روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الرابع 4 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الرابع 4 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الرابع

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الرابع

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الرابعة

~… أضطراب…~
ما أصعب أن تتخلى عن بعض من كبريائك الجريح حتى تطعم قلبك شيء من القرب …. ينعش روح الفؤاد ولو مؤقتً…
وبمنتهى الأسف …الحب يملؤنا مد القوة …. والدرك الأسفل من الضعف …. شتان ..ونقيضان..!
بينهما نحن !
عجلة الزمن تعود لتلك النقطة … منذ عشرة أعوام ..حتى الطقس هو !
عينيه تخبرها تردد نفس الكلمات…بلحن جديد ..أمتزج به طبقة ألم وعذاب … دبكة جنون منتصف العمر…بين شيب وشباب.
التمعت نظراته ببريق شوق… ولكنه صامت صمت الظلمة الخرساء…ولكنها تئن عذاب …
وقف قابضٍ للحظات على باب سيارته ويرميها بنظرات عاتبة…بينما هي تستقبل تحديقه كأنها تنظر له من عالم آخر …كأنها مغيبة وكل هذا بين طيات كابوس مزعج…ظلت به سنوات !
قلوبنا تُعذبنا بالحنين …تذلنا بالشوق إلى قلوب أضعف الإيمان أن لا نحمل لها طرفة عين من الإشتياق!
تقدم لها …بصعوبة ابتلعت ريقها …..ليقف على بُعد خطوتين قائلًا بعصبية التهبت بصوته :
_« أنتِ …»
قاطعت حديثه بثبات مُريب :
_« شكرًا ….»
ضيق عينيه عليها بشعلة غضب …. يعرف لأي شيء تُقدم الشكر .. تحرز هدفا في صميم كبريائه !
أكثر من أتقنت جراحه بمنتهى السهولة !
نظر للأرض المليئة بمياء المطر واستجمع صلابته مرةً أخرى وهو يكتم سيل من الغيظ والغضب… ثم نظر إليها قائلًا بحدة :
_« أعتبريه واجب ضيافة … مش أول مرة أتصرف كده مع حد غريب …»
بعينيها ظل انكسار..أنهيار…ساكن ومتربع على عرش الجفون …من سمح له أن يقترب هكذا !
أخذت كلماته بصمت …ونظرة تائهة بعيدة عن عينيه …وأجابت بصوتٍ يكاد يصل لسمعه :
_ « كتر خيرك …»
للعجب أن بينهما نغمة خاصة …لا تسمعها إلا عندما يقفا هكذا …كأنها أجمل النغمات العاطفية …
ابتعدت عنه…بالأصح منـه
ولم يعرف لما هناك وميض غارق بعينيها يهتف …أبتعد !
لفت يديها حولها من برودة الهواء ثم انعطفت بالسير اتجاه آخر ….أوقفها صوته !
_« ليلـى…»
وشيء من الحب كأنه نطق بنبرته !
ردد صوت بداخلها يبك بحسرة …
لا ..لا ..أبتعد ارجوك…
أو قليلًا …!
لا تبتعد كثيرًا …!
ولا تقترب أيضاً….!
ليلتك عاقبها القمر … وهاجر !
امتلأت سمائها بغرابيبٍ سود … واستوطن!
أنا بقايا مني….
بقايا تتنفس على أطلال ذكريات من الماضي…الباقي من أيامي هشيم …تذروه الرياح بمنتهى الألم …!
أقترب إليها بفوضى الحنين وبعثرة مشاعره …وقال بصوتٍ به دفء جعلها تزدرد ريقها بألم :
_« رايحة فين …؟ »
تنهدت بثقل عظيم يملأ قلبها.. والتفتت له في نظرات حادة :
_« سيبني في حالي …حاول تنساني … أرجوك…»
كم ودت لو يعنفها ويصمم على البقاء!
أنا أحبك…أنا هنا…لن أرحل …!
كلماتٍ بسيطة ….ولكن تحمل روح السعادة …. وهج العشق
تقول ابتعد وهي جدًا تحلم بالقرب !
هذا الألم الذي تحمله يحتاج لدعم هائل كي تعود كما كانت !
نفس الكلمات…هما هما الجملتان الذي شقوا قلبه لنصفين منذ سنوات …. تتذكرهم وتنساه هو بكل ذلك العشق !
ثقيلة هي كلماتها…گ المرض الخبيث على قلبه !
أي غباء جعله يحب امرأة ملثها !

 

ولا زال على حبها !
لو ما كان القلب مال لكان أتى النسيان في الحال !
كم أراد لو يصفعها ويهزها بعنف لتخرج من تلك العتمة والغشاوة على عينيها… وترى لو القليل من وجودها بعينيه…وأرغام طيفها على بقائها بقلبه!
هدر صوته بقوة…وبحدة …ليس به أي رحمه هاتفاً:
_« أنا نسيتك بالفعل….أنتِ اللي جيتيلي برجليكي …. مش أنا اللي جريت وراكي! …. متطلبيش مني أنسى شيء مكنش موجود بالأساس ! …يمكن سؤالي عطف وشفقة …»
أخذ من كلماته القسوة التي تسربت لعينيه وهتف بها بعنف :
_« بصي حواليكي كويس …. أنتِ مين عشان أفضل فاكرك ؟! »
وأضاف بسخرية لاذعة مع دموع عينيها :
_« شوية فضول باقي…على شوية أسئلة منسية …. لواحدة كانت بالنسبالي مجرد نزوة ! »
وصل الألم بقلبها أشده !
حتى هو يطرق على جراحها دون شفقة !
حتى لو قالت أبتعد ….ربما لم تعترف له بالحب يومـًا….لكنها لم تجرؤا أن تنكر أنها أحبت أيضاً ! …سفح تلة الغضب
انتفض جسدها بشدة….تلك النوبة من الهلع تعود مجددًا…. تشنجت أنفاسها ووضعت يديها على أذناها بصرخة فارت من شفتيها …
لا تريد أن تسمع شيء…أي مخلوق …حتى صوت الهواء يبدو مزعج حد الصراخ …. !
نظرت له بنظرة نارية… كأنها تقذف من نظراتها حمم بركانية من الغضب …. والحنين رغم ذلك ..!
اقتربت سيارة إليهما …. انتقلت نظرة ليلى إليها في قوة …بينما هو مأخوذ بصدمة في ردة فعلها .. لم يخرج من تيهته إلا عندما وجدها تركض ويبدو أنها ستلقي نفسها أمام السيارة !!
أشارات عقله توقفت لشيء من الثانية أمام محاولة أنتحارها ….
السيارة تقترب بسرعتها…وتلك الراكضة تسرع إليها في لهفة الخلاص …. أي شيء جعل استقبالها للموت بهذه السهولة !
أين ايمانها بالله ورحمته ؟!
هناك شيء يبدو مخيف بصراخها …!
جذبها من يدها قبل أقل من دقيقة كادت فيها أن تُنهي حياتها أمام سيارة مجهولة ….!
صرخت نظراته بعشرات الأسئلة …وشرارات الغضب مما كادت تفعله …هزها بعنف قائلًا :
_« أنتِ مجنونـــــــــة…؟! كنتِ عايزة تموتي نفســـــك ! »
التجم صوتها وهي تنتفض من البكاء …بكاء يبدو أكثر من مجرد دموع …أو عصبية .. به شيء خارج النطاق !
تناهيد تشنج….!
رق قلبه إليها رغما وقال بلمحة أسف :
_ « ليلى ..أنا …»
ارتخى جسدها بين يديه….ومال رأسها للأسفل تمامـًا….كادت أن تفلت من بين يديه على الأرض بعدما غرقت بنوبة جديدة من الإغماء…حتى جذبها إليه وهو لم يعد يفهم ما يحدث !
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
في أحد المراكز الطبية …
دلف شاب ثلاثيني إلى مكتب أحد الأطباء ….شملت نظرته المكان سريعاً ثم قال للطبيب الجالس خلف مكتبه يتفحص عدة تقارير :
_« صباح الخير…. هي مروة فين يا دكتور …؟ »
نظر الطبيب لساعة الحائط التي تُشير لقرب صلاة الفجر وقال :
_ « صباح النور…لو استنيت ساعة واحدة بس كنت هتلاقيها راجعة البيت …النباطشية بتاعتها تقريبًا خلصت….»
أتت في تلك اللحظة فتاة عشرينية محجبة …. تطلعت بأبن خالتها بنظرة مستفهمة فغمز لها حتى تنتظر ….قالت له :
_ « أنا خلصت شغل يا أحمد …كويس أنك جيت عشان توصلني..»
وبعد قليل …..
كان الرائد ” أحمد ” يجلس بسيارته وبجانبه أبنة خالته الدكتورة ” مروة ” ….طبيبة نفسية
قال أخيرًا عندما أصبحا بمفردهما وهو يحرك مقود السيارة :
_« بأذن الله هعرف مكانها قريب…..بس قبل أي شيء يا مروة أنا خايف عليكِ…. البنت اللي اسمها ” ورد ” دي اكيد وراها بلاوي محدش يعرفها …أنتِ ليه متمسكة تلاقيها بالشكل ده ! »
تنهدت مروة بملل من تكرار هذا السؤال :
_« يا أحمد أنت عارف أن البحث بتاعي عن حالتها …. البنت كانت قربت تخف خلاص وكان لازم تفضل تحت عيني وادرس كل تصرف بيحصل منها … مش بسهولة ألاقي نفس الحالة وابدأ معاها من جديد ! »
زفرت بضيق شديد وهي تنظر لدفتر بين يديها…ثم فتحته لتجد بعض الجمل التي دونتها سابقًا قبل أن تختفي الفتاة …. رددت بصوتها ما وقعت عينيها عليه أولًا …

 

_ « P T S D….»
حرك أحمد يديه على المقود بينما انتبه لما قالته فانكمش حاجبيه بعدم فهم …وتساءل :
_ « بمعنى… ؟!! »
أجابت مروة بنظرة شاردة بعض الشيء :
_« أضطراب الكرب التالي للصدمة ….. »
حسها على المتابعة كنوع من أشغال الوقت بالحديث حتى يصلها للمنزل ويطمئن عليها …فشرحت مروة :
_« أضطراب شرس… بيجي بعد صدمة عنيفة حد اتعرضلها ومقدرش يتكلم عنها… الاضطراب ده خبيث جدٌا …. تخيل أن ممكن ما يظهرش غير بعد سنين من الصدمة ! »
أضافت بتوضيح أكثر :
_ « لو اتملك من حد بينهش فيه …بيدمره نفسيًا … بيعمل أحتراق نفسي للأنسان … بين ذكريات عنيفة بتمر قدام عنيه حتى في الأحلام …وبين ذاكرة مشوشة ممكن يفقد منها جزء بمنتهى السهولة ….. يعني تبقى فاكر حاجة حصلت من سنين بمنتهى الوضوح …وتنسي كلت إيه امبارح ! »
قال أحمد بتعجب :
_ « أزاي ؟! ما هو يأما فاكر أو ناسي ! »
قالت مروة باستفاضة :
_ « ده أضطراب يا أحمد… يعني توقع فيه أي شيء…مش كل المرضى فيه بينسوا حاجة من حياتهم ….إلا لما الاضطراب ده بيحتد جدًا …لدرجة أنه ممكن يخليهم يفكروا في الأنتحار أو أذية نفسهم بأي طريقة….»
نظر أحمد للطريق أمامه ثم قال فجأة :
_ « ياااه….فعلًا المرض النفسي أخطر بكتير من العضوي…»
قالت مروة بابتسامة ساخرة :
_ « المرض النفسي حاجة كده زي الباب اللي بيدخل منه الأمراض العضوية….لو الباب ده اتفتح تحت تأثير نفسية صفر …يبقى يا مرحب بالأمراض من كل حدبٍ وصوب ! »
ثم أضافـــت بأكثر جدية :
_« التشوه النفسي …
أصعب نوع من الأمراض النفسية قابلني…
التشوه النفسي بيولد شبح مُظلم جوا الانسان…بيخليه مش شايف الأمل…الحياة…الخير…
تركيبة كده من كل أضطراب…. بنوا انسان شايف أنه ما يستاهلش أي شيء…. تخيل أن انسان يستخسر في نفسه أنه يفرح!
تخيل انسان في أمس الأحتياج للدعم ..وميقدرش يطلبه غير بصعوبة جدًا ومش لأي حد كمان
أنا اديت ورد ورقة وقولتلها ارسمي الكابوس اللي بتشوفيه وارسمي النهاية اللي شيفاها هتريحك للكابوس ده…..»
تساءل أحمد باهتمام بالغ :
_ « ورسمت إيه؟ »
نظرت مروة لدفترها مرةً أخرى وصمتت بشرود …
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
بعدما حملها إلى أحد غرف المشفى تحت أنظار الجميع …وضعها على فراش بالغرفة برفق…وهي تغمض عينيها بتقلصات تظهر على ملامحها ودموع تأبى التوقف!!
أتى خلفه عدد من الممرضات فأمرهم بأتخاذ الإجراءات الطبية السريعة لتلك الحالة من الإغماء…..
وقف ثابتاً يراقب ملامحها المعذبة حتى في تيهتها هذه …!
أخبرته أنها انفصلت عن زوجها…. وأخبرته أن ينساها ويتركها لحال سبيلها !! هل لتلك الدرجة تتعذب بذلك الأنفصال !
هل أحبته لتلك الدرجة ؟!
لن ينساها …يعرف ذلك ….كانت محاولات النسيان في بُعدها ارحم بكثير من الآن …
ولكن لابد أن يبتعد ….
فقد أختارت الفراق مرتين …!
خرج من الغرفة بخطوات واسعة …حتى قابلته الممرضى ” منى ” وهي تحمل الصغيرة ” ريميـه” والصغيرة تبك بشدة من

 

فقدانها لأمها….
وقف ينظر لها حتى قالت الممرضة له :
_ « أنا أسفة يا دكتور …بس هي رفضت أجيبلها أي أكل من هنا وطلعت تجيب أكل من برا ….لسه عارفة دلوقتي أن حضرتك رجعتها ….»
كانت نظرة وجيه على وجه الطفلة فقال :
_ « روحي شوفيها …وهاتي البنت دي لحد ما تبطل عياط ….»
أعطته الطفلة وذهبت لغرفة ليلى ….
في مكتبــــه …..
وضع الصغيرة على المكتب بينما هي كانت تمسح عينيها بقبضتها الرقيقة من الدموع …قال لها بصوت خافت :
_ « بطلي عياط…ماما بخير….جاية دلوقتي..»
هدأت الطفلة ببطء ثم قالت بصوت متهدج :
_« عايزة ماما …»
نظر لها وجيه بتنهيدة … هو يريد نفس الأمر. للأسف….دلفت أحدى الممرضات للمكتب وقالت لوجيه :
_ « د. حسن صالح … دكتور العناية وصل يا دكتور …»
ارتعشت الصغيرة بذعر ومدت يدها لتتمسك بشيء حتى لمست طرف معطف وجيه وارتمت على صدره بهلع. …تفاجئ وجيه مما فعلته حقا…ربت على رأسها بحنان وقال بحيرة :
_« مالك يا ريميه ؟! »
بكت الصغيرة وهي تدفن وجهها بصدر وجيه وكأنها ترى شبحاً….ولكن إن لم تكن ترى بالأساس فأي شيء جعلها تنتفض هكذا بشكل مفاجئ !
تعجبت الممرضة مما فعلته الصغيرة لدرجة أنها شكت بنفسها أنها أخافتها بدخولها السريع للمكتب…فقالت معتذرة :
_« أسفة يا دكتور مش قصدي والله …»
هز وجيـه رأسه بتفهم حتى غادرت الممرضة وأغلقت الباب خلفها ….ترك الصغيرة تلتمس منه الحماية ثم ربت على رأسها بحنان أبوي وقال بتأكيد :
_« متخافيش …أنا هنا….»
تأكد لدى الصغيرة ظنها البريء أنه البطل الخارق ….بطل حكايات قبل النوم….فوضعت يدها الصغيرة المرتعشة على يده وقالت برجاء وحروف متقطعة:
_« ما…تمشيش…»
سكن وجهها الصغير بين راحتي يده وقال بحنان :
_ « إيه اللي مخوفك كده …؟! »
ارتخت جفون الطفلة في بكاء وكأنها تكتم أمرًا خطير …وعاد لجسدها الارتجاف ….قال متراجعاً عن سؤاله بعدما شاهد خوفها :
_ « خلاص …مش لازم تتكلمي…خليكي هنا في مكتبي وأنا هجيلك تاني بعد الظهر…..وماما هتصحي بعد شوية وهتشوفيها …. أنتِ جعانة ؟ »
ابتلعت الطفلة ريقها عدة مرات وصمتت ولم تفصح عن أمر معدتها التي تضور جوعاً…فهم وجيـه صمتها فأجرى اتصال هاتفي على ” المطبخ ” الخاص بالمشفى وطلب عدة أنواع من الأطعمة….
بعد قليـل….
أتى الطعام لمكتبه …ورغم حيز الالم الذي أخذ مجال بعينيه ولكنه لم يصبه على ضعف تلك الطفلة ….بل كأنها صغيرته وأحب كثيرًا أن يطعمها بيديه ….ابتسم عندما ارجعت الصغيرة خصلات شعرها للخلف وقالت له لينتظرها :
_« استنى…هلم شعري…»
تذكرها….تلك الصغيرة بها دقة تفاصيل متطابقة من أمها….حتى رجفتها وهلع عينيها …ذاته …!
وبعدما شعرت بالأكتفاء من الطعام وضعها بالفراش والقى عليها الأغطية. برفق… ثم وصى عليها أحدى الممرضات لترعاها حتى تستفيق أمها…..
وعاد لمنزله….ليلة واحدة قلبت حياته رأسا على عقب …!
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وعند الساعة الثامنة صباحـًا
حول مائدة الافطار….. تجمعت العائلة مثل العادة ….بينما رأس العائلة ” وجيه” يجلس شاردًا تمامًا وعينيه مليئة بالحزن …. تنحنح والده لكي يلاحظ فتنهد وجيه وهو يرفع فنجان القهوة لشفتيه …..
وأصطف الشباب بخط مستقيم بأحد زوايا المائدة …قال وجيه بجدية اكثر من اللازم :
_« انتوا الأربعة هتكونوا من ضمن القافلة اللي أخدنا تصاريحها …ومافيش نقاش في الموضوع ده ..»
نهض من مقعده وتوجه إلى غرفته بالطابق العلوي بينما تسمر الشباب الأربعة في أماكنهم …وابتسم الجد في مرح …قال جاسر باعتراض وغيظ :
_« يعني إيه ؟! طب أزاي مافيش نقاش ؟! المفروض لينا حرية الاختيار في الموضوع ده ! »
وضع رعد كوب المشروب الدافئ بضيق وقال :
_« طب أنا دكتور نفسي…لزمتي إيه بقى في القافلة دي ؟! »
رد الجد رشدي بضحكة ليغيظه :
_ « نفسية الفراخ تعبانة ومعذبة من بعد أزمة الفونزا الطيور….محتاجة وجودك جنبها…»
تابع يوسف طعامه وقال بلا اكتراث :
_ « بالنسبالي عادي….كام يوم وهنرجع عادي يعني ! »
رفض آسر القرار وهتف :
_ « المفروض يا جدي أني هخطب ….كنت مستني والدها لما يرجع من السفر …وهيرجع بعد أسبوعين …طب هقابله أزاي بقى والمفروض القافلة هتجهز للسفر على الأسبوع الجاي ! »
نظر له الجد رشدي لبرهة ثم قال :
_« البنت دي لا شبهك ولا هتنفعك ولا أنا موافق عليها….بنت مايعة كده ومش حمل مسؤولية ولا جواز …»
نهض جاسر من مقعده بعصبية وقال :
_« يا جدي أنت لا عجبك الجد ولا المايعة برضو عجباك !! وعايز تجوزنا غصب عننا زي ما عملت في أهالينا بالضبط … حتى في قرارات تخصنا بتفرض علينا رأيك ! وللأسف عمي بقا يعمل زيك كده بالضبط !!
أنا أسف يا جدي مش هقدر أسافر …ورايا شغلي وحياتي كلها هنا ….أنا مش صغير عشان ……»
توقف جاسر عندما وجد الجد يديه على رأسه وعينيه تتوه ببطء ….هرع الشباب إليه بقلق حتى قال الجد :
_« ابعدوا عني….نادولي ابني وجيه … يا وجيــــه …»
في غرفة الجد رشــــدي ….
تنهد وجيـه بضيق وهو يرى والده يسعل بشدة على فراشه…بينما الشباب يقفون ناظرين إليه في تأكيد أن هذه المسرحية المتكررة تلك ولكن ما بيدهم شيء يفعلونه…..قال وجيه لهم بأنفعال وعصبية زائدة :
_ « عايز أعرف دلوقتي مين اللي رافض يسافر ؟! »
لم يجيب أحدًا من الشباب رغم العبوس والضيق الظاهر على ملامحهم ….
طالت نظرة وجيه عليهم حتى قال جاسر بضيق شديد :
_« أنا هسافر يا عمي …. بس لأول مرة بعترف أني مش راضي عن قرارك وإجبارك لينا…أنت مكنتش كده !! »
ابعد وجيه نظرته عنهم حتى خرج جاسر من الغرفة بعصبية وتلاه الشباب ….قال لوالده ببعض العتاب :
_« سمعت كلامك عشان أرضيك …رغم أني شاكك في نجاح السفرية دي …وحاسس أن المشكلة هتكبر أكتر ! »
قال الجد رشدي بحيرة :
_« ما أنت شايف …لو فاتحتهم في موضوع جوازهم من بنات أبني مصطفى أنت اكتر واحد عارف هيبقى رد فعلهم إيه ….اللي فات كوم والموضوع ده كوم تاني ….مش هقدر عليهم صدقني ….هيتحججوا أنهم مايعرفهمش وساعتها انسى أنهم يوافقوا يسافروا يشوفوهم …أنما بعد السفرية دي محدش هيقدر يتكلم ….»
قال وجيه بضيق وهو بالأساس لا يحتمل أي حديث :
_« أنا نفذتلك طلبك …بس مش موافق أن واحد فيهم يتجوز واحدة مش عايزها …. مش هقدر أجبرهم …أنا أسف …»
رد والده عليه قائلًا بعناد :
_« يمكن خطتي تنجح ….أهو اكون عملت اللي أقدر عليه …»

 

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
أشباح تركض خلفها ….عيون دامية تخنقها وتنشب أظافرها بعنقها …!
وصوت غليظ …كريه الرائحة …يصفعها مرارًا ….لتجد فجأة يدين تمتدان لجذبها من تلك الحفرة العميقة العابرة لغياهب الظلمة ….حاولت أن تتبين من هو …لا يهم …المهم أنه سينقذها …..
ولكنه هو ….حبيبها الوحيد !
هتفت بعلو صوتها وبصراخ …” وجيـــه ”
جذبها بيديه للأعلى حتى أخذها إلى صدره بعناق طويل أنساها كل سنوات العذاب والدموع …..
لتنتفض ليلى من فراشها بالمشفى ….وهي تهتف باسمه …لتجد الممرضة منى بجوارها وتنظر لها بتعجب !
وآخر ما تتذكر …أنها كانت تبحث عن أبنتها ..وفجأة وجدتها أمامها …!
رددت بخفوت وبصوت متقطع وحبيبات العرق تنزلق من جبهتها وتلهث بأنفاس متسارعة :
_ « وجيــه…..أنا شوفته …. أنا متأكدة …! لا مش بحلم …لا …»
وفجأة وضعت يدها على وجهها وبكت بقوة ….لتردد بتساؤل :
_ « بنتي فيـــن ؟! »
استطاعت الممرضة تمييز الكلمات أخيرًا وقالت وهي تهم بمغادرة الغرفة :
_« هروح أجيبهالك …هي نامت في مكتب دكتور وجيه ….»
غادرت الممرضة الغرفة وتسمر ليلى في فراشها ….لتبتسم وهي تبكي ….وتردد بنبرة تحمل من العشق والأحتياج له ما تحمل :
_ « وجيــه ….»
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
تجمع الشباب الأربعة في أحد غرف المشفى ….بمعاطفهم الطبية البيضاء …..
أشار جاسر للثلاث شباب من أبناء عائلته وقال بسخرية :
_« أحنا مش بنات عشان يتفرض علينا كل شوية وضع مش قابلينه ! »
قال رعد بمنطقية :
_« موضوع القافلة أنت مكنتش رافضه أصلًا يا جاسر ! أشمعنى لما عمي قاله رفضت ! »
رد جاسر بغيظ :
_« هتعملي فيها ديكارت هعملك فيها واكل ناسه وهبلعك دلوقتي…خرج علم النفس من تفسيرك لتصرفاتنا مش ناقصك ! »
قال آسر بهدوء :
_ « أحنا نوافق المرادي …ليه بقا ؟
عشان عمي اتدخل والموضوع شكله صعب ….نوافق ولما نرجع نعمل واقفة ونتحد ….»
هز يوسف رأسه بموافقة :
_« الرأي ده صح …»
رمقه جاسر بغيظ وقال :
_« آه وأنت فارق معاك إيه ! ….ما أنت مش وراك بنات تسأل عليك وتوحشها وتوحشك يا متوحد ! »
كتم رعد ضحكته وقال بخبث :
_ « سفرهم معانا …هنفرح كلنا…»
تبدلت ملامج جاسر لابتسامة ماكرة وقال :
_« بقى الكيكات دول هيستحملوا حر الريف ؟! مش هيهونوا على قلبي …»
قال يوسف بتأثر :
_« كيكات ؟! أذن فليسافروا معنا …. »
رد جاسر وهو ينظر له بسخرية :
_« أنت هيليق عليك جو الريف أوي ….بط وفراخ وطور هنسيبوه في الخضرة …»
نظر رعد وآسر إلى وجه يوسف الذي امتلأ بهجة من تخيل كم الطعام اللذيذ فأنفجرا ضحكاً….
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وعند الغروب ….
بغرفتــه ….
يقف أمام باب الشرفة الزجاجي المغلق …..يشاهد قطرات المطر النازف ….إلى أين يأخذه هذا العشق ؟!
أتخذ قرار وقد كان ….سيبتعد عنها قدر المستطاع …حتى وأن ترك عمله بالمشفى بالوقت الحالي ..!
هي من قررت ذلك…أخبرته يبتعد !
جرح كبريائه لمجرد كذبة قالها ….أنها نزوة ؟!
فماذا به ؟!…وهو كان لعبة بين يديها !
صدح صوت هاتفــه الخاص ….أخذه من على طاولة قريبة منه وأجاب…ليجد الممرضة منى تُهاتفه :
_« ليلى بتسأل عن حضرتك يا دكتور ….مصممة تشوفك ..! »
تنهد بعمق ….تسخر منه يا ترى !
أم تريد ربح جولة جديدة وتنال من كبريائه !
ربما كل ما فعلته كان مجرد …لُعبة !
مريضة بإرضاء غرورها والنيل من قلبـه ..!
قال بحسم :
_« أنا مسافر كام يوم يا منى …..دكتور العناية رفض خروج والدها…قوليلها ….»
ردت منى قائلة :
_ « قولتلها وهي ما قالتش حاجة….بس مش عارفة عايزة حضرتك في إيه..؟! »
شرد وجيه قليلًا ثم قال رغما عن هذا الشوق العنيف بقلبه :
_ « قوليلها سافر …. »
انتهى الأتصال ….نظر للهاتف لدقائق ثم أجرى اتصال بعد تردد كبير….لتجيب چيهان في خلال ثواني قائلة بلهفة :
_« إيه يا وجيه طمني عليك….على ما وصلت مكنتش موجود زي عادتك في المستشفى ؟! »
صمت حتى أنهت حديثها ثم قال :
_ « چيهان….أنا موافق نرجع لبعض …..»
تلقت جيهان منه الخبر بدموع فرحة ودهشة …ولكنها تمالكت بعض الشيء وقالت :
_« هنتكلم لما نتقابل ..ولا تحب نتقابل برا المستشفى احسن ؟ »
كلاهما سواء بالنسبة له فقال بضيق :
_ « اللي تختاريه …»
قالت جيهان بابتسامة واسعة :
_« نتقابل برا …في المطعم اللي كنا بنروحه زمان …..إيه رأيك بكرة الساعة ٩ م ؟ »
وافق وجيـه سريعـًا وانتهى الأتصال…..لم ينتابه أي لحظات ندم…
وشعر كأنه يعقابها بهذا القرار… واثبات كاذب بصحة نكرانه في نسيانها …..
ولكن الحقيقة أنه يعاقب نفسه أكثر …. لأنه جدًا يحبها ..!

 

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وعند الليل وهبات الهواء البارد …..
في أحد القرى بالريف …..
قرية كانت تُحاط بالأراضي الخضر والأشجار…ورغم ذلك ينتشر فيها الأمية وتقل فيها الأمكانات خاصةً الطبية والعلمية ..
تبقى على تراث الريف القديم في ضواحيها وروابضها ….
وهناك عرس ريفي لأحد فتيات القرية ويلتفن حوله الأهل والجيران والصغار الذي يقفزون فرحاً بعجين الحنة وكأنهم ربحوا جائزة…سعادتهم صافية…نقية…
ضجت أغاني الأعراس من أفواه الفتيات والدق على الدفوف …وهم يلتفون حول العروس بمنزلها …
هتفت سما بصوتٍ ممزوج بالـ “شقاوة” والضحك وصاحت عاليـًا بغناء :
_ « أهو جالك يـــابت ….ريح بالك يــابت
اطبخيله الصبح بطة ….واطبخيله العصر بطة…وكتري يابت الشطة وأهو جالك يا بت..
خدناها خدناها….
خدناها بالملايين ..وهما مكنوش راضيين وعشانها بعنا الفدادين الحلوة اللي كسبناها ….»
تمايلت بضحكات عالية وهي تضرب بيدها اليمنى جانب رأسها وتضرب بيدها اليسرى جانبها الأيسر ….
جرّتها شقيقتها حميدة بضحكة تكتمها وهي تهمس لها بتحذير :
_« خالك عبد السميع باعتلنا يا اللي تنشكي ..اتأخرنا ….»
تملصت منها سما وقالت بضحكة واثقة :
_« بوجب مع البت نحمده …. تعالي تعالي …خالك زمناته قاعد مع مرته يتعشوا محشي …خالك بيعشق المحشي ….»
أتت جميلة ورضوى وهم يكتمون ضحكاتهم من تلك الفتاة التي تصغرهم ….. قالت جميلة بمرح :
_ « يلا يا سمكة على الدار …المرة اللي فاتت المندرة كانت هتتسرق واحنا في الغيط….»
ضحكت سما عاليًا وقالت :
_ « حرامي معفن بصحيح….حد يسرق المخدات والتليفزيون اللي بيكح ده ! طب كان خد مرات خالك
ولا العرة أبنها …نعناعة …ولا وجب معانا وسرق خيبتنا دي بدل ما احنا لا طايلين علم ولا جهل جاتنا ستين خيبة ..»
لكمها الفتيات على ذراعيها بضحكات عالية ثم خرجوا الأربعة من العرس…..ساروا بالطريق بملابسهن المحتشمة الواسعة التي كانت عبارة عن عباءة سوداء وعليها حجاب ملون يبرق تحت ضوء القمر ……
أخرجت سما من جيب ردائها حبات من ” اللب ” ثم وضعت بيد كل فتاة القليل وتركت لها البقية وقالت بحماس :
_ « أزأزي يابت منك ليها …. أحنا على لحم بطننا من العصرية …»
قالت جميلة بسخرية :
_« ما أنتِ اللي نازلة رقص وغنا ولا أكنه فرحك يا هبلة ! »
ردت سما بضحكة وهي تهمس لهم :
_« قال وأنا اللي عمالة أقول كتري يابت الشطة …ده العريس شايل اللوز وعنده اشتباه ديدان ….بس طيب »
توالت ضحكات الفتيات عاليًا لتضيف سما بضحكتها ذات الصوت الرفيع :
_« ولا شوفتي مرات أبوها ؟ وليه عقربة ….عايزة تبوظ الجوازة»
قالت رضوى بشهقة وذهول :
_ « يا مصيبتي …عملت إيه ؟! »
أجابت سما بغيظ :
_ « الولية أقولها جوعت يا خالة أنا والبنات تروح تجيبلي طبق نابت وشقتين عيش ومخلل ! … فوتت عليا المحشي بنت عبراضي الفاضي ….»
ضحك الفتيات مرةً أخرى ثم ساروا بالطريق إلى منزل خالهم
” العمدة عبد السميع ”
قالت حميدة وهي تطرح طرف حجابها للأسفل بعدما تدلى قليلًا :
_« عندي أحساس كده أن في حاجة هتحصل قريب …مش عارفة بقالي شهور حاسة بكده ..»
قالت سما بابتسامة وهي تمر حبة لب بين أسنانها :
_ « يارب نتجوز …أهو الاقي فرح أغني فيه وحد أقوله يا سيد الناس يا عترة…»
قالت رضوى بغيظ وهي تضرب بكوعها بذراع سما:
_ « ملهوفة أوي تسبينا !! »
هزت سما رأسها بتأكيد وقالت بضحكة :
_ « بصراحة آه….عايزة اصطبح بخلقة تفتح النفس بقا…»
ردت جميلة بسخرية :
_« بكرة نشوف …. آخر تريقتك على خلق الله هتكون إيه ! »
أشارت سما لها لتصمت وقالت وهي تكتم ضحكتها :
_« بت …أنتِ بالذات تسكتي… ده أنا بصطبح بشعرك المنكوش اللي شبه خارطة الطريق ! و نص ساعة عبال ما تفتكري أنتِ مين واحنا مين…
ولا البغلة اللي اسمها رضوى … درفيل بيتقلب طول الليل لأ وبجحة بتنكر! … ولا الخالة حميدة بقا…دي الشبح اللي فينا….. تفضل طول الليل تمشي وهي نايمة واللي يوقفها تنزل فيه ضرب ومش حاسة…. بصراحة العيشة معاكم معفنة…»
قالت حميدة بعصبية :
_« والبشمهندسة سما بتعمل إيه بقا ؟! »
رفعت سما يديها للسماء وقالت :
_« بفضل ادعي طول الليل أغور من وشكوا لبيت القمر اللي هتجوزه ….ما هو لازم يبقى والا هتولعوا فيا تريقة وتأليس يا عرر …»يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *