روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الخامس و السبعون 75 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الخامس و السبعون 75 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الخامس و السبعون

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء الخامس و السبعون

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الخامسة و السبعون

~.. صفحة حب أخرى ..~
وللحنين عودة!
عودة مكررة، مثل دقات القلب تأتِ لتحينا وتبث الحياة فينا!
وآه من الحنين عند ارتفاع دقات القلب أشتياق ..!
جلست الأم وداد بغرفتها، على فراشها تحديدًا، اليوم تحديدًا كان الأرهاق على اشده، ولكن أي شيء أمام طلة بناتها بالفساتين البيضاء لا يساوي أكثر من طرفة عين ثقيلة !
نظرت لصورة زوجها الراحل المُعلقة بغرفتها، وخدش قلبها الحنين واحساس دفين من الوحدة، ولكنها رغم كل شيء مشاعرها تدفق سعادة لفتياتها … وقالت وكأن زوجها الراحل أمامها الآن:
_ حلمك اللي كنت دايمًا تحلم بيه وأنت عايش يا مصطفى! … النهاردة شوفت بناتي الأربعة عرايس زي القمر، قلبي أطمن عليهم وهنام وأنا مطمنة من النهاردة ..
قالت جملتها الأخيرة ببعض التردد، وبعض الدموع !
منذ رحيله وهي لم تنم ليلة واحدة آمنة مطمئنة !
حتى أن كل سعادة تبدو عابرة مؤقته مهما أشتدت طرقاتها على القلب !
تدور السعادة حول قلبها ولكن سكن القلب يشتاق لساكنه الراحل !
مسحت وداد عينيها من الدموع عندما انتبهت لطرقات على الباب، ودخل الصبي نعناعة بابتسامة واسعة مُبهجة.
ويبدو أنه رفض التخلي عن حلّته الأنيقة الذي ابتاعها بالأيام السابقة .. مضى وجهة عمته وداد وجلس قربها قائلًا:
_ ها يا عمتي قوليلي لو كان فات عليا حاجة النهاردة؟
ربتت وداد على كتفه بمحبة صادقة وقالت:
_ كتر خيرك يا بني، كنت واقف جنب أخواتك لحد ما كل واحدة مشيت مع عريسها وماسيبتهمش لحظة.
ابتسم الصبي بسعادة شديدة وقال:
_ البنات كانوا عسل صافي النهاردة والله، ربنا يسعدهم ويحميهم يارب.
قالت وداد وعي ترفع يدها بالدعاء:
_ يارب العالمين …

 

 

يبدو أن الصبي تردد في قول شيء مع نظرات المترددة هذه، ويبدو أنه أتى لهذا الشيء أيضاً … فقال :
_ بقولك إيه يا عمتي، هي سما حد زعلها ؟ … أصلها لما راحت عند الكوافيرة كانت مبسوطة أوي وطايرة من الفرحة، بس في الفرح نفسه حسيت أن في حاجة !
ولم تحب وداد أن تُقلق نفسها بذلك الأمر بعدما لاحظته أيضا فقالت مبتسمة:
_ أي بنت بتبقى خايفة من المسؤولية اللي داخلة عليها، ده أنا يوم فرحي كان ناقص شوية وأعيط !
وختمت جملتها بضحكة فأطمئن الصبي وشاركها المرح .. ولكن بعدها شرد الصبي مرة أخرى … وقال بعدها:
_ تعرفي يا عمتي أنا مش عارف أزاي هبعد عنكوا تاني؟!، اكيد هيجي يوم واخلص دراستي وارجع البلد، بس أنا متعلق بأخواتي البنات أوي وهيبقى صعب عليا أسيبهم !
ابتسمت وداد وقالت بنظرة ماكرة:
_ طب إيه رأيك بقا أني كلمت أبوك في الموضوع ده وخليته يفكر !
التفت لها الصبي بلهفة وقال:
_ خلتيه يفكر في إيه؟!
شرحت وداد :
_ بعتله امبارح يجيلي هنا واتكلمنا براحتنا، أنا هنا بفضل في أوضتي اغلب اليوم وبصراحة ساعات كتير بحس بملل، لما كنا في البلد اهو امك كانت بتونسني ونتكلم ونتشاور واليوم بيعدي، أنما هنا بفضل قاعدة مابعملش حاجة!
كلمت اخويا العمدة أنه يسيب البلد ويجي هنا، يفتحله مشروع صغير كده على الأد ويبقى جانبي اروحله ويجيلي وما نتحرمش من بعض .. وعشانك أنت كمان.
كاد أن يقفز الصبي بسعادة وهو ينهض واقفا وقال:
_ ده يبقى يوم الفرح والهنا لو أبويا وافق يا عمتي، أنا ما تخيلتش أن ممكن حتى أبويا يفكر في كده مش يوافق !
قالت له وداد مبتسمة بثقة:
_ ادعي لعمتك بقا، وبصراحة أنا عارفة أني غالية عنده واستغليت ده عشان يوافق، يجي هنا ويبقى جانبي وقت ما اعوز اشوفه الاقيه جانبي، مش لسه هسافرله!
قبّل الصبي رأس عمته بسعادة شديدة وقال:
_ ربنا ما يحرمنا منك أبدًا يا ست الغاليين ..
وفر الصبي راكضا بقفزات مرحة للخارج واتسعت ابتسامة وداد وهي تتبعه بنظراتها …
*********
وبأشد ساعات سواد الليل ..
تملمت رضوى بعدما سبحت غفوة عميقة وتاهت في أحلامها، ولكن عادتها المزعجة في التقلب كثيرًا غلبتها دون أن تستيقظ حتى ! …
وكان رعد يضطجع على جانبه الأيمن وينظر لها مبتسماً ومراقبًا … حتى تململت مرة أخرى نحو رعد، ودون أن تدرك دفعت يدها على وجه رعد بصفعة قاسية جعلت أذن رعد تصفر من قوتها واتسعت عينيه على آخرهما!
فأنتفض غاضبا وهتف بها بعصبية حتى فتحت عيناها بذعر !
وانتفضت من موضعها هي الأخرى وسرعان ما تحكمت بخوفها وهي تجيبه بانفعال:
_ بتصرخ كده ليه وفي نص الليل أنت اتجننت؟!
كان يستند بركبتيه على الفراش ويشير اليها غاضبا :
_ أنتي فاكرة أنك هتفلتي مني باللي عملتيه ده ؟! … أنا متاكد أنك قصداها!

 

 

سألته بغيظ وعصبية وهي حقا لا تدري ماذا فعلت:
_ وأنا عملت إيه أن شاء الله ؟!
وضع رعد يده على جاتب وجهه وأذنه ببعض الألم ثم نظر نحوها وقال:
_ يعني ايدك اللي تتقطع دي ما نزلتش على وشي ؟!
ذهلت رضوى للحظات، ولكن تذكرت مواقف مشابهة مع شقيقاتها وعندما نظرت اليه ضحكت عاليًا فجأة !
ثم قالت وهي تحاول كبت ضحكاتها :
_ لا فعلا مش قصدي، أنا بتقلب كتير وأنا نايمة .. مكنش قصدي الطشك بالقلم!
وانخرطت بموجة ضحك أخرى حتى تصاعد غضب رعد تمسك بياقة ردائها وكأنه يتشاجر مع رجلًا، فنظرت له رضوى بتحذير وانقطع الضحك فجأة وقالت:
_ سيب بقولك !
اومأ رعد بالرفض وهو يحاول يكظم غيظه كي لا يدفعها خارجا، رغم أن رؤيتهما هكذا تثير الضحك فعليًا وقال:
_ احمدي ربنا أني ما سلمتش على وشك بكام قلم يفوقك وانتي نايمة ! … حمارة نايمة جانبي؟!
شهقت رضوى من ما قاله وضيقت عيناها بخطر، وفجأة دفعته للخلف فسقط رعد على ظهر للأرض وعندما نهض كانت نظرته شرسة وخطرة كأنه أصبح مجرم !
أشارت رضوى بتحذير وهي تكتم ضحكاتها بالكاد:
_ ما تعصبنيش تاني عشان أنا…
لم تتابع حتى كان ينقض عليها راكضا خلفها، فضحكت بصدق وهي تركض منه، ولكن تشابك طرف ردائها الحريري مع أطراف أحدى قطع الاثاث ومزقته!
فغرت رضوى فاها بذهول وهي تنظر للرداء الحريري الذي وصل التلف به لأن يجعله غير صالح للأستخدام ثانيةً..!
وقف رعد مبتسما لها بمكر وشماته، نظرت له رضوى بغيظ وعصبية وهي تهتف وكأنها ستبك:
_ أمي هتزعقلي !.
كتم ضحكة وقال وقد تبدد غضبه تمامًا من رؤيتها هكذا:
_ شمتان فيكي .. تستاهلي بصراحة، وبعدين هو انتي ناسية انك اتجوزتي ومسؤولة مني أنا مش من امك؟!
كانت نظراته تتفحصها ببطء جعلها تبتلع ريقها بتوتر وارتباك، فأشارت له قائلة بعصبية تواري خلفها خجل شديد:
_ ارجع نام يا رعد وأوعدك مش هقلقك ..
هز رأسه بموافقة، ولكن عينيه كانتا تضمران شيئا آخر، وعندما مرت من جانبه وهي ترتجف توجس وخشية كاد أن يمسك معصم يدها ولكنها ركضت لخزانة الملابس واختبأت بداخلها وهي تقبض على الباب الجرار كي لا يُفتح! …. فضرب رعد يده بعصبية على الباب وقال بتحذير:
_ أطلعي يا رضوى بلاش لعب عيال !!
قال رضوى وهي بداخل الدولاب:
_ مش هطلع من الدولاب غير لما تطلع أنت من هنا ! …
قال بعصبية أشد:
_ أنتي فاكرة أني هعرف افتحه غصب عنك يعني ؟!
وهي دفعة من يده وكان استطاع فتح الباب الفاصل بينهما ونظر لها بشررا قائلا وهو يجذبها لتقف أمامه:
_ صبر وممكن اصبر عليكي، أنما تصرفاتك التافهة دي بتقللك في عيني !..
نظرت له والدموع بدأت تظهر بعينيها وصاحت به:
_ ما أنا اصلا قليلة في نظرك ! … من أمتى وأنت شايفني كبيرة ؟! .. من أمتى وأنت عاملي قيمة ؟! … وقت ما حبيت تمشي مشيت!، ووقت ما حبيت ترجع رجعت لا واتجوزتني كمان ! … بس أن كانت الظروف ساعدتك لحد دلوقتي فمتفتكرش أني سعيدة وفرحانة باللي بيحصل !
هز رأسه بحيرة وقال:
_ أزاي بتحبيني وتكوني مش مبسوطة أنك معايا ؟! … ليه مش قابلة تديني فرصة تانية ؟!
صاحت به بغضب من ثقته بضعف قلبها أمامه وقالت كاذبة:
_ ومين قالك أني بحبك ؟!
سلط عينيه عليها بنظرة ضيقة وبتحد:
_ قولي أنك مش بتحبيني ؟
رددتها بعصبية :
_ مش بحبك !
اقترب لها وأمرها بالتكرار فكررتها مرة أخرى وهي تنطقها بارتباك :
_ قولت .. أني، مش بحبك !
رفع وجهها اليه ونظر لها مليًا بنظرة عاشقة وهمس:
_ بس أنا بحبك … بحبك ومافيش واحدة دخلت قلبي غيرك ..
بحبك وماقولتهاش لحد غيرك أنتي …
نظرا لبعضهما للحظات … وكانت نظراته العاشقة تقابل نظراته الممتلئة بالدموع والعتاب .. ولكنه غير كل الخطط في لحظات … واستطاع التأثير على عقلها حتى لو مؤقتاً … حتى لو يعرف أنها بالغد ستعود تلك المتمردة ويمكن أشرس … ولكنه سيروضها بطريقته …
*********

 

 

وقد اعلنت خيوط الصبح عن المجيء ..
خرج آسر من مرحاض الغرفة وهو يجفف رأسه ويصفر بلحن مقطوعة غنائية، رمق سما بنظرة خبيثة وابتسامة، وتغاضى عن جلستها الحزينة على الفراش وعينيها الباكية المتهربة من نظراته …. لفت حولها الروب الثقيل الذي ارتدته منذ دقائق عندما اقترب منها آسر وبعينيه تسلية وقال :
_ مافيش صباح الخير يا حبيبي؟!
التفتت له بنظرة غاضبة ووجهها غارق بالدموع وقالت:
_ حبيبي ؟! … تعرف أني حتى لو كنت حبيت فكرهتك ؟! متخيلتش أنك …
وصمتت وهي تعود لنوبة بكائها، رغم أنها تعترف لنفسها سرا أنه لم يرغمها لأكثر من لحظات قليلة وبعدها عاد لذلك الرجل الذي ولولا ما عرفته عنه من تلك المسماه بريهام لكانت صدقت جميع ما قاله بالأمس والكلمات الرومانسية وقصائد في العشق والهوى! … فأخرجها من همسها لنفسها وقال وهو ينظر لها بدقة:
_ مش مستعد أتنازل عنك مهما قولتي، ولو سمحتي بطلي عياط وقومي اغسلي وشك ..
هتفت به لعصبية وهي تبك:
_ انا مش عايزة حتى اسمع صوتك !
فقال بتعجب :
_ أنا مش عارف أنتي بتعيطي ليه؟! … بتعيطي عشان حطيتك قدام حقيقة انك بتحبيني … ولا عشان مخلتكيش تنفذي اللي في دماغك ؟! …
وهذا أكثر ما اوجعها، انه اكتشف أنها تحبه ومقاومتها أمامه غير قوية مثلما كان يظن ! … فقالت :
_ صدقني أنا لو حتى حبيتك فدلوقتي كرهتك ! .. مفكرتش فيا وفي اللي عرفته من ريهام دي ووجعني ! .. مفكرتش غير في نفسك!!
نظر لها آسر وحاول أن يتحكم في طيف العصبية العابر هذا بداخله، واعتدل بجلسته وجذبها اليه، فحاولت أن تدفعه ليبتعد، ولكنه مسح عينيها من الدموع وقال بجدية ورقة:
_ إيه رأيك يا سما نتفق اتفاق؟! … سيبك من كل اللي فات، فيها إيه لو قلبنا الصفحة دي وتجاهلنا اللي فات كله وبدأنا من جديد ؟! … أنا مرتاح ومبسوط معاكي ومش عايز أسيبك … أظن ده سبب كافي يخليكي تديني فرصة تانية ؟
قالت بمرارة:
_ عايز تقلب الصفحة عشان مليانة بغلطك !
هز رأسها نفيًا وابتسم قائلا:
_ لأ … عشان احنا الاتنين نستاهل نكون مع بعض …
تنقلت نظراتها على عينيه علها تتأكد من جدية قوله، فأومأ مؤكدًا بابتسامة واسعة لم يخلو المكر منها ! … فتحركت من الفراش وسألها :
_ رايحة فين ؟
أجابته ببساطة، ولكن الإجابة كانت قرار في طياته:
_ هغسل وشي عشان محدش ياخد باله اني كنت معيطة.
وتوجهت لحمام الغرفة، وراقبها آسر بابتسامة عاشقة، ولولا أنه يعرف أنها لا زالت مترددة في الأفصاح عن حبها أمامه وستكذب اعترافه…. لكان أعلن لها مئات المرات أنه يحبها حتى الجنون !
********
فتح جاسر عيناه فجاة وكأن أحد جره جرا من حلمه الجميل وعاد به للواقع! … وذلك عندما ارتفعت ضحكة عالية ترحع لصوت أنثوى !…. ونسى للحظات أنه تزوج!
نظر بجانبه فوقعت عيناه على جميلة التي تغط في سباتٍ عميق ولكنها يبدو تحلق بحلم مبهج لتضحك هكذا !!
رفع رأسه ليتأكد ووجدها كذلك بالفعل بل وتتمتم بكلمات غير مفهومة ! … اقترب منها بأذنه حتى يستطيع سماع ما تقوله ولكن اقتحمت أذنيه ضحكة رنانة !
اعتدل مفزوعا ومنزعجا وهو ينظر لها بغيظ، ثم انتبه لتمتمتها مجددًا فهز يدها لتستفيق وقال:
_ جميلــــة ؟! … فوقي من الغيبوبة اللي أنتي فيها دي !!
فتحت جميلة عينيها ببطء وابتسامة واسعة مرسومة على محياها وهي تمط ذراعيها بكسل … فنظرت له قائلة بتلك الابتسامة:
_ صحيتني من الحلم ليه بس؟!
نظر لها بعصبية وقال:
_ ازعجناكي معلش ! … أنتي بتتكلمي وأنتي نايمة ؟!
ضحكت جميلة بمرح وقالت :
_ لا مش دايمًا، بس ساعات بتحصل ..
وتململت للجانب الآخر ونامت في لحظات قليلة، فنظر لها جاسر مدهوشا من سرعة عودتها للنوم !
ثم صرّ على أسنان بغيظ شديد وهو ينظر لها …
********

 

 

فتحت حميدة عينيها بكسل على وجه يوسف المتطلع بها بابتسامة لم ترى برقتها من قبل، بينما قد بدل ملابسه بطقم أسود رياضي شديد الأناقة وهو يقف قرب النافذة الزجاجية ويستند بجانبه على الحائط … وانعكاس الضوء الخفيف للغرفة يسقط على جانب وجهه برؤية حالمة شاعرية.
ابتسمت له وقالت بتعجب من وقفته هكذا بتيار الهواء المنبعث من النافذة:
_ واقف كده ليه ؟!
نظر لها نظرة مليئة بالعاطفة جعلتها تحمر خجلًا فقال بمرح والسعادة تتبختر بعينيه:
_ فاضل نص ساعة على الفجر، صحيت استنى عشان ما يفوتنيش … بس بصراحة معرفتش ابعد عنيا عنك !
تسللت رجفة بعمودها الفقري وهي تنسل من الفراش وتحكم روبها المخملي الثقيل حولها للتوجه له، فاستقبلتها يديه بترحاب شديد وضمها بسعادة هامسا عندما القت عليه تحية الصباح :
_ دي أجمل صباح الخير سمعتها في حياتي تقريبًا ..
نظرت له حميدة وقالت بمرح لكي لا يربكها هذا الخجل أكثر من ذلك :
_ لو جعان هنزل اجيبلك فطار حالًا..
اتسعت ابتسامة يوسف وقال بمحبة وهو يرجع خصلة تمردت من شعرها ولفحت بشرتها:
_ هو أنا جعان بصراحة، بس مستني الفطير … شامم ريحته !
تشممت حميدة الرائحة وقالت بابتسامة واسعة :
_ دي تلاقيها أمي ومرات خالي بيعملوه عشان الصباحية … والله أنزل أجيبلك دلوقتي.
قال بغمزة وابتسامة واسعة :
_ لا طبعا انا اللي هنزل واجيبلك الفطار لحد عندك … كنت مستني فطير صباحيتي بالذات …
ابتسمت حميدة بحياء وقالت متساءلة:
_ ليه ؟
ضحك يوسف وقال :
_ عشان أكله كله ..!
اغتاظت منه حميدة وظهر عبوس شديد غلى وجهها وتقطيبة، فانخرط يوسف بموجة شديدة من الضحك.

وبعد طلوع الشمس بقليل ..
كانت الأم ” وداد” وزوجة أخيها العمدة بالمطبخ الواسع بمنزل العائلة يعدون طعام افطار الصباح التقليدي للعرائس ” الفطير” … وشاركهما الصبي نعناعة وجلس يتأمل ايديهن الماهرة في اعداد الطعام .. فقالت وداد بضحكة وهي تسحب أحدى الفطائر من الفرن الساخن :
_ هتطلع معايا يا واد يا نعناعة لكل واحدة، هتشيل بس الفطار عشان مش هقدر اطلع وأنا شايلة حاجة، وأمك تعبت خالص الايام اللي فاتت.
قالت زوجة أخيها المنغمسة في تكبير أحدى الطبقات الرقيقة لآخر الفطائر :
_ ما اطلع وخليكي أنتي مرتاحة، أنتي تعبتي امبارح والحركة الكتير غلط على رجلك.
ردت عليها وداد بابتسامة ونظرة عين يغمرها السعادة:
_ ده اليوم اللي كنت بتمناه، بقا يوم ما يجي احرم نفسي من فرحته؟! … وكمان عايزة أصبح على بناتي وعرسانهم.
لم تعرض زوجة العمدة وتركت لها السبيل لتقوم بكل ما يستطيع أن يسعدها، وقالت للصبي بأشارة فهمها :
_ حط الفطار وانزل طوالي وسيب عمتك يا نعناعة .. بس الأول ساعد عمتك تقوم ووديها الأوضة اللي على يمينك دي تغير هدومها، أنا محضرالها كل حاجة.
اومأ الصبي بموافقة ثم انتهيا السيدتان من إعداد الفطائر، وساعد الصبي عمته لتنهض وتذهب للغرفة المقصودة لتبدل ملابسها لأخرى …
ودقائق وكانت وداد تفتح الباب بقدميها الثقيلتان، بينما أشرق وجه الصبي عندما وجدها قد بدلت اللون الأسود أخيرًا بملابس مبهجة أكثر .. فقال ببهجة:
_ إيه الحلاوة دي يا عمتي ؟! … آه كده رجعتي الوزة اللي أعرفها.

 

 

