روايات

رواية عابثة باسم الأدب الفصل الثالث 3 بقلم سارة أسامة نيل

رواية عابثة باسم الأدب الفصل الثالث 3 بقلم سارة أسامة نيل

رواية عابثة باسم الأدب البارت الثالث

رواية عابثة باسم الأدب الجزء الثالث

عابثة باسم الأدب
عابثة باسم الأدب

رواية عابثة باسم الأدب الحلقة الثالثة

لا تعلم كم مرّ من الوقت عليها وهي تجلس ممسكة الهاتف تُقلب بين ناتج صنع يديها وتلك حملات التوعية التي نشأت لتوعية الفتيات والوقاية من أدب عاشقة الليل البذيء، الكثير من المنشورات عن عاقبة قراءة مثل هذه الأشياء والجُرم الأعظم كتابتها..
جاء الظلام وهبط سارقًا النهار وهي مازالت جالسة متكومة حول نفسها تنظر للهاتف نظرات غريبة وأعينها البُنية جاحظة وشحوب وجهها يُحاكي شحوب الأموات وتلك الكلمات التي قرأتها لا تكف عن التكرار والدوران حول رأسها..
ماتت فتاة وذهبت للقاء ربها وهي ممسكة الهاتف تقرأ ما خطته يديها من مشاهد مُحرمة..
انتظر .. يقولون أن من مات على شيء بُعث عليه..
هل ستُبعث تلك الفتاة وهي تقرأ تلك المشاهد على رؤوس الأشهاد!!
ماذا ستُحبر ربها؟! ستخبره أن هذا ما خطته يد “دُرّ الحُسيني” المُتنكرة باسم “عاشقة الليل”!
سيأتي جيش من أشخاص لا تعرفهم يُشيرون صوبها بأنها هي..
من هم!! نعم نعم إنهم أشخاص أحمل أوزارهم .. لكن ماذا عن إثمي الأعظم وأوزاري من سيحملهم!! هكذا ثقُلت الأحمال وأثقلتني .. سأسقط .. لكن أين سأسقط بأثامي هذه .. إنني أسقط حيث السعير..
هل هكذا أصبحتُ داعية للغواية، هل أحمل لواء الفاسقين الآن .. مهلًا هل هكذا أصبحتُ معلمة الفسق..!!
الكثير من الأباء يأتون نحوها وأصابعهم تُشير نحوها بأنها تلك المتسببة في إفساد بناتهم يريدون القصاص.
وآخرين من الأمهات يأتون باكين يصيحون بأن هذه من زينت الغواية لأولادهم حتى وقعوا في الكثير من المُحرمات.
مهلًا هل هؤلاء زوجات .. لماذا يأتون نحوها، ماذا فعلت لهم.!!
كيف .. كيف تسببت في جعل أزواجهم يرتكبون الخيانة!!
إنه مجرد أدب .. كيف تسبب في كل هذا الفساد!!
كيف أدب يا عزيزتي بل مُجرد عبث .. عبث باسم الأدب.!!
الآن ماذا ستُجيب رب العالمين، بماذا ستُبرر؟!
هل ستُبرر كيف استهانت بهذه الحُرمة والذنب، تلك المبررات الواهية التي كانت تحشو بها رأسها في الدنيا، والتي اقتنعت بها من أفواه قادتها في هذا المجال، من كانت تقرأ لهم وأُعجبت بنجاحهم فأخذت تنافسهم..
هل سيقبل الله تبريرها بأنها قد كانت تعالج قضايا وتُلقي الضوء على أمور هامة جدًا وأنها ثمة كلمات مكتوبة كيف سيأتي الذنب من خلفها!!
أم أنها ستُجيب أنها وقعت بغرام رؤية القراءات التي كانت تتعدى عشرات الملايين..
يأتون نحوها لإلقاءها في نار شديدة مُسعرة وهنا كانت الصرخة وهي تتململ بجنون فوق أرضية الغرفة..
وجه شديد الشحوب غارق بالدموع والكثير بل والكثير جدًا من الفزع، حركات عشوائية جنونية وهي تصرخ صرخات جعلت جميع من في المنزل يقتحمون الغرفة بهلع ليروها على هذه الحالة..
صرخت دُرّ بذعر وروع وهي تتحرك بعنف وكأنها مغيبة عن واقعها:-
-لا مش عايزه أدخلها .. أنا مش هعمل كدا تاني .. أعمل أيه أنا خايفة، طب هكفر إزاي عن ده كله .. أعمل أيه في ده كله … أنا وحشة أنا أستاهل… لا مستحيل يسامحني مستحيل، أيوا أنا مسلمة .. ليه بتقولوا عليا كدا .. أنا مسلمة … أنا مسلمة .. عارفة عارفة بس معنديش من أخلاقهم حاجة .. حتى إللي مش مسلم ميعملش إللي أنا عملته، ماتت وهي بتقرأهم .. هتروح تقول لربنا أيه .. هتقولوه عليا .. هتقول دي بتاعة دُرّ .. أنا السبب.. أنا السبب..
قُلع قلب والدتها من جذوره وهي تهرع نحوها تحتضنها وتسيطر على تحركاتها المنفعلة لكن كانت دُر تتململ وسقطت في حالة من الإنهيار الشديدة، أخذت والدتها تسير بكفها بحنان على سائر جسدها وهي تتلو أيات القرآن والكثير من الأدعية حتى هدأت دُرّ تمامًا لكن كان صوت شهقاتها الحاد مرتفع وصدرها يعلو ويهبط بانفعال، أردفت خديجة وهي تمسح على رأسها بحنان:-
-اهدي يا حبيبتي، اهدي يا دُرّ .. وحدي الله يا دُر وحدي الله..
رغم عدم فهمهم لشيء من حديثها وكلماتها المتقطعة لكن ملامح وجهها التي اصفرت وسقط عليها الإنهزام والفزع الشديد جعل الجميع يلتف حولها، والدها وأشقاءها يحاولون بث الأمان لها..
انتشر الصمت والتزمت دُرّ صمت عجيب وأنظارها شاردة مثبتة بنقطة ما فوق الهاتف الخاص بها، نظرات مغمورة بالهلع..
وزع الجميع أنظارهم المتسائلة حتى قطعت خديجة هذا الصمت وتسائلت برفق:-
-دُرّ .. أيه إللي حصل، أيه قلب حالتك بالطريقة دي، أنتِ كنتِ داخلة كويسة..
لم تلقى منها ردة فعل ولم تُحرك دُرّ ساكنًا فهتف والدها هذه المرة:-
-قصدك أيه بالكلام ده يا دُرّ … طمنيني عليكِ يا بنتي أيه وصلك للحالة دي..
ابتلعت ريقها وأجابت بشرود وهي على حالتها:-
-كابوس .. كابوس وحش..
لم تساورهم الشكوك فتلك ابنتهم يثقون بها ثقة عمياء، تنهدوا براحة وأردفت خديجة ببشاشة:-
-الحمد لله مجرد كابوس، قومي أتوضي وصلي ركعتين كدا واقرأي شوية في القرآن وربنا ينزل عليكِ السكينة يا حبيبتي..
صلاة … قرآن .. هل سيقبلها الله، هل سينظر إليها من الأساس، لكن الأهم من هذا كيف ستأتيها الجُرأة للوقوف بين يديه، هل سيستقبلها بحفاوة وهي غارقة بأثامها؟!!
تريد فقط الآن أن تظل بمفردها .. بمفردها وسط ظلمتها..
أردفت دُرّ وهي تعتدل جالسة:-
-أنا كويسة .. محتاجة بس أنام شوية علشان دماغي مصدع..
تنهدت والدتها وانحنى والدها يُقبل رأسها ثم قال لها بحنان:-
-طب نامي شوية يا حبيبتي ارتاحي يا دُرّي وشوية وهدخل أصحكيكِ..
وانصرف الجميع من الغرفة تاركين إياها وسط ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمة المعصية، ظلمة نفسها، وظلمة الندم..
ومرّ الليل العليل على دُرّ المتكومة حول نفسها تبكي والخوف يتلسبها وأعينها ساهدة شاردة بعيدًا ولم يُغمض لها جفن رعبًا..
✲ ✲ ✲ ✲
في حين مرّ الليل الكئيب على حارثة جالسًا أمام غرفة العناية المشددة تجاوره والدته إثر الأزمة القلبية التي أصابت والده فجأة..
من جهة سقوط والده ومن جهة أخرى الصدمة التي يبست جسده .. ما رأه بهاتف والده قبل أن يسقط، لقد خبأه مسرعًا قبل أن تراه والدته وتعلم بالأمر، وقد قضى الليل بطوله يُصلي رافعًا كفيه برجاء داعيًا الله عز وجل أن يعود والده بصحة جيدة وألا يكون أخرعهده بالدنيا تلك الرواية القذرة، ألم غُرز بصدره حين وقعت أعينه على ما وقعت، ظلام هبط على عقله وقلبه لا يعلم كيف سيكون السبيل لإنقشاعه..!!
رفع أصابعه يُمسد جبينه بتعب وإرهاق قد نضح على ملامحه وهمس بداخله بتيهة:-
-عديها سليمة يارب، سامحه واغفر ليه يارب العالمين واهديه للطريق المستقيم واعفو عنه..
يتسائل لماذا أصبح العالم بهذا السوء، كيف طاوع قلب تلك الفتاة المسماة بعاشقة الليل أن تفعل ما تفعله وأن تُصدر تلك القذارت للجميع، ألم يؤلمها ضميرها، ألا يهمس الخوف بأذنها قبل أن تخلد للنوم!!
قالت والدة حارثة من بين بكاءها:-
-يا ترى أيه إللي حصله يا حارثة، كان كويس وقام فطر بعد ما أنت مشيت وبعدين وقالي هيدخل مكتبه عنده شوية شغل لغاية ما أنت ترجع .. يقع كدا مرة واحدة.
أمسك حارثة يديها ومسد عليهم بحنان ثم أردف متنهدًا:-
-وحدي الله يا أمي، محدش عارف الخير فين، صدقيني أنا واثق إن دا كله خير .. خير… أنا مؤمن إن الخير يكمن في الشر..
همست والدته بإختناق:-
-ونعم بالله يا ابني .. ونعم بالله يا حارثة..
أقبل الطبيب عليهم فاستقبله حارثة بتسائله المتلهف:-
-هو عامل أيه يا دكتور بقاا كويس؟!!
ابتسم الطبيب ببشاشة وقال:-
-متقلقش يا حارثة والدك بخير .. والحمد لله بقى أفضل بس علشان نطمن عليه بس هيفضل في العناية وبعدين هيخرج .. حتى هو كويس وعايز يشوفك.. تقدر تدخل تطمن عليه..
غمرت السعادة قلب حارثة رغم تعجبه من طلب والده لرؤيته، تبادل النظرات مع والدته التي تعجبت هي الأخرى من مطلب زوجها فهي تعلم جفافه من قِبل ولده الأكبر، ابتهج قلبها وهي تدعو أن يصفو قلب زوجها تجاه حارثة الذي ليس له ذنب فيما حدث قديمًا..
ابتسمت له بشجاعة قائلة:-
-يلا يا حارثة .. ادخل..
حرك حارثة رأسه وسار تجاه غرفة العناية المشددة وقد تناسى كل شيء فيما عدا أن والده بخير فقط، تم تجهيزه وولج للداخل وهو يمر على الكثير من المرضى الذين يعانون من أوجاع شتى، منهم من يستقبل الألم بصمت ومنهم المتوجع ومنهم الباكي وجعًا، تخشب جسد حارثة وأصبح قلبه ينبض بقوة بينما يوزع أنظاره بأرجاء المكان ويرى الأجساد التي سكنها المرض واقتحمها دون أذن دخول وعلى حين غرة، منهم من يتمنى الموت لأجل أن يتخلص من الوجع، ومنهم من يستقبل ألمه ووجعه شاكرًا راضيًا…
نعم يعلم حارثة قدر النعم الغارق هو بها لكن ليس بهذا القدر، ليس بهذا القدر الذي يجعله الآن خجلًا … حتى أنه أخفض رأسه أرضًا ونمت دموع حارة بأعينه وهذه المشاهد التي رأها مُحال أن تُمحى من عقله..
حقًا لقد صدقوا .. إن أردت أن تشعر بمقدار النعم التي تغرق بها عليك أن تدلف المشافي، هنا فقط ستُقدر جميع النعم، هنا فقط ستشعر بالخجل، هنا ستعلم المعنى الحقيقي للصبر، هنا ستتعلم الحمد، هنا ستعلم معنى الوحشة والوحدة .. فقط صوت صفير الأجهزة الباردة المرعب هي من تكسر حدة الصمت الكئيب.
مسح حارثة وجهه وأكمل السير نحو مكان والده وفور أن وقعت أعينه عليه، جسده العارٍ والأجهزة المتصلة به والوحدة التي هو بها حتى شعر بقلبه يُقلع من جذوره وسارعت رعشة قوية بأنحاء جسده … وكأن خنجر بارد غُرز بوسط قلبه، تمنى وتمنى وتمنى أن لو كان هو الراقد فوق هذا الفراش..
اقترب منه مرتعشًا وليس عيبًا أن يرتعش بدن الرجل، انكب جالسًا على ركبتيه بجانب الفراش وأمسك كفه الباردة بين كفيه وانكب عليه يقبلها وهمس بخوف:-
-بابا…
فتح والده أعينه وببطء نظر تجاه رأس حارثة المستند على كفه، وبيده الأخرى رفع قناع الأكسجين من فوق أنفه ووضع كفه فوق رأس حارثة هامسًا بضعف:-
-حارثة…
رفع حارثة رأسه بلهفة ونبض قلبه بشدة فمنذ الكثير لم يسمع والده يتلفظ اسمه وبهذا الحنان والسكون…
وللمرة الأولى يرى راضي والد حارثة بملامح ولده ملامحه الخاصة وليست تلك الملامح التي زرعت بقلبه الشك والغضب، يرى ملامحه القمحية البشوشة الخاصة بحارثة الزيني ولده البكر من صلبه.
انهزم غضبه وانجلت الغشاوة من فوق أعينه ليرق قلبه ويغمره الندم، والخجل .. الخجل من ولده فقد علم أكيد بمحتوى تلك الرواية التي وقعت بطريقه بالصدفة وانغمس معها لتخرجه مما كان به ويبتعد بها عن الواقع وما جذبه أكثر أنه كان من محب القراءة ولم يتوقع وجود هذا العالم وسعى لإستكشاف هذا الأمر فكان الأمر في البداية حب استطلاع وفضول وانتهى المطاف بأنه أصبح هروب…
شعر حارثة بما يشعر به والده وشعر بخجله الذي رأه بأعينه فتصنع عدم معرفته بشيء وقال:-
-بابا أنت كويس .. أنا كنت مرعوب لما دخلت وشوفتك مغمى عليك .. حاولت اتصل بالاسعاف بس موبايلي كان مسقط شبكة .. وحتى موبايلك كان مقفول ومعرفتش أفتحه بس الحمد لله أمي قدرت تتماسك وتتصل هي بالاسعاف..
الحمد لله أنك بخير يا بابا .. طمني عليك أنت كويس..
لا ينكر راضي أنه شعر بالراحة وهو يدرك أن حارثة لم يعلم بالأمر وبما كان بالهاتف، فهو لا يُريد أن تتشوه صورته بأعين ولده وأن يسقط من أنظاره..
حمد الله بداخله على ستره وعزم على التوبة وعدم العودة لهذا الطريق أبدًا، ارتعب لفكرة أنه لو انتهى أجله وسُحبت روحه وهو يمسك الهاتف، تذكر الرعب وشعوره عندما أتته الأزمة وهو يُمسك الهاتف يقرأ تلك الرواية وقد عجز على إغلاقه عندما تمكن منه الألم..
شعور مرعب … هذا كان مُجرد إنذار شديد اللهجة، محبة من الله له أنه لم يتركه مغموس بهذا الظلام وجاءت الإفاقة قبل فوات الأوان وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم وحينها لن ينفع مالٌ ولا بنون..
مرت بذاكرته المعاملة الجافة التي كان يتعامل بها مع حارثة وجُهد الأخير في إثبات جدارته ونجاحه له بشكلٍ متواصل دون يأس لكسب رضاه، والآن يجلس على ركبتيه بجانب فراشه والرعب مرقوش على ملامحه..
ابتلع راضي غصة جافة عالقة بحلقه وغامت أعينه بالدمع قبل أن يقول:-
-حقك عليا يا حارثة .. حقك عليا يا ابني .. أنا فوقت والحمد لله إن فوقت قبل فوات الأوان، شوفت نفسي على حقيقتها..
أخذ حارثة يُقبل كفيه بإحترام وقال:-
-أنت أبويا وتاج راسي أنت وأمي .. وأوعي تعتذر مني يا بابا، مهما عملت أنت أبويا وأنا مأمور ببرك .. عارف إن أنت كنت زعلان مني علشان عايز تشوفني أحسن الناس، وكل إللي حصل خير يا بابا دا إيماني، أنا متيقن إن كل حاجة بتحصل وربنا بيحطها في طريقنا بتكون خير لنا وبتبقى رحمة بينا .. ما يمكن لو أنا محسيتش إن أنت زعلان مني ومتغير معايا مكونتش اجتهدت وسعيت علشان أثبت ذاتي وأكون إنسان نافع، خير والله يا باشمهندس راضي لأن مهما كان إللي حصل فالنتيجة اللهم لك الحمد كلها خيرات، أنا راضي يا بابا، راضي بكل حاجة ربنا يكتبها ليا … راضي بكل حاجة ربنا يحطها في طريقي..
ابتسم راضي وهو لا يصدق كيف عُميت أعينه عن حارثة ولده وكان غاضب من أشياء ضخمها له الشيطان، شعر بجميع ألامه تزول، شعر براحة غريبة تجتاحه وأخيرًا وصل لنقطة التصالح لكن بعد سنوات عديدة، بعدما حرم نفسه من الكثير..
أردف والده بسعادة:-
-راضي عنك يا حارثة ..ربنا يثبتك ويزيدك ويبارك فيك يا ابني، وإن شاء الله أنا هنتظر أخرج من هنا علشان تعلمني وتاخد بإيدي وتساعدني يا حارثة..
قفز قلب حارثة سعادةً وهو يشعر أن الأمور تتجه نحو المسار الصحيح، لقد استجاب الله لدعواته ورجاءه، هذا الرجاء الذي كان يلح به كل ليلة على الله بوجه مُبلل بالدموع استجاب الله، كان موقن هو أن الله لن يخذله، لقد جنى ثمار صبره وعاد إليه والده، سيرى بمنزلهم جو الألفة والمودة والاستقرار أخيرًا..
ربما تأتي الإجابة عن شيء أكثرنا اللحوح به بثوب الشر .. نعم ففي كل شرٍ خبر واعلم أن الخير يكمن في الشر..
أتت الممرضة تُخرج وهي تقول بلطف:-
لو سمحت وقتك انتهى .. لازم تخرج علشان والدة حضرتك تدخل..
استقام حارثة وقال لوالده:-
-هستناك برا يا بابا .. مش هرجع البيت ألا معاك..
تنهد راضي براحة وخرج حارثة لتدلف روحية والدته للداخل بلهفة وأعينها استرقت لون الشفق ودموعها لم تتوقف عن الجريان..
دلفت بلهفة تسعى نحوه وتنظر له بألم بينما نظر إليها راضي بندم..
جلست بجانبه وأسندت رأسها فوق صدره بخفة، هبطت دموعها وهي تقول بعتاب:-
-كدا يا أبو حارثة تخلع قلبي عليك .. قلبي كان هيقف يا راضي كنت مرعوبة..
نعم كان غاضب منها جاف معها لسنوات … وهذا لأنه فقط عشقها!!
أردف بسعادة رغم ما بِه:-
-بجد يا روحية .. بجد قلبك كان مرعوب علشاني..
قالت من بين دموعها ومازال الندم بداخلها يأكل قلبها فهو صاحبة الخطأ الأعظم فيما حدث:-
-ضيعنا عمر سليم وأنا بحاول أثبتلك إن مفيش في قلبي ألا أنت يا راضي وإن قلبي عشقك ولقى الأمان معاك .. عارفة إن غلطت وإن مكانش ينفع أقولك كلام زي ده وأخلق فجوة بينا، بس أنا حبيت نبدأ حياتنا سوا على صراحة وتكون كل حاجة واضحة، بس أنا هحكي كل حاجة لحارثة وأعرفه سبب الجفاف إللي بينكم وإن أنا الغلطانه ومش يلومك أبدًا..
قال مسرعًا بنهي:-
-اوعي يا روحية .. أوعي تقولي أي حاجة لحارثة، كل حاجة انتهت وعدت وبالنسبة ليا حقك عليا أنا الغلطان يا روحية مكانش ينفع أبدًا إللي عملته، بس صدقيني غصب عني يا روحية غصب عني كنت حاسس إن بموت .. وزاد وجعي بعد ما حارثة اتولد وشوفته، كنت متحمس ومستني أشوفه بفارغ الصبر بس انصدمت وكان كل ما يكبر اتصدم أكتر.. مقدرتش أنسى يا روحية وأنا كنت عاشقك، كان صعب عليا..
بس مهما حصل حارثة ابني ومن دمي وفخور بيه وبإللي وصله وندمان على كل دقيقة كنت بعيد فيها عنه..
ازداد هبوط دموعها وهمست وهي تعتدل تنظر له بوجع:-
-كنت لسه صغيرة يا راضي وصريحة، عارفه إن مكانش ينفع أقولك يوم فرحنا بعد ما اتجوزنا إن كنت بحب أخوك إللي اتجوز صاحبتي، كنت بحبه حب مراهقة بيني وبين قلبي مفيش مخلوق عرف بيه ألا أنت، لما اتجوزتك مكانش علشان أنت أخوه وبديل والكلام ده والله، لما اتقدمت ليا وعرفت إن أنت أخوه بمحض الصدفة كنت هرفض بس لما أهلي سألوا عنك وعرفوا إنك إنسان كويس وقعدت معاك وارتحت ليك وحبيت حُبك المجنون ليا وافقت وقلبي بدأ يميل ليك وحبيتك وثبت لنفسي إن هو مش بقى ليه مكان في قلبي وأصلًا هو مكانش حب أبدًا يا راضي، حبي الأول هو أنت .. مش حبيت أخبي عليك وحبيت أشاركك كل حاجة وأقولك على كل إللي جوايا …بس المصارحة دي كلفتني كتير أووي يا راضي، كلفتني سنين طويلة من عمري..
ابتلعت ريقها وأكملت بألم:-
-كان المفروض أقفل على الماضي وميحصش كنت قولتلك كدا وبالذات لما كانت كل حاجة انتهت من قلبي .. مش ذنبي أبدًا يا راضي إن حارثة يطلع شبه عمه إللي مات بعد كام سنه من جوازه، مش ذنبي ولا بإيدي إن حارثة يبقى شبه أخوك ونسخة منه وكل ما تشوفه تفتكر إللي حصل .. دي مشيئة الله يا راضي … خلقة ربنا ومنقدرش نعترض عليها ونقول ليه، حارثة كل فكرته إنك جاف معاه علشان نتيجة تالته ثانوي وإن مجموعه ملحقش الكلية إللي أنت كنت عايزه يدخلها علشان كدا طحن نفسه لغاية ما بقى أحسن من إللي أنت كنت عايزه عليه..
جذبها راضي لأحضانه وقبل رأسها بحنان قائلًا:-
-كنت عاشق واتصرفت بتهور والغضب عمى عيني يا روحية، بس الحمد لله .. الحمد
لله إن انتهى وربنا زال الغشاوة عن عيني حتى لو بعد سنين، هعوضك يا روحي وهعوض حارثة .. بس لو سمحتي يا روحية اقفلي على القصة دي واقفلي على الماضي..
ابتسمت بسعادة وقالت وهي تمسح وجهها:-
-الحمد لله يا راضي الحمد لله .. كل حاجة انتهت ومفيش في قلبي ولا كان ألا أنت وحارثة وجاسر وخالد .. أنتوا كل حياتي، وإن شاء بعد ما تخرج بالسلامة من هنا هنروح نخطب لحارثة ونفرح بيه بقاا..
أردف راضي بهدوء:-
-المهم تكون زوجة من اختياره هو وتستحق قلبه ويحبها..
-إن شاء الله يا أبو حارثة، إن شاء الله.
✲ ✲ ✲ ✲
أطلت الشمس من مخدعها تُلقي بأثوابها الذهبية وضوءها المشرق على الجميع .. فيما عدا تلك الغرفة التي شهدت ليل اتصل بالنهار رعبًا، مازال الظلام الدامس بداخلها وهي تجلس تحتضن جسدها متكومة بأحد الزوايا لم يتغير وضعها، أعينها متوسعة تنطلق منها نظرات فزعة لم تأفل ولو لثانية واحدة..
كان الليل عامرًا بانجلاء حقيقتها المريرة أمامها وعقلها لم يتوقف عن العمل وتصور أبشع النهايات لها..
تمسك الهاتف وأنظارها تتوزع على الكلمات التي كتبت عنها بأبشع الصفات تنعتها باللعنات وقد خصصوا مجتمعات لأجل الحديث عنها فقط وعن القذرات التي تقدمها باسم “قذرات عاشقة الليل الخبيثة” إلا أنها وجدت شيء مختلف هذا اليوم..
منشور يختلف عن سابقيه كان ما كُتب به عجيب وشديد العجب بالنسبة لها، قرأت أعينها التالي بدهشة شديدة..
<السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عايز أقول معلومة صغيرة مش عارف هتفهموني ولا لأ، بس المهم أكون عملت إللي عليا ونبهت، الشخصية التي تُدعى بِعاشقة الليل حصل موقف غريب وعرفت إللي بتقدمه بدون ذكر الموقف، بصراحة في البداية تعجبت من وجود مثل هذه الأشياء وبالذات في الوسط إللي هو المفروض وسط أدبي، بصراحة كان عندي فضول أعرف هي مين وبتقدم أيه .. وبمجرد ما كتبت اسمها ظهر ليا كتير من المنشورات إللي بيتكلموا فيها عنها والهجوم الغير عادي عليها .. بكلمات مفيش حد يقدر يستحملها حتى لو كان فاسق..
بس عايز أذكركم بحاجة بسيطة، إحنا مسلمين مأمورين ندعو لله بالموعظة الحسنة، كان ممكن بدل الهجوم الشديد إللي مستحيل يجيب نتيجة ألا عكسية مع أي شخص، تنصحوها لله، توصلوا لها عظمة الذنب إللي بترتكبه والعواقب عليه، تفهموها وتكونوا ليينين معاها، وتاخدوا الأجر والثواب، وتخيل لو بسبب كلمات بسيطة منك تابت وعادت إلى الله هيكون أجرك عند ربنا أيه، يا جماعة بلاش الأسلوب ده واقدوا بالرسول صلّ الله عليه وسلم، وتذكروا إن ربنا سبحانه وتعالَ باسط يده لها للتوبة، يعني لو تابت وتاب الله عليها وعادت إلى الله وعزمت على ترك المعصية دي وعدم العودة لها .. توبتها مقبولة وهيستقبلها ربنا محفاوة، ربنا بيغفر وبيسامح واسمه الغفور الرحيم فغلط جدًا وحرام تيجي حضرتك تقول، دا إللي زي دي كافرة، وإللي زي دي ربنا مستحيل يسامحها ولا يقبلها، الكلام ده حرام مينفعش يتقال، لأن والعياذ بالله أخطأت في حق الله تعالَ؛ لأن لا مستحيل على الله، وربنا يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، أنت ممكن بكلامك ده توصلها فكرة إنها ملهاش توبة وكدا تشيل أنت ذنبها، بلاش الحدة دي يا جماعة وادعولها بالهدى وانصحوها بالحسنى..
وأحب أوجه كلمة للشخصية دي، أنا مش عارف ممكن تشوف كلامي ولا لأ بس أتمنى يوصلها، باب التوبة مفتوح .. ارجعي لرب العاملين وهو هيغفرلك ويتوب عليكِ، ارجعيله وصدقيني هو منتظرك … وهيفرح أوي برجعتك، ارجعيله وهو هياخد بإيدك وهيساعدك ويبعتلك الأشخاص إللي يعاونوكِ ويكونوا سند لكِ في طريقك ليه بس أوعي ترفضيهم>
لم يتوقف هطول دموعها وهي تنظر لهذا المنشور بأعين مترجيه وبصيص من الأمل زُرع بداخلها .. في أن يكون لها فرصة بالعودة…
هذا الشخص المختلف من بين الجميع، قد نفذت كلماته بروحها، ولم تعلم أنه سينفذ هو عم قريب لقلبها أيضًا، رمقت المنشور بامتنان واحتفظت به وهي تُلقي نظرة خاطفة على صاحب المنشور والذي لم يكن سوى [حارثة الزيني]..
ما فعلته بعد ذلك هو الخطوة الأولى للطريق الصحيح، أخذت دُرّ تُحدّث بحاسبها عاشقة الليل الأشخاص الذين كانوا يقومون بنشر رواياتها بالكثير من المجموعات والصفحات تترجاهم إزالتها ومضت الكثير من الوقت في هذه المهمة، ثم بعد ذلك قامت بحذف جميع ما نقشته يداها ساحبًا الكثير في بؤر مظلمة .. لم تترك شيئًا إلا حذفته وانتهى الأمر بحذف صفحة عاشقة الليل وحسابها من جميع المواقع وإزالة كل شيء … وتم الإنتهاء من عاشقة الليل وإزالتها من الوجود لكن هل تستطيع أن تزيلها من داخلها..؟!
هل تستطيع العودة حقًا..!
وضعت الهاتف فوق وحدة الأدراج وهي تنظر له بخوف، نعم لقد زُرع الخوف بداخلها تجاهه، منكسة رأسها لم تقوى على رفعهم للأعلى .. لم تقوى على طلب الغفران والسماح، خجلت أن ترفع رأسها للسماء، خجلت أن ترفع صوتها للرحمن .. لقد خجلت..
كان شقيقها يستمع إلى تلاوة للشيخ محمد صديق المنشاوي نفذت لغرفتها، فقد كان الشيخ يُغرد بالأيات التي اقتحمت أذان دُرّ .. (أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ • أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يَرَىٰ)
لم يعلق باذنها سوى تلك الآية بل رُشقت بقلبها (أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يَرَىٰ) ظلت تتكرر بأذنها وداخل عقلها وتكررها بينها وبين ذاتها لتنفجر فجأة في بكاء شديد جدًا حتى أن صوت شهقاتها إن سمعتها تمزق قلبك .. بكاء حاد بصوت مرتفع وكأن قلبها خُلع من جذوره، أخذت تغمس وجهها بالوسادة بقوة تكتم صوت شهقاتها حتى لا يخرج فيسمعه من في المنزل، تبكي بكاءً بشهقات تخرج معها روحها…
نعم .. كنت أتخفى من الجميع وجهلت أنك ترى يا الله … نعم لقد عصيتك وكنت غاوية لعبادك أغويهم المعاصي .. نعم أفسدت في الأرض يا الله .. مُحملةٌ أنا بالأثام والذنوب، ذنوبي يا الله التي ما فعلتها إلا عن ضعف نفس لا استهانة بجلالك وقدرك العظيم..
ومضت اليوم بأكمله تبكي بتحسر حتى آلامتها أعينها لكنها لم ترحمها وظلت تُثبتهم بأصابعها مفتوحة حتى لا تنغلق وتستسلم للنوم فيُهاجمها الكابوس ويطاردها أو تموت…
ومرّ سبعة أيام بلياليها على دُرّ التي مازالت منغمسة في البكاء والإرتعاب ولم تجرؤ أن تقترب من هاتفها، تلتزم غرفتها وتتعلل أنها مضغوطة لأجل الإختبارات، جاهدت خديجة والدة دُرّ لإخراجها من تلك الحالة التي لا تعلم سببها لكنها أخفقت..
بينما عاد حارثة برفقة والده الذي أصبح بحالة أفضل للمنزل وبدأ الهدوء والاستقرار تنعم بهم حياته الأسرية .. وظلّ يمارس عمله بشاط وهمة ويعود للمنزل فيتناول الطعام بصحبة والده ووالدته في جو مليء بالألفة والهدوء والمحبة وقد مُحقت الفجوة بينه وبين والده فيظلان يتسامران بمحبة ويؤديان كُلًا من حارثة ووالده الصلاة بالمسجد ذاهبان سويًا وهنا تحققت دعوات حارثة التي ألحّ بها على الله كثيرًا..
وأتى اليوم المرتقب، سحبت روحية والدة حارثة هاتفها بحماس وبحثت عن اسم خديجة الذي وجدته بسهولة ورفعته حتى آتاها صوت خديجة الهادئ:-
-روحية .. أيه المفاجأة الجميلة دي وحشاني يا روح..
ابتسمت روحية بسعادة وأردفت:-
-ديجا، من هنا ورايح إن شاء الله مش هيبقى في وحشة تاني، عيزاكِ في موضوع مهم يا خديجة.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية عابثة باسم الأدب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *