رواية بك أحيا الفصل التاسع 9 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا الفصل التاسع 9 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا البارت التاسع
رواية بك أحيا الجزء التاسع
رواية بك أحيا الحلقة التاسعة
“تائهة”
استعاد نفسه رغم انه مازال يشعر بألم قلبه لكنه تجاهله مؤقتًا كي يستطيع الظهور طبيعيًا أمام والدته التي سريعًا ما يتآكلها القلق عليه، ففرد ظهره وهو يزفر انفاسه بقوة قبل أن يغمض عيناه لبرهة مستعيدًا ثباته، وما إن شعر أنه أصبح بخير قليلاً، حتى تحرك للداخل بخطواته التي بدت مختلفة رغمًا عنه، بدت أقل ثقة، وأقل ثباتًا، فخطوات الإنسان تتأثر بشدة بما يجول في عقله، كلما كان عقلك صافيًا ونفسك هادئًة بدت اكثر ثقة وحماس، وكلما كنت شارد العقل في أمر ما كانت خطواتك مترددة وهِنة، ابتسم ثغره ابتسامة بالكاد تُرى ما إن وجد نظر والدته مسلط على مكان دخوله، بادلته الابتسامة بحنان وقد انخدعت بابتسامته الظاهرية لتهتف بحب:
_ حمد الله على السلامة يا نور عيني، اتأخرت ليه النهاردة؟
اقترب منها مقبلاً جبهتها بحنانه المعهود معها قبل أن يجيبها بهدوء:
_ كان عندي شغل كتير يا حبيبتي.
تنهدت بعدم راحة لماهية عمله ولكن لقد فعلت كل ما يمكن فعله لتتأكد من طبيعة عمله، سألته عدة مرات وكانت ترى الصدق في اجابته، حاولت أن تلاحظ أي شيء يثير شكها ولكن لم تجد، يذهب لعمله في التاسعة صباحًا ويعود في التاسعة مساءً، مواعيد عمل مثالية! ماذا سيثير شكها اذًا!
_ ربنا معاك يا حبيبي.
جلس بجوارها على المقعد وهو يلقي بتحية باردة لوالده:
– مساء الخير يا بابا.
وبنفس البرود كان يجيبه:
_ مساء النور يا مراد.
وحل الصمت بينهما لا يتخلله سوى أصوات اصطدام المعالق بالطعام من فنية لأخرى، ولطالما كان دومًا تجمعهم هكذا ليس على الطعام فحسب فأي تجمع لهم لا يخلو من الصمت الطويل، وكأنهم فقدوا لغة الحوار فيما بينهم وهم بالفعل كذلك.
ابتلع ما في فمه بصعوبة، لا يشعر انه بخير بتاتًا، من كثرة ألم صدره يشعر بصعوبة بالغة في مضغ الطعام أو بلعه، رفع كفه في الخفاء يمسد جانب صدره الأيسر باختناق آثار حنقه، لا يعلم ما يجب عليهِ فعله كي يزول هذا الاختناق الغاشم عنه، التواء طفيف في عضلة فكه الأيسر أنبئت بتألمه وقد غص في طعامه من كثرة اختناقه، سعل بخفة عدة مرات متتالية قبل أن يلتقط كوب الماء يتناوله بنهم، وكف “ليلى” يمسد على ظهره بقلق بعدما انتبهت لحالته وهي تقول:
_ بسم الله الرحمن الرحيم، براحة يا حبيبي، اشرب براحة وخد نفسك.
انتهى من تناول الكوب ليضعه رافعًا كفه يمسح بهِ على وجهه ليزيل عرقه الذي غزاه من الاختناق، وزفر أنفاسه بقوة، قبل أن يبعد كفه ينظر لوالدته بابتسامة باهتة يحاول طمأنتها:
_ انا كويس متقلقيش.
استمع إلي صوت “حسن” الساخر وهو يقول بينما ينظر لملامح “ليلى” القلقة:
_ ده شِرق ماخدش رصاصة! ليه كل القلق ده كأنه طفل!
امتعضت ملامحها وهي تجيبه:
_ محدش طلب رأيك.. ابني اقلق عليه من الهوا الطاير، ولا فاكرني عديمة الاحساس زيك.
رفع “مراد” حاجبيهِ ساخرًا من وصلة القذف بالكلمات التي ستبدأ للتو بينهما، لينهيها قبل أن تبدأ وهو يقول بسأم:
_ خلاص ياماما.
التزما الصمت حين لاحظا ملامحه الممتعضة بضجر، ليستكملا طعامهما بصمت بينما نهض هو وهو يقول:
_ عن اذنكم هطلع انا ارتاح محتاج انام.
نظرت” ليلى” له بقلق تسأله:
_ هتنام دلوقتي؟ الساعه لسه مجاتش ١٠!
مال عليها بقامته يهمس في أذنها:
_ عشان ساعتين وهصحى.
ضيقت حاجبيها بعدم فهم لجملته فهمست له:
_ ليه؟!
وبمغزى كان يجيبها بنبرة توارى خلفها الكثير من الألم:
_ النهاردة ٢/٩ يا ماما.
تصلبت معالهما لوهلة قبل أن تترقرق في عينيها الدموع وهي تعاتبه:
_ برضو يا مراد؟ لسه مصمم تعذب نفسك يابني!؟
بابتسامة تبدو لكل عين تراها لا مبالاية ولكن لعين والدته رأت كم الآلآم التي تتوارى خلفها كان يهتف منهيًا الحديث:
_ تصبحي على خير يا ماما.
تابعته بنظرها بحزنٍ كامنٍ في قلبها حسرةً على ولدها وحالته التي لم تتغير بمرور الزمن ولا بنضجه، ولدها الصلب، الذي كبرَ قبل أوانه، وأصبح رجُلاً يُعتمد عليه رغم صِغر سنه، مازال محبوسًا في قفص الماضي، عنده يكن طفلاً صغيرًا بحاجة لرفيقة طفولته، تعترف أنها فشلت في جعله ينساها، تعترف أنها لم تفلح في أن تأخذ مكان طفلة كانت بالثامنة!.
التفت للجالس فوق كرسيه ببرود يتناول طعامه، غير مهتمًا بهمسهما، سألته بأعين دامعة رغم علمها الاجابة :
_ أنتَ بجد معرفتش طريق خديجة وأهلها؟
زفر باختناق قبل أن يضع ملعقته بحدة وهو يغمغم بنزق:
_ يووه بقى، هو مبقاش ورانا سيرة غيرهم! انا عندي سؤال هنفضل لحد امتى بنجري ورا شوية خدم؟ هيفضل المحروس ابنك لامتى بيدور عليها وبيدفع فلوس قد كده عشان اي معلومة عنها! دي بقالها سبع سنين غايرة من هنا، سبع سنين مش كفاية عشان ينساها!؟
هزت رأسها بيأس وقد تساقطت دموعها بعجز:
_ للأسف ولا سبع سنين كمان كفاية، كنت فاكرة زيك كده، كنت فاكرة ابنك هينسى بعد كام شهر ومش هيفتكر اسمها حتى، بس صدمني.. ابنك روحه متعلقه بيها مش قلبه بس، كل حاجه فيه متعلقه بيها، عمره ما هينساها ولو جه عُمر فوق عُمره.
نهض بعدما القى المحرمة القماشية بضيق:
_ هو حر بقى، خليه معذب نفسه وبيجري ورا سراب.
انهى حديثه منسحبًا من أمامها لتنظر لأثره بشك وهي تهمس بقلق:
_ ياخوفي تكون عارف مكانها وبتضلله، لو مراد اكتشف ده هتقوم حرب هتولع في البيت باللي فيه.
________________
عيناها.. عيناها بركة دماء، ملامحها باهتة، وجهها شاحب، ونظرها مسلط في اتجاه واحد كأنها فقدت الوعي!
اقتربت “فريال” وهي ترمقها بعيناها السوداء كعين المها، ورغم ارهاقها هي الأخرى إلا أن وجهها لم يفقد جماله ببشرتها القمحية الرائعة التي تنم عن فتاة عربية أصيلة، وشعرها الغجري الطويل لمنتصف ظهرها، جميلة هي للحد الذي يجذبك بجمالها الخاص، اقتربت بحزن على رفيقتها حتى جلست جوارها وهي تضع كفها على كتف الأخرى وقالت مغمغمة:
_ وحدي الله يا خديجة، وحدي الله ياخيتي، كفياكِ بكا عينك هتروح.
لم تتحرك “خديجة” أنشًا واحدًا وكأن “فريال” لم تجاورها أساسًا، تنهدت “فريال” بصبر وهي ترمقها بقلق من حالتها تلك، وحاولت جذب الحديث معها اكثر وهي تقول:
_ طب جومي، جومي صلي ركعتين لله واستغفري وادعيه يصبر جلبك، ويرحمها.
وهنا التفت بنظرها لها، تحركت حدقتيها تجاه “فريال” وهي ترميها بنظرة موجعة، قبل أن تقول بصوت مبحوح من كثرة صراخها منذُ ساعتان مضت:
_ يرحمها! جصدك يرحمني.
ربطت “فريال” على كتفها وهي تقول بحزن:
_ يرحم الكل يا جلبي، جومي يمكن نارك تهدى.
هزت “خديجة” رأسها بانهيار وهي تقول بصوتٍ باكٍ ارتفعت نبرته المختنقة:
_ نار! انا حاسه اني تايهة، مش فاهمة اي الي حُصل، ازاي! دي… دي كانت لسه بتتحدت (بتتكلم) ويانا وزينة، ايه الي حُصل عشان توجع مننا فجأة اكده!
صمتت لثواني وعيناها جاحظتان وكأنها تعيد الحديث برأسها، لتهز رأسها نافية بقوة وهي تقول بإنكار:
_ لا لا، محصلش حاچه، ده كابوس… ايوه كابوس وهفوج منه، مستحيل، هي زينة والله محصلش حاجة.
صرخت بالأخيرة وهي تنظر ل “فريال” بانفعال بالغ، لتهدئها الأخرى وهي تربط على كتفها بمواساة:
_ طب اهدي.. اهدي يا خديجة بالله عليكِ اكده هيجرالك حاجة.
لم تهتم “خديجة” لحديثها، ولكنها لفت رأسها ناظرة لباب غرفتها المفتوح حين استمعت خطوات تقترب منه، ثواني ووجدت “باهر” أمامها بقامته الطويلة وجسدة المتناسق كحال معظم شباب البلدة من كثرة أعمالهم الشاقة بالحقول حتى وإن كانوا ذو شهادات عُليا فالحقل بالنسبة لهم كالمنزل تمامًا لا غنى عنه، وما يفعلونه حبًا في أرضهم واعتزازًا بها أكثر من كونهم يستفيدون منها، “باهر” الملتحق بكلية الطب البشري الفرقة الخامسة، “باهر” رفيقها الذي كان عونًا لها منذُ استقرارها في البلدة، “باهر” الذي بات أقرب لها من “فريال” حتى، هو الوحيد الذي سيفهمها ويصدقها! لذا لم تتمهل في النهوض سريعًا مهرولة تجاهه حتى أصبحت أمامه وهي تقول بملامحها الباكية وتميل رأسها للجانب قليلاً كطفلة تحاول اقناع من أمامها:
_ باهر، جولها إن أمي كويسة، جولها إن محصلهاش حاجة وهتبجي زينة.. هي كانت بتتحدت (بتتكلم) ويانا ومفيهاش حاجة عِفشة، جولها يا باهر عشان ممصدجنيش.
“خديجة” سبع سنوات لم تكن هينة لتجعل لسانها يعتاد لهجتها الأم رغمًا عنها، ورغم هذا لم تنسى لهجتها القاهرية التي تشعر بأنها الشيء الوحيد الذي يربطها بذكرياتها وماضيها.
طالعها بأسف على حالها قبل أن يقترب خطوة واحدة مُمسكًا كفيها لأول مرة بحياته فلم يفعلها سابقًا لانه يعلم أنه لا يحق له فعلها، يعلم أن لا دينه ولا خُلقه يسمح له بلمسها حتى وإن كانت طفلة، ولكن ما هي فيهِ الآن لم يحتمله، لم يستطع أن يقف مكتوفي الأيدي هكذا.
نظر لعينيها بثبات واهٍ وهو يقول برفق:
_ خديجة، ممكن تهدي، استغفري ربنا وارضي بقضاءه، ادعي انه يربط على جلبك ويصبرك احسن من حالتك دي.
طالعته بعتاب وكأنه خذلها للتو وقالت بلوم:
_ حتى أنتَ مش مصدجني!
أصرَ على حديثه رغم أن نظرته آلمتها لكن المواجهة أفضل بكثير من حالة الانكار هذه:
_ خديجة، مرت عمي ربنا توفاها واسترد أمانته فيها، الدكتور جال أنها غيبوبة سكر شديدة وانتوا ع ما اتحركتوا ملحجهاش، أنتِ خابره انها عندها السكر من ياما، وكانت زينة وعايشة بيه، بس ده جدرها ومعادها، وحدي الله وادعيلها.
أمسك كفيها بقوة حين وجد جسدها ينسحب للأسفل لتسقط جالسة بوهن فوق الأرضية، واقتربت “فريال” سريعًا منها، تدعمها وهي تلتقف جسدها بين أحضانها، لتبدأ “خديجة” في النحيب بصوتٍ عالٍ ومظهرها أوجع قلوبهم، ظلت هكذا لدقائق حتى ارتفع صوت صرخاتها الهيستريا مرة أخرى وهي تغمغم من بينهم:
_لييييه… هملتيني ليييه ياما؟ .. هملتيني لمييييين؟ .. مش كفاية سارة.. أنتِ كمان! أنتِ كمان هملتيني لحالي.. آآآآآه.. يارب… يااارب أنا لسه صغيرة على الشيلة دي.. لسه صغيرة على الوجع ده كله، جلبي ممتحملش وجع تاني..
أخذت تضرب على صدرها بقوة في جملتها الأخيرة، لتحاول “فريال” الامساك بها باحكام وابعاد قبضتها عن صدرها إلا أنها كانت الاقوي مشحونة بطاقة حزنها وغضبها، ونهض “باهر” سريعًا راكضًا للخارج مقررًا جلب حقنة مهدأ لها، فإن ظلت هكذا حتمًا ستؤذي ذاتها..
_ كلهم هملوني يا فرياال.. كلهم.. محدش بجي معايا، محدش هعرف اشكيله همي ولا اميل عليه لما حملي يتجل.. حاسة بنار في صدري.. حاسة روحي بتتسحب مني يا فريال.
حاولت “فريال” الحديث لها بصعوبه من بين صرخات الأولى فرفعت صوتها وهي تقول بينما تمسك بجسدها بين ذراعيها:
_ اهدي يا خديجة، وحياة أغلى حاجة عندك اهدي، أنتِ تعبانة مش حِمل الي بتعمليه ده يا بت خالي، اهدي بجي لتجعي مننا أنتِ التانية.
عقبت “خديجة” على حديثها بنحيب:
_ياريت، مش انا تعبانة زي ما بتجولي، مش بتجولي الزعل غلط عليَّ هيعمل ايه؟ هيموتني! يارب.. يارب عشان ارتاح بجي من الغلب ده، بس متخافيش مش هموت، عارفة ليه.. عشان ربنا رايدني اتعذب، سايبني على الدنيا عشان اتعذب واكفر عن ذنبي ودي البداية بس.
بدت بعض الجمل غير مفهومة المعنى ل “فريال” لكنها اسندت الأمر أنه مجرد هرتله بالحديث غير مقصودة من سوء حالتها النفسية فلم تعقب وهي تردف:
_ حرام عليكِ، ايه الي بتجوليه ده يا خديجة، استغفري ربنا، ده الرسول صلى الله عليه وسلم جال “لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي” وجال برضو “لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون”، بلاش تدعي على نفسك حرام عليكِ.
ولكن “خديجة” لم يكن عقلها واعيًا لأيـًا من هذا الحديث الآن.
ظلت على حالتها حتى دلفت عمتها” سُمية” بوجهها الجامد وملامحها القاسية، الباردة، وهي تقول بضيق:
_ وه! ما كفياكِ نواح يابت محمود، هنجضي الليل كله صريخ ونواح اياك! جومي فزي خدي خيك في حضنك الواد مفزوع من الي بيحصل.
لم ترمي “خديجة” لحديثها بالاً ومن الواضح انها لم تسمعها حتى فأصبحت تتمتم بعدة كلمات غير مفهومة وعيناها شاردة في الفراغ، لتنوب “فريال” بالحديث عنها وهي تردف بضيق بالغ من قسوة والدتها:
_ حرام عليكِ ياما، أنتِ مش شايفة حالتها كيف، خيها ايه بس الي تاخده في حضنها دي محتاجة الي يواسيها!
نهرتها “سُمية” بشدة وهي تبرق لها عيناها:
_ حُرمت عليكِ عيشتك يا غراب البين أنتِ، هتناطحيني اياك! جومي فزي جامت جيامتك، بلا دلع ماسخ جاعده تواسيها يا عين امك.
_ دلع! دلع ايه ياعمة أنتِ مشيفاش حالتها! الي ماتت تبجي امها بردك راعي شعورها مش اكده!
قالها “باهر” بعدما عاد من الخارج وهو يتجاوزها ليرفع “خديجة” من فوق الأرضية بمساعدة “فريال”، لوت “سُمية” فمها بضيق وهمست بنزق:
_ ادي الي بيجلنا من البنات وخلفتها.
وتركت الغرفة عائدة للخارج.
انتهى من اعطائها المهدأ حتى أغلقت عيناها، فتنهد براحة وهو ينظر لحالتها المثيرة للشفقة بحزن جم، لم يراها هكذا من قبل، ورؤيتها تنهار توجع قلبه بشكل موحش، لكن ليس بيده ما يفعله، خبر وفاة والدتها كان فاجعة للكل وانقلبت حياتهم رأسًا على عقب، نظر ل”فريال” ليجدها تبكي في صمت، فزفر بضيق وهو يقول:
_ جرا ايه يا فريال! هنسكت واحده تطلع التانية!
رفعت عيناها الباكية له وهي تسأله باختناق:
_ سمعت الي عمتك جالته؟ شايف جسوة جلبها!
رفع جانب شفته العليا ساخرًا:
_ كأنك هتتجددي عليها!
نفت برأسها بحنق:
_ لأ، بس متخيلتش ان توصل بيها الجسوة للدرجادي.. عارف أما مش كارهه خديجة بالذات، هي كارهة البنات كلها بسببي.
يعلم صدق حديثها، ويحزنه حالها هي الأخرى ومعاناتها الدائمة مع والدتها، وشعورها الذي هي موقنة منه وهو أن والدتها لا تحبها، وما أقسى هذا الشعور، لكنه حاول ابعادها عن تفكيرها هذا وهو يقول:
_ متجوليش اكده، مفيش أم بتكره بتها.
ضحكت ضحكة موجعة وهي تردد ساخرةً:
_ تحب اجولك كام مرة دعت عليَّ، ولا اجولك كام مرة تجولي كان يوم اسود يوم ما جيتِ الدنيا، ولا اجولك أنها عمرها ما جالتلي كلمة حلوة.. اسكت يا باهر.. اسكت مادام مهتعرفش تكدب.
اخفض انظاره بحرج من كشفها له، فبالفعل لن يستطيع المراوغة في هذا الأمر او الكذب، لن يستطيع مواساتها حتى ولو بالحيلة، هز رأسه بإيجاب وهو يقول:
_ المهم، لما خديجة تفوج خليكِ جارها، متفارجيهاش واصل يا فريال، احنا رايحين ندفن ولو فاجت وملجتش امها في البيت حالتها ممكن تبجى اصعب.
اومأت “فريال” برأسها رغم قلقها وخوفها من لحظة افاقتها وتخشى ألا تستطيع السيطرة عليها، لكنها رددت باعتراض:
_ هو لازم تدفنوها دلوجتي؟ الدنيا ليل، ماتصبروا للصبح.
هز رأسه مستنكرًا:
_ هتفرج ايه ليل من نهار! بلاش جهل يا فريال، يلا هروح انا واول ما الدفنة تخلص هاجي طوالي عشانها.
اومأت برأسها موافقة، ليذهب هو خارجًا كي يلحق بصلاة جنازتها، وبقت “فريال” تجاورها ببكاء أحيانُا على حالة رفيقتها وأحيانًا على حالها هي وما تعانيه من أم عُجنت القسوة بدمائها.
__________________
منذُ صعد من أسفل وأول شيء فعله أن تخلص من قميصه وحذائه وأي شيء شعر أنه يزيد اختناقه، حتى انتهى بهِ الحال بنصف علوي عارٍ والنصف السفلي يستره ثوبه الداخلي فقط، ورغم هذا لم يقل الاختناق ولا الثقل الهائل الذي يشعر بهِ يجثم فوق صدره تزحزح أنشًا، ساعتان مروا وهو يجلس فوق فراشه برأس منحنية تطالع الفراغ في الأرضية، وكتفان متهدلان بيأس، عقله يتسائل متى سيُكتب لقلبه الراحة؟ متى ستُرد له روحه؟ متى ستُكلل محاولاته في البحث عنها بالنجاح؟ لقد صبرَ وطال صبره حتى ضاق بهِ الخناق، يشهد الله أنه لم ييأس يومًا من لقياها ولكن الأمر يرهقه ويؤلم قلبه حد الجحيم.
دقة مميزة برنين خافت أُصدر من ساعة يده، ليرفع رأسه مبتسمًا بحب، وكأنه تبدل وأصبح شخصًا آخر، عيناه اللامعة بتلك اللمعة المميزة، وملامحه التي سكنت فجأة، كل هذا جعله يبدو شخصًا آخر.. نهض متحركًا تجاه خزانته والتقط كنزة صيفية بنصف اكمام سوداء ضيقة قليلاً ابرزته عضلاته لحد ما، وارتدى سروال قطني رمادي اللون، واتجه للحمام وغسل وجهه بالماء جيدًا يزيل أثر الارهاق، ومن ثم خرج واقفًا أمام المرآة معدلاً خصلاته كأنه على موعد لمقابلة شخصًا هامًا، بعدة تحركات وترتيبات في الغرفة فعلها حتى أصبح الشكل كالتالي كما أراد.. كرسي أنيق وضعه أمام النافذة من الداخل، لتكن النافذة خلفيته وبالتالي ما يطل عليها ك “غرفتها” القديمة مثلاً!، وأمام الكرسي ثبتَ كاميرا على حامل لها، وغاب لثواني حتى أتى بحقيبة متوسطة الحجم، أدار الكاميرا واتجه للجلوس فوق الكرسي والحقيبة وضعها على فخذيهِ، تنهيدة عميقة.. فابتسامة هادئة.. فنظرة خاصة كأنه يرى من يحدثه أمامه، ثم بدأ في الحديث:
_ كل سنة وأنتِ طيبة يا ديجا، النهاردة عيد ميلادك ال ١٥، وعيد ميلادك الخامس الي اسجلك فيه فيديو، كانت امنيتي السنة الي فاتت في اخر الفيديو إن السنة الجاية اكون بعايدك وأنتِ قدامي ومحتاجش للكاميرا تاني، بس للأسف المرة دي كمان أمنيتي متحققتش..
أخفض نظره لوهلة يستعيد فيها نفسه، لا يريد أن يظهر حزنه لها حين تشاهد هذه الفيديوهات مستقبلاً، رفع رأسه وهو يكمل بيقين داخلي:
_ بس مش مهم.. صبرت وهصبر، وعارف إن هييجي يوم احتفل بعيد ميلادك معاكِ وافرجك كل الفيديوهات دي، ومستني اليوم ده بفارغ الصبر، وحشتيني..
تنهيدة عميقة صدرت منه وغامت عيناه بالمشاعر وهو يكمل:
– وحشتيني اكتر من اي حاجة في دنيتي، وحشتيني لدرجة إني مش متخيل لما اشوفك هشبع اشتياقي ده ازاي، بحاول اتخيل شكلك وبتخيله بس بحس انه هيبقى بعيد عن الحقيقة، مش عارف… بابا وماما مستغربين إني لسه فاكرك وبدور عليكِ، ميعرفوش إني قطعت وعد لنفسي إني هفضل ادور عليكِ لآخر نفس فيَّ، ويا الاقيكِ الأول يا روحي تطلع الأول.. كان نفسي تكوني معايا كل السنين الي فاتت دي ونكبر سوا ومتغبيش عن عيني لحظة، عارف إنك محتجاني زي مانا محتاجك بالضبط، عارف إنك اكيد مفتقداني، ثقتي في البنوتة الي ربتها مخلياني عارف إنك مش هتنسيني حتى لو كان سنك صغير وقتها….
التقط انفاسه وعاد يقول بألم ظهر بحدقتيهِ:
_ المشكلة.. المشكلة إني مش جنبك يا خديجة، المشكلة إني حاسس بوجع في قلبي بيقولي إنك مش كويسة وعاجز.. عاجز لأني معرفش مكانك، مش عارفه اعمل ايه، احساس العجز مموتني خصوصًا والموضوع يخصك أنتِ، نفسي اطمن عليكِ واطمن قلبي بس مش عارف، الوجع الي حسيت بيه النهاردة انا عارفه كويس مبحسش بيه غير لما يكون فيكِ حاجة، وللاسف دي تالت مرة أحس بيه وأنتِ بعيدة عني.. اتمنى إنك تكوني بخير يا ضيّ.
ابتسم بفاكهة طفيفة وهو يكمل:
_ مش هقولك سر اسم ضيّ الي بقولهولك من اول فيديو ده، مش هقولك السر غير لما تكوني قدامي.
فتح الحقيبة وأخرج ما بها ليقول بابتسامة متحمسة:
_ الحقيقة هديتك السنة دي حيرتني اوي، عشان عارف إنك بقيتِ أنسة ويمكن اهتماماتك اتغيرت عن السنين الي فاتت.. مش عارف، بس جبتلك الشنطة دي، والفستان ده اول ما شوفته حسيت إني شايفك فيه رغم إني معرفش مقاسك ولاشكل جسمك بس واثق أنه هيجنن عليكِ…
أخرج الفستان يعرضه أمام الكاميرا، وقد كان ذو لون وردي هادئ بتصميم بسيط يصل لبعد الركبة بقليل و بأكمام، صدره يضيق لينزل باتساع قليلاً، وله حزام في المنتصف رُصع بالماس الذي زين نهاية الأكمام أيضًا، وقماش الفستان بهِ بعض التطريزات اليدوية وقد أُدخل فيهِ النقوش الهادئة والتي كانت تشير لرسومات فراشية الشكل، أما الحقيبة كانت بيضاء من الجلد الطبيعي ورغم حجمها الصغير إلا أنها بدت رائعة خاصًة وقد زًينت في منتصفها باسمها (Deja) مُرصعًا باللولي المضيئ فأعطاها مظهر أنيق.
أعادهم للحقيبة وهو يقول بابتسامة بدت باهتة كعادته في نهاية كل فيديو:
_ اتمنى يعجبوكي.. واتمنى السنة الجاية اكون بعرض الهدايا قدامك وبحتفل بعيد ميلادك ال١٦ معاكِ وعيني تشبع منك، رغم إن عمرها ما هتشبع.. وحشتيني يا ضيّ.. وفراقك كاسرني.
قال الأخيرة وقد اختنقت نبرته ولمعت حدقتيهِ بدموع تجاهد لعدم الظهور، فنهض مغلقًا الكاميرا ووضع الحقيبة بجوار الخمس حقائب الأخريات في خزانته، وأغلق عليهما متجهًا لفراشه راميًا بثقله عليهِ وعيناه ناظرة للسقف بشرود مؤلم.
————-
حركت رأسها بانزعاج، تشعر بذاتها مكبلة ولا تعلم لِمَ او ماذا يحدث معها، افترقت شفتيها لتنطق اسمًا لم تنطقه منذُ سنوات ولكنها شعرت بروحه تطوف حولها! ومن بين يقظتها وغفلتها كانت تردد بوهن:
_ مـــــــراد!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بك أحيا)