ضحكت وداد على مزحته وقالت :
_ كسفتني يا واد يا نعناعة! … بس يعني مش حلو اطلعلهم بالهدوم السودا بتاعتي دي !، قولت أغير شوية.
قالت زوجة العمدة بضحكة وهي تنهض:
_ وماله يام البنات تغيري وتفرحي ببناتك وبخلفتهم أن شاء الله، هغير هدومي أنا كمان وهحصلك.
كادت أن تنهض حتى لاحظوا هبوط يوسف بوجهه الوسيم جدًا المبتسم بإشراق … تعجبوا الثلاثة للحظة حتى اتسعت ابتسامة يوسف وقال:
_صباح الخير عليكم، أنا جاي أخد الفطار لحميدة.
كتم الصبي ضحكته ثم همس قائلًا:
_ حميدة سيطرت من أول يوم! .. البت دي بت عمتي بصحيح!
ثم ذهب ليوسف بعناق وابتسامة قائلا:
_ صباحية مباركة يا عريس …
ابتسم له يوسف وقال:
_ الله يبارك فيك يا نعناعة، عقبالك ..
رفع الصبي يديه بالدعاء والرجاء وقال:
_ يارب السنة الجاية يـــــارب، طولت أوي في العزوبية يا دكتور!
ضحك الجميع على مزحة الصبي، ثم اقترب يوسف لوداد وقبّلها من رأسها قائلًا بمحبة ودفء:
_ صباح الخير يا أمي ..
ولأول مرة تسمع وداد هذه الكلمة من فاتسعت ابتسامته بسعادة وقالت وامتلأ قلبها بالأطمئنان والفرح:
_ صباح الخير والهنا ياحبيبي … كنت لسه طالعة بالفطار ليكم.
أسندها يوسف من يدها ليصعدا الي الطابق حيث جناحه الخاص … فقالت زوجة العمدة لهما:
_ هرتب الفطار واحصلكم بيه..
قررت زوجة العمدة الصعود بالطعام بدلا من ابنها، وذهبت مباشرة لأحدى الغرف لتبدل ملابسها قبل أن تصعد.
وبالجناح الخاص بيوسف وحميدة …
فتح يوسف الباب وهو يسند وداد فوجدا حميدة ترتدي عباءة استقبال باهرة الجمال وعلى رأسها شال شال وردي أبرز نعومة ملامحها المشرقة بالسعادة …. فاقتربت حميدة إلى أمها وضمتها وداد بمحبة شديدة وهي مبتسمة ابتسامة واسعة.
وراقبها يوسف بنفس الابتسامة وتأملها عند كل لافته بنظرات حب واضحة.
حتى قال يوسف بمرح وهو يغلق الباب عليهم:
_ هنفضل واقفين كده ؟!
اخذت حميدة أمها إلى الغرفة الداخلية وتركهما يوسف لبعض الوقت بعدما تشاركا الكلمات المرحة للحظات، ولمعرفته أنها تريد أن تتحدث مع أبنتها قليلًا …
ودقائق قليلة وكانت زوجة العمدة تدق على الباب، ففتح يوسف الباب وحمل عنها الصينية بالطعام الشهي ذو الرائحة اللذيذة، ثم رفعت صوتها بزغرودة عالية ..
ودخلت زوجة العمدة لغرفة حميدة حيث وجدتها تضحك مع أمها فنهضت حميدة لها احتراماً وعانقتها بمحبة صادقة، فانهمرت زوجة العمدة عليهم وزغردت مع التهنئة والضحكات العالية، ثم قالت بمشاكسة لحميدة:
_ مش زي الفطير بتاعك انتي والبنات بس أهو حاولنا على قدنا يعني …
ضمتها حميدة بسعادة وقالت:
_ تسلم ايديكم يا مرات خالي أنتي وأمي، هو احنا نيجي إيه جمبكم بس!
قالت المرأة بضحكة :
_ طب الحقي أفطري، يوسف خد الفطار مني وشكله مش هيسيبلك حاجة !

 

 

قالت وداد بتأكيد وهي تبتسم بزهو:
_ وماله ياكل لما يشبع جوز بنتي حبيبي .. هجيبله تاني.
تظاهرت حميدة بالعبوس والغيظ وقالت:
_ طب وأنا ؟!
ضحكت وداد على ابنتها وقالت لتغيظها:
_ مش مهم أنتي ..
وبعد قليل كانت وداد تركت أبنتها مع زوجها بعدما اطمئنت عليها، فوقفت حميدة أمام يوسف بعينان ضيقتان من الغيظ، ونظرت له وهو يلتهم الطعام بشهية عالية وقالت:
_ ده بدل ما تستناني وتأكلني بإيدك ؟!
ابتلع يوسف ما بفمه وهو يود لو يضحك، ثم جذبها من يدها لتجلس بجانبه ورفع قطعة من “الفطير” واطعم حميدة بدلال ويعاملها وكأنها طفلة !
شاركته حميدة الطعام وظلا يتمازحان ويضحكان طيلة وجبة الافطار ..
********
راقب جاسر بنظرات غيظ شديد زوجته جميلة وهي تقف أمام المرآة وتمشط شعرها غير مكترثة بوجوده تمامًا !!
زفر بضيق وساوره شك أنها ابتعدت قصد وليس خوفا مثلما ادعت بالأمس !
نهض من مكانه واقترب لها وقال بنبرة يعكرها شيء من العصبية عندما وقف بقربها:
_ سامع زراغيد … مش سامعة ؟
تجاهلته جميلة ظاهريًا فقط، بينما كانت ترتجف سرا وقالت وكأنها ام تفهم ما يعنيه:
_ آه سمعت، عادي يعني ما هو امبارح كان فرحنا !!
قال ليستفزها :
_ الكل مبسوط إلا أنا !، دي صباحية دي ؟! … دي مسائية، عصرية ماشي ، انما مش صباحية ابدًا !
سمرتها جملته وفهمت ما خلفها، ثم دفعت المشط من يدها نحو المرآة واستدارت له بنظرة جامدة قوية وقالت:
_ وأنت مش مبسوط ليه بقا أن شاء الله !! … ولا ناسي اللي قولته امبارح بعد ما شوفتني خايفة كده !
حاول كظم غيظه منها وابتسم مرغما وقال:
_ لا مش ناسي، واكيد مش حابب أشوفك خايفة زي امبارح كده أنا مش عفريت يعني !!
وأتت وداد لجميلة مثلما فعلت منذ قليل مع حميدة وعندما قالت جميلة لأمها وزوجة خالها عن مدى خوفها بالأمس صدمت وداد ثم جذبتها بغضب لتجلس بجانبها وقالت:
_ أنتي عندتي ومانسيتش الموضوع اللي حصل في البلد ونفذتي اللي في دماغك صح ولا لأ ؟!
بينما اكتفت زوجة العمدة بنظرات لوم لجميلة، فقالت جميلة بعيون دامعة ودفاع:
_ لا والله العظيم، بس معرفش ليه حسيت فجأة أني برتعش ومرعوبة منه ومن كل حاجة حواليا .. من كتر الخوف كنت حاسة أن قلبي هيوقف !، وهو بصراحة قدر حالتي وسابني ارتاح ..
قالت زوجة العمدة ملطف الاجواء:
_ معلش يا وداد البنات بيبقوا كده ماتلوميهاش .. بكرا يبقوا سمنة على عسل.
تنهدت وداد بنظرات منفعلة لأبنتها وقالت وقد هدأت قليلا :
_ ماتخربيش على نفسك يا جميلة ..
يبدو أن امها لا زالت مقتنعة أنها تعاند للخلاف القديم، فقالت جميلة بضيق ويأس :
_ والله كنت خايفة أوي وما فكرت حتى في اللي حصل في البلد ..

 

 

قالت وداد ببعض الهدوء :
_ طالما حلفتي هصدقك، ولو على الخوف هيروح ماتقلقيش هيروح ..
هزت جميلة رأسها بتأكيد وكأنها تريد أن تصدق ذلك … ودخل جاسر للغرفة راسما ابتسامة لطيفة ووضع يده على كتف جميلة بارياحية وقال :
_ مستنيكم عشان نفطر سوا ..
نظرت له وداد بابتسامة محبة ثم نظرت لأبنتها بنظرة ذات معنى فهمتها جميلة على الفور، وقالت :
_ لا يا حبيبي هسيبكم تفطروا براحتكم.
ولاحظ جاسر نظرات جميلة لأمها وفهم أنهما تحدثا … وساوره شعور متضارب بين الضيق والتفهم ..
حتى غادرت وداد ومعها زوجة أخيها العمدة، وكي تبدد جميلة هذا التوتر المنتشر حولها قالت بابتسامة وهي تجلس أمام صينية الطعام على مائدة صغيرة:
_ الفطار شكله يفتح النفس .. يلا نفطر ..
نظر جاسر لها نظرة طويلة مليئة بالعصبية والعتاب وقال:
_ ماليش نفس، هبعت حد يعملي قهوة ..
اعترضت جميلة وقالت:
_ قهوة على الريق كده ؟! … لا طبعا مش هسمحلك ..
ونهضت لتجذبه من يده نحو الطعام ولكنه أوقفها بعصبية قائلا بنظرات قاسية :
_ وتسمحيلي ليه اصلاً ولا ما تسمحيليش أنتي مالك ؟! … بتحاسبيني بس مش عايزة حد يحاسبك ؟!
رميت الكلمات بوجهها كالرصاص ونظرت للأسفل وتساقطت الدموع من عينيها وقالت بأسف وضيق غريب :
_ محدش فاهمني ، ولا حد عايز يفهمني، أنا خايفة … خايفــــــــة ومحدش مقدر ده!
أثرت فيه دموعها فأحتواها بين ذراعيه رغم ضيقه الداخلي وقال محاولا دحض حزنها هذا :
_ طب تعالي نفطر يمكن الفطير يضيع خوفك مني …
وضحكت رغما وهي تمسح دموعها عندما مازحها، ليس سبب ضحكاتها كلماته، وأنما عودته للطف والرقة التي كانت في أمس الحاجة اليهما الآن …
*********
الحيرة …؟!
هي شتان يرفض الشيء ويريده بنفس الوقت !
مزيج من الأبيض والأسود والنتيجة شيء لا ينتمي لأي منهما !
وقفت رضوى شاردة قليلًا أمام المرآة وتركت شعرها المبتل يجف قليلًا، ثم استدارت نحو رعد النائم في سباتٍ عميق والذي أصبح زوجها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ..
وابتسمت بمحبة شديدة، رغم أنها منذ لحظات قليلة كانت شاردة بعتاب لنفسها … هذه هي الحيرة التي تعيشها الآن … منتهى السعادة ومنتهى التردد !
التفتت للمرآة مرة أخرى ومشطت شعرها بعناية، ثم القت نظرة متفحصة على مظهرها بالعباءة الذهبية اللون المطرزة برقة وشعرها الأسود المنسدل على كتفيها أعطى بروز لطول عنقها …
واستوقفها صوت نقرات خفيفة على باب الغرفة، فعلمت أن الطارق أمها دون شك، فخرجت من الغرفة واغلقت باب الغرفة الداخلية على رعد الذي لا زال نائمًا …
ولكنه فتح عينيه بكسل إثر صوت إغلاق الباب ونظر نحوه للحظات … ثم اعتدل بالفراش وهو يمسح بيده على راسه ووجه … وابتسم بمكر عندما تذكر الساعات الفائتة …
حتى باغته أصوات الزراغيد المرتفعة بالخارج بعد دقائق، فنهض ليغسل وجهه قبل أن يخرج لهم …

 

 

وبعد قليل كان خرج من الغرفة ولاحظت رضوى شعره الاسود الناعم وقطرات الماء البسيطة لا زالت معلقة به، ورحب رعد بابتسامة واسعة الزراغيد التي تكررت فور خروجه، وقالت له وداد بسعادة واطمئنان لرضوى تحديدا بسبب توعدها لرعد سابقا :
_ خلي بالك من رضوى والله دي شبه العيال الصغيرة أقل كلمة ترضيها …
نظر رعد لرضوى بضحكة وقال وكأنه لا يصدق ما يقال:
_ آه طبعا عارف، دي زي النسمة !!
مطت رضوى شفتيها بثقة وضحك الثلاثة علي ردة فعلها ….
وبعدما خرجت راضية ويعسدة لأبنتها … جلست رضوى أمام الطعام ولكنها ابدت عدم شهية واضح رغم شعورها بالجوع، ولكن لكي لا تشعره أنها راضية عن ما حدث ..
جلس بجانبها وبدأ يأكل ويكتم ضحكته على عبوسها، ثم التفت لها قائلا بابتسامة مستفزة:
_ ايه يا روحي مش هتفطري معايا ؟!
أجابت بعبوس ونظرة مغتاظة منه:
_ لأ ..
قال بابتسامة أشد استفزاز :
_ لأ هتفطري ….
قالت بانفعال :
_ هفطر غصب عني يعني ؟! … هتجبرني ؟!
هز رأسه نفيا وقال بنظرة ماكرة :
_ لا طبعاً مش هجبرك على حاجة …. أنتي مش من النوع اللي بيعمل حاجة مجبر عليها … هسيبك براحتك وأكل لوحدي …
واستفزها بحديثه، وكانت تعرف أنه سيفكر هكذا … فبدأت تأكل بنهم وقالت بغيظ :
_ جوعت فجأة ، اصلا الاكل ده أمي اللي عملاه …
وكتم ضحكاته طيلة وقت الطعام فهتفت به بعصبية :
_ ايه اللي بيضحك ؟!
تماسك قليلا سوى عن ابتسامة وقال:
_ مش بضحك عليكي لأ، ما تقوليش كده أحنا أهل !!
اكرقت رضوى بعصبية على المائدة ونهضت واقفةةوهي تصيح بكلمات لا معنى لها :
_ لو فاكر أن كده وخلاص بقا، لا هو مش كده وخلاص بقا أنت فاهم ؟!
انخرط رعد بنوبة ضحك شديد ثم قال :
_ المهم انتي فاهمة اللي بتقوليه ؟!
وضربت قدميها بالأرض كالطفال فوقف أمامها وسيطر على موجة الضحك هذه ، فهتفت رضوى بانفعال شديد :
_ أيوة أنا فاهمة !!

 

 

جذبها إليه وقال بنظرة عاشقة تتفحص جميع ملامحها ببطء:
_ أنتي جميلة أوي يا رضوى … بالذات النهاردة ..
ابتلعت ريقها ارتباكا وللحظة شعرت أنها لن تنتصر عليه مهما فعلت، فابتسم بتسلية وهو يرى موجة الارتباك تتمايل على ملامحها بوضوح … وقال بغمزة وابتسامة واثقة :
_ مش قولتلك أني في اسرع وقت هرجعك ليا …؟!
قالت متحدية ثقته :
_ مين اللي قالك أني برجعلك ؟! … يمكن بتوه أكتر !
هز رأسه رافضا ما تقوله وصحح لها قائلا :
_ وحتى لو توهتي يا رضوى ، أنا موجود وقادر ارجعك
هربت من نظراته المتطلعة بها والتي تتوعد بالكثير من الحب !!
*******
انضمت فتاة الى طاقم النظافة بمنزل عائلة الزيان…
كانت نظراتها من ساعات قليلة تبعث الشفقة عليها وكأنها شريدة لا مأوى لها…
ولكن ما أن تبتعد عن الجميع تحتد نظراتها باحثة عن هدف محدد وهو ” ليلى ”
دخلت المربية العجوز للمطبخ فوجدتها تقف عند المدخل المؤدي للحديقة وتنظر حولها كأنها تبحث عن شيء فقالت:
_ بت يا هنا؟! هو اننيجاية تشتغلي وتاكلي عيش ولاجاية تتفرجي على الجنينة؟!
ارتجفت الفتاة وعادت راكضة للمطبخ، ثم عادت لذلك الاسلوب الذي جعل المربية توافق على عملها هنا وقالت الفتاة وهي على شفير البكاء:
_ معلش حقك على راسي يا خالة ما تزعليش مني، أنا سمعت صوت في الجنينة طلعت اشوف مين بينادي بس…
قالت المربية بتحذير:
_ لا تشوفي ولا تطلعي ولا ليكي دعوة بحد، اللي عايز حاجة بيطلبها مني وهاجي اقولك، شغلك مش ابعد عن الكام متر بتوع المطبخ.
هزت الفتاة رأسها سريعا بالموافقة لكي تتخلص من هذه التعليمات التي تعرفها عن ظهر قلب!
فذلك العمل وكأنها توارثته من عائلتها… وصولا بشقيقتها التي قتلت غدرا…!
فقالت المربية:
_ هاخد الفطار بتاع ريميه وانتي حضري الفطار للباقي على ما ارجعلك…
غادرت المربية العجوز بعدما خدت الافطار المعد للطفلة!
فرددت هنا اسم الطفلة وهي تفكر بأبشع طريقة للانتقام من ليلى!!
*******
نظرت جيهان لساعة الحائط فوجدت الوقت لم يتعدى التاسعة… تثاءبت بكسل ثم اعتدلت وفتحت شاشة التلفاز بالغرفة، لفقط لتشعر ببعض الونس يقطع هذا الصمت عنها!
ولكنها وجدت ذلك الخبر المتكرر الذي كان حديث المدينة مؤخرا… وهو اختفاء ذلك الرجل الذي يدعى أكرم حجازي!!
تثاءبت مرة أخرى بتعجب وقالت:
_ هو مابقاش فيه غير الخبر ده ولا إيه؟!
مين ده يعني عشان اكتر الاخبار تبقى عليه بالشكل ده؟!
وسخرت في نفسها من الأمر، ثم اغلقت التلفاز بالغرفة ونهضت لتغسل وجهها…
وبعد قليل خرجت وهي تجفف وجهها بالمنشفة وتوجهت نحو باب الشرفة لتفتحه…
ووقفت بالشرفة تستنشق الهواء ملء رئتيها حتى وجدت الصغيرة ريميه بالحديقة تلعب على النجيل الأخضر والمربية العجوز معها…
فابتسمت جيهان لها برقة وظلت تراقبها بنظرات حنونة…. حتى انتبهت أن المربية اختفت!
قالت جيهان بعصبية:
_ ازاي تسيب البنت لوحدها كده؟!

 

 

ولكن ما جعلها تحدق بغرابة، هي تلك الفتاة المجهولة القريبة لسنوات المراهقة والتي تتسلل لتقترب إلى الصغيرة وعندما اقتربت منها وكادت أن تأخذها، هتفت جيهان بأعلى صوتها على الحراس وقلبها كاد ان يخرج من مكانه خوفا، ثم ركضت خارجة من الغرفة بروبها الثقيل…
ووقفت هنا حاملة الصغيرة وتظاهرت إنها كانت ستحملها لتبعدها عن المسبح وحضرت دفاعها جيدًا، بينما كانت ترتجف من الذعر لأن ينكشف امرها قبل أن تنتقم!
ولم تعرف كيف أتت جيهان من غرفتها بالأعلى إلى الحديقة بهذه السرعة وخطفت منها الصغيرة التي بدأت ترتجف خوفا هي الأخرى من الاصوات العالية، وصرخت جيهان بالفتاة وهي تضم الصغيرة بحماية:
_ أنتي مين وبتعملي ايه هنا وكنتي هتعملي في البنت ايه؟!
أتت المربية مسرعة من المطبخ وبيدها طبق مليء بالحلوى للصغيرة ودافعت:
_ معلش يا ست جيهان أنا…
قاطعتها جيهان بعصبية شديدة:
_ معلش ايه اللي بتقوليهالي دي والبنت سيباها كده لوحدها!! وبعدين مين دي؟!
وأشارت لهنا بعصبية، فأوضحت المربية بارتباك:
_ دي بت غلبانة لسه أول يوم ليها هنا في الشغل…
هتفت بها جيهان بغضب:
_وأنتي بتشغلي اللي على مزاجك من غير ما نعرف؟!
شعرت المربية بالغيظ منها وقالت:
_ البيه الكبير مديني الموافقة أشغل في البيت اللي احتاجها معايا، من قبل حتى ما تيجي انتي يا ست جيهان!!
رفعت جيهان حاجبيها بغضب من رد المربية التي وكأنها تتحداها فقالت:
_ طب ماشي، أنا هروح أقول لوجيه على اللي شوغته دلوقتي واهمالك للبنت وردك عليا ده وهنشوف الموافقة دي هتبقى معاكي تاني ولا لأ..!
وهنا خافت المرأة على عملها حقا وقالت بأسف:
_ خلاص يا ست جيهان حقك عليا مش هتتكرر تاني…
قالت هنا ببكاء وقد تظاهرت بفصل مسرحيتها التي كررتها لكي تعمل هنا:
_ والله ما اقصد ولا عملت حاجة، ابوس ايدك يا ست هانم ما تقطعيش عيشي ده أنا ماليش حد وهترمي في الشارع…
وبالفعل أثرت الفتاة بجيهان ونالت بعض الشفقة، فقالت جيهان لهن بتحذير:
_ خلاص حصل خير … خلوا بالكم من البنت وما تسيبوهاش لحظة.
ثم نظرت جيهان برقة للصغيرة التي هدأت قليلًا وهمست لها:
_ لو حد زعلك نادي عليا على طول.. ماشي؟
اومأت الصغيرة برأسها بموافقة ببطء، فابتسمت جيهان وخفق قلبها لذلك الأمر…
فما عادت الصغيرة تنفر منها وتهرب عندما تقترب منها، فقبلتها بحنان وتركتها مع المربية ثم عادت لغرفتها والابتسامة وكأنها حفرت على وجهها.
*********
انغمست فرحة بعملها تمامًا حتى لاحظت رائحة عطر أنثوى نفاذة انتشرت فجأة وعبأت المكان !
فرفعت رأسها من على الاوراق لتجد امرأة شقراء فاتنة تدخل المكتب متوجهة إليها !
نظرت لها فرحة بعبوس وتمنت ألا تكون قادمة لمقابلة” زايد ” !!… يكفي فاتنات وشقراوات !!
قالت ذلك وهي تنفخ بعصبية حتى وقفت الشقراء أمام مكتبها وقالت بنبرة متعالية :
_ بسرعة لو سمحتي بلغي زايد أني منتظراه ..
صرت فرحة على أسنانها بغيظ ثم نظرت لها وأجابت :
_ حضرتك عايزاه ليه وانا ابلغه لأنه معاه اتصال مهم ومش فاضي !
ضيقت الشقراء عينيها بعصبية من رد فرحة، ثم هتفت بها وكأنها خادمة لديها:
_ وأنتي مالك ! … ما تتصلي بيه وانتي ساكته !!

 

 

تفاجئت فرحة من عجرفتها ونهضت بحركة عصبية من مقعدها لتجابها تحد قالت:
_ أنا مش خدامة عندك وأنا هنا السكرتيرة وقبل حتى ما أفكر احجزلك ميعاد لازم أعرف أنتي مين وعايزاه ليه واظن ده شغلي …. محدش بيدخله من غير ميعاد محجوز قبلها …
رفعت الشقراء حاجبها بدهشة من ثقة فرحة في الرد، ثم اخرجت هاتفها من حقيبتها وأجرت اتصال وهي ترمق فرحة بنظرات احتقار واضحة !
فابتسمت فرحة بسخرية حتى وجدت الشقراء تصيح بانفعال بمن يهاتفها وقالت :
_ هو أنا بقيت محتاجة ميعاد عشان ادخلك المكتب ؟!
لو مطلعتش حالا أنا همشي ومش داخلة المكتب ده تاني ! …
تسمرت فرحة للحظة عندما وجدت أن الطرف الآخر ليس سوى ” زايد” !!! … وبدأت تشك بالأمر فمن الممكن أن تدعي الشقراء الكذب بمنتهى السهولة!…. ولكن ما صدمها كليًا هو خروج زايد من مكتبه وأشار للشقراء لتأت اليه بنظرات ترحيب واضحة بعينيه ..
تجمدت فرحة وهي تنظر له بصدمة وقالت الشقراء بسخرية :
_ أبقى فهم الانسة دي أنا مين عشان المرة الجاية مش هعديهالها !
ضيقت فرحة عيناها بذهول عليها ، ثم نظرت له بانفعال شديد لتستفهم عن تلك التي تتصرف هكذا وكأنها تملك هنا كل شيء حتى هو ….!

يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *