روايات

رواية في حي الزمالك الفصل الثامن 8 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك الفصل الثامن 8 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك البارت الثامن

رواية في حي الزمالك الجزء الثامن

رواية في حي الزمالك الحلقة الثامنة

رَقْمُ هَاتِفُ 🦋✨

ألتفتت لتذهب إلى المعمل لكنها فوجئت برحيم في مواجهتها تماماً بينما يفصل بينهم مسافة صغيرة..

“يلا بينا عالمستشفى.. هاتي اللوكيشن.”

“حاضر.. لا استنى بس.. عايز اللوكيشن ليه؟” كانت على وشك التحرك لكنها انتبهت لما يقوله.

“لسه هتفكري؟ يلا بسرعة هوصلك بعربيتي.”

“لا طبعاً مش هينفع.. فين نوح؟” امتعض وجه رحيم على الفور لكن لا وقت للشعور بالغضب أو بتلك الغصة في حلقه الذي لا يعلم سببها، هو يريد مساعدتها لذا سحبها من معطفها نحو المكتب الذي يجمع المُدربين..

“تعالي نشوفه هنا.” أقتحمت أفنان الغرفة ومن خلفها نوح لتُفاجئ بالمُدربين مُلتفون حول أحد المكاتب وأمامهم العديد من الشطائر، انتبه جميعهم وقد ظهر الإرتباك على وجههم لرؤية رحيم والذي كان ينوي أن ‘يخرب بيتهم’ لو كان أكتشف مثل هذا الأمر في ظروفاً آخرى لكن لا وقت لهذا الهراء الآن.

“فين دكتور نوح؟”

 

“مش عارف… لسه خارج من هنا..” اردف أحدهم وهو يحاول إبتلاع ما في فمه من قضمات بحجم الفيل بالإضافة إلى قطعة أو اثنتين من المُخلل.

غادرت المكتب وهي تتأفف بينما رمقهم رحيم بنظرة نارية قبل أن يلحق بها نحو الخارج، بحثوا عنه في بضع أماكن آخرى سريعاً.. وفجاءة تذكرت أفنان أن العلم تقدم وأن هناك اختراع يُسمي ‘هاتف خلوي’ لذا قامت بالإتصال به.. لم يُجيب.. كررت المُحاولة فأغلق المُكالمة ‘كنسل’ .. عاودت الإتصال للمرة الأخيرة فوجدت الهاتف مُغلق.. عبس وجهها قليلاً وهي تبتلع الغصة التي في حلقها، إنها في أمّس الحاجة إلى نوح والأمر طارئ لكنه قرر تجاهلها بسبب شجار سخيف حدث بينهم..

“يلا بقى عالعربية ربنا يهديكي” اردف رحيم ثم تنهد لتومئ أفنان ثم تفيق من شرودها وتقول:

“لا طبعاً، انت عبيط؟”

“اومال هنروح ازاي؟ مش وقته الجنان وطولة اللسان بتاعك ديه خالص!” تلفظ رحيم بنفاذ صبر وبصوت عالي نسبياً.

“هطلب اوبر.”

“هتركبي مع سواق اوبر الغريب عشان خايفة تركبي معايا؟ هو أنتي Normal يا بنتي؟”

اولا انا مش خايفة وبعدين ثواني.. هو انت شايف اني في ظرف يسمح بالخناق والهبل اللي احنا بنعمله ده؟!”

“الحقيقة لا.. خلاص يلا ننزل تحت وانا هطلب اوبر بس ابعتي اللوكيشن..”

“هات رقمك طيب..” قالت أفنان لتظهر ابتسامة جانبيه على شفته ثم منحته هاتفها ليدون رقمه ثم أخذته سريعاً لتبعث له رسالة تحوي الموقع على جهاز الملاحة.

“وصلك كده المفروض..”

“تمام طلبت.. الكابتن فاضله دقيقتين يلا عقبال ما ننزل.” اومئت أفنان بإستسلام ثم هرولت نحو السُلم، لا وقت لإنتظار المصعد.

بالفعل وصلت السيارة في خلال دقيقة تقريباً لتتجه نحوها أفنان بسرعة لكن يسبقها رحيم ويقوم بفتح الباب الخلفي سامحاً لها بالدخول.

“يا عم اخلص مش وقته جنتله!” وبخته أفنان ليهز رأسه بإستنكار ثم يركب في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، استغرقت المسافة تقريبا خمسة وأربعون دقيقة حتى وصلوا إلى وجهتهم، بينما كانت أفنان صامته طوال الطريق لا تفعل أي شيء غير الدعاء وقراءة ما تيسر لها من القرآن.

“كده أحنا وصلنا يا فندم هي دي المستشفي.” اردف السائق ليشكره رحيم وتحاول أفنان أن تختلس النظر إلى تكلفة الأجرة فيُخبرها رحيم:

 

“اسبقيني يا أفنان على جوا ولا أنا جاي وراكي.” منح السائق ثمن التوصيل ثم لحق بها إلى داخل المشفى الخاص والذي كان هناك تعاقد بينه وبين الجهه حيث يعمل أبيها، وجدها تقف قرب الإستقبال وهي تسأل عن والدها فيُخبروها أنه كان في حجرة الطوارئ لكن تم نقله إلى غرفة عادية بصورة مؤقتة حتى تسمح حالته بالمغادرة.

“أجي معاكي؟ لو مش هتحسي أنك مرتاحة أنا ممكن استناكي هنا.” اردف بلطف لتنظر نحوه بإمتنان وتقول:

“معلش خليك هنا.. ممكن حد من قرايبي يشوفك..” اومئ بتفهم لتهرول هي نحو الممر حيث أرشدتها موظفة الإستقبال، يقف هو في بداية الممر يتابعها بعينيه ثم يجلس على أحدى المقاعد المعدنية..

تصل إلى نهاية الممر فتجد شقيقتها ووالدتها، تركض نحوهم وهي وتسأل عدة اسئلة دفعة واحدة بقلق:

“بابا كويس؟ الدكتور قال ايه؟ طمنوني..”

“الدكتور طمنا وقال أن اللي حصل ده ضغط عالي.. واداله حباية تحت اللسان عشان تنزل الضغط شوية..”

“يا حبيبي يا بابا… طب يعني هو ايه اللي حصل بالضبط.”

“خناقة مع جدتك الله يسامحها بقى.. حس يا حبيبي براسه هتتفرتك،من الصداع وبعدها حس أنه مش قادر ياخد نفسه، صحابه اتلموا حواليه وجابوه على هنا..” سردت والدتها ما حدث بحزن شديد بينما انهمرت دموع ميرال في صمت وهي تسمع ما حدث مجدداً..

“طب أنا عايزة اشوفه.” قالت بلهفه لتُبلغها والدتها بالآتي:

“استني دقيقة الدكتور عنده بيطمن عليه وبعدها ندخل.”

“ماشي.. بس يعني هو فايق صح؟”

“اه يا حبيبتي فايق..”

بعد ثلاث دقائق تقريباً خرج الطبيب لتسأله أفنان مجدداً عن حالة والده فيُخبرها أنه بدأ في التحسن وسيتمكن من المغادرة اليوم مساءاً، حيث سيبقى لبضع ساعات حتى يتأكدوا أنه بخير تماماً.

توجهت إلى غرفة والدها ببطء شديد وهي تحاول أن ترسم ابتسامة على لطيفة على ثغرها حتى لا يُصيبه مزيد من التعب عند رؤية حزنها..

 

“أي يا بابا الدلع ده؟ بتشوف غلاوتك عندنا ولا ايه؟” قالت بنبرة مزاح ممزوجة بحنان وهي تنظر إلى وجه والدها المُرهق وعيناه الذابلة، تقترب لتجلس إلى جانبه على السرير وهي تضمه برفق وتُقبل رأسه.

“دماغي كانت وجعاني بس خلاص خفت كده.” اردف والدها مُلاطفاً اياها وإن كان يتحدث ببعض الثقل لتعبه.

“مكنش في داعي يا حبيبتي تسيبي التدريب وتيجي.. وأختك دي كمان اللي سابت شغلها.”

“ازاي يعني بس يا بابا؟ هو احنا عندنا حاجة أهم منك أنت وماما؟ في داهية أي حاجة عشانكوا.”

“ايوا يا سيدي جاتلك حبيبتك بقى.” علقت والدتها بمزاح وهي تتجه إلى داخل الحجرة ومن خلفها ميرال.

“وحبيبتي التانية جت اهي.. تعالي يا ميرال اقعدي جنبي.”

“ألف سلامة عليك يا حبيبي.” علقت ميرال وهي تُقبل يده بينما اغرورقت عيناها بالمزيد من الدموع، اندمجت أفنان داخل الجو العائلي اللطيف ونسيت تماماً أمر رحيم.. لقد تركت الشاب المسكين وحيداً بالخارج..

“طب عن إذنكوا دقيقة هشوف حاجة.” استأذنت أفنان بهدوء قبل أن تنسحب من الغرفة وتعود إلى المكان حيث تركت رحيم لكنها لم تجده، مؤكد أنه شعر بأنه قد أتم مهمته بإيصالها إلى هنا ورحل، وله كامل الحق في ذلك.. وقفت تنظر حولها لثوانٍ قبل أن تقرر العودة إلى الحجرة لكن يوقفها صوت رحيم وهو يقول:

“كنت لسه هكلمك.. كويس أني لاقيتك.” اردف بنبرة هادئة لتلفت نحوه وهي تنظر بتعجب إلى الكيس البلاستيكي في يده.

“أنا جبت Juice وشوية حاجات حلوات كده عشانك أنتي وأسرتك.” كانت نبرته ألطف ما يكون بعض النظر عن الضحكة البسيطة التي غادرتها حينما قال ‘حلوات’ لكنها سرعان ما بدلت الضحك بنظرة إمتنان وإبتسامة صغيرة..

“أنا بجد يا رحيم.. مش عارفة اشكرك ازاي والله عاللي عملته معايا النهاردة..”

“ششش.. مفيش داعي للكلام ده خالص، المهم بس أونكل يقوم بالسلامة.”

“أنت حقيقي إنسان.” اردفت لتتبادل معالم وجهه ويرفع أحدى حاجبيه وهو يسأل بإستنكار:

“كنتي فكراني حيوان ولا ايه؟”

 

“لا لا مش قصدي والله.. أنا قصدي إنسان جدع وشهم يعني.. بس قولت إنسان بس الأول لأن الناس دلوقتي بقت منزوعة الإنسانية..” فسرت بصدق لترتخي تعابير وجهه وترى شبح ابتسامة على وجهه قبل أن يقول:

“هعتبره مدح ف Thank you.. وياريت متقوليش شكراً تاني.”

“ماشي يا سيدي حاضر.”

“طيب أنا همشي دلوقتي.. خدي بالك من نفسك ومن باباكي وقوليله Get well soon ‘أتمنى لك الشفاء العاجل’.”

“هقول لبابا Get well soon حاضر.” علقت بسخرية وهي تضحك ليُبادلها ببسمة صغيرة قبل أن يرتدي نظارته الشمسية باهظة الثمن ويُغادر المكان.

تعود هي إلى غرفة والدها بينما وقف رحيم أمام باب المستشفي في انتظار سيارة الأجرة التي ستقوم بإيصاله إلى الشركة مجدداً، يستغرق الأمر ثلاث دقائق.. يرى السيارة فيتجه نحوها ليلمح بطرف عيناه نوح الذي يتجه نحو المستشفى، يرمقه نوح بحده بينما تظهر ابتسامة جانبية على شفة رحيم دون أن ينظر إليه.

“وده بيعمل ايه هنا إن شاء الله؟” سأل نفسه بهمس وهو يضم قبضته بغيظ قبل أن يقوم بضبط نظارته الطبية فوق أنفه بعنف.

يتجه نحو الداخل ويسأل عن غرفة زوج خالته وتُرشده الممرضة إلى مكان الحجرة في تلك الأثناء كانت أفنان قد وصلت إلى الغرفة ومنحتهم الحلوى التي ابتاعها رحيم.

“شوفتوا جبتلكوا ايه؟ عشان تعرفوا إني مدلعاكوا بس.” قالت أفنان بمزاح ليبتسم جميعهم ثم تنظر نحوها ميرال بشك وتقول:

“وأنتي لحقتي تخرجي تجيبي الحاجات دي من برا وترجعي بالسرعة دي؟”

“اه.. خدت الهليكوبتر بتاعتي من على باب المستشفى يا ظريفة.” وقبل أن تُعلق ميرال سمعوا طرقات خفيفة على باب الحجرة لتقول والدتها:

“اتفضل.” يدخل نوح لتتجهم أفنان وتُشيح بنظرها عنه.

“ألف سلامة على حضرتك يا عمو.. طمنيني يا خالتو ايه الاخبار ؟”

“احنا كويسين يا ابني الحمدلله على كل حال.” اردفت والدتها بإنكسار لتقفز أفنان من مقعدها فور سماعها لصوت ونوح وتُغادر الحجرة تاركة الجميع في حيرة من ردة فعلها الغير معهودة.

“مالك يا أفنان يا بنتي؟” سألت والدتها بقلق وكانت على وشك أن تلحق بها لكن أوقفها نوح بآدب وهو يقول:
“خليكي هنا يا خالتو أنا هروح أشوفها..”

“لسه فاكر؟” سألت مع ابتسامة ساخرة ممزوجة بالسخط.

“أفنان أنا…”

“أنت أيه؟ أنت خزلتني.. وأنت مُستفز.. أنت أخويا بالإسم بس!”

“صدقيني أنا فعلاً …” حاول نوح تبرير فعلته لكن أفنان قاطعته قائلة بنبرة تحمل في طياتها الخزلان:

“أنت مش جدع يا نوح.”

 

“أنتي عندك حق تزعلي.. بس صدقيني أنا فعلا غلط بس صدقيني أنا كنت مشغول والله.. ايوا كان المفروض ارد عليكي واقولك كده بس أنا…”

“أنا لا عايزة اتكلم ولا اسمع.. خلاص يا نوح اللي حصل حصل.” اردفت ثم تركتها وحيداً وعادت إلى غرفة والدتها ليتبعها مجدداً لكن دون أن يتفوه بحرفاً واحداً، قضى ما تبقى من الساعات داخل المستشفى برفقتهم.. أنهت أفنان إجراءات الخروج وقد دونت تعليمات الطبيب ومواعيد جرعات الأدوية التي أوصى بها.

“يلا يا خالتو العربية جاهزة خدي المفتاح واسبقيني أنتي وميرال وأنا وأفنان هنسند عمو ونيجي.”

“طب ما أفنان وماما يروحوا وأستنى أنا هنا..” قالت ميرال بخجل وتوتر لتقلب أفنان عيناها بتملل ويُعلق والدهم بمزاح:

“تسند مين يا ولد؟ اسند نفسك أنت بس الأول.. أنا الحمدلله لسه شباب وقادر أقف على رجلي.”

“طبعاً يا عمو، ربنا يديك الصحة وطول العمر.”

“تعيش يا ابني.. يلا بقى نمشي كلنا سوا.” اومئت أفنان وأمسك بذراع والدها وهي تسير إلى جانبه.

داخل السيارة كان يجلس والدها إلى جانب نوح في المقعد الأمامي وهي وشقيقتها ووالدتها في المقعد الخلفي، كانت تتجنب النظر نحو نوح بينما كان يخطف هو نظرات نحوها بين الحين والآخر في المرأة.

“حمدلله عالسلامة يا جماعة وصلنا.” قال نوح فور توقف السيارة ثم عقب قائلاً:

“معلش يا خالتو ماما معرفتش تجيلك النهاردة بس هتجيلك بكرة إن شاء الله هي ومريم.”

“احنا يا حبيبي مفيش بينا الكلام ده.. وأنت موجود أهو تنوب عنها.”

“معلش يا نوح تعبناك معانا.” بالطبع صدرت هذه الجملة من ميرال ليُخبرها نوح بلطف أنه قد قام بواجبه فتضحك أفنان بسخرية ثم تُغادر السيارة.

“انجزوا يا جماعة عشان بابا عايز يرتاح.” اردفت أفنان وهي تُساعد والدها في الخروج من السيارة، ودعهم نوح ولم يصعد.. وبمجرد وصولهم إلى الشقة وتأكدهم من سلامة والدها وارتياحه بغرفته بدأ الحصار على أفنان ليحاولوا معرفة سبب معاملتها السيئة لنوح.

“أنا عايزة أفهم بقى.. الواد واقف معانا طول النهار ووصلنا لحد هنا وفي الآخر تكلميه بالأسلوب ده؟”

“هو انتوا هتفضلوا طول حياتكوا بتدافعوا عن نوح من غير ما تسألوني أيه اللي حصل؟” سألت أفنان بحنق ولكن حافظت على نبرة صوت هادئة احتراماً لمرض والدها.

“عشان أحنا عارفين أنك مُندفعة يا أفنان.. وممكن يعمل حاجة من غير قصد وأنتي متديلوش فرصة يشرحلك.”

“ميرال! أنتي بالذات بقى بتنصفي نوح عليا مع أنك أختي أنا يعني!”

“سيبك من ميرال وكلميني أنا.. حصل أيه بقى؟”

“محصلش يا ماما.. أنا مرهقة وعايزة أنام شوية..” قالت أفنان وهي تتمدد على السرير وتسحب الغطاء لتُغطي جسدها كاملاً.

“هتفطسي كده يا بنتي.”

“أنا متعودة يا ماما..” أجابت أفنان بصوت مكتوم من أسفل الغطاء، فلقد اعتادت أن تنام بهذا الشكل سواء في فصل الشتاء أو حتى الصيف.

في منزل رحيم جلس في غرفته يعبث في هاتفه حتى مر أمامه اسمها في محادثة اليوم على تطبيق ‘واتس أب’ والتي لم تحتوي على شيء غير موقع المستشفى، لكن ذلك كان كافي بالنسبة له فلقد استطاع الحصول على رقم هاتفها دون أن يتكبد عناء طلبه منها، قام بفتح المُحادثة وقام بكتابة

‘ازيك يا أفنان دلوقتي..’ لكنه قرر حذف ما كتبه ثم كرر المحاولة مجدداً..

‘أونكل أخباره أيه..’ لكنه قرر حذف ذلك ايضاً وقد قرر تأجيل مُحادثتها للغد ربما..

جلس شارداً يحك ذقنه وهو يراجع تفاصيل اليوم كاملة.. وجهها المُتورد وعيناها التي كستها الحُمرة في محاولة بائسة منها بعدم البكاء..

 

لقد شعر بغصه في حلقه عندما رأها في ذلك الوضع، لكن سرعان ما خطر على باله ابتسامتها الصافية ونظراتها المُمتنة وكلماتها الصادقة وهي تشكره على ما فعله اليوم، بالرغم من أنه لا يرى أنه فعل شيئاً يستحق الشكر.. فمن المفترض أن يفعل أي شخصاً مكانه الشيء ذاته، لكن نوح لم يفعل.. فكر في ذلك لتظهر ابتسامة جانبيه على ثغره.

أخرجه من شروده صوت رنين هاتفه بنغمة مميزة قد وضعها لصديقة المُفضل.. أنس.

“ألو.. ايوا يا أنس.”

“أيه يا رحيم بيه فينك طول اليوم؟ سبت الشغل كده ومحدش عارف روحت فين.” سأل نوح بنبرة درامية ثم أنهى حديثه بنبرة لعوب.

“كنت في مشوار كده و… ثانية واحدة.. أنت فاكر نفسك خطيبتي ولا أيه؟”

“الحق عليا بطمن عليك؟ روح مكان ما أنت عايز متصدعنيش.. المهم ما تيجي.”

“أجي أيه يا زبالة أنت!!!”

“يخربيت دماغك يا عم.. قصدي ما تيجي نخرج.” صحح أنس على الفور مسار الحديث ليقهقه رحيم ثم يقول:

“ايوا أنا محتاج أغير جو فعلاً.. عايز مكاني هادي.”

“اشطا هجبلك مكان على ذوقي.”

“عايز كافية هادي يا أنس مش عايز مكان فيه Drinks ‘المقصود مشروبات كحولية’ ها؟”

“خلاص قولت اشطا بقى! وبعدين ما في كافيهات فيها Drinks وهادية عادي.”

“لا أنت شكلك مبتفهمش.. خلاص مش عايز اخرج.”

“بهزر يا عم.. المهم هعدي عليك بالعربية ونروح سوا.”

“أوك ماشي، صحيح بقولك أيه يا أنس.. أنا جاتلي فكرة للتدريب وعايز أنفذها.”

“أيه هي؟ ونشوف مناسبة ولا لا.”

 

“أنت في حاجة في دماغك ولا أيه؟ مفيش حاجة اسمها هنشوف.. أقولك مش عايز منك حاجة أنا هتصرف.. يلا باي.” اردف رحيم ثم أنهى المكالمة دون أن ينتظر سماع رد من أنس.

في صباح اليوم التالي استيقظت أفنان باكراً لتجد أنها الوحيدة المُستيقظة في المنزل، تذهب نحو المطبخ وتقرر إعداد فطور مميز لوالدها.. تبدأ اولاً بإعداد ‘الشاي باللبن’ الذي أدمنته جميع أفراد الأسرة.. جاءها صوت إشعار من الهاتف لتُمسكه بملل وهي تتوقع أن المُرسل بالطبع هو نوح!
لكنها كانت مُخطئة فالمُرسل كان رحيم!!!

تفتح الرسالة بتوتر وهي لا تدري ماذا عساه يقول الآن؟ إنها السابعة والنصف صباحاً تقريباً.

‘صباح الخير يا أفنان.. أسف على الإزعاج بس كنت عايز اطمن على أونكل، هل بقى كويس دلوقتي؟’

قرأت الرسالة وشقت الإبتسامة طريقها إلى وجه أفنان حتى شعرت أن وجهه يؤلمها من شدة الإبتسام، لقد قرأت الرسالة وهي تتخيل طريقة قول رحيم لتلك الجملة بنبرة صوته المميزة وطريقته في نطق الكلمات التي توحي بأنه أجنبي وليس مصري.

‘الحمدلله يا رحيم بابا بقى أحسن.. شكراً بجد على سؤالك وحقيقي شكراً على وقفتك جنبي إمبارح..” شعرت بنبضات قلبها تزداد وهي تُرسل الرسالة بينما توتر الآخر حينما أدرك أنها قرأت الرسالة بل وتقوم بكتابة الرد، فلقد كان ينوي حذف الرسالة لأنه لا يدري ردة فعلها فهي ‘مجنونة’ كما أنه لم يتوقع أن تستيقظ مبكراً.

‘طيب الحمدلله.. ولو سمحتي متقوليش شكراً دي تاني، مفيش بينا الكلام ده.”

‘ماشي يا عم الحنين.. متتعودش بقى عالسهوكة دي عشان متحولش عليك.’

‘مبتعرفيش تكملي الجملة لآخرها حلو ابداً؟’ ضحكت بصوتاً منخفض وكادت أن تُجيب لولا أنها سمعت خطوات من خلفها.

“صباح الخير يا قمر بابا.. ايه الروايح الحلوة دي؟”

“صباح الفل يا حبيبي.. ديه ريحة الفطار.. أصلي صحيت بدري قولت أجهز الفطار عقبال ما تصحوا.” قالت أفنان بلطف وهي تُقبل رأسها والدها.

“تسلم ايديك يا حبيبتي، محتاجة مساعدة؟”

“لا يا بابا ربنا يخليك بس ممكن تقعد معايا عقبال ما أخلص.”

 

“ماشي يا ستي.. وأدي قاعدة.” قال وهو يجذب أحدى الكراسي ويجلس، فلقد كانت مساحة المطبخ كبيرة بحيث يضم من الداخل طاولة خشبية صغيرة وثلاثة كراسي خشبية بالإضافة إلى الأجهزة والمتعلقات الأساسية التي توجد داخل أي مطبخ.

“إلا قوليلي الجميل سرحان في أيه وبيكلم مين الصبح بدري كده؟” سأل والدها بنبرة مزاح، فهو يسألها من باب الإطمئنان وليس من باب التحقيق، فهو يثق في أفنان وميرال.. والأهم يثق في تربيته لهم.

“ده الدكتور اللي بيدربني في الشركة.. كان بيطمن على حضرتك يعني.” فسرت بتوتر ممزوج ببعض الخجل ليبتسم والدها ويقول:

“كتر خيره والله.. قوليله أني بقيت بخير، بس هو عرف منين؟”

“أصلي كان لازم استأذن منه قبل ما أمشي إمبارح وكده..”

“اه عشان كده.. تمام، بس ثواني.. هو كده مش هيبقى عندك يا بنتي مشكلة عشان الغياب اليوم ده؟”

هنا أدركت أفنان أنها نسيت أمر الغياب تماماً.. عبس وجهها قليلاً وهي تفكر في أن الشركة قد ترفض منحها شهادة إتمام التدريب بسبب غيابها في ذلك اليوم..

“هحاول اسأله عالموضوع ده وأشوف حل.. لو معرفتش أحل الموضوع مش مشكلة الشهادة يعني المهم أني استفدت من التدريب العملي..” قالت مع ابتسامة صغيرة في محاولة لطمئنة والدها.

“ماشي يا حبيبتي إن شاء الله خير.. أنا هروح اصحي رانيا وميرال عشان نفطر سوا.”

“ماشي يا حبيبي.”

بالقرب من المغرب جاءت خالتها برفقة نوح ومريم للإطمئنان على والد أفنان، استقبلتهم أفنان بلطف بينما لم تُعير نوح أي اهتمام؛ فهي مازالت غاضبة مما حدث بالأمس.

“أفنان ما تيجي نقف في البلكونة شوية.”

“ماشي ياختي قومي.” توجهوا إلى داخل الشرفة وقامت مريم بغلق الباب نسبياً.

“لو اتكلمتي معايا في موضوع نوح هعمل معاكي الجلاشة.”

“جلاشة؟ ما علينا.. هو احنا عمتاً بنتكلم عن حاجة غير عن نوح؟”

“للأسف لا.. وده سبب من الأسباب اللي مخلياني عايزة اقطع علاقتي بيكي.”

“طب كتر خيرك يا ستي شكراً.. طب بصي بس.. نوح حكالي عاللي حصل وهو والله أسف ومكنش يقصد..”

“ايوا أنا والله أسف ومكنتش أقصد.” قال نوح مُقلداً مريم فور إقتحامه للشرفة وهو يحمل في يده نوع من الحلوى الذي تُحبه أفنان.

“أنا قولتلك تدخل دلوقتي؟” سألت مريم وهي توبخه.

 

“أوعى كده مش عايزة من وشك حاجة.” اردفت بضيق وهو تُبعد الحلوى عنها وتُطيح بيد نوح بعيداً.

“طب ليه كده بس؟ ده أنا نوح حبيبك.” قال بمُزاح دون أن يقصد كلمة ‘حبيبك’ بالمعنى الحرفي، لتتبدل تعابير أفنان وتبتسم مريم بحماس وتعبس ميرال التي كانت تراقب ما يحدث من بعيد.

“حبك برص يا أخي.. وبعدين هو أنت كل شوية تعمل حاجة مستفزة أكتر من اللي قبلها وترجع تصالحني؟”

“يا أفنان متبقيش رخمة بقى.. أعوذ بالله يا شيخة في أيه؟”

“نوح أنت مش مدرك أن اللي حصل المرة دي غير كل مرة صح؟ أنا كنت محتاجه أنك تبقى معايا وقتها بس أنت نفضتلي.. لما أنت بتعمل معايا كده أومال الغريب هيعمل ايه؟” سألت وتذكر نوح على الفور أمر رحيم.. وأنه كان برفقتها، للأسف لقد فعل الغريب ما لم يفعله القريب في هذا الموقف.

“يعم مش وقته سرحان.. صالح البنت يلا!!” اخرجته مريم من شروده ليكرر اعتذاره وأسفه مجدداً.

“ماشي يا نوح خلاص.. حصل خير.”

“أنا فعلاً كنسلت عليكي.. بس أنا كنت مشغول في حاجة ليها علاقة بالشغل.. اه كان المفروض استأذن وارد بس أنا قولت أسخف عليكي.. مكنتش متوقع يعني أن في حاجة بجد..”

“أنت بتفتح الموضوع تاني بتعصبني يعني ولا أيه؟”

“لا لا.. خلاص سماح! ويا ستي عشان اثبتلك أني عايز اصالحك بجد هشرحلك الحاجات اللي فوتيها إمبارح أيه رأيك؟”

“لا شكراً أنا مستغنية عن خدماتك.” قالت ليقهقه على طريقتها ولأول مرة تتمنى ميرال لو كانت تُجيد الكيمياء وعلم الدواء ليُحدثها نوح بتلك الطريقة..

“خلاص بلاش.. هحاول أكلمهم عشان يرفعوا غياب اليوم ده..”

ابتسمت أفنان للوهله الأولى لأنه سيساعدها في ذلك الأمر الذي يؤرق بالها، لكن سرعان ما أدركت ما يعنيه ذلك.. نوح سيتحدث الى رحيم..

ولو فعل.. لن يكتفي رحيم بعدم منحها الشهادة فقط.. بل سيقوم بطردها من المكان بأكمله!!!

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (في حي الزمالك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *