روايات

رواية في حي الزمالك الفصل التاسع 9 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك الفصل التاسع 9 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك البارت التاسع

رواية في حي الزمالك الجزء التاسع

رواية في حي الزمالك الحلقة التاسعة

حَفْلُ إِجْبَارِيُّ 🤎🦋

“خلاص بلاش.. هحاول أكلمهم عشان يرفعوا غياب اليوم ده..”

“لا يا نوح شكراً ليطردوني يا عم!”

“يا سلام عالثقة يا سلام!” سخر نوح ليقهقه جميعهم وتقول أفنان من بين ضحكاتها بنبرة شبه جادة:

“بجد يا نوح ابوس ايدك متدخلش في الحوار ده.”

“خلاص يا ستي أنتي حرة!”

في صباح اليوم التالي ذهبت أفنان إلى مقر الشركة باكراً كي تستطيع التحدث إلى رحيم قبل مجئ الجميع، وبالفعل فور وصولها لمحته يسير في ردهة الطابق.

“دكتور رحيم ممكن اسأل حضرتك سؤال..”

“اه طبعاً…” قال بنبرة لم تروق لأفنان وهو ‘بيسبل’ فتنظر نحوه بنظره حاده ليُعدل من نبرته ويقول:

“اتفضلي يا دكتورة اسألي.”

“هو بالنسبة للغياب بتاع أول إمبارح.. أنا كده مش هاخد الشهادة صح؟”

“لا طبعاً مش هتاخديها.” أفصح بنبرة جادة ليعبس وجهها ويُصيبها الإحباط في خلال بضع ثوانٍ..

“بس حضرتك عارف يعني الظروف اللي حصلت وإني كان لازم امشي..”

“يا دكتورة النظام نظام.. ويلا اتفضلي بقى.”

“تمام شكراً لحضرتك..” قالت بإحباط، وكانت على وشك المغادرة نحو القاعة لكن أوقفها صوته وهو يقول:

“استني بس.. أنا بهزر معاكي! طبعاً هتاخدي الشهادة.”

“ياض يا ابن ال…” كادت أن تسبه لكنها تراجعت عن ذلك احتراماً للمكان الذي تقف فيه.

“معلش معلش I am sorry بجد، بس كان لازم تشوفي Reaction ‘تعابير’ وشك وأنا بقولك.” قال من وسط ضحكاته لتنظر نحوه بغيظ قبل أن تضربه في صدره بحقيبتها غير مُهتمه بمن حولها.

“خضتني!”

“يعني تفتكري أني هعمل كده بجد؟ أي حد مكانك وحصله الظروف دي عمري ما كنت هحرمه من الشهادة خاصة لو حد شاطر ومجتهد زيك.” قال رحيم بلطف وهو ينظر إلى عيناها مباشرةً.

“ما هو أنت مش مضمون.. وبعدين لولا إننا في مكان محترم وليك برستيچ هنا أنا كنت عرفتك مقامك عالحركة دي.”

“خلاص قولت كنت بهزر! يلا يا دكتورة روحي عالقاعة بتاعتك.”

“ماشي يسطا.”

“يا نهار أبيض!! ايه أوسطى دي احنا في ميكرو باص؟” سأل رحيم بنبرة مُتعجبة وهو يحاول إستيعاب ما تقوله، ناهيك عن طريقته المُضحكة في نطق الكلمات الشعبية الدارجة.

“ميكرو باص؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، حصلني عالقاعة بقى.” قالت بنبرة ساخرة وهي تقهقه ليبتسم على طريقتها اللطيفة.

تدلف أفنان إلى القاعة وتجد ثلاثة طلاب تقريباً بالداخل ولحسن الحظ لم ينتبه أحد منهم لمحادثتها مع رحيم في الردهة، تجلس في الصف الأول في انتظار قدوم نوح.

في الميعاد المحدد يدخل نوح إلى القاعة بثيابه المهندمة، يبدأ في تشغيل الحاسوب المتنقل خاصته ليبدأ الشرح، كان كل شيء على ما يرام حتى أقتحم رحيم القاعة بخطوات واثقة وابتسامة صغيرة وكأنه تعمد رسمها على شفتيه فقط ليُثير غيظ نوح، يرمي نظرة جانبيه نحو أفنان ثم يقف ويقول:

“بعتذر يا دكتور عن قطع شرح حضرتك، بس عايز أقول حاجة مهمة للدكاترة.”

“لا يا دكتور عادي ولا يهمك.”

“أنا وباقي الأعضاء القائمين على التدريب قررنا قرار..” ابتسمت أفنان ابتسامة واسعة وهي تستمع إلى ما يقوله رحيم مُستخدماً كلمات فصيحة على غير عادته، فهو لا يستطيع قول جملة سليمة بالعربية.

“القرار هو أن في نهاية التدريب هنعمل اختبار للمتدربين واللي هيحصل على أعلى درجة هياخد مكافأة ألف جنيه بالإضافة لإننا هنرجعله نص تكلفة الكورس يعني Total 1500 جنية.”

لمعت عين أفنان بحماس حينما سمعت ما يقوله، إن استطاعت تجاوز ذلك الإختبار ستتمكن من إصلاح سيارة والدها بل وشراء ثياب جديدة للعام الدراسي الجديد، نظر نحوها وابتسم ابتسامة صغيرة.

“وطبعاً من ضمن الشروط أن الشخص ده ميكنش بيغيب.”

“يعني يا دكتور رحيم الناس اللي غابت مش هتمتحن معانا؟” سألت الفتاة التي تجلس بجانب أفنان وهي تطالعها بنظره خبيثة.

“الناس اللي كان ليها عذر أو اعتذرت مفيش مشكلة، يعني مثلاً الدكتورة كان عندها ظرف قهري فإضطرت إنها تمشي.. فطبعاً اليوم ده هيتحسبلها حضور عادي جداً.” أجاب رحيم بنبرة واثقة شبه حاده ليجد البعض يضحكون على استخدامه جملة ‘ظرف قهري’ وقد فسروه بمعنى آخر، ينظر نحوهم رحيم بغضب شديد ثم ينظر إليهم بنظره نارية وهو يقول:

“أنا مش عايز حيوان بيضحك هنا!! دكتور نوح لو سمحت كل اللي ضحكوا دول يتاخدوا غياب النهاردة!”

“حاضر يا دكتور.. قولوا اساميكوا.” اردف نوح بذات النبرة الغاضبة فكلامها يعلم أنهم كانوا يسخرون من أفنان وكلاهما غضب لنفس السبب أما أفنان فكانت تجلس بمزيج من الثقة واللا مبالاة فهي تعلم أن رحيم ونوح سيتكفلا بالأمر.

دون نوح أسامي من سخروا من أفنان وتأكد رحيم بنفسه بأنه فعل ثم غادر المكان بهدوء قبل أن يصفع الباب بقوة فيجفل الجميع.

انتهى الشرح لهذا اليوم وكانت أفنان تكتب جميع الملاحظات في محاولة منها لتحصيل جميع المعلومات كي تستطيع اجتياز ذلك الإختبار الذي أخبرها رحيم بشأنه.

“أفنان.. بقولك أيه.” أوقفها صوت رحيم وهي على وشك المُغادرة وقبل أن تُجيبه جاء نوح من خلفها وهو يقول:

“أفنان يلا عشان أوصلك في طريقي.”

“هو انت مش واخد بالك يا دكتور أني بتكلم مع الدكتورة ولا أيه؟”

“معلش يا دكتور رحيم مش واخد بالي منك.”

“شكل ال Glasses ‘النظارة الطبية’ بتاعتك محتاجة تتغير يا.. دكتور نوح.”

“بس شباب من غير خناق ايه هتقطعوا بعض عليا؟” سألت أفنان بإستنكار وبنبرة يتخللها المزاح لينظر نحوها كلاهما بإشمئزاز.

“تمام شكراً أوي.. أنا ماشية.” قالت لتنسحب بهدوء من الموقف تاركة لهم الخيار إما في إنهاء الشجار أو في إشعار النيران في بعضهم البعض.

رمقه رحيم بنظره حاده قبل أن يتركه يقف وحيداً ويذهب نحو مكتبه أما نوح فيلحق بأفنان حتى يقوم بإيصالها إلى المنزل.

“نفسي في مرة ألاقيك في مكتبك.” قال رحيم فور رؤيته لأنس الذي يجلس على الكرسي المُقابل للمكتب.

“الحق عليا عايز اقعد معاك عشان تتسلى؟”

“ايه هتقوم ترقصلي يعني؟” سأل رحيم بسخرية ليقذفه أنس بُعلبة المناديل الورقية فيقهقه رحيم.

“يا نهار أبيض.. Shit!!!”

“في أيه؟ الشركة هتعلن إفلاسها؟ البت بتاعت الساحل حامل؟” سأل أنس دفعة واحدة ليصمت رحيم لثوانٍ وهو يحاول إستيعاب ما قاله الآخر..

“لا.. ثواني.. أيه ده؟ مين.. مين بتاعت الساحل دي؟”

“معرفش.. المهم في أيه بقى قلقتني؟!”

“مامي اتصلت ومردتش عليها.” فسر رحيم بنبرة جادة وهو يُعيد خصلات شعره الناعمة إلى الخلف.

“وحياة أمك!!!” اردف نوح بغيظ مع تعبيرات وجه ممتعضة.

“أنس Watch your language ‘انتبه لكلامك’ !!!”

“يعم بقى بلا Language بلا بتاع.”

“ششش مسمعش صوتك عشان بكلمها..” قال رحيم ثم انتفض من مقعدة فور سماعه لصوت والدته، ودون أن يُدرك رحيم كانت نوبة التوبيخ قد بدأت بالفعل وصوت والدته الحاد كان مسموعاً لدرجة أن أنس الجالس بالقرب منه استطاع سماع المحادثة وإن لم يكن يدرك كل ما يُقال.

“هو في ايه؟” سأل أنس بصوتاً منخفض ليشير له رحيم بأن يصبر.

“حاضر يا مامي.. أنا أسف.. اه طبعاً أكيد هكون موجود في الميعاد، okay See you.”

“ايه يا ابني ده؟ ده انت ملحقتش تقول كلمتين على بعض.”

“سيبني في حالي يا أنس please..”

“يابا اشكيلي همك.” اردف أنس لينظر نحوه رحيم بإشمئزاز وأعين متسعة.

“يا ابني هو انت بتنقع لسانك في الزبالة قبل ما تتكلم؟”

“لا دي مصطلحات وجمل جديدة اتعلمتها من بنت اتعرفت عليها.” قال أنس بثقة وهو يُعدل معطف بذلته الرسمية لينظر نحوه رحيم بإشمئزاز ثم يطرح عليه سؤالاً..

“ودي اتعرفت عليها من أني صندوق زبالة؟”

“مش فاكر بصراحة.”

“طب بطل تكلمها عشان لو سمعتك بتتكلم بالأسلوب ده تاني هطردك من الشركة.”

“هتقرفنا بقى عشان أبوك صاحب الشركة؟”

“اولاً أنا اعمل اللي أنا عايزه، ثانياً بقى بابي مش صاحب الشركة دي بس فلو أنا طردتك مش هتلاقي حد يشغلك.” تحدث رحيم بثقة شديدة وهو ينظر نحو أنس بغرور والذي تحولت نظرته فجاءة إلى نظرة جرو صغيرة وهو يقول ‘بصعبانيه’

“يرضيك كده يا رحيم صاحب عمرك تضيع مستقبله؟ يهون عليك ال Peanut butter ‘زبدة الفول السوداني’ وال Toastt؟”

“لا ميهونش عليا، احترم نفسك بقى، صحيح أنا لازم امشي عشان في حفلة هحضرها مع مامي بليل ولازم نبقى جاهزين من بدري.”

“هتجبلك عروسة ولا ايه؟” سأل أنس بسخرية وهو يضحك لكن تعابير وجه رحيم كانت جامدة وجادة.

“تصدق ممكن..”

“هتتدبس في جوازة يا معلم.”

“لا ومش أي جوازة.. جوازة تبع مامي.” قال رحيم بقلة حيله وهو يصفع كلتا يديه بوجهه.

“يلا أنا ماشي.. Bye.” أبلغ رحيم قبل أن يودع أنس ويرحل وبداخله يشعر بالضيق نحو سهرة اليوم، يصل رحيم إلى منزله سريعاً بعد أن قاد سيارته بأقصى سرعة حتى لا يتأخر فيُثير غضب والدته.

“مساء الخير يا مامي.. بابي فين؟” سأل رحيم فور دخوله من باب القصر وهو يُقبل يد والدته.

“بابي في المصنع وقدامه thirty minutes ‘ثلاثون دقيقة’ ويوصل.”

“تمام.. أنا هطلع أخد Shower وهجهز ال Suit ‘البذلة’ اللي هلبسها عالعشا.”

“هتلاقي Suit جديدة جبتهالك من London، مكوية ومحطوطه على سريرك؛ ألبسها.”

“شكراً يا مامي..”

اردف رحيم مع ابتسامة صغيرة مزيفة قبل أن يصعد إلى غرفته وبمجرد أن يصل إليها يوصد الباب ليجلس على سريره وهو يتنهد بعمق.. يُلقي نظره نحو البذلة الرسمية الموضوعة بدقة على السرير؛ إنها أنيقة تبدو باهظة الثمن كذلك لكنها لم تروق له.. فهو لم يختارها بل فُرضت عليه من قِبل والدته لذا لقد كرهها مثلما كره معظم تفاصيل حياته التي لا يستطيع السيطرة عليها..

تحمم رحيم ثم توجه إلى الطابق السفلي لتناول الغداء وكالعادة ساد الصمت أثناء تناول الطعام، ما عدا جملة أو اثنتين قالتهما والدته بلكنتها الإنجليزية المميزة.

“رحيم عايزاك تبدأ تجهز بعد خمسة وأربعين دقيقة من دلوقتي.”

“حاضر..”

“خلي الولد يلبس في الوقت اللي يعجبه يا حبيبتي.”

“لا، هو لازم يلبس في الميعاد ده عشان هيبقى قدامه خمسة وأربعين دقيقة زيهم ويكون جاهز.. وأنا عارفة ابني؛ بطيء فلازم وقته يكون محسوب بالدقيقة والثانية.” لم يُعلق رحيم على حديث والدته لكنه شعر بغصه في حلقه.. هو ليس طفلاً لتتحدث بشأنه بهذا الشكل وأن تتحكم في حياته بهذا الشكل ايضاً.. ترك الشوكة والسكين واستقام من موضعه.

“عن إذنكوا.. أنا شبعت.” غادر الطاولة بإمتعاض وصعد إلى غرفته لينظر والده بحده نحو والدته قائلاً:

“عجبك كده؟”

“هو مش صغير.. مش هجبره على الأكل أكيد.”

“كويس أنك عارفة أنه مش صغير يا هانم ومع ذلك بتتحكمي في كل تصرفاته.”

“من فضلك يا حامد.. أنا بربي ابني بالأسلوب اللي يعجبني.”

بعد مرور الوقت المحدد ارتدى رحيم بذلته الجديدة والتي كانت تامة السواد، بالإضافة إلى قميص أسود كذلك، لكن أطراف معطف البذلة من جهه الزر كانت من الستان الذي يُعطي لمعة خفيفة جذابة وقد زُينت البذلة ‘بدبوس’ ذهبي لامع، نظر رحيم إلى مظهره النهائي في المرآة قبل أن يُعيد خصلات شعره نحوه الخلف بعصبيه.

توجه إلى الطابق السفلي ليجد والده يجلس على الأريكة بينما يقرأ كتاباً ما وفي يده لفافة تبغ بنية سميكة.

“هي مامي لسه مجهزتش؟”

“لسه يا سيدي، فالحة بس تذنبنا وهي تتأخر براحتها.”

“سمعاك يا حامد، يلا بينا عالعربية.”

“أنا اللي هسوق، ده بعد إذنك يعني.”

“لا طبعاً الشوفير هو اللي هيسوق.” زفر رحيم بضيق قبل أن يسبقهم ويتجه نحو الخارج.

توقفت السيارة أمام ڤيلا فاخرة في أحدى المدن الجديدة، ترجل رحيم من السيارة وقام بضبط بذلته الرسمية في انتظار والديه.

“الڤيلا دي بتاعت بثينة هانم حرم وليد بيه صديق والدك وعندهم بنت واحدة.”

“جميل أوي.. ايه المطلوب؟”

“المطلوب أنك تلزم حدود الذوق والأدب طول السهرة ومفيش مانع إنك تقول جملة أو اتنين لطاف للبنت.”

“حاضر يا مامي حاضر.”

“أوعي يا رحيم.. أوعي تعمل أي حاجة تحرجني أو تحرج حامد بيها.” حذرته والدته وهي ترفع إبهامها أمام وجهه ليمتعض وجه رحيم ويشعر بوغزة صغيرة في صدره جراء سماعه تلك الجملة التي اعتاد على سماعها طوال الوقت في طفولته، لم يُجيبها رحيم بل وقف يُحدق فيها بتعابير وجه جامدة قبل أن يقطع المشهد صوت أنثوي دخيل..

“بنسوار يا هانم.” كان صوت صاحبة المنزل بثينة هانم والتي ارتدت ثوب ذهبي فاخر ومن خلفها جاء زوجها ليرحب بهم، قبل رحيم يدها بهدوء وهو يُردف:

“بنسوار.” انتهت فقرة الترحيب وتوجه جميعهم نحو الداخل، وضع رحيم يده داخل جيب بنطاله وهو يتجول بعيناه داخل المكان، لقد كان من نوعية المنازل التي اعتاد رحيم على دخولها واجواء الحفلة كذلك، كل شيء هنا باهظ وذو ذوق رفيع.. الجميع هنا رجال أعمال وأثرياء بطريقة أو بآخرى.. الثياب هنا ‘سينيه’ مصنوعة خصيصاً لصاحبها لكن في النهاية كل ذلك لم يكن يُشكل أي أهمية بالنسبة لرحيم، فكل هذا منزوع الروح.. جميعها مظاهر فقط.

لمح رحيم بطرف عيناه فتاة ترتدي وشاح باللون الأبيض وكانت في نفس طول أفنان تقريباً.. شعر رحيم بنبضات قلبه تتسارع.. سار بضع خطوات نحو الفتاة ثم استدار ليواجهها لكن بالطبع لم تكن هي.. اعتذر رحيم بآدب شديد لتبتسم له الفتاة قائلة..

“لا ولا يهمك يا…؟”

“رحيم.. رحيم البكري.”

“يا رحيم nice to meet you ‘سعيدة بلقائك’.” كاد رحيم أن يرد المُجاملة لكن صوت والده قاطعه وهي تأمره بالقدوم ليعتذر رحيم من الفتاة مجدداً ويرحل.

“في أيه؟ بتشديني كده ليه؟” سأل رحيم وهو يضغط على أسنانه.

“اسكت خالص! دلوقتي هنروح نسلم على بنت بثينة هانم.”

“ماشي.” اردف بحنق لتنظر نحوه والدته بحده لكن سرعان ما تتحول تعابير وجهها إلى ابتسامة مُشرقة وهي ترى الفتاة تقترب منها.

“مساء الخير.” قالت الفتاة فور اقترابها لينظر نحوها رحيم لثوانٍ وهو يتأمل ملامحها، خصلات شعر بنية متدرجة بسبب الصبغة على الأغلب وزوج عيون خضراء لكن درجتها تختلف عن خاصة رحيم وجسد نحيف أقرب لجسد عارضة الأزياء، ينحني رحيم بإحترام ويُقبل يدها وهو يقول:

“مساء النور، مكنتش أعرف أن بثينة هانم عندها بنت pretty & stylish كده.” كانت عباراته تحمل في ثناياها بعض المُجاملة، الفتاة جميلة بحق لكن مجدداً هي ليست نوعه المُفضل.

“ده من ذوقك بس يا دكتور رحيم.” ابتسم لها بلطف لكنه لم يجد ما يقوله لتدعس والدته بحذائها على قدمه فيحمحم ثم يقول:
“ومُدمزيل بالجمال ده كله بتدرس ايه يا ترى؟”

“أنا بدرس Fashion، يعني في طريقي أني أكون Fashion designerr.”

“واو! باين طبعاً، ال Outfit بتاعتك النهاردة تجنن.”

“ميرسي أوي، أجبلك كاس تشرب؟”

“لا.. Thank you أنا مش بشرب.” نظرت نحوه بمزيج من الدهشة والإعجاب لقوله لذلك ولو علم أن الأمر سيروق لها لشرب كل الكؤوس الموجودة في المكان وإن كان ذلك ضد مبادئه.

“هقولهم يجبولك Soft drink حالاً.” بالفعل أشارت للنادل والذي منحه مشروباً غازياً وقد تم صبه داخل كأس.

“شكراً جداً.” بدأت الفتاة في التحدث حول مواضيع عشوائية ولا يعلم رحيم لما تقفز أفنان إلى عقله كلما سمع كلمة من تلك الفتاة..

فهو لا ينفك يتخيل ماذا كانت ستقول أفنان في مثل هذا الموقف؟ بما سترد كلمات الغزل خاصته؟ أي لون وشاح قد ترتديه هنا؟ ماذا ستظن حول الحفل ومن فيه؟ ولربما صدر منها تعليق تلقائي بشأن الحضور هنا فتجعله يضحك ضحكة من قلبه..

يا ليتها كانت هنا إلى جانبه.. هذا ما توقف عنده تفكيره!

“رحيم أنت سامعني؟”

“ها؟ I am so sorry.. كنتي بتقولي أيه؟” اعتذر رحيم بهدوء وقد انتظر من الفتاة أن تخجل أو أن تصمت لكنها قامت بإعادة ما قالته قبل دقيقتين.

“أيه رأيك في ال decoration بتاعت المكان؟”

“حلوة جداً، ذوق رفيع فعلاً.”

“ميرسي أوي.. ده ذوقي أنا ومامي.”

“لا جميل فعلاً..” اردف بنصف انتباه، لكنه عاد إلى تركيزه حينما جاءت والدته وهي تقول:

“رحيم بيعزف كويس جداً عالبيانو، ما تسمعهم حاجة كده على ذوقك يا رحيم.” قالت والدته مع ابتسامة لطيفة لينظر نحوها رحيم بدهشة وهو يصفع نفسه داخلياً لقد قامت والدته حرفياً ب ‘تدبيسه’ أمام الجميع.

“ده بجد يا رحيم؟” سألت الفتاة بنبرة يلمؤها الدلع ليؤمي رحيم وهو يبتسم ابتسامة سيمجة.

“هعزف حاجة على ذوقي.”

ذهب رحيم ليجلس بهدوء على الكرسي الصغير المُلحق بالبيانو ليقوم بعزف مقطوعة شهيرة حزينة وكأنه يُحاول أن يُعبر عن مشاعر التعاسة والضيق التي تملكت روحه، نظرت نحوه والدته بعدم رضا وقد وصلتها مشاعره لكن ذلك لم يجعلها تتأثر بل بعكس جعلها تغضب حتى وإن بدت ملامحها باردة.
انتهت الليلة اخيراً، يجلس رحيم في الخلف إلى جانب والده ووالدته داخل سيارتهم الفخمة، يتأمل رحيم الطريق في هدوء محاولاً تجنب الحديث مع والدته ولكن داخله كان يعلم جيداً أنه سيستمع إلى محاضرة في الأدب بلا شك، صدر صوت إشعار من هاتفه ليتفحصه بتملل لكنه ينتفض في موضعه حينما يرى اسم المُرسل.. أفنان!!

لم يستطع قراءة محتوى الرسالة كاملة دون أن يفتحها لكن كل ما رأها كان كلمة ‘سينجل’ تُرى هل تسأله أفنان إن كان في علاقة عاطفية مع أحدهم أم لا؟ أم تُخبره هي أنها ليست في أي علاقة؟ لكن إن كان ذلك صحيحاً.. فمن يكون نوح؟!

فتح رحيم الرسالة سريعاً قبل أن يقرأها ويُصاب بالإحباط ويتبعها ضحكة صغيرة على غباءه.

“دكتور رحيم.. هو هنا الرابطة دبل ولا سينجل؟” لقد كانت تسأله سؤال بخصوص المعادلة الكيميائة التي قام بشرحها هل تحوي رابطة أحادية أم ثنائية..

‘وأنا اللي فاكرك بتسأليني أنا مرتبط ولا لا.. على العموم هي دُبل بوند.’

‘أيه الهبل ده لا طبعاً، شكراً يباشا نجاملك في الأفراح.’ بعثت له هذا الرد ليضحك بصوت مرتفع نسبياً وهو يحاول أن يستوعب ما أرسلته للتو، نظر إلى جانبه ليجد أمه تحدق فيه بشك.

“في حاجة يا مامي؟”

“لا مفيش.. بشوف ايه سبب الضحك الغير مبرر ده.”

“حتى الضحكة هتحاسبيه عليها؟”

“كل حاجة لازم تتعمل بحساب يا حامد حتى النفس.” زفر رحيم بضيق بعد أن أغلق الهاتف كي تكف والدته عن التذمر.

فور وصولهم إلى المنزل خلع رحيم معطف البذلة بضيق وهو يزفر بحنق قبل أن يتجه نحو السُلم.

“استنى هنا أنت رايح فين؟”

“طالع أنام.”

“هتطلع تنام من نفسك كده من غير ما تقول عن إذنكوا؟”

“مامي أنا طالع أنام في أوضتي في بيتنا مش داخل مطار.”

“هو أيه الإسلوب اللي أنت بتتكلم بيه ده؟”

“مامي أنا حقيقي.. حقيقي مُرهق please سبيني ارتاح ولو ليوم.” تحدثت رحيم بضيق قبل أن يصعد إلى غرفته دون انتظار رداً من والدته.

“شايف اخرة دلعك ليه؟”

“دلع؟ هو فين الدلع ده؟ بذمتك الولد ده عمره شاف دلع ولا حنية؟”

“مش المفروض أنه يشوف دلع وحنيه المفروض أنه يتعلم أنه يكون شخصية قوية، مبيغلطش، مبيخفش وبيعتمد على نفسه.”

“أنتي كده عايزه إنسان آلي يا إيڤلين مش بني آدم.”

“عمرنا ما هنوصل لنقطة في النقاش ده، من الأفضل أننا ننهيه أحسن.”

“صح.” عند تلك النقطة توقف الحديث كجميع المرات السابقة.

في منزل أفنان، تطرق والدتها باب الغرفة بخفة ثم تفتح الباب نسبياً وتُدخل رأسها وهي تسأل:

“أفنان انتي صاحية؟”

“اه يا ماما اتفضلي.. أو استني انا جايالك عشان مران متصحاش حرام.” اردفت أفنان بصوتاً منخفض قبل أن تُغلق ‘الأباچورة’ الصغيرة التي كانت تُذاكر على ضوءها الخافت نسبياً.

“في حاجة يا ماما ولا ايه؟”

“عمتك جاية بكرة..”

“وجاية تعمل ايه بقى إن شاء الله؟” سألت أفنان بضيق وهي تعيد ربط رابطة شعرها.

“جاية تطمن على أبوكي.”

“وهي لسه فاكرة؟ وبعدين جايه ليه؟ مش هي السبب اصلاً هي وتيتة!”

“ولو هي برضوا عمتك وهي طلبت تيجي تشوف باباكي أكيد مش هنقفل بابنا في وشها يعني.”

“لا نقفله يا ماما عادي! نقفله طالما بتبوظ حياتنا وبتدمر صحة بابا ونفسيتك.”

“مش هينفع يا أفنان.. مهما عملت هتفضل عمتك وهيفضل في بينكوا صلة رحم.”

“ماشي يا ماما بس خليكي عارفة أني مش هقبل أنها تهني أو تهين حد فيكوا في بيتنا!”

“ماشي يا أفنان.. تصبحي على خير.”

“وأنتي من أهله يا حبيبتي.”

في صباح اليوم التالي استيقظ أفنان باكراً لتساعد والدتها في تنظيف المنزل وترتيبه بينما ذهبت ميرال إلى عملها.

“أفنان روحي أفتحي الباب.”

“حاضر يا ماما.”

“اهلاً يا عمتو ازيك.. اتفضلي.” قالت أفنان مع ابتسامة مزيفة وهي تسمح لعمتها وابنتها بالدخول.

“اهلا يا حبيبتي، إلا أمك فين مفتحتش ليه؟”

“هتفرق في ايه مين اللي يفتح يعني؟” سألت أفنان بسخرية وهي تُغلق الباب.

“لا متفرقش.. المهم أخويا فين؟”

“بابا خارج حالاً أهو.”

“يعني قادر يمشي أهو ويتحرك ما شاء الله.” اردفت لتنظر نحوها أفنان بإندهاش ثم تقرأ المعوذتين من داخلها.

“ما هو يا عمتو لازم يمشي رجله عشان الدكتور قاله النوم طول اليوم غلط.”

“شكل الدكتور بتاع أبوكي ده مبيفهمش حاجة خالص، على العموم كلها كام سنة وريري عين ماما تتخرج وتعالجه هي.” تحدثت عمتها بغرور لتنظر نحوها أفنان بإبتسامة صفراء ثم تقول:

“إن شاء الله بابا هيخف ويبقى زي الفل وميبقاش محتاج لا لريماس ولا لغيرها.”

“أعوذ بالله من لسانك.” تمتمت عمتها بصوت منخفض لتقلب أفنان عيناها.

“عن إذنك ثانية يا عمتو.”

“اتفضلي يا حبيبتي.” استقامت أفنان وذهبت لتُحضر كوبان من العصير وتقدمهم إلى عمتها وابنتها التي كانت صامته.

“ازيك يا أحمد.. ألف بعد الشر عليك يا حبيبي، ده عين مين دي؟” قالت عمتها بقلق وإهتمام مزيف.

“الله يسلمك يا حبيبتي شكراً.”

“ده أنا كنت هموت من القلق عليك.”

“بعد الشر يا عمتو.” اردفت أفنان وهي تحاول كتم ضحكاتها الساخرة.

“بس يا ترى ايه يا أحمد اللي زعلك للدرجة دي؟ مع أنك يعني عشتك كويسة ومبسوط.”

“بعيد عنك بقى يا طنط الناس عينها وحشة أوي.”

“قصدك مين يعني؟”

“أنا جبت سيرة حد معين؟ أنا بقول عمتاً.”

“طب ياختي.”

“أومال فين البت بنتك التانية؟”

“في شغلها بس زمانها قربت تخلص.” أجابت والدتها بلطف وهي وتضع أمامهم صينية ممتلئة بالفواكة.

“شغلها؟ وبتشتغل ايه بقى خريجة تجارة دي؟ كاشير.” اردفت عمتها بسخرية وهي تضحك لكن لم يشاركها أحد الضحك بل أمتعض وجه الجميع.

“وأنتي خريجة أيه بقى يا عمتو على كده؟”

“شايف بنتك وقلت آدبها؟ متعمدة تحرجني!”

“ده مجرد سؤال يا عمتو وبعدين مش بالكليات ما ياما ناس في كليات قمة وفاشلين عادي.” قالت أفنان وهي تنظر بطرف عيناها نحو ريماس.

“تقصدي أيه يا أفنان؟ وهو أنتي اصلاً تعرفي تعدي من قدام باب جامعتي.”

“ايه ده بسم الله ما شاء الله أنتي عندك جامعة؟”

“شايف يا أحمد بنتك بتتريق على بنتي ازاي؟”

“أفنان اهدي شوية عشان أبوكي تعبان..” اردفت والدتها بقلة حيله، لم تكن تريد قول ذلك أمامهم لكن في الوقت ذاته لا تريد أن تنتكس حالة زوجها من الحزن أو الغضب.

“حاضر يا ماما أن أسفة..”

“ايوا كده اتلمي.”

“لو سمحتي اتكلمي مع بنتي بإسلوب أحسن من كده.” قال والد أفنان بنبرة هادئة لتنظر نحوها بحدة وتقول:

“بتقومي أبوكي عليا يا أفنان؟”

“أنا معملتش حاجة على فكرة.. بابا بعد إذنك أنا هنزل شوية.”

“انزلي وسبينا ما أنتي قليلة الذوق.”

“عن إذنكوا..” اردفت أفنان واتجهت إلى غرفتها متجاهلة ما قالته عمتها، بعد عشرة دقائق تقريباً توجهت نحو الخارج مجدداً بعد أن بدلت ثيابها.

“خدي بالك من نفسك.”

“حاضر يا حبيبي، سلام.” قالت ثم غادرت المنزل وآخر ما تسلل إلى آذنها كان صوت عمتها وهي تقول:

“أنت مدلعها أوي يا أحمد..”

زفرت بضيق وهي تضغط على حقيبتها بعصبية قبل أن تُغادر المكان دون أن تعرف إلى أين وجهتها….

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (فب حي الزمالك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *