روايات

رواية امرأة العقاب الفصل الثاني 2 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب الفصل الثاني 2 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب البارت الثاني

رواية امرأة العقاب الجزء الثاني

رواية امرأة العقاب الحلقة الثانية

 انقبض قلبها وبدأ الخوف يتسلل لقلبها وزاد تدفق هرمون الادرينالين في جسدها حيث اندفعت تبحث عنها في باقية المنزل وهي تصيح بارتعاد :
_ هنا .. هنا !!!
بينما هي تمر من جانب الشرفة لمحت شيء بالحديقة ، فعادت مرة أخرى ونظرت من النافذة وإذا بها تجد ابنتها مع حاتم ويلعبون معًا ، أصدرت تنهيدة حارة بارتياح ثم ابتعدت عن الشرفة واتجهت لتغادر المنزل بأكمله وتقترب منهم وهي على وجهها ابتسامة معاتبة فنظر لها حاتم وقال بإحراج :
_ عارف إننا اتخانقنا إمبارح .. أو هي متعتبرش خناقة بس حبيت أجي واعتذر منك لو ضايقتك
ضحكت باستهزاء ثم اقتربت ونكزته في كتفه وهي تقول بمداعبة :
_ مفيش زعل بينا ياحاتم ، مقدرش ازعل منك أصلًا ..ثم انك فسرت نظرتي غلط أنا ببصلك كدا لأنك جيت ومصحتنيش واخدت ” هنا ” وبتلعبوا انت وهيا هنا وأنا لما صحيت وملقتهاش جمبي اتخضيت
غمز لها بعيناه في مغازلة صريحة وهمس :
_ سلامتك من الخضة ياجميل أنت !
كبحت ابتسامتها الخجلة من الظهور وضربته على ذراعه بخفة تهتف في جدية شبه مصطنعة :
_ احترم نفسك
خرج صوت هنا وهي تقول بتذمر :
_ ماما أنا جعانة
انحنت عليها جلنار وطبعت قبلة على شعرها وهي تهتف بحنو امتزج بالمزح :
_ حاضر ياحبيبتي هروح احضر breakfast بس عمو حاتم مش هيفطر معانا
احتجت الصغيرة وتشبثت بقدم حاتم وهي تقول بغضب :
_ لا هيفطر معانا
قهقه حاتم وقال ضاحكًا :
_ ظهر الحق .. عشان بتأجي عليا ياظالمة ده أنا حتى غلبان .. اخص على الندالة اخص ، هي مفيش غير البنت هنا دي حبيبتي
ثم رفعها من على الأرض وحملها ليلثم وجنتها بحب فتتعالى ضحكات جلنار وتتركهم وتتجه للداخل حتى تقوم بتحضير الفطار بينما حاتم نظر لهنا وقال يترقب :
_ يعني إنتي عايزاني أقعد
هزت رأسها بإيجاب في ابتسامة جميلة فيقول هو بحزن مزيف :
_ انا بقول امشي افضل بكرامتي لاحسن مامتك تطردني
ظهر الغيظ على ملامح هنا الطفولية لتقول بلهجة مثيرة للضحك :
_ مش تمشي ياعاتم
حاتم :
_ عتمتيني ليه يا ام لسان مقطوع .. عارفة يابت ما اسمعك بتقوليلي عاتم تاني لامسكك السلك عريان
أخفت هنا ضحكتها الخجلة بكفها وهي تضحك على سخطه ونطقها الخطأ لاسمه .
                                      ***
كان كل من آدم وأسمهان يجلسون على مائدة الطعام والصمت يغلف المكان من حولهم إلا عند نزول فريدة من غرفتها وهي ترتدي ملابسها تستعد للخروج ، فنظرت لها أسمهان باستغراب فتقول فريدة بابتسامة صفراء بعض الشيء :
_ أنا خارجة هشتري كام حاجة وراجعة بسرعة ياماما
أسمهان بتعجب :
_ مش هتفطري طيب ياحبيبتي !
_ لا لا مش جعانة لما ارجع هبقى أكل
ثم اندفعت مسرعة إلى خارج المنزل مما جعل أسمهان تحدق بها بريبة ، أما آدم فهتف ببرود وهو يلقي بقطعة خيار في فمه :
_ مش ملاحظة إن خروج فريدة زاد أوي الفترة دي ، وكل مرة بتخرج لنفس السبب .. هو عدنان عارف بخروجها المستمر ده !!
رمقته أسمهان بتهكم ولم تجيب عليه بينما هو فاستكمل أسألته وهو يطرح هذه المرة السؤال بخصوص زوجة أخيه الثانية :
_ لسا مفيش أخبار عن جلنار وهنا
أسمهان بصيحة عنيفة :
_ متجبليش سيرتها يا آدم .. أنا مش ناقصة حرقة دم على الصبح
ابتسم بسخرية وهب واقفًا دون أن يكمل طعامه ثم قال بنظرة مميتة :
_ هتفضلي كدا دايمًا يا أسمهان هانم مش بتقتنعي غير باللي على مزاجك .. ولعلمك بقى فريدة فيها حاجة مش مظبوطة وصدقيني لو طلع اللي في دماغي صح مش هسكت
                                  ***
انتهت كل حلوله للوصول إليها ولم يعد يعرف كيف يصل إليها بعد محاولات لا تعد من كثرتها وجميعها باتت بالفشل .
وقرر بالأخير أن يلجأ للورقة الأخيرة وهي صديقتها المقربة لعلها تكون تعرف مكانها وتخبره ، ترجل من سيارته أمام مقهى صغير ومعروف ملكًا لها ثم قاد خطواته إلى الداخل ووقف بين الطاولات ينقل نظره بين الجميع يبحث عنها .. حتى وجدها تقف مع أحد العاملين بالمكان ، فتحرك نحوها حتى وقف خلفها وهتف بصوت رجولي قوى :
_ ازيك يا هبة
التفتت بكامل جسدها للخلف مفزوعة على أثر الصوت وبمجرد ما وقعت عيناها عليه تمتمت بدهشة :
_ عدنان !
_ أنا كنت جاي اسألك لو تعرفي حاجة عن جلنار ، هي ملهاش اصدقاء غيرك تقريبًا
ارتبكت بشدة وهمت بالابتعاد عنه وهي تقول بعجلة :
_ معرفش حاجة عنها
أمسك برسغها قبل أن تذهب وقال بحدة :
_ هبة إنتي قريبة من جلنار جدًا وأكيد هتكون قالتلك حاجة قبل ما تختفي أو يمكن لسا بتتواصل معاكي كمان
حاولت إفلات يدها من قبضته وهي تقول باضطراب :
_ قولتلك معرفش عنها حاجة ياعدنان ، وسبب إيدي لو سمحت
التفت عدنان برأسه ينظر للزبائن التي بدأت تلاحظ الوضع المشحون بالتوتر بينهم فجذبها من ذراعها عنوة إلى خارج المقهي وهتف بشبه صيحة وهو يضغط على ذراعها بقوة:
_ قولي اللي تعرفيه ياهبة
تأوهت بألم وقالت بسخط ونبرة مرتفعة :
_ سيب إيدي أنت اتجننت !!
ترك يدها ورفع كفيه لأعلى كدليل على أنه لن يلمسها مجددًا ثم قال بنظرات مشتعلة :
_ اديني سبتها أهو .. يلا اتكلمي
أجابته بنظرات مستاءة وهي تدلك ذراعها موضع قبضته المؤلمة عليه :
_ معرفش غير إنها برا مصر وهي مقالتش ليا حاجة غير ده وآخر مرة أشوفها أو اكلمها كان قبل ما تسافر ومن وقتها معرفش عنها حاجة ..خلاص عرفت وياريت بقى متجايش تاني الكافيه عندي
ثم تركته ودخلت إلى المقهى مرة أخرى ، بينما هو فأخذ يطرح الأسئلة على ذهنه بحيرة ودهشة .. كيف خارج مصر ، وهي ليس لها أثر في سجلات المطار نهائي ؟ .
                                    ***
وقفت أمام المعرض مترددة .. اتستمع لنصيحة خالتها أم تستدير وتعود مرة أخرى من حيث أتت ، رؤيتها له تثير الكثير من العبث في نفسها المتيمة به .
منذ سنين وهي تعاني من عذاب الهوى ، ولا تتمكن من الاعتراف أو حتى الأقتراب منه .. كلما تأخذ خطوة وتبرر أنها ستتقرب منه أكثر لعله يشعر بمشاعرها تجاهه خجلها يرجع بها للخلف ألف خطوة ، لكنها هذه المرة عزمت على أن تتخلي عن هذه الخجل أو ربما القليل منه ! .
رأته وهو يخرج من المعرض فارتبكت واستدارت فورًا متخلية عن قرارها ولكن صوته الهادئ وهو ينده عليها جمدها بأرضها :
_ زينة !
لعنت نفسها ألف مرة وهمست بندم :
_ يارتني ما سمعت كلامك ياخالتو
أخذت نفسًا عميقًا ثم استدارت له مرة أخرى. بجسدها وانتظرته حتى اقترب ووقف أمامها لتهتف متلعثمة كالعادة :
_ أااصل ..أصل أنا كـ.. كنت معدية بالصدفة من قدام المعرض وقولت ادخل اسلم عليك بس خوفت تكون مش فاضي ولا حاجة فكنت هرجع تاني
أجابها آدم ضاحكًا :
_ لا فاضي .. تعالي ادخلي هفرجك على التجهيزات اللي خلصت ونقعد نشرب فنجانين قهوة مع بعض
زينة بابتسامة متوترة :
_ مبحبش القهوة !
آدم :
_ خلاص هنشرب شاي يازينة .. ادخلي يابنتي مالك متصنمة كدا ليه !
سارت معه للداخل باستحياء ثم بدأ هو يعرض عليها ويريها كل مكان بالمعرض وكل لوحة سيتم عرضها وهي تتابع فقط بصمت وتكتفي بكلمة واحدة على كل شيء تراه من فرط خجلها ( جميلة ! ) .
لم يكن آدم بأحمق حتى لا يفهم مشاعرها تجاهه ولكنه كان يتصرف بطبيعية تمامًا وكأنه لا يدري بأي شيء .
                                    ***
في أمريكا ….
غربت الشمس وحل الظلام وكانت جلنار تجلس مع ابنتها على الأريكة أمام التلفاز يشاهدون أحد أفلام الأطفال المحببة لهنا .. لكنها لم تكن في حالتها المعتادة عندما تشاهد هذا الفيلم ، حيث كانت تجلس بجوار والدتها وتضع كفها أسفل وجنتها وعيناها معلقة على التلفاز دون أن تظهر أي تعبير وجه أو تفاعل ، فقط العبوس يستحوذ عليها .
كانت جلنار تلقى نظرة عليها كل آن وآن ، قلبها يتمزق ألمًا كلما تراها حزينة هكذا من فراق أبيها وشوقها له ، وبنفس اللحظة تخشي أن تتصل به فيعرف مكانهم .. الهروب ليس من شيمها أجل لكن حين يتعلق الأمر بصغيرتها هي على استعداد أن تفعل أي شيء من أجلها .
حين يتصرف الولدين بأنانية وعدم حكمة ورزانة يكون الضحية الوحيدة بينهم هو الطفل .
وهذا ما حدث بالضبط .. كل منهم فكر في طريقة تروق له حتى يكون مع صغيرته ولم يفكروا بماذا تريد هي ، وكانت النتائج هكذا ، تجلس الطفلة حزينة تعاني من اشتياقها لأبيها ولا تقوى على فعل شيء سوى الاستماع لحجج والدتها الواهية في غياب أبيها عنهم وابتعادهم عن منزلهم لكل هذه الفترة الطويلة ! .
تنهدت جلنار بعدم حيلة واقتربت من ابنتها تقول بخفوت :
_ هنا .. هنكلم بابا بس بشرط
تهللت أساريرها فورًا وقالت بفرحة غامرة :
_ إيه هو ؟
_ مش هنقوله احنا قاعدين فين .. لأن كدا المفاجأة اللي احنا عاملينها ليه هتبوظ
هنا باستغراب :
_ مفاجأة إيه ؟
أجابت جلنار بابتسامة عذبة :
_ مش بابا عيد ميلاده قرب احنا هنعمله مفاجأة حلوة وهنرجع البيت في يوم عيد ميلاده عشان يتفاجيء بينا ، لكن لو قولناله مكانا هياجي هو والمفاجأة هتبوظ
وثبت الصغيرة فرحًا على الأريكة بمجرد سماعها لجملة والدتها حول عودتهم القريبة إلى منزلهم الأصلي وقالت بإيجاب في ابتسامة ماكرة وهي تغمز لها :
_ مش هنقوله
أمسكت جلنار بهاتفها وطالعت صغيرتها بابتسامة متوترة ،  بدأت دقات قلبها تتسارع وصوت بعقلها يلح عليها بطريقة مرهقة للأعصاب ( تراجعي لا تفعليها !! .. ستندمين صدقيني ) ، كانت على وشك التراجع بالفعل لكنها لم تفعلها على آخر لحظة فقط من أجل صغيرتها التي تتحرق شوقًا لمحادثة والدها بعد غياب شهرين ، وربما حتى هي التفكير بأنها ستحادثه بعد كل هذا الغياب أربكها .
كان عدنان بمكتبه الخاص في المنزل يمسك بصورة لابنته يحدق بها في أسى وشوق ، ثم رفعها لشفتيه وقبلها بحنو وقد لمعت عيناه بالدموع .. كانت دمعة تقف على أعتاب جفنيه وما منعها من النزول سماعه لصوت رنة مميزة خرجت من هاتفها ، كانت رنة أحد تطبيقات السوشيال ميديا  ، ضيق عيناه بريبة وأمسك بالهاتف يحدق في اسم المتصل بدهشة حيث كان الملف الشخصي الخاص بزوجته ، رفرف قلبه بتلهف امتزج بالغضب المدمر وأجاب فورًا بصوت جهوري :
_ جلنار أااا …
توقف عن الكلام ودخلت السكينة لصدره وكأن الحياة أعطته فرصة جديدة ليحيا وهو يستمع لصوت فتاته وهي تهتف بفرحة :
_ وحشتني أوي يابابا
لاحت الابتسامة الأبوية والحانية على شفتيه ليحيبها بصوت ضعيف بعد أن تلألأت العبرات في عينه :
_ وإنتي كمان ياهنايا وحشتيني أوووووي .. عاملة إيه ياقلب بابا .. إنتي كويسة ؟
أخذت جلنار الهاتف من على أذنها وضغطت على زر فتح محادثة الفديو ثم أعطتها الهاتف مرة أخرى وهمست في أذنها بصوت منخفض :
_ قوليله افتح  الفديو يابابا
قالت هنا بحماس طفولي وصله في صوتها تردد ما قالته لها والدتها  :
_ افتح الفديو يابابا
انزل الهاتف من على أذنه فور سماعه لجملتها وضغط هو الآخر على زر محادثة الفديو فانفتح الفديو .. رأى صغيرته وهي تحدق بشاشة الهاتف التي تراه فيها وهي تضحك بسعادة فاتسعت ابتسامته أكثر ، وكانت جلنار تجلس بجانب صغيرتها تتابع انفعالات وجهه ، لوهلة شعرت بالندم الحقيقي والإشفاق على وضعه ، ترك لحيته حتى نموت وكبرت وظهرت الهالات السوداء أسفل عيناه التي توضح عدم نومه المنتظم من فرط التفكير والحزن .
لكنه لا يزال تمامًا كما اعتادت أن تصفه كالعُقاب قوى في نظراته وصلب وشامخ حتى في أشد لحظات ضعفه ، ولطالما كانت ترى عيناه الواسعة تشبه عيني العُقاب في حدة نظرها وفي لونها البنى الغامق وحاجبيه المقطبين مما يعطيه مظهرًا رجوليًا مثيرًا .
هتف عدنان بتلهف :
_ إنتوا فين ياحبيبتي ؟
_ مش هينفع عشان المفاجأة
_ مفاجأة إيه ؟!
نظرت هنا لأمها التي هزت سبابتها ورأسها بالنفي تحذرها من أن تخبره بشيء ، لاحظ عدنان وجود جلنار بجانب ابنته فقال بصوت غليظ ومستاء :
_ اديني ماما يا هنا
حولت شاشة ناحية أمها فانتفضت جلنار فورًا من مكانها تبتعد عن الكاميرا ثم جذبت الهاتف من يد ابنتها واخفت الكاميرا بكفها فسمعت صوته الخشن وهو يحاول تمالك أعصابه حتى لا تسمعه ابنته ويقول بلهجة صارمة :
_ ابعدي ايدك من على الكاميرا ياجلنار
هبت جلنار واقفة واتجهت إلى الغرفة وأشارت لأبنتها أن تنتظرها بمكانها وستعود لها ، أغلقت الباب وازاحت يدها من على الكاميرا ولكنها أبعدت الهاتف من أمام وجهها وقالت بصوتها الرقيق المعتاد :
_ انا اتصلت بس عشان هنا .. كانت زعلانة وعايزة تشوفك وتكلمك لأنك وحشتها
_ اخدتي بنتي ورحتي بيها فين ؟
كان سؤال صريح ومحتدم منه لتجيبه هي بهدوء مستفز :
_ والمفروض إني اقولك عشان تاجي وتاخدها مني زي ما اتفقت مع بابا
سمعت صيحته العالية التي خرجت من سماعة الهاتف :
_ مش إنتي رغبتك كانت الطلاق وصمتتي عليه .. كنتي متوقعة إني هسيبلك بنتي
انفعلت هي الأخرى لتصرخ به في عصبية :
_ دي مش بنتك وحدك .. دي بنتي أنا كمان ، وأنا أمها ومن حقي تعيش بنتي معايا خصوصًا وهي في السن ده
استشاط غيظًا وصرخ بها مغتاظًا :
_ جيبي الزفت التلفون ده على وشك مش بكلم نفسي أنا
عدلت الهاتف ووجهت الكاميرا على وجهها لتصيح به في وجه أحمر من فرط الغيظ :
_ متزعقليش فاهم ولا لا
تمعن للحظات في صورة وجهها الظاهرة أمامه في الهاتف وشعرها الناعم الذي ينسدل على كتفيها بانسيابية ووجهها الأبيض البريء والجميل ، وبعد أن امتصت رؤيته لها غضبه عاد يظهر على ملامحه من جديد وهو يهتف بنظرة نارية بعد أن وقعت عيناه على شفتيها المزينة بأحمر شفاه من اللون البنفسجي :
_ حاطة الروج ده ليه !
قالت بقرف وهي تقصد إشعال نيرانه أكثر :
_ عشان بخونك
خرجت صيحة عنيفة منه كانت كافية لتوضح أنها نجحت بكلمتين فقط أن تثير جنونه :
_ جـــلـــنـــار
صاحت هي الأخرى باندفاع :
_ في إيه !! .. مش لما تسأل أنت الأول أسئلة منطقية هبقى ارد عليك كويس
مسح على وجهه وهو يتأفف بقوة وبنفاذ صبر ليسأل للمرة الثالثة على التوالي :
_ آخر مرة هسألك .. إنتي فين ؟
جلنار بعناد وبنظرة متشفية :
_ مش هقولك ياعدنان وخليك كدا عشان تجرب الاحساس اللي كنت هتخليني احسه لما تاخد بنتي مني ، ولما تعرف أن الله حق وإنك أناني ومش بتفكر غير في نفسك سعتها هبقى اقولك احنا فين
ولما تنتظر أن تستمع لرده الذي كان سيستمر في صياحه عليها حيث ضغطت على زر إنهاء المحادثة والقت بالهاتف على الفراش ثم عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت بابتسامة متشفية ومتغطرسة :
_ احسن أنت تستاهل أصلًا تقعد محروم من بنتك كدا لفترة عشان تبطل نرجسيتك دي ، خليك على نار لغاية ما تتربي شوية .. مبقاش أنا جلنار الرازي أما ربيتك ياعدنان
بينما هو فألقي بالهاتف بعنف على سطح المكتب وهتف بوعيد حقيقي وهو يجز على أسنانه بغيظ :
_ ماشي ياجلنار وحياة أمي لأوريكي النجوم في عز الضهر بس الاقيكي
                                      ***
في مساء ذلك اليوم….
تتابع الطريق بصمت من نافذة السيارة .. وكل آن وآن تلقى نظرة خاطفة على الجالس بجوارها في مقعد القيادة ، لا تصدق أنها قضت اليوم كاملًا معه تساعده في كل شيء ويتبادلون أطراف الحديث بتلقائية لم تكن تصدق أنها ستتحلى بها أمامه .. رغم أنها كانت ساعات مرهقة للأعصاب إلا أنها سعدت جدًا بها وبقربها الجديد منه .. وكعادته كان لطيفًا ومرحًا يشعر بارتباكها منه فيحاول امتصاصه بشكل غير مباشر ، حتى تمكن بالأخير من فك قيود حيائها ! .
سمعت صوته الرخيم ليجذبها من شرودها :
_ زينة تلفونك بيرن !!
انتبهت لاهتزاز هاتفها في يدها وصوته الصاخب فأجابت فورًا على والدتها :
_ أيوة ياماما
_ إنتي فين يازينة .. ليه اتأخرتي كدا ؟!
نظرت لآدم بابتسامة صافية ثم أجابت على أمها بصوت خافت :
_ كنت مع آدم يا ماما في المعرض ، وجاية في الطريق أهو معاه
_ طيب ياحبيبتي وسلميلي عليه أوي الندل ده
وصل صوتها في الهاتف إلى أذنه فقهقه عاليًا وقال بصوت عالي حتى يصل لها :
_ ربنا يخليكي ياخالتو ياحبيبتي .. جهزي عشا حلو بقى من إيدك الحلوة عشان الندل هيتعشى معاكم النهردا
انزلت زينة الهاتف وفتحت مكبر الصوت ليسمع صوت خالته وهي تقول بفرحة :
_ ده بجد ياولا .. تتحسد يا آدم ، من عنيا هجهزلك احلى عشا وخلي أسمهان تولع فيا وفيك بقى
_ لا متقلقيش عدنان وفريدة هيتعشوا معاها النهردا مش هتتعشى وحدها
_ طيب الحمدلله .. يلا توصلوا بالسلامة
أعادت زينة الهاتف إلى أذنها وودعت والدتها ثم اغلقته ، وبذهنها صراعات عنيفة ، ستقضي المزيد من الوقت معه وهذا يعني المزيد من الاضطراب .. جذبها بصوته للمرة الثانية ولكن بنبرة متعجبة :
_ إنتي لحقتي تسرحي تاني يابنتي !
ابتسمت وهتفت بتلعثم :
_ مـ.. معلش أصل بفكر في كام حاجة فعشان كدا سرحت .. صحيح قولي مفيش أخبار عن جلنار وهنا يا آدم ؟
تنفس الصعداء وهتف بعبوس :
_ للأسف مفيش .. محدش عارف يوصلهم وعدنان من كتر الهم والزعل بقى شخص تاني تمامًا
زمت شفتيها وقالت بإشفاق :
_ طبيعي هو متعلق بهنا أوي ، وجلنار غلطانة جدًا في اللي عملته
آدم بخنق :
_ أنا رغم ضيقي منها وغضبي على اللي عملته ، إلا إني برضوا مديها العذر وشايف إن عدنان يستاهل يجرب بعده عن بنته بيتعب إزاي بعد ما كان عايز ياخد بنتها منها
أصدرت زينة زفيرًا حارًا وقالت بنبرة رقيقة وكلها ثقة :
_ هترجع أنا واثقة هي شكلها بس محتاجة تاخد شوية وقت عشان تعرف هتتصرف إزاي بعدين مع أخوك
خرجت تنهيدة قوية من آدم وهو يجيب بتمنى :
_ يارب يازينة .. البنت المفعوصة الصغيرة وحشتني أوي والله
طالعته بابتسامة واسعة في حب غير منتهبة لنظرتها وسرعان ما اشاحت بوجهها للجهة الأخرى بتوتر بعدما وجدته لاحظ نظرتها .
                                    ***
قبل أربع سنوات ….
_ في عريس متقدملك
لاحت بشائر الابتسامة العريضة على شفتيها لترد على أبيها بحياء بسيط :
_ عريس مين ده يابابا ؟
خرج صوت نشأت خشن وصلب :
_ عدنان الشافعي
سكنت للحظات تستعيد ذلك الاسم في ذاكرتها .. أين سمعته ومتى رأته ؟! ، فقذفت صورته في ذهنها فورًا ولترتفع الصدمة على محياها وهي تقول :
_ مش ده اللي كنت شريك معاه في صفقة من فترة .. واعتقد أنه متجوز صح ؟!
هز رأسه بإيجاب وقال بحزم :
_ آه بس مراته مش بتخلف
تمتمت جلنار بنظرات كلها ريبة وحيرة ، من طريقة أبيها وهدوئه الغريب :
_ وإنت بتعرض عليا حاجة زي إزاي يا بابا أنا لا يمكن اوافق واتجوز واحد متجوز
يبدو أنها فهمت صيغة الحديث بشكل خاطيء ، فهو لم يكن يعطيها حرية الموافقة أو الرفض بل كان يخبرها بما سيحدث خلال الأيام القادمة .. فرصة كهذه مع إمبراطورية الشافعي لن يضيعها مهما حدث ، ولا يهتم بنقطة زواجه .. كل ما يهمه أن ذلك الزواج سيعود عليه بالنفع ولن يسمح لابنته بأن تخربه .
نشأت بصوت جاف لا يحمل الرفق :
_ أنا مش بخيرك يا جلنار .. أنا رديت عليه وخلاص كتب الكتاب هيكون بعد يومين
_ what !! .. يعني إيه رديت عليه يابابا  إزاي توافق هو انا مليش رأى .. أنا لا يمكن اتجوز البني آدم ده
قبض على ذراعها وصاح بها في صوت جهوري نفضها في أرضها وهو يقول بلهجة لا تقبل النقاش :
_ هتتجوزيه ياجلنار غصب عنك .. أنا معنديش استعداد اضيع فرصة زي دي من إيدي عشان دلع البنات بتاعك ده ،  الجوازة دي هتخلي اسم نشأت الرازي في مكان تاني خالص ، وإنتي عايزة تضيعي الفرصة اللي جات لابوكي بسهولة عشان متجوز وكلام فارغ
انهمرت دموععها غزيرة على وجنتيها من قسوة أبيها .. لطالما كانت تعاني من إهماله لها ومعاملته الجافة في كل شيء وبالأخص بعد وفاة والدتها ، حيث أصبحت بمفردها في مواجهة قسوة أب لا يعرف الشفقة ولا كيف تكون مشاعر الأبوة حتى ، لكن أبدًا لم تكن تتوقع أن يصل به الحد ليجبرها على الزواج من رجل لا تعرفه ولم تراه قط .. فقط كانت تستمع للأحاديث التي تروى عنه ، وفوق كل هذا متزوج ! .
ترك ذراعها وهتف يلقي بجملته الأخيرة غير مباليًا بانهيارها ودموعها ، ليعطيها أوامره التي لا تقبل النقاش وهو يصدر مرسوم قتلها :
_ جهزي نفسك وخدي صحبتك وانزلي اشتري فستان لكتب الكتاب يليق ببنت الرازي .
                                      ***
عودة للوقت الحاضر …
فتحت أسمهان باب المكتب ودخلت ، لتلقي نظرة على ابنها الجالس على الأريكة وبيده سيجارة يضعها في فمه ثم يخرجها ويزفر معها الدخان بشراسة ، كلما تخطر بذهنه احتمالية أن تكون جملتها ( عشان بخونك ) حقيقة تشتعل النيران بداخله ويشعر وأنه على وشك أن يطيح بكل شيء يراه أمامه ، تلك الحمقاء تختبر صبره وهي تعلم أن خروجه عن أطار الهدوء والثبات المزيف الذي يدعيه يعني وقوع كوارث .
جلست أسمهان بجواره وملست على كتفه هامسة بتوتر :
_ مالك ياعدنان ؟
أتاها صوته المتحشرج وهو يجيب :
_ بنت الرازي اتصلت أخيرًا
اتسعت عيني أسمهان بصدمة وسألت بحماس :
_ وقالتلك مكانها ؟!
اخرج السيجارة من فمه وقال بنبرة ملتهبة :
_ مقالتش بس هلاقيها هتروح مني فين ، وسعتها هعرفها بطريقتي ازاي تاخد بنتي وتهرب بيها تاني
_ طيب وهنا اطمنت عليها هي كويسة
هز رأسه بالإيجاب فتنهدت الصعداء بارتياح ، ولاحت ابتسامة شيطانية على شفتيها لتهمس في براءة مزيفة :
_ طيب إنت متعرفش صديق ليها ، ساعدها في الهرب تقدر من خلاله توصلها
رقمها بنظرة مميتة ليهتف بعصبية بعدما اخترقت اذناه كلمة ” صديق ” :
_ أنا على أخرى وأنتي بتقوليلي صديق وزفت يا أمي ، إنتي عايزة تجننيني !!
تصنعت الحزن وقالت باعتذار وملامح وجه عابسة :
_ أنا مقصدش حاجة ياحبيبي .. أنا بس بفكر وبقول بما أن ابوها ميعرفش حاجة عنها ولا صحابها ولا أي حد ، فازاي هتقدر تهرب لوحدها من غير ما حد يكون معاها عشان يساعدها
نجحت بكلماتها أن تثير الشك في نفسه أكثر حيث نظر لها بتفكير وبعينان مشتعلة بنيران الغيرة والشك ، اقسم في نفسه أنه لو كان هذا الاحتمال صحيح وأنها بصحبة رجل آخر الآن ، سيذيقها الوان العذاب المختلفة .
استقام واقفًا واتجه نحو النافذة يقف أمامها ومازالت بيده السيجارة ووجه تحول للأحمر القاتم من شدة السخط .. لمح زوجته ( فريدة ) تقف في الحديقة بالخارج وتتحدث في الهاتف وتضحك بملأ شدقيها ، نظر في ساعة يده ووجدها الثانية عشر بعد منتصف الليل ! … مع من تتحدث في ذلك الوقت المتأخر !!
أطفأ السيجارة والقاها في منفضة السجائر ثم اتجه إلى خارج المكتب تمامًا وسط نظرات أمه المستغربة التي نهضت فورًا واتجهت إلى النافذة لتنظر إلى ما كان ينظر إليه للتو وجعله يندفع للخارج بسرعة هكذا ! .
يتبع…..
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية امرأة العقاب)

اترك رد

error: Content is protected !!