روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الثالث و الخمسون 53 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الثالث و الخمسون 53 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الثالث و الخمسون

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء الثالث و الخمسون

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الثالثة و الخمسون

~… من أنت….؟!…~
قال قبل أن يضحك ضحكة عالية :
_ نفسي أهددك بالطلاق.
انخرط الشباب الأربعة في موجة شديدة من الضحك .
وجميلة كانت تجاهد ألا يظهر عليها ولو شيء بسيط من الإبتسامة … ولكنها لم تستطع الصمود أمام هذه الألفة التي تتسرب بأجواء هذه العائلة .. فابتسمت.
ليس لمزحته .. ولكن لشعور الدفء الذي يزداد يوما بعد يوم.
ونظر الجد رشدي لهن في تفكير وبعض التردد من فتح أمرا ما … ولكن ليفتحه يلزمه الانفراد بهن … ولا إن يكون الحوار أمام الشباب الذي من المؤكد أن ستثور ثورتهم بعد معرفة المستجدات بما يخص خطوبة رضوى.
أتى الصبي نعناعة هابطا الدرج ويبدو إنه كان بغرفة عمته … وجلس مبتسما بالقرب من الشباب … ثم قال :
_ أنا متحمس أوي للمذاكرة … أول مرة أحس أني عايز أذاكر !
تطلع به يوسف بابتسامة ودودة وقال :
_قدمنا أوراقك وكله تمام … الدراسة هتبدأ بعد ٢٠ يوم وعايزين نشوف شطارتك بقا …
تدخل جاسر بالحوار قائلا بضحكة بسيطة :
_ صحيح يا منعنع … أنت أزاي قدرت تستغنى عن الجاموسة بتاعتك كده بسهولة ؟! … ده أنت حسستني أنها بالنسبالك زي جميلة كده !
كتم الجميع ضحكته مع نظرة جميلة التي تحولت للغيظ اتجاه جاسر …. والذي رمقها برفعة سريعة من حاجبيه ونظرة ضاحكة … فقال الصبي بتلقائية:
_ غلاوتها ما تفرقش عن غلاوتك عندي يا دكتور … والله أنت أزيد.
وهنا ضحكت جميلة بملء فمها وكأن الصبي بعفوية سدد الضربة بنجاح بدلا منها …. ثم قالت ضاحكة :
_ مقارنة عادلة جدًا ….
صرّ جاسر غيظا على أسنانه منها … ثم نظر للصبي الذي بدا عليه بعض الندم بعدما ادرك ما قاله … فقال جاسر له بعصبية :
_ أنت بتحب الملاكمة ؟
رد الصبي بنظرة يملؤها الحماس :

 

_ أوي …
ضيق جاسر عينيه بنظرة تسحبت إلى جميلة وقال وكأنه يستفزها :
_ هدربك … بس هتستحمل ؟
احتدت جميلة وقالت بتحذير :
_ لا ما تعلموش حاجة … أنت عايز تعلمه يتخانق مع الناس !
سخر جاسر قائلا :
_ ليه وأنتي شيفاني كل يوم في خناقة ؟! …. دي حاجة كده جنب مذاكرته هتديله طاقة وثقة في نفسه ….
قالت جميلة بعصبية :
_ لأ … علمه أي رياضة تانية مش لازم ملاكمة !
اعترض الصبي واحتج قائلًا بعصبية:
_ ما تسبيه يدربني ! …. أنتي زعلانة ليه يابت !
كتم جاسر ضحكته بنظرة واثقة لجميلة، بينما هي حدقت في الصبي بغيظ وهتفت به بعصبية من رده الذي احرجها :
_ أنا غلطانة اني قلقانة عليك يابو قردان !
وكان الجميع يراقب ردود الأفعال من ثنائي القط والفار المتمثل في شخص جميلة وجاسر …. حتى أضفى نهوض سما شيء من الجدية في المجلس … وقالت :
_ بعد أذنك يا جدي … هخرج الجنينة أشم شوية هوا …
وسمح لها الجد لبعض التنزه … ثم نهض قائلًا بعدما تثاءب :
_ كنت مستني وجيه عشان اتكلم معاه شوية … بس واضح أنه هيجي مرهق ومش مستعد لأي كلام أو نقاش … تصبحوا على خير أنا هروح أنام.
وبعدما صعد الجد لغرفته بخطواتٍ بطيئة، همس رعد لجاسر وقال :
_ يا ترى جدك عايز عمي وجيه في إيه ؟ … يا رب ما يكونش اللي في بالي !
رد جاسر وقصد أن يتحدث بصوتٍ مسموع وواضح :
_ وحتى لو اللي في بالك … الموضوع بالنسبالنا منتهي وكل واحد عارف طريقه مع مين …. اصلنا عيلة واحدة وهنفضل عيلة واحدة … مافيش صراصير هتدخل ما بينا… ولو صرصار دخل طبعا عارفين هنتعامل معاه أزاي.
وقال ذلك مؤكدًا على كل كلمة … ولكنه لم يوجه هذا الحديث لجميلة فقط … بل للفتيات الثلاث الجالسين …. حتى قال يوسف بابتسامة لحميدة :
_ أنا نفسي بقا اسمع الخبر اللي مستنيه … عايز أفرح والله.
تخضب وجه حميدة بحمرة وابتسامة يغمرها الحياء … فنهضت قائلة :
_ بعد أذنكم هروح أوضتي …. تصبحوا على خير.
وقال يوسف مجيبًا عليها بلهفة :
_ وأنتي من أهل الخير يا حميدة.
وبدت خطوات حميدة سريعة لغرفتها … كأنها تود ترك الحرية لأبتسامتها التي أخفتها عن عينيه !
وفكر جاسر للحظات … ثم قال لرضوى إبنة عمه فجأة :
_ مابقتيش بتضحكي ليه يا رضوى زي ما كنتي في البلد ؟ …. ليه دايمًا حاسس إنك حزينة وعايزة تعيطي ! …
وكان حديثه مفاجئ حتى لإبن عمه رعد ! ، فنظرت له رضوى بجمود للحظات … ثم أجابت وتجاهلت نظرات رعد المُسلطة

 

 

عليها منتظرا منها أي إشارة:
_ رضوى بتاعت البلد مش رضوى اللي أنت شايفها دلوقتي … يمكن عقلت وفهمت أكتر … واكتشفت أن كل ما البني آدم بيفهم أكتر .. كل ما بينعزل عن الناس أكتر وأكتر … الناس مش بيجي من وراها غير الهم .
وفهم رعد أنها تقصده … فتنهد بعمقٍ وضيقٍ شديد … وحقا بدأ ينفعل من عنادها الدائم اتجاهه …. ولأول مرة يبدو أن جاسر مهتم حقا بأمرها وراحتها … فقال مبتسما :
_ مش كل الناس يا رضوى … هتلاقي حد وسط كتير يهمه أنتي ..ويهمه أنه يكون جانبك … لو فهمتي فعلا هتعرفي أن قبل أي رد فعل سبب مهم … بالضبط زي السبب اللي وصلك لرد الفعل ده … الفهم مش اننا نبص لنص الكوباية … الفهم أننا نشوفها كلها … وناخد منها اللي يسعدنا … ونحكّم عقلنا.
حملقت جميلة فيه بدهشة … ثم قالت :
_ أنت جاسر اللي بتتكلم بجد ؟!
كان جاسر يتوقع رد فعل جميلة من حديثه الجاد … وربما بعض التعجب من الآخرين .. ولكن اسلوبه المرح هذا جزءً من طبيعته وشخصيته … وليس الكل ! …. فأجاب مبتسما بثقة :
_ آه هو بعينه …. مش معنى أني بهزر كتير أني تافه ! …. بس انا بطبيعتي مابحبش النكد …. وكمان البني آدم مش بيظهر على طبيعته غير مع الناس اللي بيحبهم …. عشان كده بهزر كتير معاكي.
ارتبكت جميلة من مقصده بتلك الكلمات الغير مباشرة …. فنهضت بتوتر وقالت :
_ كبس عليا النوم …. بعد اذنكم .
وركضت لغرفتها … فاتسعت ابتسامة جاسر بمكر ونهض هو الآخر قائلا بتثاؤب:
_ وأنا كمان هروح أنام … ورانا شغل كتير بكرة …
وكان ينتظر رعد انفراده ولو لبعض الوقت مع رضوى … ولكنها فعلت مثل شقيقاتها وهربت لغرفتها قبل أن يستأتف النقاش معها …..
وما تبقى في الآخير سوى آسر وذهب الجميع لغرفهم… والذي كان شاردا اغلب الوقت …. وسايرهم في الابتسامة والصمت أيضا …
ولكننا أحيانا نشعر بلهفة للحديث … أن ننفض عن روحنا ثقل كلمات حبيسة منذ وقت .. ونتحدث عن أشياء عذبتنا من كثرة الكتمان … ونتنفس الهواء بعد حديث طويل قد أخرجنا به بعض ما نشعر به من الم …. كأننا نعطي اجازة راحة لروحنا … حتى تستأنف إجباريًا العذاب من جديد….!
ودقت لهفة الحديث بقلبه … ولم يجد بهذا القلب سوى أبواب مسكنها … فأطرق … وكانت طرقاته خطوات إليها وهي بالحديقة.
*********
في موسم الحب تجف الزهور وتتورق بلحظة واحدة !
كانت تشعر بذلك كلما مر مجرد عطره بأنفاسها …. تشتاق وتتجاهل وتلتهف وتبتعد بآنٍ واحد !
وكلما ابتعدت … كلما اشتاقت أكثر !
وعند الاشتياق يولد طيف شديد وجديد من الكبرياء يؤلمها ويذكرها بما مضى …. أي عذاب هذا ؟!
ما كان خروجها للحديقة لمجرد أن تستنشق الهواء فقط … بل لإيجاد رواية ورقية كانت تقرأ فيها بنهار هذا اليوم بعدما عادت مع أشقائها من تقديم الأوراق بالجامعة ، وتركتها بالخطأ عندما تذكرت موعد إعطاء الدواء لأمها ….
ولم تحب أن يكتشف احد أنها تقرأ تلك القصص … فقد أبتاعتها اليوم سرا عند التسوق مع الفتيات … ومعها عدة روايات أخرى

 


وأخيرًا وجدتها … تنفست سما الصعداء والتقطت الرواية من على مقعد من خشب الخيزران بالحديقة .. ولكن مهلًا !
اشتاقت أنوثتها لقراءة بعض الأبيات الشعرية والكلمات المتدفقة المشاعر من أبطال هذه القصة …. لتروي هذا الحنين.
كانت البطلة تشبهها في بساطتها … ليست أسطورة في الجمال ، ولا برقة الملائكة ! …. فتاة مثل الكثير … لا تنبهر بنفسها عندما تنظر بالمرآة … ولا يسقط شعرها عند كاحل قدميها طولا !
ولم تقابل رجلا واحدًا أنبهر بعينيها !
ولكن بداخلها هذا القلب الحالم .. الذي يجعلها تشعر عند دقة الحب أنها السندريلا التي تحب الأمير …. حتى وأن كان هذا الأمير في الحقيقة رجلا فقير ! .. بسيط لدرجة التعجب من الميل إليه..!
فدقات الحب ليست مدفوعة الأجر … ولا يحركها المال وعرش الملوك ! … أنما تشبه الروح في غموضها … شيء لا نره ولا نستطيع أمتلاكه ولا السيطرة عليه… ولكنه يحركنا بالحياة والأمل …
بعضً من الوقت في القراءة بهذا الهواء الطلق لن يسبب كارثة بالتأكيد …. فجلست على نفس المقعد الخيزراني ووقفت عند الصفحة التي توقفت عندها قراءة …
كان البطل فيه الكثير من صفات “آسر” …. ربما لهذا السبب جذبتها تلك القصة تحديدًا بين العدد الذي اشترته اليوم.
هادئ ، وشاردا بأغلب الأحيان … يبدو ماكرا للحظات … ويبدو رجلا يغلب عليه الصفة العملية الروتينية للحظاتً أخرى …. وتظهر عينيه فجأة ممتلئة بالكثير من المشاعر والحنين … وبلحظة يسكنها الجمود مرةً أخرى !
ويغلبه التردد أحيانا …. وترتسم الحيرة عليه بلمحات سريعة سرعان ما تختفي !
أي منهم هو ؟ … ما حقيقته ؟! …. لا تعرف !
ربما توسمت بهذه القصة أن تخبرها ولو قليلا عن حقيقة شخصية بتلك الصفات … ربما فهمته !
كانت الحيرة تبدأ من عنوان الرواية….” من أنت …؟! ”
وكانت البطلة حائرة مثل حيرتها هذه تمامًا …. وتريد أن تسأله كلما رأته … من أنت…؟؟
وكأن الصدف أحبت أن تفاجئها وتجيب على سؤالها الصامت .. التي لن تسأله قط ! …. فوقف أمامها لا تعرف كيف أتى دون أن تشعر بخطواته … وردد :
_ من أنت ….. سؤال قوي وتقريبًا محدش هيعرف يجاوب عليه…. أول مرة أعرف أنك بتحبي القصص الرومانسية !
وقد ادرك من الغلاف أن القصة ذات طابع رومانسي وشاعري …..رفعت رأسها إليه ببطء بعد لحظات من الجمود المت بجسدها … وبنفس اللحظة التي أرادت أن تهرب منه … أرادت أن تهرب إليه !
صفعة من الحيرة الشهيرة … التي تلتهم دقات القلب عندما يحب !
وأزدردت ريقها بصعوبة حقيقية …. بأي شيء تجيبه ؟! … رغم أن ليس من المخجل قراءة الروايات الرومانسية، ولكنها لم تريد أن تخبر أحدًا بشغفها بها !
فأغلقت الكتاب بين يديها ونهضت متوترة … ومفكرة بإجابة مناسبة … تبرد دفء قلبها وتقلل تلك الحمرة الغادرة التي اقتحمت

 

 

بشرتها.
فقالت بثبات وإن كان ظاهريًا فقط :
_ مكنتش أعرف أنها رومانسية …. أشتريت النهاردة كتب كتير واتفاجئت بالكتاب ده معاهم …. فخدني الفضول وبدأت اقرأ فيه ! …. إيه المشكلة ؟!
ابتسم لها ابتسامة جعلتها تتوتر أكثر … وكرهت استغلاله لإرتباكها هذا …. وكرهت أكثر ميلها إليه …. فقال بهدوء :
_ مافيش أي مشكلة ! …. العنوان لفت نظري بس … وبصراحة حتى لو بتحبي القصص الرومانسية فأنا مش مستغرب خالص …. بس ممكن تحكيلي قصته ؟
توترها ازداد تحت وطأة كلماته الأخيرة، وما تزن من كشف لطبيعتها الرقيقة …. فقالت ببعض التلعثم :
_ وأنت بتحب القصص الرومانسية ؟! … أصلي هستغرب !
وبدت أنها ترد الضربة بطريقة ماهرة جدًا …. ويبدو أنها تظنه فظا غليظ القلب ! …. أو أنه لا يعرف الحب !
فأجاب وتحلّى بالهدوء :
_ مش من هواة قرائتها … بس لو فكرة شدتني بقراها فورا …. المهم تكون شيء منطقي …. مع لمحات من الخيال .
قالت ساخرة :
_ منطقي وخيال ! … اعتبر ده تناقض !
اتسعت ابتسامته قليلًا وقال :
_ لأ أبدًا …. بس احنا بنقرأ وبنهرب لبعض الوقت من الواقع ، بنهرب من واقعنا عشان مابنقدرش نحقق فيه اللي بنشوفه في خيالنا … فبندور عليه في القراءة … لأنها جاية من العالم اللي بنحبه … عالم الخيال…. بس خيال عن خيال يفرق … في خيال على رغم صعوبته بس ممكن يحصل … أنما في خيال أوفر وغبي ومستحيل يحصل … وده اللي ما أحبش أقراه…. مش بحب ينضحك عليا.
وشعر بحدسه أنها ستنسحب من المناقشة … فأرفق حديثه بطلب وقال :
_ ممكن اقرأ الكتاب ده لو خلصتيه ؟ ….. وياريت قبل ما اقرأه تقوليلي نبذة عنه …
ترددت سما بتوتر لبعض الوقت … ثم وجهت الكتاب إليه وقالت عمدًا وهي تتهرب من نظراته :
_ ما كملتوش … ماينفعش اتكلم عن شيء معرفش نهايته … واللي قرأته كانت البداية بس … اتفضل اقراه … بصراحة مكنتش ناوية اكمله.
تبدلت ابتسامة آسر لنظرة ضيقة واجمة على عينيها …..وأخذ منها الكتاب وهو يدرك أنها تلخص قصتها معه… نبذتها كانت عن قصة أكثر واقعية …. واكثر الم.
وقال لها متعمدا أيضا :
_ هكمله أنا يا سما … هبدأ من البداية …
جف ريقها من أشارة حديثه .. وهما يدركان أن ما خلف نقاشهما ليست هذه الرواية ! …. فابتعدت خطوة حتى تعود للداخل … فاوقفها قائلا بلهفة شديدة لوجودها:
_ محتاج اتكلم معاكي شوية …. أنا حاسس أني لوحدي !
ولم يجب أن تشعر هكذا … ولكنها رغبت بشدة أن تجلس وتسمعه … وتتيه بكل كلمة وتحاول جاهدة أن تخفف عنه .. ولكن لم تعطيها حتى صلة القرابة الحق بهذه الرابطة …. فقالت بصدق :
_ الوقت متأخر … أنا أسفة .
وتقريبًا ركضت لغرفتها قبل أن تضعف …. لم يكن من الصواب ولا من التأدب أن تظل وتتحدث معه وهما بمفردهما ! …. لم تعتاد على ذلك …. بل لتلك الدقائق البسيطة سايرها بعض الشعور بالذنب .
وكانت محقة ويعرف ذلك …. وتوقع منها أن ترفض ولم يصدم بردها …. ما كان احتياجه للشكوى إلا منها.. إليها !
وقبل برضا بعض الهدنة بينهما … الذي يعرف أنها ستكن حربا عاصفة بالأيام القادمة …
وربما تبدأ من هنا الحكاية !

 

 

*******
طافت ليلى بالغرفة جيئة وذهابًا وهي تضرب يديها ببعضها في عصبية … إلى أن تنتهي أنفاسها لن تستطع السيطرة على جنون غيرتها عليه … من أنفاسه حتى !
كانت الصغيرة قد غفت لبعض الوقت … ومن صوت خطوات ليلى استيقظت مرةً أخرى وقالت بانزعاج :
_ نامي بقا يا ماما ! ..
التفتت ليلى إلى صغيرتها وقالت مرتبكة :
_ نامي أنتي يا حبيبتي … ماما مش جايلها نوم.
صمتت الصغيرة لبعض الوقت وتابعت استماع وقع صوت خطوات أمها بالقرب … فقالت الصغيرة بعصبية وهي تزيح الغطاء عنها وتعتدل جالسة بالفراش :
_ مش عارفة أنام منك ! …. وديني عند حميدة …
اقتربت ليلى منها وربتت على رأسها بحنان وقالت :
_ طب أنا أسفة …. هنام خلاص.
وظلت ليلى تربت على رأس صغيرتها حتى بدأت الصغيرة تغفو من جديد …. وتسحبت ببطء من جانبها وأخذت جولتها مرةً أخرى في الذهاب والتجول بالغرفة في عصبية ….
أي ما كان سذاجة ما تشعر به الآن وهو المفترض أنه مع زوجته … ولكنها تشعر بنيران تحت..رق بداخلها خاصة أن جيهان تعرف أن هذه الليلة ليست ملكها ! …. ويبدو أنها خططت لتسرق منها ليلتها وتكيدها !
والأكثر من ذلك أنها رتبت للقائه بعيدا عن هنا ! … لما !
كانت على وشك البكاء من ما ينسجه الشيطان من ظنون سوداء بعقلها … حتى نهضت الصغيرة من جديد وهي تنفخ بعصبية :
_ ما تنامي بقا في الليلة دي ! …
ولو كانت ليلى بموقف آخر غير هذا لضحكت عاليًا من رد فعل الصغيرة المنفعل والمضحك بآنٍ واحد ! … ولكن اعتذرت ليلى وهي تشعر بالأختناق وقالت لها بربته حنون على رأسها :
_ خلاص ما تزعليش بقا مش هصحيكي تاني …. يا لمضة !
وكتمت الصغيرة ضحكتها وهي تختبأ أسفل الغطاء الثقيل الدافئ … وقررت ليلى أن تخرج من الغرفة وتستنشق بعض الهواء في شرفة الممر … واستغلت أن هذا الطابق لا يوجد به أحدًا سواها ….
وعندما خرجت من الغرفة مضت بالممر في خطوات يطفو عليها العصبية … حتى شعرت بأصوات أقدام أخرى تصعد … حبست أنفاسها للحظات، ثم استنشقت الهواء بملء رئتيها قبل أن تتابع خطواتها إليه.
وكان وجيه الوحيد الذي يصعد للطابق الثالث عدى الخدم من الإناث …. وقبل أن يصعد آخر درجة وجدها تقف ويظهر عليها الغضب المكبوت ….. أخذ نفسا عميقا وادرك أن هناك شجار سيحدث لا محال ….
فتح ذراعيه لها مبتسما بمرح وقال ليشغلها عن ما تفكر به :
_ اللي وحشت جوزها ميــــن ….؟!
رفعت حاجبها الايمن بغضب وقالت بحدة :
_ كنت فين طول النهار ؟!
وقف أمامها ونظر لوجهها المتوتر الملامح ونظراتها الغاضبة … وادرك أنها علمت بوجوده مع جيهان …. فقال بثبات :
_ كنت بخلص مشكلة كده … ومش لازم تفاصيل.

 

 

هتفت بعصبية :
_ مع جيهان صح ؟!
هز رأسه وكتم ضحكته بأعجوبة …. ففي هذه الحالة لم يعرف لما ينتابه المرح …فقال :
_ صح ….
فضربت ليلى قدميها بالأرض كالأطفال وهتفت به :
_ وهو يعني ماينفعش تحل مشاكلها وهي هنا ! … لازم تروح بيت أبوها ! …. ولازم أنت اللي تحلها !
رد مبتسما ليثير جنونها أكثر وقال بهدوء مستفز وثقة عالية :
_ وهي ليها حد غيري ! ….. ليلى …ليه حاسس أنك زعلانة !
هتفت بغضب وذهول :
_ زعلانـــــــة !!!..
هز رأسه مؤكدا وهو يبتسم بمكر …. فصرت على أسنانها والتمعت عينيها بدموع وهي تصيح :
_ لا مش زعلانة … أنا كويسة خالص أهوه ! …. لأ وهادية كمان ، بقولك إيه … أنت مش هتبات النهاردة في الجناح بتاعنا … مش عايزة أشوفك ….
مرر وجيه يده على رأسه للحظات جاهدا أن لا يضحك ولكنه لم يستطع … فأغتاظت أكثر وركضت عائدة لغرفتها …. فمضى خلفها وفجأة وجدت نفسها محمولة على ذراعيه وقال بضحكة :
_ بحاول ما اخلكيش تتنرفزي بس والله مش بقدر …. عصبيتك نفسها لذيذة جدًا وبتوحشني …..
وعندما دخل الغرفة تفاجأ بوجود الصغيرة ….. والذي خصص لها مربية لتبيت معها ، خلافا أنها تبيت مع الفتيات وأمها بالأيام الذي يذهب فيها إلى زوجته الأخرى جيهان ….
وأنزل وجيه ليلى من على يديه، ونظرت له بتحدي وقوة …. فالتفت إليها بوجه لا تعابير له … حتى وجدها تتجاهله تمامًا وتقترب لإبنتها ….
وقف يتأملهما لدقائق وشعر بأن ليلى تتحداه بالصغيرة ! …. وأن اعترض ستفسر هذا أنه بدأ يتأفف من وجود أبنتها !
وأغضبته هذه الفكرة ….
فهذا الوضع الذي تسلكه ليلى ليس صحيحا … ولا وجود للصغار سوى بأماكنهم المخصصة لهم …
لم يحدثها ولم يعاتبها …. بل أكتفى بقول :
_ روحت لجيهان لأن في مشكلة فعلا حصلت … ومشكلة شخصية تخص حد من قرايبها فمش هعرف أحكيلك تفاصيلها …. وطول الوقت ده كان معايا محامي وبنحلها … وعلى فكرة يا ليلى … أنا مكنتش مطالب أني أقولك … لأنها مراتي في الاساس !
واستدار لخزانة الملابس وأخذ ما يحتاجه منها، ثم توجه للحمام ليأخذ دش سريع قبل أن يخلد النوم.
فقطبت ليلى حاجبيها بحيرة … منذ أقل من نصف ساعة كانت تعطي كامل الحق لنفسها فيما تشعر به … أما الآن وبكلمات بسيطة جعلها تشعر بحماقة ما شعرت به … ومثلما فسر تصرفه كانت تريد شرح ما مرت به رغما عنها … كلاهما يخطأ …وكلاهما على صواب !
وبعدما خرج بعد دقائق تجاهلها تمامًا … وتحرك بهدوء بالغرفة وهو يجفف شعره المبتل ويمشطه … لا يبدو عليه الهدوء … ولم تتأكد من عصبيته أيضا ! …. أحيانا يكن غامضا لدرجة غير مفهومة اطلاقا !
وعندما اقترب من الفراش اعتقدت أنه سيصالحها ولكنه انحنى قليلًا وقبّل رأس الصغيرة بحنان فائق ….ثم ابتعد عن الفراش
وفاجأها بخروجه من الغرفة !
فأنفطرت دموعها وهي تتمدد بجانب صغيرتها النائمة … وبدت كالطفلة التي عنفها والديها على خطأ غير مقصود !
*******
وعند هبوطه بعصبية من الطابق الثالث للطابق الثاني قاصدا مكتبه بالطابق الأرضي …. وجد حميدة تخرج من الغرفة التي خصصت للصغيرة من الأساس ويبدو العبوس على ملامحها …. وعندما رأته ابتسمت قائلة :
_ حمد الله على سلامتك يا عمي …. كنت غايب النهار بطوله !
ربت على كتفها برقة ثم قال :
_ الله يسلمك يا حميدة … لينا قاعدة مع بعض عشان أعرف رأيك في موضوع يوسف … لو الوقت كان يسمح كنت اتكلمت معاكي … بس اكيد عايزة تنامي.
قالت حميدة واقتحمت وجهها الحمرة :
_ ماشي يا عمي خلينا وقت تاني …. أنا جيت أشوف ريميه عشان أخدها تبات معايا زي كل يوم …. بس مالقيتهاش !
سرى بعقله فكرة ما … وابتسم سرا لنفسه، ثم قال بجدية لحميدة :
_ هي مع ليلى … روحي خديها.
شعرت حميدة ببعض الحرج وقالت :
_ بصراحة يعني … اتكسف اروح أخدها من أمها … خلاص بقا هرجع أوضتي .
قال وجيه سريعا :
_ لأ عادي … روحي خديها … ماتتكسفيش دي مرات عمك، ليلى بتحبك أوي على فكرة …. عشان ريمو دايمًا تتكلم عنك .
ابتسمت حميدة بمحبة صادقة وقالت :
_ والله يا عمي وأنا كمان … ماشي هروح أخدها.
” وصممي”
قالها وجيه سريعا دون ادراك … فتعجبت حميدة للحظات … فصحح قائلا :
_ أقصد يعني عشان البنت اتعلقت بيكي وكده …. وما تزعلش لما تصحى وتعرف أن جيتلها وماصحيتهاش.
قالت حميدة بموافقة :
_ ماشي … هروح حالًا ليها، أصلها وحشتني أوي النهاردة، طول الوقت مع مامتها ومعرفتش العب معاها.
أومأ وجيه رأسه وذهبت حميدة بخطوات سريعة للطابق الثالث … فاتسعت ابتسامته بمكر وهو ينزل الدرجات للمكتب ….

 

********
انتبهت ليلى بعد دقائق من ذهابه لطرقات على باب غرفتها … وبسبب ذلك الصوت انزعجت الصغيرة ونفخت بعصبية وهي تتقلب بنومها ….. فاعتدلت بتعجب وهي تجفف دموع عينيها … فلو كان وجيه لدخل دون استأذان ! …. فقالت :
_ مين ….؟!
ردت حميدة من الخارج :
_ أنا حميدة يا مرات عمي …. أفتحي .
تمتمت الصغيرة اسم حميدة وتخيلت أنها تحلم …. حتى نهضت ليلى وتوجهت للباب وفتحته …. فطل وجه حميدة المبتسم وقالت :
_ معلش قلقت نومك …. بس أستأذنك يعني أخد ريميه تبات معايا …
وقبل أن ترد ليلى بالاعتذار اعتدلت الصغيرة بعدما تأكدت من صوت حميدة الواضح …وقالت وهي تفرك عينيها بكسل :
_ خديني يا حميدة …. واحكيلي الحدوته بتاعت امبارح … بتاعت الدبة والأرنب المشمشي …
اتسعت ابتسامة حميدة وتلقائيًا توجهت للصغيرة التي تمد لها ذراعيها بأنتظار أن تحملها …. ولم تستطع ليلى سوى أن توافق وإلا ستبكي صغيرتها … فقالت :
_ خلي بالك منها يا حميدة …
ضمتها حميدة بحنان وقالت :
_ من عينيا … ده أنا وهي بقينا ولا التوأم اللي مش بيقدروا يستغنوا عن بعض … يوسف بياخدها بالنهار … وأنا بليل بألف حكايات مخصوص عشانها ….
وبعد لحظات خرجت حميدة والصغيرة تضحك على ذراعيها …. واغلقت ليلى الباب بكآبة …. وعادت تذرع الغرفة جيئة وذهابًا من الحيرة ….. حتى قررت أن تذهب إليه …. فهو بالتأكيد لجأ لمكتبه كالعادة ….
وكان وجيه بالمكتب جالسا وأمامه كتاب مفتوح ولا يرى من كلماته شيء …. وبين لحظة وأخرى كان يحترق شوقا لمجيئها لهنا …. وينتظرها بلهفة كاسحة لجميع بقاع مقاومته …. حتى انتبه لقرع خطوات تأتي إليه ……. فأرتدى نظارته الطبية سريعا وتظاهر بالقراءة والأنغماس فيها …. بينما عينيه كانت تتسحب بخفاء اتجاه الباب ….
حتى تأكد من احساسه، وكانت ليلى التي تقف عند الباب مرتبكة وحزينة ….. وطاف ظل ابتسامة خفيفة على شفتيه أخفاها سريعا وهو يتجاهلها تماما كأنه لا يرها !
وكان حقيقة تجاهله … دليل أهتمام أخفاه الكبرياء.
*******

يتبع….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *