روايات

رواية امرأة العقاب الفصل الأول 1 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب الفصل الأول 1 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب البارت الأول

رواية امرأة العقاب الجزء الأول

رواية امرأة العقاب الحلقة الأولى

دقائق طويلة قاربت على النصف ساعة وهي تقف بشرفة المنزل ، تستند بمرفقيها على سور الشرفة ، وعيناها معلقة على بوابة المنزل الكبيرة منتظرة على أحر من الجمر وصول والدها ، لقد طال غيابه هذه المرة عنهم ولم تراه منذ اسبوعين .. وعندما علمت من أمها أن اليوم هو يوم عودته قفزت فرحًا وسعادة وأخذت تجهز كل ما ستخبره به من أحداث حدثت طوال الفترة الماضية ، تخرج الألعاب الجديدة التي قامت بشرائها حتى تريه إياها عندما يعود ورسوماتها الطفولية التي قامت برسمها بألوان مختلفة وجميلة اهداهم إليها عمها ! .
وأخيرًا ها هي سيارته الفخمة تعبر البوابة الحديدية ، وثبت من مكانها بفرحة ودخلت إلى المنزل تصرخ بطفولية متجهة نحو الباب حتى تخرج له :
_ بابا جه .. بابا جه
لم تبالي لتنبيهات أمها الصارمة بأن تهدأ من ركضها حتى لا تسقط .. فتحت باب المنزل ورأته وهو يتجه نحوها وابتسامة مشرقة وعريضة تعلو وجهه بعدما نزل من سيارته ، ركضت نحوه وارتمت بين ذراعيه ليحملها هو ويدور بها ويمطرها بوابل من قبلاته المشتاقة هامسًا :
_ وحشتيني أوي ياهنايا
إجابته بصوت طفولي سعيد به بعض الكلمات الغير مترتبة :
_ وأنت كمان شوحتني يا بابا !!
قهقه عاليًا ثم انحنى عليها يطبع قبلاته الحانية على وجنتيها ليشبع شوقه منها بينما هي فقالت بطفولية :
_ تعالي هوريك حجات حلوة اشتريتها
حملها على ذراعيه واستقام واقفًا وهو يتجه بها إلى داخل المنزل متمتمًا بصدمة مازحًا :
_ اشتريتي حجات حلوة من غيري .. لا كدا أنا زعلت منك يا هنا
انحنت على وجنته وطبعت قبلة لطيفة متمتمة برقة :
_ لا متزعلش عشان خاطري مش هشتري حاجة تاني من غيرك يابابا
دفن وجهه بين رقبتها يدغدغها بفمه ويقول بمشاكسة وضحك :
_ حبيبة قلب بابا
تعالت ضحكاتها وهي تحاول الإفلات من بين مشاكسة أبيها لها ولكن باتت محاولاتها كلها بالفشل .
فاق من شروده على صوت زوجته الأولى وهي تتمتم باستغراب :
_ عدنان أنا ليا ساعة بكلمك وأنت مش معايا خالص !!
تنهد الصعداء بحنق وتمتم بعبوس :
_ معلش يافريدة سرحت شوية
لوت فمها بغيظ وهتفت :
_ في جلنار مش كدا !
ظهرت الحدة على محياه بمجرد ذكرها لاسم زوجته الثانية وهتف بغضب :
_ لا في بنتي يافريدة اللي هتجن وأعرف خدتها وهربت بيها على فين
تأففت ووقفت ثم اقتربت منه وجلست بجواره على الأريكة تملس على شعره بحنو متمتمه بحب :
_ بنتك هتلاقيها ياحبيبي متقلقش
ثم استكملت بنظرات نارية وشيطانية :
_ بس الأهم إنك متسيبش الهانم من غير عقاب على عملتها دي ، الله اعلم خدت بنتك وهربت مع مين !
رمقها بنظرة مرعبة فهمت أنها حصلت على مبتغاها تمامًا وهو إشعال النيران في صدره حتى لا تتسنى لجلنار فرصة في الدفاع عن نفسها عندما يجدها ! .
                                  ***
بمكان آخر داخل أحد المنازل المتوسطة في ولاية كاليفورنيا بأمريكا الشمالية …
انتهت من حمامها الصباحي الدافئ وخرجت ثم وقفت أمام المرآة تسرح شعرها وتجففه ، كانت تملك عينان بندقية ساحرة وشعر أسود طويل وملامح وجه رقيقة وصغيرة لا تناسب أم أبدًا بل فتاة مراهقة مازالت في سنها الثامن عشر ، حتى جسدها الممشوق والمثير يعطيها لمسة أنوثية مذهلة .
رغم مرور أربع سنوات على زواجها ولكنها لا تزال محتفظة بنضارتها وجمالها ، لم تترك الهموم والحزن يؤثر عليها ويغير من طبيعتها ووجهها ، وقفت صامدة أمام أقوى الظروف ولا تزال بقوتها .. لم يكن بالنسبة لها زواج بالمعنى الحقيقي ، بل هو صفقة عمل كما وصفها أبيها ” نشأت الرازي ” رجل الأعمال المشهور والكبير عندما تسنت له الفرصة حتى يحافظ على علاقاته العملية وصفقاته وأمواله مع إمبراطورية الشافعي الضخمة لم يتركها تضيع هباء .. وكانت موافقتها على الزواج من عدنان الشافعي أحد نجاح مخططاته في الوصول لمستوى مرموق وأكبر يرضي به اهوائه وجشعه ، أجبرها على الموافقة من رجل متزوج ويرغب في الزواج مرة أخرى حتى يحصل على الطفل الذي لم يحصل عليه من زوجته الأولى ، وكانت هي الوسيلة لحصوله على الطفل وحتى الآن هي بالنسبة له ليست سوى آلة تزوجها للإنجاب فقط ، ووالدها يرضى بهذه الوضع المهين الذى وضعها به ولكن السجينة خرجت عن طوع سجانها بعدما طفح كيلها وقررت أن تعلن تمردها ولا تقبل بالإهانة ! .
جلنار الرازي .. المرأة صاحبة الجمال الصارخ كما وصفها بعض الرجال ، ترعرعت ونشأت في بلاد الغرب حتى أصبحت تأخذ من طباعهم وحتى جمالها يقارب لجمالهم المثير ، طالما وصفتها قريناتها من النساء بصاحبة الأنف  المرتفع ! .. أي المتعجرفة .
انتهت من ارتداء ملابسها وهتفت بصوت مرتفع بعض الشيء :
_ هنا تعالي يلا ياحبيبتي عشان تلبسي
ركضت الصغيرة نحو والدتها وكانت هي قد ارتدت ملابسها كاملة معادا حذائها فقالت جلنار بضحكة مندهشة :
_ إنتي لبستي وحدك شطورة ياحبيبتي
جلست الصغيرة على المقعد وبدأت في ارتداء حذائها وأمها تساعدها في ارتدائه بشكل صحيح ، لكنها تصلبت بأرضها عندما سمعت سؤال صغيرتها وعيناها حزينة تقول :
_ هو إمتى بابا هياجي يامامي ، وحشني أوي
ثبتت نظرها على ابنتها وتنهدت الصعداء بخنق ثم مدت يدها وملست على شعرها مغمغمه بوداعة :
_ بابا مش هياجي دلوقتي يا هنا
ما يقارب الشهرين وهي كلما تسأل والدتها عن أبيها تجيبها بإجابات غامضة وناقصة هكذا لا تفهمها ، وكأنها بدل أن تجيب تطرح عليها الأسئلة ! .
زمت هنا شفتيها للأمام بيأس وقالت :
_ طيب ليه مش بيكلمنا ؟!
ليتها تستطيع الإجابة .. ليتها تتمكن من العودة له لأجل طفلتهم فقط ، ولكن ارتيعادها يزداد كلما تتذكر عزمه على أن يأخذ ابنتها منها فور طلاقهم ، مما دفعها للهروب بها ! .
ابتلعت جلنار ريقها وقالت بإيجاز وهي تهب واقفة :
_ يلا بينا اونكل حاتم مستنينا تحت ، كدا هنتأخر عليه
استقامت هنا واقفة وسارت مع أمها إلى الخارج وعلى ملامحها العبوس والحزن لا ترفع نظرها عن الأرض ، خرجت واستقبلت حاتم الذي كان بانتظارهم ، لفت نظرها الصغيرة التي لم تلقي عليه التحية بحرارة وتعانقه بسعادة ككل مرة ، بل اتجهت إلى السيارة واستقلت بالمقعد الخلفي بمكانها دون أن تنتطق وكانت معالم وجهها الحزينة تحكي بدلًا عنها .
نظر إلى جلنار وهز رأسه باستغراب بمعنى ” ماذا بها ؟! ” لتتنهد الأخرى بضيق وتهز كتفيها لأعلى بعدم حيلة فيفهم فورًا السبب ويقول بخشونة :
_ عدنان مش كدا !!
_ ايوة مبقتش عارفة اقولها إيه تاني ياحاتم بتسأل علي باباها كل يوم وأنا زهقت .. ومقدرش اخليها تكلمه كمان ، أنا خايفة يلاقينا وياخدها مني ياحاتم .. خايفة أوي مش هقدر اعيش من غيرها
رأى الدموع المتجمعة في عيناها الجميلة ونبرتها العاجزة آثرت قلبه فلم يتمكن من الصمود أمامها حيث لف ذراعيه حولها يضمها لصدره متمتمًا بصوت رخيم ويداه تملس على شعرها :
_ متخافيش أنا معاكي ومش هيقدر ياخدها منك
 سكنت بين ذراعيه للحظات قصيرة لكن عصفت بذهنها صورة عدنان وأدركت الوضع الذي يحدث الآن فابتعدت عن حاتم بهدوء وجففت دموعها تقول بجدية بسيطة :
_ يلا عشان منتأخرش على الشغل
أجابها مازحًا وهو يتجه نحو السيارة :
_ نتأخر إيه بقى ما انتي مع المدير نفسه وبياجي وياخدك كمان
سارت خلفه وهي تطرح عليه سؤالها بالإنجليزية وبنظرات ماكرة :
_ what do you mean ? . ( !ماذا تقصد ؟ )
تمتم يرد عليها بضحكة بسيطة :
_ nothing babe ( لا شيء يا عزيزتي )
استقلت بجواره في المقعد الأمامي بالسيارة والقت نظرة على ابنتها التي تنظر من النافذة بسكون تام دون أي حركة ، فتصدر زفيرًا حارًا في بؤس وتتابع الطريق من أمامها .
                                   ***
يمسك بيده فرشاة ويجلس على مقعد خشبي طويل مخصص للرسم ، وأمامه لوحته المميزة التي يعمل عليها منذ أيام طويلة بإتقان وتركيز حتى يكون الشكل النهائي لها مذهل كباقي أعماله الفنية ، كرس حياته منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة لممارسة هوايته المفضلة وهي الرسم ، حتى أنه افتتح معرضه الفني الخاص به والذي يأتي إليه الناس من مختلف الأماكن حتى يقتنوا لوحاته المذهلة ، بعدما تمكن وبفترة قصيرة أن يصنع اسمه في المجال الفني ويتصدر الصدارة .
آدم الشافعي .. الشاب اليافع الذي يبلغ من العمر خمسة وعشرون عامًا ، كانت تتسابق الفتيات في جامعته على التقرب منه ليس لجمال مظهره وشكله فقط ، بل حتى لثقافته ولطفه مع الجميع وموهبته الفريدة .. لكنه لم يكن من هواة النساء والتسكع .. الأمر الذي جعلهم ينفرون منه بالنهاية بعدما يأسوا من محاولاتهم الفاشلة معه ! .
طرقت الباب عدة طرقات صغيرة قبل أن تفتحه وتدخل لتتسع على شفتيها ابتسامة عريضة .. ثم اقتربت ووقفت خلف أبنها تطالع لوحته التي لم تكتمل بعد بإعجاب شديد ، بينما هو فالتفت برأسه نحوها يحدقها بثغر مبتسم ليخرج همسها أخيرًا :
_ إنت مش ناوي تخلصها ولا إيه ياحبيبي ، أنا متشوقة جدًا اشوفها بعد ما تكمل
_ هانت خلاص ياماما فاصل فيها شوية لمسات صغيرة وتبقى انتهت تمامًا .. بس إيه رأيك فيها ؟
أجابته بانبهار بعدما أعادت النظر فيها من جديد تتفحص تفاصيلها الدقيقة والمذهلة :
_ جميلة أوي يا آدم .. قولي بقى هو إمتى هيكون افتتاح المعرض
تمتم وهو يمسك بالفرشاة من جديد ويستكمل ما توقف عنده قبل دخولها :
_ خلال الاسبوعين الجايين إن شاء الله
انحنت وطبعت قبلة على شعره ثم هتفت بحنو :
_ ربنا يوفقك ياحبيبي .. أنا هروح اعملك فنجان قهوة من اللي بتحبه عشان تعرف تبدع كدا يافنان
قهقه بخفة وأجابها وهو يغمز لها بمداعبة :
_ ربنا يخليكي ليا ياسمسم يافهماني إنتي
بادلته الضحك وهي تتجه نحو الباب لتنصرف وتتركه يستأنف عمله .
أسمهان الشافعي .. والدة عدنان وآدم ، تبلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا ، رغم تقدمها في السن إلا أنها لا تزال بكامل صحتها وجمالها .. عرفت بالمرأة المتسلطة والصارمة ، لديها من النرجسية ما يكفي لجعل الكثير يبغضها ويبتعد عنها ، ولديها طبع حاد لا يتحمله أحد خصوصًا مع من تكرهه ، لكنها تكون بكامل حنانها ولطافتها مع أولادها وربما بعض الشيء مع زوجة ابنها ( فريدة ) ، نظرًا لأن علاقتهم جيدة وأشبه بالأصدقاء لكن جلنار لم تحصل منها سوى على الكره والمكائد والنفور لأنها لم تكن موافقة على هذا الزواج منذ البداية .
                                   ***
بولاية كاليفورنيا ….
تجلس بمكتبها على الأريكة الصغيرة وبيدها كوب القهوة الخاص بها تحتسيه بهدوء وعقلها مشغول بالتفكير في زوجها ، بالتأكيد أنه لم يترك مكان إلا وبحث فيه عنهم ، ولابد أنه الآن يعاني أشد العناء من فراق ابنته ويتوعد لها بعقاب عسير عندما يجدها .
قذفت بذهنها ذكرى مأسوية لهم من شجارتهم الدائمة وكانت هذه هي آخر مشاجرة بينهم قبل أن تأخذ ابنتها وتذهب لأمريكا .
_ عايزة أطلق يا عدنان !
كانت جملة صريحة منها تحمل الغضب والانفعال بينما هو فأجابها بكامل هدوئه دون أن يعير انفعالها أي اهتمام :
_ واحنا اتكلمنا في الموضوع ده ميت مرة ياجلنار وكان ردي واضح
صاحت به بنبرة مرتفعة وسخط :
_ نتكلم تاني وتالت وعاشر وللمرة المليون كمان .. لغاية ما تفهم إني مبقتش عايزاك خلاص وعايزة أطلق
جز على أسنانه بغيظ فقد بدأ الغضب يستحوذ عليه هو الآخر حيث صرخ بها بصوته الجهوري :
_ وعايزة تتطلقي ليه .. ما إنتي عايشة ملكة وكل اللي بتعوزيه بيكون عندك
_ عشان أنا مش هقبل أكون على الرف تاني كفاية أوي اربع سنين عشتهم معاك وأنا بتعذب من عدم اهتمامك بيا وكأني نكرة مش موجودة .. أنت حياتك كلها عبارة عن أسمهان هانم وشغلك وأخوك وبنتك وطبعًا من هننسى فريدة هانم دي أهم حاجة ، وجلنار ملهاش أي جزء من حياتك ، ومتحاولش تقول أي حاجة لإني عارفة كويس اوي إنك عمرك ما حبتني ولا هتحبني ، أنت قلبك وعقلك مستحوذة عليه مراتك وأنا مليش مكان فيه
بقى صامتًا يستمع لحديثها كامل حتى انتهت فيجيبها بعند :
_ مش هطلقك غير بمزاجي ياجلنار متتعبيش نفسك
ثم تركها واتجه نحو الباب فركضت هي خلفه وامسكت بذراعه ترغمه على الوقوف وتهتف بإصرار :
_ هتطلقني ياعدنان غصب عنك فاهم ولا لا
حدقها بصمت لثواني معدودة ثم نفض يدها عن ذراعه وأكمل طريقه نحو باب المنزل لينصرف ، لكنه توقف عند الباب لدقيقتين تقريبًا ثم التفت برأسه نحوها وكأنه تحول مائة وثمانون درجة حيث تمتم بجمود مزيف :
_ تمام طالما دي رغبتك ومصرة عليها يبقى تستحملي النتائج ، هطلقك ياجلنار موافق
ألقى بجملته النارية عليها وانصرف ليتركها تتطرح الأسئلة عن معنى كلماته وماهي النتائج التي يقصدها ؟ ، ولم تحصل على إجابتها إلا عندما عرفت بمخططه هو وأبيها ! .
أفاقت من ذكرياتها عندما أحست بالماء الدافئة التي تجري على وجنتيها ، فمدت أناملها وجففتهم بسرعة وهي   تهمس بصوت مسموع :
_ مس هسمحلك تاخد بنتي مني ياعدنان
                                   ***
عودة إلى القاهرة ….
وصلت إلى منزل خالتها ووقفت بالحديقة تتطلع لأعلى تحديدًا لنافذة غرفته ، فرأت ظلًا يتحرك في الغرفة  ، عرفت فورًا أنه بالمنزل .. أخذت نفسًا عميقًا وقالت بارتباك :
_ أهدى خالص يازينة مش هتتوتري زي كل مرة فاهمة ولا لا ، اتصرفي بطبيعية جدًا .. ده آدم يعني مش حد غريب !
قادت خطواتها المرتبكة إلى الداخل ، فقد حدثتها خالتها بالهاتف وطلبت منها أن تأتي إليها حتى تتحدث معها تحت مسمى الشوق ، وأنها اشتاقت لها .
وقفت أمام الباب ورفعت يدها حتى تطرق على الباب ولكن دهشت بأسمهان التي فتحت لها قبل أن تطرق حتى ، ضيقت زينة عيناها باستغراب من أفعال خالتها الغريبة ، وباللحظة التالية فورًا كانت أسمهان تضمها معانقة إياها بحرارة وهي تتمتم بحب :
_ عاملة إيه ياوزة وحشتيني يابنت !
خرجت من حالتها المتعجبة ليتمكن منها الغضب وهي تهتف محتجة :
_ وبعدين ياخالتو كام مرة هقولك متقوليش الاسم المستفز ده .. إيه وزة ده كمان !!
قهقهت أسمهان بملأ شدقيها ثم دفعتها للداخل وأغلقت الباب وهي تهتف :
_ طيب ادخلي يلا
دارت زينة بنظرها في أرجاء المنزل وكأنها تتأكد من عدم وجوده ثم تنهدت بارتياح وسألت بريبة :
_ هو في حاجة ياخالتو ولا إيه ؟!
جذبتها من ذراعها واجلستها على الأريكة أمامها ثم همست بصوت منخفض :
_ آدم بيجهز في المعرض
سرت برودة في جسدها بمجرد سماعها لاسمه وبدأ قلبها ينبض كالمطرقة ، ثم أجابت على خالتها بصوت مرتبك :
_ بجد .. أنا كنت فاكرة أنه لسا فاضل وقت عليه
_ اتلحلحي كدا وروحي ساعديه واقفي معاه .. قربي منه واتكلموا مع بعض
اتسعت عيناها وأشارت بسابتها على نفسها تهتف مندهشة :
_ أنا !!!
لكزتها أسمهان في كتفها ثم استكملت همسها وهي تغمز لها بمكر :
_ أيوة إنتي ، هتعملي نفسك مش فهماني
_ أحم .. إنتي فاهمة غلط يا أسمهان هانم على فكرة ، الموضوع مش كدا خالص
كادت أن تجيبها ولكن صوت آدم الذي كان ينزل الدرج جعلها تبتلع جملتها في جوفها ، حيث كان يهتف بعذوبة :
_ إيه ده وزة بنفسها عندنا !
ظلت تحدق بها بهيام وهي مبتسمة وهمست لنفسها بصوت غير مسموع بعدما سمعته يقول لها بنفس الاسم الذي سمعته من خالتها للتو :
_ لا إنت تقول اللي عايزه براحتك !
وصل لها أخيرًا ومد يده وهو يقول بابتسامته المذهلة :
_ عاملة إيه يازينة ؟
توترت وتزايدت نبضات قلبها حتى أحست أنه يسمعها ، كانت قد عزمت على أنها لن تتوتر عندما تراه ولكن سرعان ما فعلت العكس ! .
مدت يدها بعد ثواني مرت كالسنين بالنسبة لها وصافحته بخجل مفرط تجيب عليه بصوت متلعثم :
_الحمدلله كـ..ويسة
قررت أسمهان أن تنقذ ابنة اختها من الوضع المرهق للأعصاب التي هي فيه حيث ثبتت نظرها على ملابس ابنها وسألت :
_ إنت خارج ولا إيه يا آدم ؟
قال بإيجاب :
_ آه ورايا كام مشوار كدا هخلصهم وبعدين هروح الشركة عند عدنان
_ طيب ياحبيبي خلي بالك من نفسك
اكتفى بابتسامته ثم نظر لزينة مرة أخرى وقال بلطافة مألوفة عليه :
_ عايزة حاجة يازينة ؟
كلما يوجه لها الحديث يعود توترها وارتباكها ليصبح الضعف وتسير رعشة في جسدها ، حتى أن وجنتيها تصعد الحمرة إليهم ، أبت الرد عليه حتى لا تتفوه بحماقات وسط تعلثمها وخجلها واكتفت بهز رأسها بالنفي وهي ترسم على شفتيها ابتسامة مرتبكة .
                                       ***
_ يعني إيه مطلعتش هيا !!
كانت صيحة عنيفة انطلقت منه فأجابه الطرف الآخر هاتفيًا :
_ ياعدنان بيه حصل لبس في الأسماء مش أكتر واختلط علينا الأسم ، لكن اسم زوجة حضرتك مش موجودة في سجلات المطار نهائي ، والمعلومات اللي وصلت لحضرتك عن الاسم كان خطأ وتشابه اسماء في الاسم الأول فقط
لم يتمكن من الرد عليه أو حتى تكملة المكالمة حيث ألقى بالهاتف على الأريكة وهو يخرج من بين شفتيه سباب لاعنة وألفاظ نابية على الجميع  ، شهرين كاملين وهو يبحث عن زوجته وابنته ولا أثر لهم وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم ، لم يعد يحتمل التوتر والخوف أكثر من ذلك .. قلبه يعتصر ألمًا وشوقًا لابنته يخشى أن يصيبها مكروه ، وعقله لا يتوقف عن بث الأفكار السيئة في ذهنه حول هروب زوجته مع رجل آخر وأخذها لصغيرته معها .. كلما تقذف هذه الأفكار في عقله يشعر وكأنه على وشك أن يتحول لبركان سيقضى على الأخضر واليابس .
جذبه من موجة غضبه العاتية طرق الباب ودخول نشأت الرازي ، طالعه عدنان مبتسم بعدوانية وقال بنظرة مريبة :
_ أهلًا يا نشأت بيه .. ولا اقولك ياحمايا .. نورت المكتب والله ، لا ده الشركة كلها نورت
هتف نشأت بحزم :
_ بلاش الاسلوب ده ياعدنان .. أنا جاي اسألك لو عرفت حاجة عن جلنار أنا دورت في كل مكان ومفيش أثر ليها
ضحك عدنان وأجابه باستهزاء وأعين ثاقبة :
_ أشك إنك دورت أصلًا عليها
استشاط نشأت غيظًا وهتف بتحذير :
_ متنساش إنها بنتي كمان .. وأكيد هبقى خايف عليها زيك واكتر
هتف عدنان بوجه جامد خالي من المشاعر وبنبرة غليظة :
_ ومين قالك إني خايف عليها أساسًا .. أنا كل اللي يهمني بنتي ، أما بنتك فحسابها هيكون عسير أوي معايا لما الاقيها
اندفع نحوه نشأت ورفع سبابته في وجهه يقول بنبرة منذرة لأول مرة تكون حقيقية ويرى الغضب ومشاعر الأبوة الحقيقية في عيناه :
_ احنا اتفاقنا كان إنك هتطلق بنتي زي ما هيا عايزة وهتاخد بنتك ، لكن لو إيدك لمست شعرة واحدة منها هوديك ورا الشمس ياعدنان
خرجت ضحكة عالية من عدنان كانت تحمل السخرية والشر ثم أجابه من بين ضحكه :
_ إيه مشاعر الأبوة الجديدة دي اللي ظهرت عليك مرة واحدة مش هي دي برضوا بنتك اللي ما صدقت تجوزها ليا لما لقيت أن هيكون في مصلحة حلوة ليك من ورا الجوازة دي .. دلوقتي جاي بتهددني وإني مقربش منها .. ثم إن اتفاقنا ده كان قبل ما الهانم بنتك تاخد بنتي وتهرب بيها ، ونصيحة مني واحد زيك ميحقلهوش أنه يهددني أصلًا لأن انا اللي اقدر اوديك ورا الشمس بحركة واحدة مني
لم ينكر نشأت أن شعور الخوف بداخله بدأ يتفاقم من تهديد عدنان له بالأخص وهو يعرف أنه يعي تمامًا ما قاله وأنه بإمكانه بالفعل أن يطيح به إلى الهاوية ، لكن أبى أن يظهر له مشاعر التوتر التي تملكته واكتفى بنظراته النارية له وجملته قبل أن يستدير وينصرف :
_ أنا قولت اللي عندي ياعدنان
                                    ***
في أمريكا ….
توقفت سيارته أمام المنزل ، ثم نظرت جلنار إلى ابنتها النائمة في المقعد الخلفي وظهر الحزن على محياها ، فشعرت بكف حاتم وهو يملس على ظهر كفها متمتمًا بنظرة ذات معنى :
_ متقلقيش لما تصحى هتبقى كويسة ، طبيعي تزعل بالشكل ده خصوصًا إنها متعلقة بأبوها جدًا
اعتدلت في جلستها وزمت شفتيها للأمام بعبوس وغمغمت :
_ أحيانًا لما بقعد مع نفسي ، بفكر وأقول هو أنا غلطت لما اخدتها وهربت بيها وحرمته منها رغم إني عارفة أن روحه فيها وأكيد هو حاليًا بيتعذب عذاب بشع من كتر خوفه وشوقه عليها ، وفي نفس الوقت برجع وبقول ما هو كمان كان هيحرمني منها ومهمتش بيا ولا أني ازاي هقدر أعيش من غيرها
 أجابها حاتم بنظرات حازمة :
_ مش هيفرق دلوقتي اللي حصل ده كان غلط أو صح ، أهم حاجة إنك مسكتيش عن اللي بيحصلك وطلبتي الطلاق واصريتي عليه ، واحد زي عدنان ميستهلكيش ولا يستاهل بنته حتى
بدت على ملامحها الاستياء من آخر جملة تفوه بها وقالت بحدة :
_ حاتم أنا مطلبتش الطلاق بسبب أن عدنان وحش .. هو عمره ما كان بني آدم مش كويس معايا ، أنا طلبت الطلاق ليه لأني مستحملتش أكون مهملة بالشكل ده اكتر من كدا
حاتم بعصبية شديدة :
_ ولما هو مش وحش اتفق مع ابوكي أنه يطلقك وياخد بنتك منك ليه ياجلنار .. فوقي وفتحي عينك ، شكله قلبك لسا متعلق بيه رغم كل اللي عمله وبيعمله معاكي
_ أنت عارف كويس أوي ياحاتم أني مبحبش عدنان فبلاش تتكلم بالأسلوب ده معايا
ابتسم بغضب واجابها باستنكار :
_ آه فعلًا واضح جدًا إنك مش بتحبيه وخصوصًا وإنتي بتدافعي عنه قدامي
انفعلت بشدة وظهر الأحمرار في عيناها فنزلت من السيارة وفتحت الباب الخلفي ثم حملت ابنتها على ذراعيها وقالت وهي تبتعد عن السيارة :
_ I think إن انت محتاج ترتاح شوية ياحاتم لأن شكلك مرهق وتعبان
نزل من السيارة وصاح مناديًا عليها بسخط :
_ جلنار استني !
أتاه صوتها الجاف وهي تقول دون أن تلتفت له :
_ نتقابل بكرا في الشغل ياحاتم إن شاء الله ، روح وارتاح في بيتك وبعدين نتكلم
تأفف بقوة حتى وصل صوته لأذنيها ثم استقل بسيارته مرة أخرى وانطلق بها وهو مشتعل بنيران الغيظ والغضب .
                                  ***
عودة إلى القاهرة مرة أخرى …
داخل منزل عدنان الشافعي كانت تجلس كل من أسمهان وفريدة بالصالون ويتحدثون بين بعضهم البعض عن جلنار ، حيث هتفت فريدة بسخرية ولهجة تحمل السعادة :
_ لغاية دلوقتي مفيش أي خبر عنها ياماما كأنها فص ملح وداب !
أجابت أسمهان بنبرة محتدمة :
_ ياخوفي لتطلع هربانة مع راجل تاني .. مش بعيد عليها مش بنت نشأت الرازي هتطلع لمين
التزمت فريدة الصمت لدقائق معدودة وهي تفكر بأمر زوجها ، تخشى أن تكون تلك المرأة قد تمكنت من قلبه والأمر ليس مجرد خوفه على ابنته فقط ! .
خرج صوت فريدة المختنق :
_ خايفة يكون عدنان الموضوع مش موضوع  بنته بس
ظهر الغل والحقد في عيني أسمهان التي هتفت فورًا :
_ وإنتي فكرك إني هسمحلها تكمل مع ابني اكتر من كدا  الحقيرة دي .. أنا معنديش غير مرات ابن واحدة وهي إنتي يافريدة
لاحت ابتسامة كلها ثقة وغرور على ثغر فريدة وفي صميمها تحمل الوعيد والضغينة لجلنار .
قطع حديثهم انفتاح الباب ودخول عدنان وذهابه نحو غرفته فورًا دون أن ينظر لهم حتى وكانت معالم وجهه تكشف عن حالته ، تبادلا الاثنين النظرات المتعجبة بينهم وهبت فريدة واقفة ولحقت به لأعلى في غرفتهم .. فتحت الباب ودخلت ثم اغلقته خلفها ببطء ، وقعت عيناها عليه وهو يقف أمام النافذة ويشعل سيجارته ثم يضعها في فمه ويخرجها لينفث دخانها بشراسة من بين شفتيه .
اقتربت منه بخطوات رقيقة مدروسة ثم وقفت خلفه ومدت يدها تملس على شعره متمتمة بهمس أنوثي :
_ عدنان !
اتاها صوته المتحشرج وهو يقول :
_ سبيني لوحدي يافريدة من فضلك
تحركت ووقفت أمامه ثم جذبت السيجارة من بين أنامله وهي تبتسم باغواء ، وتهمهم برقة ونظرات عاطفية تعرف أثرها عليه :
_ وهو في مرة كنت مضايق بالشكل ده وفريدتك سابتك وحدك ، مقدرش أسيبك ياحبيبي .. قولي مالك ؟
نجحت في امتصاص غضبه بسهولة حيث علت الابتسامة المحبة على وجهه وأمسك بكفها يرفعه إلى شفتيه ليثلمه متمتمًا :
_ كفاية وجودك جمبي ياحبيبتي .. إنتي وبنتي أهم اتنين بنسبالي دلوقتي
ها هي تنجح تدريجيًا في نزع كل جزء جيد يكنه في قلبه لتلك الزوجة المتمردة ، حتى تعود من جديد هي الفريدة من كل شيء ولا نظير لها .
ارتمت بين ذراعيه وهي تهمس بهيام :
_ أنا بحبك أوي ياعدنان
_ وأنا كمان بحبك ياروح عدنان
جالت بعقلها جملة قالتها لها ” أسمهان ”  ذات مرة  ( ستظلين الأولى في كل شيء بالنسبة لعدنان ، لطالما حافظتِ على الصدارة ولم تخسريها ! ) .
                                    ***
أشعة الشمس المتسللة من النافذة اخترقت جفنيها فسببت لها الازعاج في نومها ، تململت في الفراش بضيق وهي تدفن وجهها في الوسادة حتى تختبأ من أشعة الشمس ولكن دون فائدة .. فتحت عيناها وهي تزفر بخنق ثم نظرت إلى جانب الفراش الفارغ من ابنتها فقطبت جبينها ، ثم استقامت جالسة وهي تفرك عيناها لتزيح أثر النوم وترجع بخصلات شعرها الناعمة إلى خلف أذنيها ، ثم نزلت من الفراش وسارت إلى خارج الغرفة وهي تصيح منادية على ابنتها :
_هنا !
لم تجد إجابة منها ، فكانت وجهتها الأولى نحو التلفاز فلم تجدها ، عادت و اتجهت نحو غرفة صغيرتها ولا يوجد لها أثر أيضًا بها .. انقبض قلبها وبدأ الخوف يتسلل لقلبها وزاد تدفق هرمون الادرينالين في جسدها حيث اندفعت تبحث عنها في باقية المنزل وهي تصيح بارتعاد :
_ هنا .. هنا !!!
يتبع…..
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية امرأة العقاب)

اترك رد

error: Content is protected !!