فرصة ليرثي ذاته، يعطي ذاته الفرصة ليرثي صداقة استمرت سنوات وسنوات وحطمتها فتنة .
عند هذه الفكرة سقطت دمعة غادرة من عيون إيفان وهو يراقب بأعين ضبابية المملكة أمامه يهمس بصوت موجوع :
” هكذا كنت دائمًا أرسلان، قليل الصبر ومتسرع، لم تصبر حتى اسامحك ونتصالح، رحلت قبل أن اضمك للمرة الأخيرة، كنت متكبرًا عنيدًا كما عهدتك، تكبرت عن الاعتراف بخطأك وعاندت قدرك، رحلت أبيًا يا صديقي ”
ودون أن يشعر سقطت دموع إيفان أكثر يهمس من بين أسنانه والنيران المشتعلة داخل صدره تزيد من حدة دموعه :
” والله لانتقمن لك بيدي أرسلان، سأنتقم لأجلك ولأجل شعبك، لن تنساك مشكى ولا سفيد، سأحيي ذكراك يا أخي، غدًا ننتصر لأجلك وسيعلم الجميع أنهم إن قتلوا أرسلان فهو حي داخلنا ”
ختم حديثه ينهار ارضًا سامحًا لنفسه وأخيرًا بلحظة رثاء، مصاب إيفان بارسلان، كان أكبر من مصاب سالار بارسلان، فسالار رغم العداء الذي نشب بين الاثنين إلا أنه لم يكن يهتم به ويود أرسلان ويراه، وكانت آخر زيارة له قبل سقوط مشكى باسبوع تقريبًا، بينما إيفان حُرم منذ سنوات من رؤية صديقه لأجل تعنت أرسلان وعناده وتكبره .
اغمض عيونه والوجع يأكل صدره ودموعه تزداد وهو بدفن وجهه بين كفيه وكأنه استوعب للتو أن أرسلان لم يعد له وجود .
كتم شهقاته بصعوبة وعقله يعيد عليه لقطات بعيدة لهما سويًا في فترة شبابهما، لقطات حاكت وجعه الآن كما لو كان يشعر بمستقبله …..
” أنت أكثر إنسان متكبر في هذه الحياة أرسلان، يومًا ما سأدفن أنفك هذه بالوحل ”
هز أرسلان كتفه دون اهتمام :
لا بأس وقتها سأدفن انفك جواري لتشاركني نفس الوحل”
اغتاظ إيفان وشعر بالغضب يملئ صدره وهو يركض بعنف صوب أرسلان صارخًا يندفع بجسديهما ارضًا وقد تمرغ الاثنان بوحل الساحة التي يتدربان بها بعد ليلة مطيرة، الاثنان يتشاجران ويصرخان في وجوه بعضهما البعض .
” كل هذا بسببك أيها الغبي العنيد ”
صرخ أرسلان بالمقابل :
” بسببي أنا ايها المتسلط ؟؟ اقسم أننا كدنا نخسر لأجل عقلك الصخري هذا ”
لكمه إيفان بقوة متسببًا في ارتطام وجه أرسلان ارضًا بقوة وقبل أن يفكر بالنهوض انقض يجلس على صدره يجذب تلابيبه صارخًا :
” كدت تُقتل أيها الحقير فقط لأنك أبيت التظاهر بالخسارة ؟؟”
ابتسم أرسلان بسمة باردة يقول بقوة :
” تبًا لهم أجمعين، ما كنت لاخسر يومًا حتى لو كذبًا ”
شعر إيفان برغبة عارمة في قتله في تلك اللحظة، لكن رؤيته لنظرات أرسلان تلك جعلته يترك ثيابه وهو يربت على خصلات شعره يقول بضيق :
” أنا لا تعجبني تصرفاتك تلك أرسلان، إما أن تتوقف عن أفعالك تلك أو ستجبرني على خسارتك ”
جلس أرسلان يزفر بقوة وهو يمسح وجهه وصوته خرج غاضبًا بعض الشيء :
” أموت رجلًا في المعركة أكرم لي من ميتة ذل واستسلام يا صديقي، أنا لن أخضع يومًا لمنبوذٍ ولو كان سيفه على رقبتي ”
نظر له إيفان ثواني يقول :
” احيانًا مناطحتك للرياح قد تكسر عودك أرسلان، عليك أن تكون لينًا تعلم متى تلين ومتى تتصلب، لا تدعني اجرب مر خسارتك، فمالي من الدنيا سواك وسالار، لا تجبرني على الشعور بمرارة خسارتك ”
ابتسم له أرسلان يضم كتفه وهو يهمس :
” الله خير حافظ يا صديقي، وإن حدث وخسرتني يومًا فتأكد أن صديقك مات رجلًا ومحاربًا و…”
صمت ثواني ثم قال ببسمة صغيرة مغتاظة :
” من أخبرك أنني سأموت قبلك ها ؟؟ ربما تموت أنت اولًا وأنا من سيجلس ويبكي مـ…أوه لا أنا لا ابكي، لكن ربما أحزن عليك، صدقني سيتألم قلبي لموتك يا إيفان”
ورغم كلماته التي خرجت ممازحة إلا أن إيفان أبصر نظرات أرسلان الخاوية والسوداء، ابتسم يضمه له يهمس وهو يربت على ظهره :
” لا بأس إذن، ليجعل الله نهايتي قبلك ولا أرى بك سوءًا أرسلان”
ضمه أرسلان بقوة وخوف شديد نابع من حديثه وما عاشه معه منذ ثواني وقد انتهوا لتوهم من حرب ضارية :
” لا تقل هذا إيفان ليطيل الله في عمرك يا أخي، الله وحده يعلم مكانتك في قلبي، وإن حدث ومت يومًا تأكد أنني ما كرهتك لحظة ولا عاملتك ثانية معاملة رسمية كملك، وأنك ما كنت يومًا سوى إيفان صديق الطفولة ورفيق الشباب ”
« ما كنت يومًا سوى إيفان صديق الطفولة ورفيق الشباب»
كلمات ما يزال صداها يرن داخل حجرة إيفان الذي كان يرثي ذاته وصداقته وحياته التي ضاعت هباءً وكل ذلك لأجل فتنة اشتعلت بينهما، أشعلوا الفتنة بين مشكى وسفيد فخسر جراء ذلك رفيق وصديق عمره، ارتجفت شفاه إيفان وهو يهمس :
” ليتني رددت لك صفعتك ذلك اليوم ارسلان، ليت يدي هبطت على وجهك في الثانية التي أنتزعت أنت كفك عن وجنتي، ليتني رددتها لك وما ضمرتها في نفسي”
سقطت دموعه يقول بحزن أكل صدره وكأنه كان يكتم كل ذلك داخل أعماقه منذ سنوات :
” ليتني صفعتك وصرخت في وجهك أنني لا اهتم لكل ما حدث وأن ما يحدث داخل القاعة لا علاقة له بصداقتنا، ليت وليت، لكن ما نفع التمني الآن وأنت قد وارتك الرمال يا أخي ؟؟ ”
تنهد بصوت مرتفع ينهض من مكانه مرتديًا ثياب مريحة متخليًا عن ثوب الملك مقررًا أن يأخذ جولة بخيله كعادته وربما يحالفه الحظ ويجد احدهم، يجري معه قتال ينسيه لثواني مرارة الفقد …
____________________________
” إذن هذه الأعشاب هنا تلعب دور الأدوية في عالمي”
كانت تلك النبرة المنبهرة خارجة من فم تبارك وهي تشير صوب العديد من عبوات الاعشاب المنتشرة على الطاولات أمام مهيار، وهو ابتسم لها يطهر أدوات الجراحة الخاصة به، يشعر بالراحة لتحدثه مع أحدهم يتفهم عمله :
” حسنًا أنا لا اعلم الكثير عن الأدوية التي تتحدثين عنها، لكن نعم اعتقد انها تلعب نفس الدور، أنا من اصنع الاعشاب بنفسي واخلطها واصنع منها أدوية طبيعية ”
هزت تبارك رأسها شاردة وهي تفكر في ادويتها التي أوشكت على النفاذ، هل يستطيع الطبيب هنا مساعدتها في صنع دواء مماثل لخاصتها ؟!
نظرت لمهيار الذي كان منشغلًا فيما يفعل ولم تكد تفتح فمها حتى وجدت رجل يقتحم المكان وهو يقول بسرعة كبيرة واحترام اكبر للطبيب أمامها:
” سيدي الطبيب هناك جندي جريح في ساحة الرماية، أصابه سهم بالخطأ”
اتسعت أعين تبارك بقوة من ذلك الخبر وهي تشعر بجسدها يرتجف صدمة لتخيل الإصابة، فجأة ودون أن تستوعب وجدت مهيار ينتفض وهو يحمل حقيبته بسرعة كبيرة يركض خلف الرجل دون كلمة واحدة .
وبقيت هي وحدها في العيادة تنظر يمينًا ويسارًا بفضول شديد، قبل أن تقرر أن ترحل من هنا بسرعة فلا رغبة لها بالبقاء في المكان في غياب صاحبه .
لكن قاطع رغبتها تلك سماعها لصوت تعرفه تمام المعرفة وهو يقترب من الغرفة التي تقبع بها فتحت عيونها بصدمة تشعر أن نهايتها هي من تقترب وليس صاحب الصوت .
نظرت حولها تبحث عن مكان تختبئ به ولم تجد غير مكتب مهيار والذي كان يخفي خلفه العديد من صناديق الاعشاب والفراش الذي كان أسفله ضيقًا، بل وظاهرًا للعيان، واخيرًا وفي اللحظة الأخيرة اختبأت خلف باب الغرفة تجذب الباب عليها .
ثواني حتى رأت جسده يدخل للعيادة يمسك يده متحدثًا بصوت غاضب :
” دانيار توقف عما تفعل أنا بخير، أذهب فقط وأحضر لي مهيار ليضمد جروح يدي، ودع الجنود ترتاح حتى اجتمع بهم في الغد واخبرهم ما سيحدث ”
تنهد دانيار بصوت مرتفع يتحرك خارج المكان تاركًا سالار به وحده يجلس على أحد المقاعد وهو يضم ذراعه له يبتسم بسمة مرعبة متذكرًا ما حدث قبل خروجهم من مشكى مغرب اليوم .
كانت تبارك تراقب نظراته مرتعبة منه، لكن رؤيتها لجرحه جعل شهقة تخرج منها دون وعي .
انتفض جسد سالار يبحث عن مصدر تلك الشهقة، وقبل أن يتحدث بكلمة وجد جسدها يندفع من خلف باب العيادة ومن العدم وهي تنطلق صوب يده تمسكها بشكل جعل أعينه تتسع بصدمة كبيرة يراها تصرخ بذهول :
” دي مفتوحة، دي عايزة تتخيط بسرعة، أنت ازاي سيبتها الوقت ده كله بالشكل ده ؟! ”
كانت تتحدث وهي تراقب الجرح عن قرب تميل بوجهها قرب ذراعه تحاول تفحصه وسالار يفتح عيونه وهو يبعد رأسه بقوة للخلف يراقب ما تفعل تلك الفتاة بذراعه، حاول سحبها بعيدًا عنها، لكن تبارك رفضت أن تدع ذراعه وهي تقول بجدية :
” هو أنا ممكن اخيطها ليك عادي على فكرة، انا بعرف اخيط الجروح، بس انا مش عارفة البنج هنا فين أو بيحطوا ايه عشان يخدروا الجروح، لو تعرف قولي وانا اخيطه بسرعة لأن تقريبا الدكتور هيتأخر ”
كانت تتحدث وتتحدث وسالار فقط يراقب ذراعه التي تمسكها بأعين مصدومة وعدم فهم، يحاول أن يسحبها من بين أناملها رافضًا لمساتها تلك :
” أنتِ …أنتِ ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ ألا توجد كارثة لا اجدك داخلها ؟؟ ألم امنعك سابقًا عن الاقتراب من مشفى الجنود ؟؟ ”
رفعت تبارك عيونها له بصدمة وغيظ :
” ماذا ؟؟ هل أنت جاد ؟؟ أنت الآن تنزف وتكاد تخسر ذراعك وتتذمر لأنني هنا ؟! بالله عليك كف عن أفعالك تلك”
سحب منها سالار ذراعه بقوة متجاهلًا الوجع الذي أصابها جراء تلك السحبة القوية :
” هذه ستكون المرة الأخيرة التي أبلغك فيها تحذيري بلمس جزء صغير من جسـ ….”
توقف عن الحديث بصدمة ثانية حين ضربت تبارك بكل تحذيراته عرض الحائط وسحبت ذراعه وهي تقول بجدية :
” حاول متحركش ايدك كتير عشان كل ما الحركة زادت كل ما كان غلط، ودلوقتي سيب دراعك كده لغاية ما اقلب في الازازيز دي يمكن الاقي مخدر ”
وبالفعل تركت ذراع سالار معلقة وهو يراقبها تتحرك في المكتب الخاص بمهيار بكل حرية وكأنها تحفظ كل انش به، هل تأتي كثيرًا هنا ؟؟
وسالار دون وعي منه لم يحرك ذراعه كأنه ينفذ لها أوامرها، يراقب تحركها يمينًا ويسارًا، وهو يبتسم بعدم تصديق يراها تبعثر ادوات مهيار وتعبث باغراضه حتى صرخت فجأة :
” ها لقيته ”
أشارت على العبوة في يدها وهي تقول بفخر شديد مشيرة للحروف الموجودة عليها :
” مكتوب مخدر اهو دلوقتي ناقص الادوات ”
وضعت العبوة على مكتب مهيار، ثم جذبت أحد المقاعد تضعها أمام مقعد سالار واحضرت الادوات التي عقمها مهيار بالفعل، ثم اقتربت من سالار الذي كانت عيونه الشيء الوحيد الذي يتحرك به .
يراها تجلس أمامه وتضع ذراعه على قدمها، ثم أخرجت بعض الأعشاب تضعها على ذراعه المصابة تفرك الاعشاب على جرحه بلمسات عملية جعلته ينتفض منتزعًا ذراعه منها بقوة رافضًا أن تكون هي من تعالجه :
” يكفي هذا سأنتظر مهيار ليعود و…”
ولم يكد يكمل كلماته حتى رآها ترفع عيونها له تقول بصوت خافت :
” على فكرة أنا ممرضة شاطرة ”
حدق بها دون فهم لتقول هي بتردد أثناء عملها على ذراعه دون أن يشعر :
” أنا عارفة أنك شايفني فاشلة في حاجات كتير، بس دي حاجة من ضمن الحاجات القليلة اللي فعلا انا بعرف اعملها كويس اوي، أنا أعرف حاجات كتير اوي في التمريض، جربني ….”
ودون أن يعلم السبب وثق بها يترك لها القيادة لتفعل ما تريد، وهي ابتسمت لثقته التي ظهرت في عيونه دون أن يشعر، وبدأت تقطب جرحه بحرفية عالية .
” لو حاسس بوجع قولي ”
” لا ”
وحينما انتهت ابتسمت له ليقول بهدوء شديد يراقب ذراعه :
” شكرًا لكِ ”
هزت رأسها تقول بهدوء :
” عفواً، أرأيت أنا ممرضة جيدة، هل يمكنني العمل هنا ؟؟”
” هذا شيء لا يعنيني مولاتي، لكن إن سألتني رأيي فهو لا، أنا لا أحبذ عمل النساء بين الرجال ”
صمت وكاد يخبرها عن مشفى القصر الخاصة بالنساء، والتي يحتاجون فيها لنساء تفقه في الطب، لكنها انتفضت تصرخ ومازال جرح الأمس لم يندمل، وكأنها تبحث لها عن متنفس :
” أنت حقًا أكثر شخص لئيم في هذه الحياة، أنت مصر على النظر لي بهذه النظرات التي تخبرني بأنني أكثر انسان فاشل في هذه الحياة ”
تنفس سالار وهو يدرك الآن أنه بالفعل يتعامل معها بصرامة كبيرة، لكنه يقدر عملها وشكرها وكاد يعرض عليها العمل في مشفى الـ…مهلًا ما باله هو بها ؟؟ ولِمَ عليه حتى أن يحاول أن يلين لأجلها ؟؟
رفع عيونه لها بسرعة يقول :
” أنا لا انظر لكِ بنظرات تخبرك أنك أكثر انسان فاشل في هذه الحياة، ربما هذه انعكاس نظراتك لنفسك، فلا تلومنني، لا لأنني لا اراكِ أكثر انسان فاشل، أنا لا اراكِ من الأساس، ولِم عليّ فعل ذلك ؟؟ أنتِ هنا الملكة وأنا قائد الجيوش كيف بالله عليكِ تتقاطع طرقنا بهذا الشكل ؟؟ ”
نظرت له تبارك بعدم فهم لكل ما قيل، كل ما فهمته أنه لا يراها، كيف لا يراها هل هي شبح ؟!
” أنت تمزح معي ؟!”
” ومنذ متى امازح النساء أنا ؟! بل منذ متى احادثهم ؟! أنتِ تجبرينني على إخراج كلمات كثيرة بشكل لا احبذه ”
شعرت تبارك بالغضب الشديد يملئ صدرها، يالله هي لا تصدق هذا الرجل اليوم صباحًا كادت تبكي تأثرًا بكلماته وامتلئت فخرًا به، والآن حاولت مساعدته لأنه مصاب من باب الواجب فقط، ليأتي هو ويحطمها بكلماته السامة تلك .
” أنت أكثر شخص مزعج ولئيم وحقير في هذه الحياة يا قائد، وأنا حقًا لا أبغض أحد مثلك ”
صرخ سالار في وجهها بجنون بعدما وقف ينطاحها الكلمة بأخرى وكأنه يسمع نفسه قبلها :
” وما شأنك بي يا امرأة ؟؟ ما شأنك إن كنت مزعجًا أو لئيمًا أو حقيرًا حتى ؟؟ أنتِ هنا الملكة وأنا قائد الجنود، بالله عليكِ ما احتمالية أن تلتقي ملكة مملكة ما بقائد الجنود مرتين يوميًا، ما بال حظي بهذا السوء ؟؟”
كان يصرخ وهو لا يصدق كيف يلقيه القدر أمامها في نهاية كل طريق يسلكه، وكأنه كُتب عليه أن تكون هي أول من يراه وآخر من يختم يومه به، هو ظن أنه بمجرد إحضارها وعودتها للقصر لن يراها مجددًا، لكنه أصبح يلقاها كلما أدار عيونه، وهذا يقوده للجنون، يثير غضبه بشكل لم يعهده يومًا .
كل تلك الكلمات التي ألقى بها سالار في وجه تبارك لم تعنيها بشيء سوى بكلمات قليلة اخذتها هي لتقول وهي ترفع رأسها للأعلى:
” نعم احسنت القول، أنا الملكة وأنت قائد الجنود، لذلك ألتزم حدودك ولا تحتك بي أو تتحدث لي بهذه الطريقة مجددًا وإلا عوقبت ”
ابتسم سالار بعدم تصديق :
” أنا من لا يحتك بكِ؟؟ أقسم أنني أخشى شيئًا في يومي بقدر احتكاكي بكِ يا امرأة، أنتِ كارثة نبتت لها اقدام وأرجل ”
” وأنت واحد وقح ولسانك طويل ومش بتعرف تتعامل مع النساء بشكل كويس، وأنا مش هضيع وقتي افهمك ازاي تبقى جنتل مان محترم وتتكلم بكل هدوء، خليك كده همجي، هتعيش همجي وتموت همجي بربري لا تفقه شيء”
ختمت حديثها ترفع طرف ثوبها وهي تميل بعض الشيء ساخرة :
” بالاذن سيدي قائد الجنود، عسى ألا تلتئم لك جروحًا ما حييت ”
وبهذه الكلمات تركت سالار يقف في المكتب الخاص بمهيار وهو يبتسم بعدم تصديق، يشعر بقلبه يكاد يخرج من صدره لشدة خفقاته، الغضب يأكله والغيظ يملئه، وهذه المرأة إن لم تبتعد عن وجهه يومًا ستكون نهايتها على يده يقسم .
” يالله لتشتعل الحرب كي لا ابقى في هذا المكان يومًا اضافيًا ..”
___________________
يقف أمام غرفتها وهو يدرك أنها الآن تنام براحة داخلها، ولولا أخلاقه وتعاليمه التي تمنعه اقتحام غرفة نساء في منتصف الليل والعبث بها ما كان تحرك من هنا إلا بعدما يمسك بين أنامله دليل صدق حدسه أو تكذيبه .
فإما أن تكون تلك الفتاة بالداخل هي نفسها « بيرلي خاصته » أو أن تكون مجرد فتاة بنفس الاسم .
تنهد تميم بصوت مرتفع ينظر للغرفة جيدًا ويطيل النظر بها وهو يشعر بالعجز، شغل عقله طوال النهار بأمر مشكى كي لايفكر بما سمعه منهم، لكن صبرًا هو سيعلم إن كانت هي أم لا .
تحرك بخطوات بطيئة صوب غرفته يجر خلفه أذيال القهر والحسرة، يشعر بصخرة تجثو فوق صدره وشعوره بالضياع يتعاظم، ضياع ما شعر به يومًا إلا حينما أيقن رحيلها، قسى عليها واجبرها على الاختفاء من حياته كي لا يؤذيها، وفي المقابل أذى قلبه وذاته العاشقة لتلك الصغيرة الحبيبة .
” لكنني مازلت صغيرة، أنا مازلت صغيرة يا تميم، أخبرهم ألا يجبروني على الزواج الآن، إن كنت حملًا ثقيلًا عليهم سأخرج للعمل مع الفتيات، وإن كنت مزعجة فسأتوقف عن ازعاجهم، لكنني مازلت صغيرة كي اتزوج بهذا العمر ”
ابتسم لها تميم يحاول أن يهدأ من روعها بعدما احضرته والدته كي يساعدها لتخطي مثل هذه المحنة التي تمر بها الصغيرة :
” إذن أنتِ لا ترغبين بالزواج الآن بيرلي ؟! ”
بكت برلنت بقوة وهي تقول من بين شهقاتها :
” نعم، أنا ما زلت صغيرة تميم، لقد ..لقد ظننت أنني سأنتظر سنوات حتى انضج واختر الشاب الذي سأتزوجه، لا اريد الزواج لهذه الطريقة، ارجوك ساعدني، أنت رفيقي تميم لتساعدني على الهروب من ذلك الشاب الذي يريد انتزاعي من منزلي ”
هز تميم رأسه بحزن شديد وهو يهمس بصوت خافت :
” أنا لا أستطيع مساعدتك برلنت، فأنا ذلك الشاب الذي يريد انتزاعك من منزلك، سامحيني صغيرتي ”
اتسعت أعين برلنت بقوة واطلقت شهقة انتزعت روح تميم من جسده، يبعد عيونه بسرعة عنها رافضًا بكل السبل أن يرى نظرة كره له داخل عيونها يهمس بصوت خافت تمنعه غصته :
” لقد، لقد أخبرت ابي أنني أود الزواج بكِ، وهو طلبك للزواج من أجلي بيرلي، أنا آسف”
كان آسفًا بالفعل كان آسفًا كونه انانيًا معها، كان أكبر أناني في هذه اللحظة وهو يؤثرها لنفسه بعدما علم من والده أن والد برلنت يفكر في قبول الشباب المتقدمين لخطبة ابنته صاحبة الثانية عشر عامًا، لينتفض قلب تميم بصدمة ويشعر بعالمه ينهار فوق رأسه ويسارع يتوسل والده أن يتقدم هو لخطبتها، هو سيعمل وسيحضر لها ما تريد فقط تكون له قبل أن يظفر بها غيره .
وقد كان ها هو يجلس أمام والدها والشيخ بينهما يطلق كلماته التي أعلنتها زوجة له أمام الله والناس أجمعين .
بيرلي الصغيرة أصبحت رسميًا زوجته، زوجة تميم .
ومن بعد تلك الكلمات التي نطق بها الشيخ نهض تميم من بين الجميع يسحب برلنت الباكية من أحضان والدته لاحضانه بضمها له بقوة معتذرًا لها، وهي بمجرد أن شعرت به يضمها قاومت ارتجافة جسدها تضم نفسها له بقوة تهتف باسمه في لوعة شديد وبكاء ترتشف حنان صديقها الوحيد ورفيقها الأقرب :
” تميم …تميم لا تتركني أرجوك”
وهو لبى النداء أن ضمها له أكثر يقبل حجابها بلطف وحنان، يعد نفسه أن يظل معها، أن يظل مسكنها وملجأها .
لكن القدر كان أقوى منهما ليجبره على نكث وعده لأول مرة في حياته .
خرج تميم من ذكرياته يلقى جسده على الفراش يبعد كل تلك المشاهد عن عيونه وهو يشعر بصدره يرتجف بقوة، اضاعها، صغيرته وحبيبته وزوجته المسكينة هو من اضاعها .
وضع يده على وجهه يفركه بقوة وقد اخترقت صرخته مسامعه، مما جعل جسده بأكمله يرتعد، صوت أتى من اعماق الماضي الذي ظن أنه نجح في دفنه :
” أنتِ طَالِقٌ برلنت …..”
_________________________
الشك هو بداية الطريق لليقين، وشكه هو قاده لليقين، فهل يتقبله يقينه أم ينبذه كما نبذه هو قديمًا ؟؟؟

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية مملكة سفيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *