روايات

رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل السابع والأربعون 47 بقلم سارة علي

رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل السابع والأربعون 47 بقلم سارة علي

رواية حبيسة قلبه المظلم البارت السابع والأربعون

رواية حبيسة قلبه المظلم الجزء السابع والأربعون

حبيسة قلبه المظلم
حبيسة قلبه المظلم

رواية حبيسة قلبه المظلم الحلقة السابعة والأربعون

نطق عمار أخيرا بنبرة بدت عابثة وملامح فقدت جمودها فجأة :-
” مساء الخير ….”
تحرك ببصره على الجميع متسائلا بإستخفاف :-
” هل أتيت في وقت غير مناسب ..؟!”
أضاف يشير الى غالية :-
” هل هناك مناسبة ما وأنا لا أعلم ..؟!”
ردت غالية وهي تستعيد رباطة جأشها :-
” إنه يوم ميلادي لو كنت تتذكر …”
إدعى الدهشة وهو يردد بأسف مصطنع :-
” صحيح إنه يوم ميلادك … لقد نسيت ذلك تماما ..”
أكمل مرددا ببرود :-
” ربما لإننا توقفنا عن إقامة إحتفال ضخم بهذه المناسبة منذ سنوات … منذ وفاة والدي على ما أتذكر …”
تمتمت غالية بخفوت :-
” رحمة الله عليه …”
ثم أشارت له بدلوماسية :-
” تفضل يا عمار .. شاركنا الإحتفال …”
تجاهل عمار حديثها وهو يتجه ببصره نحو أخيه فتقابلت نظراته بنظرات نديم الجامدة … جمود يخفي خلفه الكثير …
بدت النظرات المتبادلة بينهما أشبه بحرب صامتة ..
كلاهما يتوعد الآخر ..
كلاهما ينتظر النهاية … نهاية تليق به .. كلاهما يريد الفوز …
نقلت غالية بصرها بينهما بقلق وكذلك كان كلا من حياة وشريف ومعهما نادر ونرمين وحتى أروى …
جميع من يعلم بتلك العداوة شعر بالقلق …
وعلى رأسهم صباح …
صباح التي كانت تنظر الى المشهد بخوف … ذعر حقيقي والأسوء بتأنيب … ضميرها يؤنبها لإنها تدرك إنها سبب هذه الحالة …
سبب هذا الدمار … سبب هذا الحقد والرغبة في الإنتقام …!
نهضت صباح من مكانها تهم بالمغادرة وهي تشعر إن كل شيء بات يفوق قدرتها على التحمل لتتفاجئ بعمار يتسائل بسخرية ظهرت في عينيه :-
” إلى أين ..؟!”
ردت صباح محاولة السيطرة على أعصابها :-
” سأتفقد بعض الأمور …”
لوى عمار شفتيه مرددا بعدم رضا :-
” تتركين ضيوفك لتتفقدين أمورًا لا أهمية لها …”
هتفت غالية بحدة خفية محاولة السيطرة على الموقف فلو كان أبناء عمومتها فقط موجودين لكان الأمر طبيعي قليلا كونهم يعرفون كل شيء ولكن وجود أصدقائها وترها كليا وهي لا تريد أن يحدث أي تصرف غير لائق أمامهم :-
” تفضل يا عمار وشاركنا الطعام …”
ثم أشارت الى والدتها بدورها :-
” وأنت أيضا يا ماما …”
تقدم عمار بخطوات متكاسلة نحو مائدة الطعام ليسحب له الكرسي المقابل للكرسي الذي كان نديم يجلس عليه ثم جلس عليه مرددا عن قصد وهو يرفع بصره نحو أخيه الواقف قبالته وزوجته جانبه :-
” هيا يا نديم … تفضل وأجلس … ما بالك واقف هكذا ..؟!”
نظرت غالية الى شقيقها بتوتر بينما كان نديم يقف جامدا تماما حتى شعر بكف حياة تقبض على ذراعه فنظر لها ليرى الرجاء الخالص في عينيها …
عاد يجلس فوق كرسيه على مضض لتتنفس غالية الصعداء وهي تصطنع الإبتسامة بينما تخبر البقية :-
” تفضلوا من جديد …”
ثم جلست على مقعدها وهي ما زالت محتفظة بإبتسامتها المرحبة بينما داخلها تدعو أن تمر الليلة بسلام …
بدأ عمار يتناول طعامه وهو ما زال يتبادل الأنظار بين الحين والآخر مع أخيه ..
شعرت حياة بمدى الضيق الذي سيطر على زوجها وتلك النظرات المتبادلة بينه وبين عمار لكنها لم تستطع أن تفعل شيئا …
تلاقت نظرات عمار هذه المرة بنظرات حياة ليمنحها إبتسامة خاصة غريبة تماما جعلت ملامح نديم تتشنج كليا وهو يرى تلك الإبتسامة التي يرسلها عمار لزوجته ..
شعرت غالية بتوتر الأجواء فسألت عمار بخفة :-
” لماذا لم تجلب شيرين معك يا عمار …؟!”
أخفى عمار تجهم ملامحه بمهارة على ذكر سيرة زوجته وهو يجيب ببرود :-
” لم تستطع أن تأتي … متعبة قليلا …”
سألته غالية مجددا بقلق :-
” سلامتها .. هل هي مريضة ..؟!”
رد عمار بإقتضاب :-
” كلا لكنها حامل … ”
ثم منح نديم نظرة قوية ثابته عندما هتف نادر مباركا له :-
” مبارك يا عمار .. ”
بارك بعدها كلا من شريف وأروى ونرمين ليرد عمار مباركتهم وهو يرسم إبتسامة كاذبة على وجهه عندما قالت غالية بصدق :-
” مبارك يا عمار …”
رد عمار بنفس الإقتضاب :-
” شكرا غالية …”
ثم أشار نحو صباح الواجمة متسائلا :-
” ماذا عنك يا زوجة والدي ..؟! ألن تباركي لي أنت الأخرى ..؟! مهما حدث سيبقى الطفل القادم أول حفيد لوالدي … زوجك العزيز رحمة الله عليه ..”
تلاقت نظرات صباح بنظرات غالية التي منحتها نظرة مترجية لتهتف صباح بجمود :-
” مبارك يا عمار …عسى أن يرزقك الله ولدا صالحا يخاف ربه …”
ثم أكملت بنفس الثبات :-
” ولتسميه حسين .. على إسم والدك رحمة الله عليه …”
ابتسم عمار بخفة قائلا :-
” ربما سأفعل .. مع إنه والدي لم يوصني بهذا … فقط أوصاني إذا أتت فتاة أن أسميها ديانا على إسم والدتي … فهو يعتز بهذا الاسم كثيرا ودائما ما كان يتمنى إقتران إسم ديانا بإسمه ….”
وهو كان صادقا في حديثه ..
تجهمت ملامح نديم وهو يستمع الى حديث عمار بينما بهتت ملامح صباح كليا ليضيف عمار وهو ينظر في عيني صباح بقوة :-
” لقد أراد تسمية غالية بإسم والدتي حسب ما قال لكنكِ رفضتِ ذلك بتعنت ..”
تجمدت ملامح غالية مما سمعته بينما انتفض نديم من مكانه يصيح به وقد فقد أعصابه كليا :-
” يكفي .. توقف عن هذا الهراء … ”
أكمل ساخرا :-
” أنت تخدع من بالضبط …؟! تخدع نفسك فقط ….”
تطلعت صباح الى ولدها بقلق بينما إسترخى عمار في جلسته أكثر مرددا :-
” أنا لا أكذب .. هذه الحقيقة … هذا ما قاله والدك .. يمكنك أن تسأل السيدة الوالدة إذا أردت …”
أشار الى صباح مرددا بثقة :-
” إسألها هيا … لتخبرك هي بالحقيقة …”
انتفضت غالية من مكانها تصرخ به :-
” يكفي يا عمار .. يكفي حقا …”
نهض شريف من مكانه مرددا بجدية وهو يشير الى جميع الموجودين :-
” من الأفضل أن نغادر … ”
همست غالية بخفوت :-
” أنا حقا أعتذر ..”
لكن شريف أوقفها بجدية محاولا التخفيف عنها :-
” لا بأس .. تحدث هكذا أمور دائما …”
إرتجفت ملامح حياة بوجل بينما غادر الموجودين حاليا وعمار ما زال جالسا بنفس الطريقة يتأمل نديم الواقف قباله بتحفز بنظرات باردة لكنها متحدية …
أدمعت عينا غالية من هول الموقف ولم تعرف علام تحزن بالضبط ..؟!
هل تحزن بسبب الإحراج الذي تعرضت له بسبب أخويها أم تحزن على حالهما بل حالهم جميعا ..؟!
كل ما تعرفه إن هذا اليوم المميز تدمر تماما …
وبسبب أخيها المبجل كالعادة …
كلا ليس بسببه فقط ..
بل بسبب والدتها أيضا ووالدها الراحل ..
فلولا ضعف والدها وأنانية والدتها ما كان ليحدث كل هذا ..
ما كان ليصبح عمار هكذا وما كانت لتتدمر علاقة الأخوة بسبب ماضي لا ذنب لهم فيه …
………………………………………
ما إن غادر الجميع حتى صاح نديم بعصبية :-
” والآن توقف عن هذه التمثيلية السخيفة .. لقد غادر الجميع ولم يتبق سوانا … ”
بقي عمار على وضعيته المستفزة مرددا ببرود :-
” أي تمثيلية ..؟! أنا لم أقل سوى الحقيقة …”
أكمل وهو ينظر نحوه بقوة :-
” أخبرني يا نديم ، هل سألت يوما والدتك عن طبيعة علاقتها بوالدك ..؟! هل سألتها يوما لمَ تزوجها …؟! أو لمَ تزوج والدتي قبلها …؟!”
تجهمت ملامح نديم مرددا بجدية :-
” ولم سأسأل عن شيء أعلم جوابه مسبقا …؟! ”
سأله عمار بدوره بنبرة مستخفة :-
” ومالذي تعلمه يا عزيزي ..؟!”
أجاب نديم ببرود :-
” أبي تزوج والدتك أولا ثم طلقها لإنهما لم يتفقان ليعود ويتزوج والدتي .. هذا ما أعلمه ولا يهمني أن أعلم بقية التفاصيل لإنها أمور خاصة بهما على ما أعتقد …”
” إذًا أنت محظوظ …”
قالها عمار بجمود وهو يضيف :-
” أنت محظوظ لإنك لا تعرف سوى القليل .. بينما هناك الكثير مما تجهله … الكثير جدا يا نديم …”
هدر نديم من بين أسنانه :-
” إلام تريد أن تصل ..؟! ما دخل والدك ووالدتي الآن …؟! ما دخلهما بكل ما يحدث ..؟!”
انتفض عمار من مكانه يصيح بعدما نفض عنه رداء الجمود :-
” بل لهما كل الدخل … هما سبب ما يحدث .. هما سبب كل شيء …”
صاحت صباح بتوسل :-
” يكفي يا عمار ..”
نظر نديم الى والدته بحيرة بينما صاح عمار بها :-
” كلا ، لا يكفي يا صباح هانم .. يجب أن يعلم إبنك الوحيد كل شيء … يجب أن يعرف حقيقتك أنت أيضا … عليه أن يعلم إنني لست الشيطان الوحيد هنا … إن والدته المبجلة لا تختلف عني …”
” إخرس …”
صاح بها نديم وهو يهم بالإنقضاض عليه لتقف غالية في وجهه وتقبض حياة على قميصه من الخلف ترجوه ألا يفعل …
هتف عمار متشدقا :-
” هل تريد أن تعلم الحقيقة ..؟! سأخبرك إذا … والدك تزوج والدتك مجبرا بسبب جدتك … هي من أجبرته على الزواج بإبنة شقيقتها بعدما إدعت المرض … والدك خشي من غضب والدته فتزوج والدتك وهو الذي لم يكن يريدها يوما فهو كان يعشق والدتي … عاش ومات وهو لم يحب آحدا غيرها …”
إنتقلت نظرات نديم نحو والدته التي تنظر نحوه بتشبث وهناك داخل عينيها إعتذار غير مفهوم عندما أكمل عمار يخبره بالحقيقة الكاملة :-
” والدتي إمرأة ذات كبرياء عالي … لم تتحمل وضع كهذا فأرادت الطلاق وبالفعل رفعت دعوة طلاق ضد حسين الخولي فقرر والدك العزيز أن يطلق إبنة خالته فقط لإجلها ولكن كل شيء تحطم عندما حملت والدتك بك فلم يستطع والدك حينها أن يطلق والدتك ليضطر الى البقاء معها بينما هجرته والدتي دون رجعة …”
” هل هذا صحيح ..؟!”
سأل نديم والدته لتهز رأسها بصمت فيستدير ناحية عمار يسأله بثبات كاذب وهو يرى عالمه كله يتحطم نصب عينيه :-
” لهذا تنتقم مني .. لإنني السبب في إنفصال والديك بشكل نهائي …”
التوى فم عمار بتهكم قائلا :-
” ليت الأمر توقف الى هنا … صدقني ما كان ليحدث كل هذا .. ما كنا لنصل الى هنا …”
أكمل وهو يشير نحو صباح :-
” والدتك تلك لم تتوقف عن إيذاء والدتي .. سيطرت غيرتها عليها وهي ترى تعلق أبي السافر بطليقته رغم مرور السنوات خاصة وهي تدرك إنه يحاول إعادتها الى عصمته بأي طريقة .. ”
أضاف وهو ينظر نحوها بحقد دفين :-
” لقد تسببت بالعديد من المشاكل لوالدتي … وفي النهاية تسببت بفضيحة لها كادت أن تموت والدتي بسببها ولكن إبراهيم الهاشمي أنقذها وتزوج بها … تزوجته أمي مرغمة لأجل الفضيحة التي تسببت بها والدتك العزيزة وفي النهاية ماتت .. ماتت بعدما عاشت لسنوات تعاني القهر والألم والعذاب مع زوجها الآخر … هل تعرف كيف ماتت ..؟!”
نظر له نديم بعينين مصعوقتين مما يسمعه ليهمس عمار :-
” إنتحرت ..”
شهقت حياة بصدمة بينما تساقطت دموع غالية رغما عنها ..
اما نديم فشعر بطعنة في قلبه ..
الحقائق بدأت تظهر أخيرا ويا ليتها لم تظهر …
همس نديم بصوت متحشرج :-
” مستحيل … ”
قاطعه عمار ببرود :-
” والدتك أمامك .. يمكنك أن تسألها …”
التفت نديم ينظر الى والدته التي جلست على كرسيها مجددا بتعب ليسألها بترجي :-
” لماذا لا تتحدثين ..؟! لماذا لا تدافعين عن نفسك ..؟!”
أخفضت صباح وجهها أرضا بينما هتف عمار ببرود :-
” لا يمكنها أن تقول شيئا ..ماذا ستقول ..؟! جميع ما قلته حقيقة .. حقيقة تدركها جيدا … حقيقة مهما حاولت الهرب منها ستظل تلاحقها دائما وأبدا ..”
انتفضت صباح من مكانها تصيح به :-
” أنت ماذا تريد مني ومن أولادي ..؟! ألم يكفيك ما فعلته حتى الآن ..؟؟ لقد دمرت مستقبل إبني … دمرت حياتنا كلها .. مالذي تريده بعد ..؟!”
أجاب عمار بقوة :-
” أريد حق والدتي .. وحقي أنا أيضا …”
اندفعت صباح نحوه تصيح له وهي تقف أمامه :-
” ها أنا أمامك .. خذ حقك وحق والدتك مني .. خذه يا عمار .. إقتلني هيا .. إقتلني وأنا أعدك إن لا أحد سيحاسبك .. سيتنازل ولديّ عن حقي عندك … إذا كان هذا سينهي كل هذا العبث الذي نحيا به منذ أعوام بسببك فإقتلني كي ترتح أنت ووالدتك …”
ضحك عمار بقوة ثم قال وهو يتوقف عن ضحكاته فجأة :-
” الموت راحة لا تستحقينها …. لو كان موتك غايتي لكنت فعلتها منذ سنوات .. لكن ليس هذا ما أريده … ليس موتك ما أريده … ”
أضاف وهو ينظر نحو نديم بقسوة :-
” ما فعلته أصعب من الموت … أليس كذلك يا صباح..؟!”
أكمل وهو ينظر لها بتوعد لا آخر له :-
” أنا كنت وما زلت كابوسك … راحتي ليست في موتك .. راحتي عندما أراك تتمنين الموت في اليوم ألف مرة ولا تنالينه :..”
صاحت غالية وقد فقدت أعصابها كليا :-
” يكفي ..”
ثم اندفعت نحوه تصرخ به :-
” يكفي يا عمار … لقد حدث ما أردته … لقد حطمتنا جميعا …. ماذا تريد أكثر ..؟!”
أكملت وهي تضربه وتدفعه :-
” مالذي تريده أكثر أخبرني ..؟! تحدث يا عمار …”
صاح عمار بصوت جهوري :-
” أريد كل شيء .. وأبشع شيء … وسأنال ما أريده …”
توقفت غالية للحظات تنظر له بعدم إستيعاب قبل أن تنطق بخفوت :-
” أنت مريض … أنت لا يمكن أن تكون طبيعي … أنت مريض وبحاجة الى علاج …”
هتف عمار ببرود :-
” جميعنا مرضى يا عزيزتي … جميعنا مرضى بشكل او بآخر …”
أضاف بعدما عدل هندامه :-
” والآن إنتهت مهمتي اليوم …”
أكمل وهو يشمل الموجودين بنظراته :-
” سأترككم الآن .. هنيئا لكم بما سمعتوه .. ليحترق جميعكم بتلك الحقائق المخزية لعائلتنا المبجلة ..”
ثم غادر المكان ..
غادر وهو يدرك إنه ترك خلفه إعصارا لا نهاية له ..
………………………………………..
تأملت حياة جمود زوجها بقلق …
لمست كتفه بأنامل لتشعر بإنتفاضه جسده أسفل لمستها عندما همست صباح أخيرا وهي تنظر الى بتوسل :-
” نديم بني …”
استدارت غالية نحو أخيها تتأمل ملامحه الجامدة وثباته الزائف ..
لقد تلقى نديم اليوم صدمة عمره .. صدمة قلبت كيانه .. صدمة جعلته تائها كليا غير مدركا لأي شيء..
من الظالم في هذه الحكاية ..؟! ومن المظلوم فيها ..؟!
لقد عاش طوال حياته في كذبة …
كل شيء حوله كان كذبه …
والدته الحبيبة كانت كذبة …
الآن وبعد هذه السنوات يكتشف الحقيقة المرة …
يكتشف إن ما فعله عمار به ليس سوى جزء من دين ..
دين قديم كان يجب على والدته أن تدفعه وكان هو الوسيلة لتسديد هذا الدين ..
نطق أخيرًا وهو ما زال محتفظا بجموده :-
” كيف إستطعت فعل هذا …؟! كيف يمكنك أن تتسببي بكل هذا الأذى لمن حولك ..؟!”
هتفت صباح ترجوه :-
” إسمعني أولا بالله عليك ..”
صاح بها :-
” ماذا حدث ..؟! هل انا مخطئ …؟! هل ستكذبين مجددا ..؟! ستخترعين قصة لا وجود لها ..؟! تبحثين عن مبرر لكل هذه الفوضى والدمار الذي ألحقتهِ بنا ..؟!!”
” نديم ..!!”
تجاهل نداء شقيقته المتوسل عندما أكمل وعيناه تلمعان بقسوة تراها لأول مرة :-
” أنت السبب .. أنتِ سبب كل ما أصابنا وما زال يصيبنا … دمرتنا جميعا .. ”
أردف وهو بالكاد يبتلع غصته :-
” أنت تدركين كم شخص تدمر بسببكِ ..!! كم شخص دفع ثمن اخطاؤك وأنانيتك .. ”
ثم أخذ يعد على أصابعه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة :-
” ديانا ، ليلى ، غالية ، والدي و …”
إبتلع غصته مجددا وهو يهمس بنبرة متحسرة :-
” وأنا يا ماما … انا دفعت ثمن أخطائك ..”
ثم أنهى حديثه ناطقا بإسم غريمه مرغما فالحقيقة أصبحت أمر واقع لا مفر منه :-
” حتى عمار .. عمار أيضا عاش ما عاشه ووصل إلى هنا بسببك ِ …”
شهقت والدته برفض وهي تصيح :-
” كلا ، عمار شيطان .. نعم هو شيطان .. مهما بلغ حجم خطئي فهذا لا يعني أن يفعل بك ما فعله .. أن يدمر حياتك ومستقبلك بهذا الشكل …”
صاح بدوره غير مستوعبا ما تتفوه به وكيف تبرر اخطاؤها :-
” لقد كنت سببا في فقدانه لوالدته … والدته إنتحرت بسببك … هل تستوعبين هذا ..؟!”
أكمل وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة :-
” هناك إمرأة ماتت بسببك .. هل تدركين حجم ذنبك ..؟! هل تستوعبين ما حدث بسببك ..؟! أنت لم تدمري عائلة كاملة فقط .. أنت تسببتِ بوفاة إمرأة لا ذنب لها سوى إنها إمتلكت قلب زوجها …”
أكمل بتهكم مرير :-
” بل من كان زوجها وسرقته منها بالقوة ..”
إنهارت صباح باكية بينما همس نديم بقسوة :-
” أنت دمرت حياتي كما فعل عمار … أنت مسؤولة مثله عما أصابني ..”
تحشرجت نبرته وهو يضيف :-
” لكنك أمي … للأسف الشديد إنك كذلك ..”
همست صباح برجاء من بين دموعها :-
” نديم … بني ..”
قاطعها بحزم :-
” لا تقولي بني .. لا تتحدثي معي … لا تنطقي اسمي بعد الآن …”
أكمل بثبات :-
” منذ الآن أنت خارج حياتي .. لا أريدك في حياتي … يكفي ما أصابني من دمار بسببك حتى اليوم …”
أشار الى حياة بجمود عاد يكسو ملامحه :-
” هيا بنا يا حياة …”
تطلعت حياة نحو صباح بقلة حيلة ثم تحركت خلف زوجها وعقلها لم يعد يستوعب ما سمعه بعد ..
…………………………………………….
كانت تتأمل الشارع الخارجي بشرود بينما هو ينهي مكالمة طارئة تخص العمل على ما يبدو …
شردت بأفكارها بعيدا ورغما عنها تشعر مجددا بذات الشعور الذي شعرت به لمرات عديدة سابقا ..
الضياع لا غير …
عادت تنظر نحوه … تتأمل الجدية التي كست ملامحه وهو يتحدث بالإنجليزية مع موظف لديه … يملي أوامره عليه بنبرة مليئة بالسلطة والنفوذ رغم خفوتها …
هو رجل عملي جدا وربما هذا سبب نجاحه في عمله …
رجل هادئ جدا وقوي جدا …
وماكر جدا …
هكذا فكرت وهي تتذكر بداية الليلة وتعامله معه …
تلك القبلة الخافتة التي طبعها فوق وجنتها والتي على ما يبدو ستصبح عادة لديه كلما قابلها او قام بتوديعها …
أخبرها إنها تبدو رائعة كعادته ونظراته نحوها تثبت صدق كلماته ..
ثم قادها نحو سيارته وفتح الباب لها برقيه المعتاد …
ركبت سيارته وفعل هو ذلك ايضا وغادرا نحو المطعم …
تحدث قليلا يسألها عن أحوالها وعن أحوال العائلة …
كلمات وإن بدت رسمية لكنها تحمل حميمية مختلفة عن المعتاد .. حميمية رجل أدرك إنه بات له موقعا في حياتها …
تحدثا قليلا بسلاسة قبل أن يفتح إحدى أنواع الموسيقى الهادئة التي تفضلها فتنصت لها وهو كذلك ..
مر الوقت بسرعة ووصلا الى المطعم أخيرا لتتفاجئ به وهو يمد ذراعه نحوها كي تتبأطها ففعلت ما أراد وحينها شعرت بشيء من الرهبة ..
نعم رهبة الإنتماء له فهي عندما تأبطت ذراعه منحته حق الملكية التي تحدث عنه ..
هي باتت خطيبته … وقريبا زوجته …
لم تفهم سبب شعور الرهبة الذي سيطر عليها في تلك اللحظة …
رهبة تجاهلتها وهي تسايره في حديثه بعدها …
حديثه الذي قطعه ذلك الإتصال …
أفاقت من أفكارها على صوته يخبرها معتذرا :-
” أعتذر يا ليلى ولكن المكالمة كانت ضرورية للغاية ..”
تمتمت بخفوت :-
” لا عليك …”
أشار الى النادل وهو يسألها :-
” ماذا تشربين ..؟!”
أخبرته عما تريد فطلب لها ما تريده وطلب له عصير البرتقال المنعش عندما سألته بعدما غادر النادل :-
” أنت تتعمد عدم شرب النبيذ بوجودي .. أليس كذلك ..؟!”
ابتسم مرددا بجدية :-
” نعم ، لقد أخبرتني بعدم رغبتك في ذلك … هل تتذكرين ..؟!”
هزت رأسها مجيبة :-
” أتذكر بالطبع …”
ثم أضاف بهدوء :-
” ولكن أنا أرفض هذه المشروبات بشكل عام .. ”
قال بنفس الهدوء :-
” أنا لا أتناولها بإستمرار .. فقط في المناسبات و…”
قاطعته بنفس الجدية :-
” ستتوقف عنها تماما يا كنان .. هذه المشروبات تغصب الله وأنا لن أتزوج من رجل لا يخاف ربه …”
حل الصمت مطبقا بينهما …
صمت قطعته وهي تضيف عن قصد :-
” أتمنى ألا يكون هناك المزيد من الإختلافات بيننا …!!”
رمقها بنظراته وهو يردد :-
” أيا كانت الإختلافات فجميعها بسيطة يمكننا تجاوزها …”
هتفت بثبات :-
” موضوع المشروب مفروغ منه يا كنان … انت لا تتوقع مني أن أتقبل شيء كهذا وأتصرف معه بطبيعية أو أتجاهله حتى ..”
أضافت بقوة :-
” انا لن أتزوج من رجل يتناول المشروبات الكحولية حتى لو فقط في المناسبات .. كما إنني يستحيل أن أقبل بدخول هذه المشروبات الى منزلي ..”
قاطعها بوجوم :-
” أخبرتك إنني لا أتناوله سوى في المناسبات .. منزلي لا يحوي على هذه المشروبات يا ليلى … اطمئني …”
كتمت بقية حديثها داخلها فما زال الوقت أمامها للخوض في المزيد من هذه الأحاديث …
سألها بدوره محاولا تغيير الموضوع :-
” هل نشتري الخاتم غدا ..؟!”
أجابت بخفوت :-
” كما تريد …”
قال بجدية :-
” سأكون عندك في تمام الساعة الحادية عشر صباحا إذا …”
هزت رأسها بصمت عندما تقدم النادل نحويهما يضع المشروب لكلا منهما …
جذبت ليلى كأسها ترتشف منه القليل عندما سألها كنان وهو يحمل كأسه :-
” ما أخبار الشركة ..؟؟”
أجابته بجدية :-
” بابا عاد إليها اليوم .. غالبا هو سيكمل الصفقة معك ..”
كان قرار والدها مفاجئا بعودته الى العمل لكنها فهمت إنه يمنحها الفرصة للتفرغ لحياتها قليلا والتفكير في مستقبلها بعيدا عن ضوضاء العمل في الشركة والذي يأخذ معظم وقتها …
سألها كنان بإهتمام :-
” هل ستتركين العمل إذا ..؟!”
ردت بصدق :-
” لا أعلم … ”
أكملت تتساؤل :-
” هل يهمك ذلك ..؟!”
هتف بجدية :-
” يهمني جميع ما يخصك …”
أضاف مكملا :-
” كما يهمني أن أعلم إذا ما ستتركين العمل بعد الآن أو سوف تستمرين به … سؤالي بدافع المعرفة ليس إلا .. يعني كي لا تفكري إنني لا أريد عملك …”
تأملته لوهلة فهو مجددا يقرأ أفكارها …
تنحنحت تخبره :-
” لم أفكر بعد … ”
سألته بجدية :-
” ما رأيك …؟! ما هو الأفضل من وجهة نظرك ..؟!”
إندهش من سؤالها لكنه أجاب برزانة :-
” بالنسبة لي عملك يخصك … إذا كنت لا ترغبين العمل فأنت حرة … أنت أساسا لا تحتاجين الى العمل ولن تفعلي ولكن إذا كنت تريدين العمل وترغبين في ذلك فأنا سأشجعك بل وأدعمك أيضا إذا إحتجت …”
نظرت له بحيرة قبل أن تقول :-
” أنا لم أعمل منذ تخرجي من الجامعة .. ولولا ما حدث مع بابا ما كنت لأعود إليه … ”
إنخفضت نظراتها وهي اكمل :-
” في الحقيقة لم يكن لدي الوقت للتفكير في ذلك … كانت هناك أشياء أهم من وجهة نظري .. ”
هتف بجدية متجاهلا الخيبة في نبرتها :-
” ما زال الوقت أمامك بل العمر كله أمامك .. يمكنك البدء في العمل مجددا .. ”
أضاف يمنحها إبتسامة واثقة :-
” انت ذكية ويمكنك أن تحققي كيانا في مجال التجارة إذا أردت … ”
سألته بتردد :-
” هل تعني ذلك حقا ..؟!”
كان يهمها حقا رأيه … فهو رجل أعمال محنك للغاية …
أجابها بجدية :-
” أخبرتك مسبقا إنني لا أجيد المجاملة … بناء على تعاملي المبدئي معك أرى ذلك .. أنت تستطعين أن تثبتي نفسك في مجال العمل إذا أردتِ ذلك حقا …”
شردت لوهلة تفكر في حديثه ..
ورغما عنها تخيلت نفسها تعمل وتصنع إسما لها ..
تبني عملا خاصا به وتنجح ..
أعجبتها الفكرة وتحمست لها ولاحظ هو ذلك من خلال نظراتها التي أخبرت بما يعتمل داخلها فقال بجدية :-
” يمكنني مساعدتك إذا ما قررتِ ذلك …”
منحته إبتسامة هادئة وهي تردد :-
” ان شاءالله .. تسعدني مساعدتك حقا ..”
ابتسم بدوره مرددا :-
” على الرحب والسعة …”
…………………………………..
إنتهت شيرين من تجهيز حقيبتها التي تحوي على جزء من ملابسها وأغراضها …
تأملت غرفة نومها التي لم تقضِ بها سوى أشهر قليلة بوجع …
لم تكن تعلم إن الحكاية ستنتهي بهذه السرعة ..
أسرع مما تخيلت بكثير …
هي ظنت إن كل شيء سيتغير ….
إنها سوف تستطيع إخراجه من ظلماته ..
تطهيره من ذنوبه وحقده الذي يستولي عليه كليا ..
لكنها فشلت وخرجت من معركتها مهزومة …
خسرت معركتها بأسرع مما تخيلت …
امتدت كفها نحو بطنها تلمسها برفق وهي تخبر نفسها إنها رغم كل شيء ربحت طفلا ..
طفلا ينمو داخل أحشائها ..
طفلا تاقت إليه بكل ذرة من كيانها بعدما حملت طفلين قبله وخسرتهما …
طفلا لأجله قررت إعلان هزيمتها ومغادرة حياة الرجل الذي أحبته …
لأجل طفلها قررت ذلك ..
لأجل حمايته ..
لأجل إبعاده عن أبيه …
لأجل ألا يكون ضحية أفعاله …
قاومت الدموع التي ملأت عينيها وهي تتجه نحو سريرها تأخذ قطعتي الملابس التي وضعتها عليه لترتديها ثم سارعت تخلع ملابسها عنها وترتديها ….
مسحت وجهها بكفها وهي تمنع نفسها من البكاء ..
اتجهت نحو المرآة وأخذت تسرح شعرها سريعا قبل أن ترفعه بشكل ذيل حصان …
ارادت حذائها المسطح ثم وضعت هاتفها داخل تلك الحقيبة الصغيرة قبل أن تنادي الخادمة لتحمل حقيبتها وتخرج بها …
أتت الخادمة وسحبت حقيبتها خلفها بينما ألقت هي نظرة طويلة على المكان …
تأملت كل جزء منه بنظرة مودعة …
هي لن تعود الى هنا مجددا ..
شعورها يخبرها بذلك …
تأملت خاتم زواجها ….
تأملته لثواني …
ثواني عاد قلبها ينبض بنفس الحب ونفس الألم …
تحبه بكل أسف وبقدر ما تحبه بقدر ما تألمت منه …
خلعت الخاتم ووضعته على الطاولة المجاورة لسريرها ثم جلست على سريرها بوهن تكتم دموع الوجع …
تتذكر يوم دخلت هذا المنزل ..
يومها قررت أن تصنع من هذا المكان جنة له ولها …
حلمت بالكثير وخططت للكثير …
لكن جميع محاولاتها بائت بالفشل الذريع …
ربما تسرعت .. ربما كان يجب أن تنتظر أكثر …
لكنها لم تعد لوحدها ..
بات هناك طفلا مسؤولة عنه ..
طفلا لن تسمح بأن يكون ضحية والده …
طفلا ستحميه من شر والده قبل أي شيء آخر …
وضعت كفها مجددا فوق بطنها تخبر جنينها بخفوت :-
” أنا تركته لأجلك … لأجل حمايتك .. أنا أحب بابا كثيرا لكنني أحبك أنت أكثر وأخشى عليك منه .. بابا لا يستوعب ما يفعله بنفسه وبمن حوله … لا يستوعب كم الأذى التي يتسبب به الجميع .. نحن يجب أن نغادر حياته … لا حل آخر أمامنا يا صغيري …”
تساقطت دموعها على وجنتيها لتهمس بعدها :-
” سامحني لإنني حملت بك في وضع كهذا .. سامحني لإنك ستلد في ظروف صعبة كهذه ولكنني أحبك كثيرا وأريدك كثيرا … سامحني حتى لو كنت أنانية في حبك ورغبتي بأمومتك …”
مسحت دموعها وهي تنهض من مكانها تحمل حقيبتها وتغادر المكان …
غادرت الفيلا وركبت سيارتها لتسحب منديلا تمسح به عينيها الباكيتين…
قادت سيارتها بعدها متجهة الى منزل عائلتها ..
لم يكن لديها مكان آخر تذهب إليه …
رغم كل شيء هم سيبقون عائلتها وهي ستبقى تحتاجهم …
لكن كل أفكارها تبخرت وهي تجد نفسها واقفة أمام باب منزل عائلتها تطالعه بقلق وتردد ..
تحاول أن تتخيل موقفهم عندما يرونها …
كيف ستكون ردة فعلهم ..؟!
كيف سيتعاملون معها …؟!
مهما فعلوا بها ستعذرهم …
هي من جلبت هذا لنفسها ..
لقد تمردت عليهم وراهنت على شخص لا يستحق ..
شخص باعها دون تردد …
أغمضت عينيها وهي تأخذ أنفاسها عدة مرات …
تخبر نفسها إن عليها أن تصبر وتتحمل أيا ما سيقوله شقيقها وحتى والدتها ..
لا بأس مهما فعلوا ومهما قالوا ..
وأخيرا ضغطت على جرس الباب فأخذ قلبها ينبض بعنف عندما فتحت الخادمة الباب لها تطالعها بدهشة ..
سمعت صوت شقيقها يتسائل عن هوية القادم في هذا الوقت المتأخر عندما تجمد مكانه للحظات يطالعها بعدم تصديق ..
سرعان ما إنحدرت عينيه نحو تلك الحقيبة متوسطة الحجم المجاورة لها …
إنتظرت أن يمنحها نظرة قاسية او لائمة …
انتظرت قسوة او سخرية …
أي تعبير يؤلمها لكنه بقي صامتا يتطلع إليه بهدوء عندما همست بتلعثم :-
” وليد أنا …”
نطق وليد بنفس الهدوء :-
” إدخلي يا شيرين …”
نظرت له بضعف وتردد ليكمل بقوة :-
” هذا منزلك أيضا يا شيرين … إدخلي هيا …”
تحركت بخطوات آلية نحوه لتقف أمامه فترفع وجهها نحوه بملامح شديدة الإنكسار ودموع تراكمت داخل عينيها ..
لحظات ولم تشعر بنفسها إلا وهي تندفع داخل أحضانه تبكي بين ذراعيه ليعانقها هو بدوره ولم يبخل عليها بدعمه الذي تحتاجه أكثر من أي شيء في تلك اللحظة …!

في صباح اليوم التالي
فتحت عينيها على صوت منبه الهاتف فسحبته بسرعة تطفئ المنبه مقررة عدم الذهاب الى جامعتها اليوم فالوضع لا يتحمل أساسًا لذا ستبقى بجانب زوجها تسانده وتقدم له ما يحتاج …
رفعت جسدها تتأمل السرير الواسع وهي تتذكر لمحات مما حدث فجر البارحة بعدما غلبها النعاس وتمكن منها فغفت جانبه لا إراديا …
تذكرت كيف حملها فهي لم تكن غفت تماما بعد وأتى بها هنا فوق سريرهما ليضعها عليه وعندما حاولت النهوض مجددا والبقاء معه طلب منها بحزم أن تنام وترتاح مذكرا إياها بحملها وضرورة العناية بنفسها لأجل ذلك الحمل على الأقل …
تنهدت بتعب فهي لم تنم فعليا سوى اربع ساعات أو أقل …
لقد قضت الليلة كلها جانبه وهو الذي عزل نفسه تماما منذ مغادرتهما منزل عائلته بعدما تلقى صدمة عمره هناك …
تذكرت حالته بعدما عرف تلك الحقيقة .:
حديثه الأخير مع والدته ثم مغادرته المنزل بتلك الطريقة …
ومنذ تلك اللحظة وهو يلتزم الصمت وينأى بنفسه عنها هي أيضا ..
الصدمة كانت شديدة عليه …
ما عرفه كان يفوق طاقته بمراحل …
وهو تقبل تلك الصدمة بجمود .. صمت مخيف …
صمت تشعر ببركان من الغضب يختبئ وراءه …
ليته صرخ كثيرا وحطم الكثير …
ليته منحها أي ردود فعل تحرر غضبه الكامن ..
لكنه لم يفعل ..
التزم الصمت طوال طريق العودة وهي بدورها لم تستطع إختراق هذا الصمت …
عندما وصل الى شقتهما إكتفى بجلوسه في الشرفة وهو يدخن السجائر ..
سيجارة تلوها الأخرى وهو ملتزم الصمت وتعابير وجهه مبهمة .. جامدة ..
بقيت هي جانبه لمدة لا تعلم عدد ساعاتها بالضبط …
وبقي هو جامدا لم يتحدث معها سوى مرة واحدة عندما طلب منها بإقتضاب أن تذهب الى الغرفة وتنام فالساعة تجاوزت الواحدة صباحا لكنها رفضت بهدوء فتجاهلها هو ولم يعقب …
فعاد الى صمته مجددا وسجائره معه تشاركه هذا الصمت …
وعادت هي الى صمتها بدورها لإنها لم تجد شيئا مناسبا تقوله ففضلت الصمت والإكتفاء بوجودها جانبه فقط …
مرت الساعة وبدأ النعاس يسيطر عليها ورغم ذلك عاندت وأصرت على البقاء حتى تمكن النعاس منها لتشعر به وهوويحملها نحو الغرفة ثم يأمرها بالنوم وهي بين اليقظة والغفوة ..!!
تثائبت بنعاس قررت أن تطرده وهي تنهض من فوق سريرها مقررة التوجه نحوه …
التحدث معه حتى لو رفض وبقي على عزلته تلك …
هي تتفهمه ولا تلومه ..
تتفهم صمته وإنعزاله حتى عنها …
تتفهم موقفه بعدما حدث …
تتمنى لو تستطيع التخفيف عنه ..
دعمه ومساندته …
تتمنى لو يفتح قلبه لها ويعبر عن وجعه ..
يفضفض لها بل ويفرغ غضبه وعصبيته فيها ..
ستتفهم وتستوعب … فقط ليفعل أي شيء يدل على تفاعله مع محيطه بدلا من موجة الصمت والعزلة التي سحبته كليا داخلها …!!
جذبت هاتفها تنتبه الى رسائل غالية التي تسألها فيها عن حال شقيقها.. تخبرها مدى قلقها عليه وعن ترددها في مكالمته او حتى مكالمتها …!!
شعرت بالشفقة لأجلها هي الأخرى …
بالتأكيد الصدمة لم تكن هينة عليها لكنها مضطرة أن تتماسك …
مضطرة أن تتماسك عكس شقيقها …
ولكنها واثقة من كونها تحمل خلف تلك القوة والصلابة آلما غائرا تخفيه بمهارة وإعتداد يليق بها …
شردت حياة لا إراديا بحياتها التي عاشتها ووالدتها وما فعلته …
رغم كل شيء هي ممتنة لحياتها …
على الأقل هي لم تعش في خدعة …
حياتها كانت واضحة لا أسرار فيها …
أب يحبها كثيرا ويرعاها ويعتني بها لإنها تمثل دنياه كلها وأم تخلت عنها بتصرف أهوج فعاشت لسنوات دونها ترفض قربها رغم محاولاتها المستميتة لذلك القرب لكنها عجزت عن تقبل قربها ولولا مرضها ما كانت لتتقبلها من جديد لكن ما حدث جعلها تستوعب إنها أخطأت وإنه رغم كل شيء تبقى هي أمها ولها حق عليها …
ورغما عنها قارنت حياتها بحياة نديم وغالية فوجدت إنها محظوظة أكثر منهما …
على الأقل كل شيء كان واضحا أمامها ومعروفا …
بل والأسوء إنها شعرت بالضيق من نفسها …
شعرت إنها تحاملت على والدتها بشكل مبالغ فيه ..
عاقبتها لسنوات طويلة ..
نعم والدتها اخطأت خطئا جسيما وهي بدورها تمادت في عقابها …
شعرت بالشفقة من جديد ناحية نديم وغالية …
كيف إنقلبت حياتهما رأسا على عقبا فجأة دون سابق إنذار …؟؟
كيف تحولت والدتهما الى جاني ..؟!
ووالدهما وعشقه السرمدي لزوجته الأولى …؟!
كل شيء كان معاكس للحقيقة ..
كل شيء كان كذبة وما أصعب من ذلك فالحقيقة مهما بلغت قسوتها تبقى أفضل من حياة كاذبة مصطنعة كل شيء فيها يناقض واقعها …
تنهدت مجددا بألم وهي تخرج من غرفتها ومعها هاتفها …
تتجه نحو زوجها للإطمئنان عليه …
وجدته ممددا فوق الكنبة يغط في نوم عميق فتأملته بحزن وهي تتقدم نحوه بحذر …
تأملت ملامحه الساكنة رغم الارهاق المرتسم عليها فتنهدت بصمت وهي تتجه نحو الغرفة مجددا تسحب غطاءا وتتجه به من جديد نحوه …
وضعت الغطاء فوقه بحذر فشعرت به يتململ قليلا في نومته لتتحرك الى الخلف بصمت وهي تبتعد عنه مقررة أن تتركه عله ينم لبضعة ساعات …
عادت الى غرفتها وحملت هاتفها وراسلت غالية تخبرها إنه نائم حاليا بعدما بقي الليل بطوله ساهرا يرفض النوم ..
أتاها جواب غالية بسرعة وكأنها كانت تنتظر جوابها تخبرها أن تعتني به ثم تتبعها برسالة أخرى مضمونة :-
” نديم يعيش أسوء أيامه حاليا … كوني معه … تحمليه مهما كانت ردود أفعاله .. أثق بك كثيرا يا حياة وبقدرتك على التخفيف عنه ..”
ارتجفت ملامحها وهي تتسائل رغما عنها إذا ما كانت تستطيع التخفيف عنها ومؤازرته بالشكل الذي يحتاجه فتمكن الخوف والتردد منها لكنها عادت ونهرت نفسها وهي تخبرها إنها تستطيع …
تستطيع فعل ذلك وأكثر فالحب الذي تحمله داخلها نحوه يكفي لإنتشاله من بقعة أحزانه وصدماته …
نعم الحب يكفي …
وهي بحق حبها له ستكون معه وجانبه الى الابد …!!
مسحت وجهها بتعب ثم نهضت من مكانها مقررة أن تأخذ حماما سريعا ثم تتجه لإعداد الطعام كي يجد الطعام جاهزا حالما يستيقظ …
…………………………………………
دلفت منى الى غرفة شيرين بعدما طرقت الباب عليها بخفة لتجد شيرين جالسة فوق سريرها بملامح باكية وعلى ما يبدو إنها لم تنم طوال ليلة البارحة …
تقدمت منى نحوها بملامح حزينة وهي تتمتم :-
” صباح الخير حبيبتي … ”
أضافت وهي تقف جانبها :-
” ما رأيك أن تتناولي الطعام …؟!”
نظرت لها شيرين بعينيها الخضراوين الدامعتين وقالت :-
” لا أريد الآن .. شكرا يا منى ..”
جلست منى جانبها تخبرها بصدق :-
” علامَ تشكرينني يا شيرين ..؟! انت بمثابة شقيقتي والله وحده يعلم مدى غلاوتك عندي …”
ابتسمت شيرين بصمت حزين لتربت منى على ذراعها تخبرها مؤازرة إياها :-
” نحن جميعنا معك … لا تنسي هذا …”
همست شيرين بخفوت :-
” أنا آسفة …”
قالت منى بسرعة :-
” لا تعتذري يا شيرين … ”
قالت شيرين بجدية :-
” يجب أن أعتذر يا منى … خاصة من ماما ووليد … لقد تحديت كليهما بل وقفت ضدهما وفضلته عليهما ..”
هتفت منى بتروي :-
” لا وليد ولا والدتك يفكران بهذا الآن .. كل ما يفكران به ويريدانه هو مساعدتك والتخفيف عنك …”
غمغمت شيرين بهدوء :-
” وهذا ما أحتاجه أنا حاليا …”
توقفت عن حديثها وهي تشاهد شقيقها يدلف الى الداخل مرددا بهدوء :-
” يمكنني الدخول ، أليس كذلك ..؟!”
هزت شيرين رأسها بصمت وعادت الدموع تملأ عينيها لتنهض منى من مكانها قائلة :-
” سأجلب الفطور لك حبيبتي … ”
أضافت بجدية :-
” يجب أن تتغذي جيدا يا شيرين ولا تهملي طعامك …لأجل طفلك على الأقل ..”
أومأت شيرين برأسها دون رد عندما منحت منى نظرة ذات مغزى لزوجها وغادرت بعدما هز وليد رأسه بتفهم ..
تقدم وليد نحو شقيقته التي كانت جالسة مكانها مخفضة رأسها قليل فجلس جانبها متسائلا بإهتمام :-
” كيف حالك يا شيرين ..؟! هل أصبحت أفضل اليوم ..؟!”
رفعت عينيها الدامعتين نحوه وهزت رأسها بنفي ليتنهد بصمت ثم يقول :-
” لقد حدث ما حدث يا شيرين … ”
أكمل وليد بحذر :-
” البارحة لم أسألك عما حدث وجعلك تتركينه وتعودين الى هنا .. لكن يمكنني التخمين إنك وصلت لنهاية الطريق معه فلولا ذلك ما كنت لتأتين عندنا ..!”
هتفت شيرين بهدوء :-
” صحيح ، هذا ما حدث .. لقد وصلنا الى نهاية الطريق بالفعل …”
قال وليد :-
” توقعت حدوث هذا بل كنت أنتظر حدوثه ولكنني لم أتوقع أن يحدث بهذه السرعة … ”
غمغمت بحسرة :-
” ولا أنا .. بل على العكس تماما … توقعت إن العكس سيحدث وإنني سأغيره بدخولي حياته … ”
كتمت دموع القهر داخل عينيها وهي تضيف بحشرجة :-
” حتى تبين لي العكس .. فهمت إنه لن يتغير مهما حدث … حتى أبوته القادمة لم تغيره أو تخفف من حقده وسوداويته …!”
زفر وليد أنفاسه مرددا :-
” كان عليك أن تفهمي ذلك منذ البداية يا شيرين .. من يفعل بأخيه إبن أبيه ما فعله ، لن يقف في عينيه أي أحد .. أيا كان يا شيرين …”
همست تدافع عن نفسها :-
” كنت أحبه .. أحبه وكثيرا وهو كان يبدو عليه نفس الشيء …فكرت إن الحب الذي بيننا سيكون علاجه .. وجودي جانبه سوف يساعده … ”
سأل وليد بتردد :-
” ألا تشعرين إنك تعجلت في قرارك ..؟! يعني لم يمر على زواجكما سوى أشهر قليلة جدا.. ألا تعتقدين إنه كان يمكنك الإنتظار بعد ربما تنجحين فيما تريدنه أو ربما ميلاد طفله يساعدك في ذلك ..؟!”
أجابت بنفس التردد :-
” خفت .. خفت يا وليد ..”
نظر لها بدهشة لتضيف بدموع لاذعة :-
” خفت على طفلي منه وأنا أراه يدمر جميع من حوله … خفت على طفلي عندما رأيته تسبب بكل هذا الأذى لأخته رغم حبه الشديد لها والأسوء إنه يرفض الإعتراف بذنوبه حتى بعدما أصاب أخته .. ”
أكملت وهي تمسح دموعها :-
” فكرت في طفلي وما سيصيبه على يد أب ظالم مثله .. فكرت في مصيره وكم سينال من أفعال والده التي لا ذنب له بها .. قررت الهرب به بعيدا عن محيط والده الأسود …”
قال وليد بثبات :-
” لكنه سيبقى والده يا شيرين … مهما حاولت الهرب من هذه الحقيقة .. عمار الخولي هو طفل ولدك القادم … ”
أضاف يسألها بجدية :-
” هل تعتقدين إنك سوف تستطيعين حرمان الطفل من والده ..؟! هل تعتقدين إن عمار سيسمح لك بهذا ..؟!”
إسترسل بعدها :-
” ألم تفكري في وضع الطفل بعد ولادته وما سيفعله عمار حينها ..؟!”
سألته بوجه شاحب :-
” ماذا تقصد ..؟!”
رد بجدية :-
” يعني عمار لن يصمت يا شيرين و لن يترك طفله لك بسهولة بل لن يتركه اساسا ..”
هتفت بسرعة :-
” لكنه طفلي أنا أيضا …”
قال وليد بتعقل :-
” وطفله هو كذلك يا شيرين .. وعمار بشخصيته التي نعرفها لن يترك الطفل لك بسهولة …”
سألته بقلق :-
” هل تعتقد إنه سيأخذ حضانة الطفل مني ..؟!”
رد وليد بجهل :-
” لا يمكنني الجزم بشيء.. لا أحد يعرف ما يدور في ذهنه ولكن كل شيء متوقع منه .. كل شيء يا شيرين ….”
هزت رأسها بصمت توافقه في حديثه مرغمة وقد أدركت بالفعل إن الكثير ما زال ينتظرها معه ..!
أفاقت على صوت شقيقها يسألها :-
” ما يهم الآن ، هل أنت جادة في قرار الإنفصال ..؟!”
صمتت لوهلة تفكر في حديثه عندما نطقت بتردد :-
” أريد الإنفصال وحضانة طفلي أيضا …”
نهض وليد من مكانه قائلا :-
” سأتصل به ليحضر هنا وأتفاهم معه … لنرى ما يفكر به الباشا وما ينويه ..”
هزت رأسها دون رد لينحني نحوها يربت على كتفها مرددا :-
” انا معك بكل الأحوال .. اطمئني …”
منحته إبتسامة خافتة قبل أن تردد بأسى :-
” آسفة يا وليد .. آسفة حقا ..”
قال بجدية :-
” دعك من هذا الآن .. دعينا نفكر فيما سنفعله مع عمار وكيف سنأخذ حضانة الطفل منه .. سأحاول إقناعه بذلك مبدئيا فشخص مثله يحتاج الى حذر في التعامل لإنه مجنون وقد يصدر منه الكثير مما لا نتوقعه ./.”
ابتلعت شيرين غصتها داخلها وهي تهز رأسها بصمت ليربت وليد فوق شعرها بخفة قبل أن يغادر المكان تاركا إياها لوحدها فعادت الدموع تتساقط على وجهها من جديد وخوفها من القادم يزداد ..!
…………………………………………..
في قصر آل الهاشمي …
تجهمت ملامح راغب وهو يستمع الى صياح والده في هذا الوقت المبكر من الصباح ..
غضب والده الذي بدا لا نهاية لها خاصة بعدما أخبره عن فشل رجاله في إيجاد جيلان كما حدث في الأيام السابقة ..
رجاله الذين لم يتوقفوا لحظة واحدة عن البحث عنها في كل مكان .. لم يتركوا أي مكان محتمل حتى أخيها تمت مراقبته فربما يكون وراء اختفائها عن قصد او لديه علم عن مكانها لكن ما تبين له إن عمار لا يعرف عنها شيئا والأسوء إنه لم يعلم بعد عن هروبها …
لا يعلم أين ذهبت جيلان وكيف إختفت بهذه السرعة ..
كان يشعر بالقلق الشديد عليها فإختفاؤها هذا يبدو مريبا جدا ..
ربما حدث معها شيءٍ سيء …
حاول نفض أفكاره عنه وهو يتذكر شقيقه المختفي بدوره ..
منذ تلك الليلة لم يعد الى المنزل وهو بدوره لم يفكر في البحث عنه ..
سمع راغب والده يأمره :-
” إتصل بأخيها وأخبره بما حدث … ربما يستطيع أن يعرف مكانها … ربما يعرف شيئا لا نعرفه …”
قال راغب بجدية :-
” هذا ما كنت سأفعله أساسا … من الخطأ أساسا أن نخفي عنه الأمر …”
أكمل بثبات :-
” سأخبره بكل شيء وسأتحمل أي كلام يصدر منه … ”
تسائل عابد بقلق أخفاه من خلال عصبيته :-
” لنرى ماذا سيفعل هو الآخر ..؟! ”
أضاف وهو يجلس على الكنبة خلفه بوهن :-
” الفتاة مختفية منذ عدة ايام ولا آثر لها … ماذا لو أصابها مكروه ..؟! ماذا لو حدث لها شيء ..؟!”
حاول راغب التخفيف عنه عندما صاح عابد مجددا :-
” وذلك المتخلف … شقيقك الأحمق … أين هو ..؟! إختفى تماما كعادته تاركا نتاج مصائبه خلفه …”
هز راغب رأسه بتعب وملل من هذه المشكلة التي لن تنتهي على ما يبدو …
خرج من غرفة المكتب تاركا والده مستمر في تفريغ موجة غضبه اليومية وهو لا يلومه فالأمر صعب للغاية … صعب جدا ..
قابل والدته في طريقه والتي سألته عن والده بملامح واجمة ليخبرها إنه في الداخل وهو يشير الى المكتب خلفه عندما فوجأ الإثنان بدخول مهند الى القصر ..
اتسعت عينا زهرة لا إراديا وهي تتأمل هيئته الجديدة بعدما حلق شعره شبه كاملا وهذب لحيته التي طالت في الفترة الأخيرة اضافة الى ملابسه المنمقة تماما فبدا بهيئة جديدة مختلفة عن العادة …
رمقه راغب بنظرات هازئة مرددا بسخرية :-
” أهلا ،، أهلا بالباشا الذي قرر أخيرا العودة من رحلته الإستجمامية … ”
أضاف يسأله بنفس السخرية :-
” أين كنت يا باشا …؟! أين قضيت رحلتك هذه المرة ..؟!”
رد مهند ببرود وهو يهم بتخطيه :-
” ليس من شأنك ..”
لكن راغب أوقفه قابضا على ذراعه مرددا من بين أسنانه :-
” قف مكانك فأنا لم أنهِ حديثي بعد ..”
سأله مهند بحدة :-
” ماذا تريد مني ..؟! دعني وشأني …”
حينما هتفت زهرة بعدم تصديق :-
” ما هذه اللا مبالاة يا ولد ..؟! أنت لا تعرف ما حدث في غيابك …”
تجهمت ملامح مهند وهو يسأل :-
” ماذا حدث مثلا ..؟!”
أكمل ببرود :-
” ثانيا لماذا تتحدثون وإنني غبت لشهرين او عامين .. ؟! كلها يومين او ثلاثة ..”
قاطعه راغب وهو بالكاد يسيطر على عصبيته :-
” جيلان هربت …”
اتسعت عينا مهند الزرقاوان بعدم تصديق عندما خرج عابد من مكانه يردد بتحفز :-
” وأخيرا عاد مهند بك .. وأخيرا قرر أن ينير قصرنا المتواضع بطلته البهية ..!!”
أضاف بحدة :-
” أين كنت يا بك ..؟!”
لكن مهند تجاهله وهو يسأل بعدم إستيعاب :-
” ماذا يعني هربت …؟! ما هذا الهراء ..؟!”
هتف راغب بجمود :-
” يعني هربت يا مهند .. هربت يا بك …”
صاح مهند :-
” كيف هربت ..؟! ماذا يفعل الحرس في الخارج ..؟! ”
منحه راغب نظرة حازمة وهو يخبره :-
” قبل أن أجيب تساؤلاتك .. أريد أن تخبرني ماذا فعلت بها قبل مغادرتك القصر ودفعها للهرب …”
هتف مهند بذهول :-
” لم أفعل شيئا .. هي قالت إنها لا تريد الطفل وأنا بدوري أخبرتها أن تطمئن وإن الطفل سيكون مسؤوليتي .. ترجتني أن أتخلص منه فأخبرتها إن هذا مستحيل لإنه يؤثر على حياتها …”
سأله راغب بنفس الجمود :-
” هذا ما حدث فقط …؟!”
هز مهند رأسه بقلق شديد وهو يتذكر عصبيته وغضبه وقتها فتجاهل ذكر ما حدث مكتفيا بما قاله مفكرا في مكان جيلان وأين هربت …
” ماذا سنفعل الآن ..؟!”
سألتهم زهرة بخوف ليجيب عابد بيأس تمكن منه :-
” ماذا سنفعل ..؟! لا يوجد شيء سنفعله سوى الإنتظار .. لقد بحثنا في كل مكان ولم نجدها …”
أضاف وهو يشير الى راغب :-
” إتصل بأخيها وأخبره بما حدث .. لا يجب أن نخفي الأمر عنه أكثر …”
ثم توقف عن حديثه وهو يرى الخادمة تتقدم نحوه تخبره :-
” عابد بك .. هناك شخص يريد رؤيتك …”
سألها عابد بحيرة :-
” من هذا الشخص وماذا يريد في هذا الوقت من الصباح ..؟!”
أجابت الخادمة بجدية :-
” سيف نعمان يا بك .. هذا هو إسمه ..”
تبادل عابد النظرات مع راغب بحيرة قبل أن يتجهان لرؤية الشاب بينما بقي مهند جامدا مكانه وعقله يحاول إيجاد أي حل لهذه المصيبة الجديدة التي وقعت فوق رؤوسهم ..
……………………………………………..
خرجت من غرفتها وهي بكامل أناقتها لتجد مريم في وجهها فسألتها بدهشة :-
” صباح الخير .. ماذا تفعلين هنا ..؟! لماذا لم تذهبي الى جامعتك ..؟!”
ردت مريم بهدوء :-
” لا يوجد لدي محاضرات مهمة اليوم ..”
نظرت لها ليلى بشك والتساؤلات ظهرت في عينيها ..
تساؤلات تجاهلتها مريم وهي تقول :-
” أين ستذهبين ..؟! الى الشركة مجددا ..؟!”
أجابت ليلى نفيا :-
” كنان سيصل بعد قليل .. سنذهب لننتقي خاتم الخطبة ..”
هزت مريم رأسها بتفهم قبل أن تهمس بتردد خفي :-
” أتمنى لك السعادة حقا يا ليلى …”
ابتسمت ليلى بخفوت وعادت الأفكار تسيطر عليها …
لم تنس تلك الصور التي رأتها وما جمع شقيقتها بعمار الخولي لكنها تعمدت التجاهل مؤقتا خاصة وهي وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة شقيقتها وفي نفس الوقت لا تستطيع مواجهة عمار وهو يملك تلك الشيكات التي قد تتسبب في سجن والدها فقررت إلتزام الصمت والحفاظ على الإتفاق الذي أبرمته مع عمار فهو وعدها إنه سينتظر تسديدها للشيكات تدريجيا فلا حل آخر أمامها سوى الإنتظار ..
لكنها رغم هذا همست لشقيقها بجدية :-
” تذكري إنني دائما بجانبك يا مريم متى ما إحتجتني …!!”
ابتسمت مريم بتردد لاح في عينيها فسألتها ليلى بترقب :-
” هل تريدين قول شيء ما ..؟! أنا أسمعك …”
هزت مريم رأسها نفيا وهي تجيب :-
” أبدا ..”
ثم توقفت عن الحديث وهي تسمع صوت رنين جرس الباب فقالت معقبة :-
” لقد أتى خطيبك .. هيا إستقبليه …”
هزت ليلى رأسها بصمت وهي تتحرك نحو السلم لتهبط الى الطابق السفلي بينما تحركت مريم نحو غرفتها عندما وجدت عبد الرحمن يخرج من غرفته بملامح مترددة فنظرت نحوه بجمود وهي تتحرك بعيدا لكنه أوقفها وهو ينادي عليها بصوته الطفولي مرددا :-
” إنتظري …”
عقدت حاجبيها وهي تستدير نحوه تتسائل بنفس الجمود :-
” ماذا تريد ..؟!”
تسائل ببراءة :-
” أين لي لي ..؟!”
أجابت بإقتضاب :-
” لي لي في الخارج …”
برم شفتيه مرددا بحزن :-
” غادرت دون أن تراني …”
رفعت حاجبها تردد بغلظة :-
” لديها أشياء أهم من رؤية جنابك ..”
لم يفهم الطفل عليها فإمتلأت عينيه بالدموع وهو يردد :-
” كنت أريد أن أخبرها بشيء …”
زمت مريم شفتيها بعدم رضا وقالت بصرامة :-
” عد الى غرفتك هيا …”
تبدلت نظرات عبد الرحمن من الحزن الى الضيق فتمتم بنظرات حاقدة :-
” أنت كريهة .. انا لا أحبك … أنا أحب لي لي فقط …”
هتفت مريم بدورها :-
” وأنا لا أحبك … ولا حتى لي لي تحبك …. جميعنا نكرهك أنت ووالدتك .. ”
كانت تتحدث بصوت عالي جعلت العبرات تتساقط من دموعه قبل أن يرتفع صوته ببكاء عالي جهوري جعلها تصيح به :-
” توقف يا هذا .. أخفض صوتك ..”
لكنه تجاهلها وهو مستمر في بكاءه عندما صعدت ليلى نحوها ومن حسن حظها إنها كانت تمر نحو المطبخ لتسمع صوت بكاء أخيها فوجدت عبد الرحمن يبكي بصوت مرتفع ومريم تقف أمامه تنظر له بتحفز …
هتفت ليلى وهي تتقدم نحوهما :-
” ماذا يحدث هنا يا مريم ..؟!”
استدارت مريم نحوها تخبرها بتجهم :-
” هذا الأحمق لا يتوقف عن البكاء ..”
صاحت ليلى بها بلا وعي :-
” لا يوجد هنا أحمق غيرك .. كيف تتحدثين معه هكذا ..”
ثم انحنت نحو عبد الرحمن تحتضنه وهي تسأله بحنو :-
” هل أنت بخير ..؟!”
عانقها الصغير بصمت بينما رفعت ليلى عينيها الحادتين نحو شقيقتها لتجد ملامح شقيقتها واجمة تماما وغير راضية عما يحدث ..
حاولت ليلى تهدئة الصغير وهي تسأله بينما تكفكف دموعه بأناملها :-
” ماذا يا حدث يا عبد الرحمن ..؟! لماذا تبكي يا حبيبي ..؟!”
نظر عبد الرحمن نحو مريم ورفع إصبعه نحوها مرددا :-
” هذه قالت إنك لا تحبيني وإنه لا أحد يحبني هنا … ”
إحتقنت ملامح ليلى بغضب صامت عندما حملت الصغير وهي تنظر الى شقيقتها بغضب مرددة بنبرة مؤنبة :-
” ما هذا الكلام يا مريم …؟! كيف تتحدثين مع طفل صغير هكذا ..؟!”
هتفت مريم بلا مبالاة :-
” أنا حرة كيفما أتحدث …”
صاحت ليلى بلا وعي :-
” هل جننت …؟!”
إحتقنت ملامح مريم وهي تصيح بصوت عالي :-
” أنت تصرخين بي لأجله .. لأجل إبن سهام …”
شعرت ليلى بجسد الصغير ينتفض خوفا بين ذراعيها فهمست من بين أسنانها :-
” إدخلي الى غرفتك يا مريم .. هيا …”
كتمت مريم غضبها داخلها واندفعت بعصبية نحو غرفتها بينما همست ليلى للصغير تحاول تهدئته :-
” إهدأ يا صغيري .. انا هنا ..”
أكملت بحنو :-
” مريم لا تقصد .. هي تحبك كثيرا .. لا تحزن بسببها .. حسنا ..”
هز الصغير رأسه بطاعة لتسأله عن مربيته فيخبرها إنها غادرت مبكرا لقضاء شيء هام ثم ستعود بعدها عندما غمغمت بتفهم :-
” تعال معي ..”
ثم هبطت الى الطابق السفلي حيث يجلس خطيبها مع والدتها بعدما إستقبلته عند مجيئه …
دلفت الى داخل صالة الجلوس تهتف معتذرة :-
” أعتذر عن تأخري ولكن عبد الرحمن كان يحتاجني قليلا …”
تأملها كنان وهي تحتضن أخيها الصغير بحمية واضحة فإبتسم مرددا بهدوء :-
” لا عليك…”
انحنت ليلى تضع الصغير على الارض والذي تمسك بتنورة فستانها لا إراديا ليتأمل كنان الطفل الأشقر والذي كان يشبه ليلى للغاية ..
نهض كنان من مكانه وهو يبتسم للطفل بسماحة قبل أن ينحني نحوه قليلا مرددا وهو يعرف عن نفسه :-
” مرحبا يا صغير … انا كنان …”
نظر له الصغير بتأهب قبل أن يمد كفه الصغيرة في كف كنان عندما سأله كنان بإهتمام :-
” ما إسمك أنت …؟!”
أجاب عبد الرحمن بحذر :-
” عبد الرحمن ..”
اتسعت ابتسامة كنان مرددا :-
” اهلا يا عبد الرحمن .. اسمك جميل مثلك …”
أضاف وهو يعتدل في جلسته مشيرا الى ليلى التي تتابع الموقف بصمت :-
” إنه يشبهك للغاية …”
تمتمت ليلى بخفوت :-
” نعم هو كذلك …”
ثم قالت بجدية :-
” هل يمكننا إنتظار مربيته حتى تعود ..؟! لا يمكنني تركه لوحده ..”
هتف كنان بتفهم :-
” بالطبع ..”
إستقامت فاتن في جلستها تخبره بجدية :-
” يمكنك تركه معي يا ليلى ….”
تأملت ليلى والدتها للحظات قصيرة قبل أن تهتف بجدية :-
” لا داعي لذلك … ستأتي مربيته بعد قليل …”
قالت فاتن بإهتمام :-
” لكن كنان سينتظر طويلا و …”
هتف كنان بصدق:-
” لا مانع لدي … ”
قالت ليلى بجدية وهي تخرج هاتفها من حقيبتها :-
” سأتصل بها وأفهم منها متى ستعود ..”
ثم أشارت الى عبد الرحمن أن يجلس على الكنبة جانبه وجلست هي جانبه وهي اتصل بالمربية التي أخبرتها إنها في طريقها إليهم بالفعل …!
نهضت فاتن بعدها تستأذنهم ليبقى كلا من كنان وليلى مع الصغير عندما قالت ليلى بجدية :-
” ستصل بعد دقائق …”
قال كنان بصدق :-
” لا يوجد مشكلة …”
أضاف بهدوء :-
” انا اليوم متفرغ لك تماما …”
هزت رأسها بصمت عندما أشار لها عبد الرحمن لتخفض وجهها نحوه فهو يريد التحدث معها ..
أخفضت ليلى وجهها بالفعل ليسألها عبد الرحمن بصوت منخفض :-
” من هذا الرجل يا لي لي ..؟!”
أجابته ليلى بنفس الخفوت :-
” إنه خطيبي … ”
نظر لها عبد الرحمن بعدم فهم لتبتسم وهي تربت على وجنته وتتحدث معه بأشياء مختلفة بينما يتابعها كنان بصمت مليء بالإعجاب ..
وأخيرا أتت المربية فنهضت ليلى تستقبلها وكذلك كنان عندما أخذت الأخيرة تعتذر من ليلى على مغادرتها صباحا لأجل معاملة مستعجلة فتفهمت ليلى سبب ذهابها وأخبرتها أن تعتني بالصغير الذي تمسك بها يسألها :-
” هل ستتأخرين اليوم أيضا …؟!”
انحنت نحوها تردد :-
” لن أتأخر كثيرا .. إذهب الآن وتناول فطورك … حسنا .. ”
هز عبد الرحمن رأسه بطاعة لتطبع قبلة دافئة فوق وجنتيه وهي تودعه قبل أن تستدير نحو كنان الذي وجدته يتابعها بإبتسامة فسألته :-
” ماذا هناك ..؟!”
رد وهي ما زال محتفظا بإبتسامته :-
” ستكونين أم رائعة يا ليلى …”
إحتقنت ملامحها كليا رغم إن الكلمة مست قلبها وروحها تماما …
ابتسمت بخجل وهي تطلب منه أن يتحركان للخارج فأشار لها أن تتقدمه وسار هو خلفها وعيناه تحاوطانها كليا دون أن تدرك ..
……………………………………………
غادرت محل المجوهرات بعدما منحت البائع إبتسامة رسمية مودعة يتبعها كنان الذي فتح لها باب سيارته برقيه المعتاد فشكرته بنفس الإبتسامة وهي تجلس في مقعدها ليجلس هو بعدها في مقعده ويهم بتحريك مقود سيارته عندما رن هاتفه فأجاب عليه لتسمعه يرحب بوالدته ويتحدث معها بينما شردت هي تماما بينما تحمل تلك العلبة الصغيرة التي تحتوي على خاتم خطبتها والتي إختارته بنفسها من أشهر محلات المجوهرات في البلاد والذي على ما يبدو إن علاقة خطيبها بصاحب المحل قوية جدا وكان هذا واضح من إستقبال صاحب المحل وترحيبه الحار بهما ومباركته خطبتهما قبل أن يعرض عليها أهم المجموعات الخاصة بخواتم الخطبة وهو يؤكد عليها إستعداده لتصميم خاتم خاص لها إذا أرادت وقد أيده كنان في ذلك وهو يخبرها إنه سيفعل ذلك وفي الوقت الذي يريدانه لكنها رفضت مقررة إختيار أحد الخواتم التي عرضها عليه وقد شعرت بالحيرة الشديدة فالمجموعة التي عرضها الرجل عليها كانت رائعة للغاية وفخمة جدا …
أخيرا إختارت خاتما رقيقا ناعما يحمل ماسة متوسطة الحجم ويحيط بها فصوص ناعمة جدا ذات لون عسلي يماثل لون عينيها وقد نال الخاتم إعجاب كنان الذي همس لها بخفوت :-
” إنه يشبهك .. لامعا وجذابا مثلك … ”
حينها بالكاد سيطرت على توترها من همسه وهي تخبر الرجل إنها إختارته بالفعل ليجهزه لها ..
أفاقت من أفكارها وهي تسمعه يخبرها :-
” ماما تدعوك على الغداء عندنا في القصر .. ”
نظرت له بإستغراب ليكمل بصدق :-
” يمكنك الرفض … الدعوة مفاجئة لذا يمكننا تأجيلها فيما بعد …”
لكنها فاجئته وهي تردد بهدوء :-
” و لم سنؤجلها ..؟! سأقبل الدعوة وتكون هذه فرصة للتعرف على عائلتك ..”
هز رأسه بصمت متأملا ثباتها وهي تتحدث …
حرك مقود سيارته متوجها الى قصر العائلة عندما طلبت منه ليلى بجدية :-
” أريد شراء شيء ما فهذه المرة الأولى التي سأدخل بها قصر عائلتك ولا يجوز أن أدخل هكذا دون شيء بسيط معي على الأقل …”
هز رأسه متفهما وهو يسألها :-
” هل هناك محل معين تريدين الشراء منه ..؟!”
أخبرته عن عنوان محل تنتقي منه الهدايا عادة فذهب له ليدخلان الى المحل سويا فأخذت تبحث عن شيء مناسب تأخذه معها عندما إختارت أخيرا تحفة منزلية ذات تصميم راقي نال إعجابها فطلبت من صاحب المحل أن يغلف التحفة لها….
وقفت ليلى بجانب كنان أمام صاحب المحل الذي كان يغلف التحفة لها لتهم ليلى بفتح حقيبتها وإخراج بطاقتها عندما وجدت كنان يسبقها ويمد بطاقته لصاحب المحل لتتجهم ملامحها بصمت ….
أخذ كنان الهدية ومنحها لها لتأخذها وهي تشكره بخفوت ثم تشكر صاحب المحل قبل أن تتحرك أمام كنان الذي فسح لها المجال كالعادة لتتقدمه …
سألته ليلى بتردد وهو يقود سيارته :-
” لماذا دفعت أنت بدلا عني ..؟! الهدية مني …”
رد ببرود :-
” هل رأيت يوما رجلا يسمح لإمرأته أن تدفع الأموال وهو واقف جوارها كالأحمق …؟!”
أخذت ليلى نفسا عميقا وهي تجيب بإقتضاب :-
” كلا …”
” جيد إنك تعلمين …”
قالها ببرود لترفع حاجبها وهي تتسائل :-
” عفوا ، ماذا تقصد ..؟!”
هز رأسه مرددا :-
” لا أقصد شيء .. تعجبت فقط من تصرفك لإنك أذكى من أن تنسي شيئا مهما كهذا …”
أشاحت بوجهها جانبا ملتزمة الصمت وفعل هو المثل …
وصلا الى القصر ليهبط كنان من سيارته ويفتح الباب لها فتهبط ليلى بدورها وهي تتأمل القصر الفخم بإعجاب واضح …
مد كنان كفه لها لتمد كفها نحو كفه بتردد فيحتضن كفها وهو يشير لها :-
” هيا لندخل …”
هزت رأسها بصمت عندما تحركا نحو باب القصر الداخلية لتفتح الخادمة الأجنبية الباب لهما وهي تبتسم بترحيب رسمي قليلا …
دلفا الى الداخل بعدما ردا تحية الخادمة عندما توجه كنان بها نحو الصالة الداخلية الواسعة لتخبرهما الخادمة إن شريفة هانم قادمة …
جلست ليلى فوق الكنبة واضعة هديتها فوق الطاولة التي تتوسط الصالة تتأمل المكان بإهتمام لحظي وقد نال إعجابها ذوق المكان الذي يدل على رقي من إختار الأثاث والتحف الفنية واللوحات التي تحمل توقيع أشهر الرسامين العالميين …
تقدمت بعدها خادمة خادمة أخرى تحمل معها العصير البارد لكلا منهما ..
بعد حوالي خمس دقائق دلفت شريفة الى الصالة وهي تبتسم بترحيب فنهضت ليلى من مكانها وكذلك كنان الذي سارع يستقبل والدته حيث جذب كفها يقبله كالعادة ثم قبل وجنتيها بعدها …
اتجهت شريفة نحو ليلى ترحب بها بإبتسامة هادئة فبادلتها ليلى الإبتسامة وهي ترد تحيتها وتمنحها الهدية التي شكرتها شريفة عليها …
اتجهت شريفة نحو الكرسي المقابل لهما وجلست عليه ثم سألت ليلى وهي ما زالت محتفظة بإبتسامتها :-
” كيف حالك يا ليلى ..؟!”
ردت ليلى بنفس الإبتسامة الهادئة :-
” الحمد لله بخير … وأنت كيف حالك يا هانم ..؟! اتمنى أن تكونين بخير …”
ردت شريفة بهدوء :-
” بخير والحمد لله …”
سأل كنان بإهتمام :-
” أين بابا ..؟!”
أجابت شريفة بجدية :-
” سيصل الى المنزل بعد قليل …خرج مع صديق له صباحا ..”
أكملت تشير الى ليلى :-
” علياء إعتذرت عن المجيء لإن الدعوة كانت مفاجئة وهي لديها موعد مع طبيبها اليوم لكنها أرسلت سلامها لكِ وبلغتني أن أعتذر منك نيابة عنها …”
” لا داعي للإعتذار أبدا.. سنلتقي في الأيام القادمة ان شاءالله ..”
قالتها ليلى بنبرتها الرقيقة لتهز شريفة رأسها وهي تتمتم :-
” بالطبع …”
ثم أخذت تتأمل ليلى بإهتمام لحظي حيث فستانها الأصفر القصير نوعا ما بتصميمه الأنيق والمناسب لجسدها النحيل حيث ينسدل فوق جسدها بشكل كلاسيكي بحت ..
شعرها الأشقر الطويل والذي كان مصففا بعناية وزينة وجهها الناعمة والتي منحت جمالها الناعم هالة من الأنوثة والجاذبية …
كانت جميلة وأنيقة …
مثالية الى حد ما ..
كانت تناسب إبنها وتليق به لولا تلك الميزة المفقودة لديها …
لو فقط لم تكن مطلقة …
هكذا فكرت وهي تتأسف داخلها عندما عادت تتحدث برزانة مع ليلى التي أخذت تبادلها أحاديثها بنفس الرزانة ولباقة أعجبتها …!
أشارت شريفة نحو كنان تخبره :-
” لماذا لا تتصل بوالدك وتستعجله قليلا ..؟!”
هز كنان رأسه بتفهم وهو يلتقط إشارة والدته التي تطلب منه الإنفراد بليلى قليلا فنهض بهدوء يستأذن منها مفكرا أن يمنح كليهما الفرصة لتبادل الأحاديث فرغم كل شيء هو يعرف والدته ويدرك إنها لن تتصرف بطريقة غير مقبولة خاصة إنها تعرفه جيدا وتعرف ردود أفعاله ناهيك عن شخصيتها التي لا تميل الى هذه الاساليب …
كما إن ثقته في ليلى وقدرتها على موازنة الأمور جعلته ينهض بثقة وكأنه يبرهن لوالدته إنه لا يخشى أن يتركها لوحدها معها فهو يثق فيها وفي قدرتها على مجاراتها …!
خرج الى الحديقة يجري اتصالا بوالده تاركا خطيبته ووالدته سويا لوحديهما وقد تعمد أن يترك لهما الوقت الكافي للحديث …
……………………………………….

عادت شريفة ببصرها نحو ليلى وهي تبتسم لها بهدوء …
بادلتها ليلى إبتسامتها عندما تحدثت شريفة تتسائل :-
” كيف حال الوالد والوالدة ..؟!”
ردت ليلى بهدوء :-
” بخير الحمد لله …”
تمتمت شريفة بالحمد لتقول ليلى بنفس الهدوء :-
” أسعدتني دعوتك لي اليوم … وجدتها فرصة مناسبة للتعارف قبل حفل الخطبة .. ”
أكملت بجدية :-
” فنحن لا نعرف بعضنا حتى الآن ….”
قالت شريفة تؤيدها :-
” وهذا ما أردته من دعوتي بالضبط … وجدتها فرصة مناسبة للتعرف على زوجة ابني وكنتي المستقبلية …”
أكملت وهي تتمعن النظر فيها :-
” توقعت رفضك في البداية ..”
هتفت ليلى بجدية :-
” ولم سأرفض ..؟! على العكس تماما .. رحبت بالفكرة ووافقت فورا خاصة إن جدولي اليوم فارغ …”
سألتها شريفة :-
“أنت تعملين في شركة العائلة ، أليس كذلك ..؟!”
أجابت ليلى :-
” حتى الآن نعم لكنني غالبا لن أستمر في العمل فيها ..”
” لماذا ..؟!هل تنوين ترك العمل نهائيا أم تريدين العمل في مجال آخر ..؟!”
أجابت ليلى بحرص :-
” بالطبع لن أترك العمل .. لكنني لا أحب مجال العمل في الشركة .. أبحث عن مجالا مختلفا …”
سألتها شريفة مجددا :-
” ما تخصصك الجامعي ..؟!”
أجابت ليلى بنفس الهدوء :-
” علاقات عامة …. ”
” تخصص جيد ..”
قالتها شريفة بجدية وهي تضيف :-
” هل تحدثت مع كنان في الأمر ..؟! هو يمكنه مساعدتك …”
أجابت ليلى سؤالها :-
” نعم ، أخبرته وشجعني على الإستمرار في العمل ..”
ابتسمت شريفة مرددة :-
” كنان يشجع عمل المرأة ويدعمه … أنت محظوظة جدا من هذه الناحية فلن تجدي رجلا يدعمك مثله …”
صمتت ليلى لتضيف شريفة عن قصد :-
” دائما ما كنت أقول إن من ستتزوجه محظوظة جدا …لا أقول هذا لإنه إبني لكن كنان حلم لأي فتاة … أقول الواقع فقط …”
التزمت ليلى الصمت لتضيف شريفة متسائلة بإبتسامة باردة :-
” ألا توافقيني الرأي يا ليلى …؟!”
ردت ليلى بإقتضاب :-
” لم أعرفه جيدا بعد لأحكم عليه … أنا لا أحكم على الأشخاص بناء على حالتهم المادية او الاجتماعية وغيره .. أنا أحكم عليهم بعد معاشرتي لهم …”
” ولكن حالته الإجتماعية والمادية هي من جعلتك توافقين عليه كونك لا تعرفين سواها ..؟؟””
قالتها شريفة بنفس البرود لتجيب ليلى ببرود مماثل :-
” صحيح .. ولكن فترة الخطبة سوف تساعدني في التعرف عليه جيدا والحكم حينها …”
ابتسمت شريفة بتحفظ مضيفة :-
” تتمتعين بشخصية قوية رغم رقتك الظاهرة … ”
سألتها ليلى بوجوم :-
” هل كنت تنتظرين شيئا مختلفا ..؟!”
أجابت شريفة بصراحة :-
” إطلاقا ، أنا لا أكره في حياتي شيء أكثر من الضعف .. لا أحب النساء الضعيفات .. دائما ما أفضل المرأة القوية الحازمة .. ”
إسترسلت :-
” هذا ما كنت أبحث عنه في كنتي المستقبلة خاصة إن كنان لا تلائمه سوى إمرأة قوية وذكية تناسب وضعه الإجتماعي ومحيطه العام ….كنت أبحث عن إمرأة متكاملة تليق به فهو يستحق أفضل النساء على وجه الأرض ..”
تأملتها ليلى بصمت للحظات قبل أن تهمس بجمود :-
” أنتِ لا تريديني زوجة لإبنك …”
حافظت شريفة على إبتسامتها وهي تجيب :-
” من الجيد إنك تعلمين هذا ….”
سألتها ليلى بنفس الجمود :-
” لماذا إذا خطبتني له ..؟!”
أجابت شريفة :-
” أنا لم أفعل .. هو من خطبك ولست أنا … أنا أتيت معه فقط لحفظ ماء الوجه …لو عاد الأمر إلي ما كنت لأفعل ذلك مهما حدث .. كنان يستحق آنسة يكون هو الأول في حياتها وليست مطلقة مثلك …”
تجهمت ملامح ليلى وهي تتسائل بنفس الجمود :-
” هل هذه المقاييس التي تعتمدينها على إختيار زوجة لإبنك …؟! العذرية وما شابه …”
نطقت ليلى جملتها الأخيرة دون خجل وهي تضيف بنفس البرود :-
” أفكار بالية لا تليق بإمرأة مثلك معتدة بنفسها وتحب النساء القويات وتدعمهن بناء على حديثك قبل لحظات…”
” إعذرني على صراحتي يا ليلى … لكنني لا أحب النفاق .. لن أكذب عليك أبدا ..”
أكملت بتروي :-
” انت فتاة جميلة ومميزة … ولكن كنت أفضل أن يكون نصيب إبني من فتاة لم يسبقه رجل إليها …”
تشنجت ملامح ليلى وهي تسأل :-
” ما المطلوب يا شريفة هانم ..؟!”
ردت شريفة بصدق :-
” لا يوجد شيء مطلوب منك … إياك أن تفكري إنني أسعى لتخريب هذه الزيجة وما شابه .. أبدا … لست أنا من تتصرف بهذه الطريقة … تتصرف بطريقة لا تليق بها .. كما إن ولدي إختارك وهو متمسك بك كليا … أنا أكثر من يعرف كنان … كنان لا يتراجع عن قراره ولا عن إختياره مهما حدث .. لذا أنا وافقت لإنني بعيدا عن كل شيء تهمني سعادة إبني ورغبته .. سعادة كنان ورغبته فوق كل شيء وهو يريدك ويرى إن سعادته ستكون معك .. هو إختارك زوجة له وأنا أحترم خياره حتى لو لم يرضيني بشكل كلي …”
أضافت بعدما تنهدت بصمت :-
” سأقولها مجددا ، إعذريني على صراحتي السابقة وكوني على ثقة إنني سأدعم هذه الزيجة رغم عدم رضاي التام عنها طالما هذا سوف يسعد ولدي ويصب في مصلحته وكل ما أريده منك في المقابل أن تعديني إنك ستكونين نعم الزوجة له …”
أخذت ليلى نفسا عميقا ثم قالت :-
” ما زال الوقت مبكرا على هذا الحديث … سأترك كل شيء لوقته المناسب … نحن في بداية إرتباطنا أساسا …”
هزت شريفة رأسها بتفهم عندما دلف والد كنان الى المكان أخيرا مرحبا بها بسعادة جلية خففت من إضطراب الأجواء وتجهم ليلى الواضح …!
……………………………………………..
إنتهت من إعداد طعام الغداء لهما عندما سارعت تتجه نحو غرفتها حيث أخرجت فستانا خفيفا لها جهزته كي ترتديه بعد خروجها من الحمام …
أخذت حماما سريعا كانت تحتاجه وغادرت الى الغرفة حيث جففت شعرها بعدما إرتدت الفستان وأخذت تسرحه قبل أن ترفعه عاليا …
خرجت من غرفتها أخيرا وإتجهت نحوه فوقعت عيناها على الساعة التي تجاوزت الثالثة عصرا فتقدمت نحوه أكثر وانحنت جواره توقظه من نومه …
فتح عينيه أخيرا ليجدها قباله تبتسم له بعذوبة وهي تردد :-
” مساء الخير … ”
رد وهو يعتدل في جلسته :-
” مساء النور …”
ثم تأمل المكان بصمت وتأملت هي بدورها ملامحه المنطفئة فسألته وهي ما زالت محتفظة بنفس الإبتسامة :-
” هل تتناول الغداء معي ..؟! أعددت طعاما لذيذا للغاية ..”
رد بخفوت :-
” شكرا لا أريد …”
ثم نهض من مكانه متجاهلا ألم جسده بسبب نومه فوق الكنبة لساعات طويلة مرددا :-
” أحتاج الى حمام سريع ثم القهوة بعده …”
أضاف بجدية :-
” تناولي أنت الطعام ..”
قاطعته بخيبة :-
” لا أريد … لا أحب تناول الطعام لوحدي …”
قال بتردد :-
” حقا لا شهية لدي يا حياة … ”
أكمل بجدية :-
” أنت يجب أن تتناولي طعامك … أنت تحتاجين الى الطعام … لا تنسي ذلك …”
هزت رأسها بصمت ولم تشأ أن تضغط عليه فعادت تبتسم له مرددة :-
” حسنا ، خذ حمامك أنت الآن ولا تفكر بي …”
هز رأسه بصمت وهو يتجه نحو الحمام فتابعته هي حتى غادر لتزفر أنفاسها بألم وهي تتجه نحو المطبخ تسارع لإعداد قهوته لكن إختارت أن تخلط معها الحليب بدلا من تناولها مفردة …
جذبت صحنا عريضا ثم بدأت تضع به بعض الموالح والبسكويت وغيرها من فاكهة وما شابه …
ثم جذبت كوبه وصبت القهوة فيه بعدما بدأت بالغليان لتضع كلا من الكوب والصحن داخل الصينية وتتجه بها نحو صالة الجلوس …
ما إن وضعت الصينية على الطاولة حتى وجدته يتقدم نحوها وهو ما زال يجفف شعره بالمنشفة لتبتسم له قائلة :-
” القهوة جاهزة …”
قال بهدوء :-
” كنت سأعدها أنا …”
ثم جذب كوبه وإرتشف منه القليل ليتغضن جبينه قليلا فتهمس هي :-
” ليس من الجيد تناول القهوة مباشرة عند إستيقاظك ومعدتك فارغة .. ”
هز رأسه بصمت وهو يتجه نحو الكنبة ويجلس عليها والكوب ما زال في يده لتضيف وهي تسحب الصحن وتضعه أمامه أكثر :-
” تناول البسكويت يا نديم … ”
أكمل برجاء خاص في عينيها :-
” من فضلك …”
هتف بجدية :-
” إذهبي وتناولي طعامك يا حياة .. من فضلك … ”
تجاهل الخيبة في عينيها عندما نهضت مغادرة نحو المطبخ لتصب القليل من الطعام لها ..
بدأت تتناول طعامها رغم شهيتها المفقودة في تلك اللحظة فأجبرت نفسها على تناول كمية لا بأس بها قبل أن تحمل الطبق وتبدأ بغسله وتنظيف المكان جيدا …
خرجت بعدها من المطبخ وتوجهت نحوه لتجده شاردا تماما وقد إنتهى من تناول قهوته ولم يلمس الصحن بعد ..!!
جلست على الكرسي القريب منه ملتزمة الصمت وبقي هو كذلك صامتا …
تنحنحت تهمس له :-
” نديم … ”
نظر لها بجمود لتضيف بتردد :-
” ألن تتحدث ..؟!”
أجاب بإقتضاب :-
” لا شيء لدي أقوله ..”
نهضت من مكانها وجلست جانبه ..
قبضت على كفه بدعم صريح وهي تردد :-
” قل أي شيء … فقط تحدث …”
أكملت بنبرتها الرقيقة :-
” لا تبقى هكذا من فضلك .. الصمت ليس حلا يا نديم .. أعرف إن ما حدث ليس سهلا .. الحقيقة كانت صادمة ولكن …”
قاطعها بجمود :-
” قاتلة .. الحقيقة كانت قاتلة يا حياة …”
توقفت تستمع له ليضيف بشرود :-
” حياتي كلها كانت كذبة … كذبة إخترعتها أمي وصدقتها أنا بكل سذاجة .. لم أتسائل يوما عن السبب الذي جعل عمار حاقدا علينا بهذه الطريقة .. كارها لنا جميعا دون إستثناء .. حتى والدي لم يحبه أبدا ..”
شرد في ماضي كان منذ يوم بعيدا والآن وبعدما حدث بات يراه نصب عينيه :-
” كنت ساذجا بما يكفي لأصدق إن هذا الحقد سببه طلاق والديه .. كنت غبيا لأصدق كذب والدتي وإدعائها الباطل … ”
ابتسم بسخرية مريرة مضيفا :-
” صدقت جميع الأكذوبات التي سمعتها منها .. صدقت كل شيء … والآن فقط إستوعبت إن كل شيء عشته في الماضي كان مجرد خدعة .. الآن أصبحت لا أفهم حقا من الظالم ومن المظلوم … إنه أمر صعب جدا … صعب أن تكتشف بعد هذه السنوات إن أقرب الناس إليك كانوا سببا في تدميرك حتى لو دون قصد ناهيك عن صدمتي بوالدتي وتصرفاتها بحق زوجة والدي وما فعلته معها وإنها كانت سبب إنتحارها …”
التفت ينظر نحوها مرددا بنبرة محتقنة :-
” لقد تسببت بإنتحار المرأة .. هل تصدقين هذا يا حياة ..؟! والدتي أنا فعلت كل هذا .. ”
شددت من قبضتها على كفه تردد :-
” لا بأس يا نديم .. أعلم إن صدمتك كانت كبيرة ولكن …”
أخذت نفسا عميقا وقالت :-
” ما حدث قد حدث …. والأهم إنه لا أحد يعلم الماضي بكل تفاصيله .. ربما عمار ليس صادقا في جميع حديثه .. ربما هناك شيء مفقود في حديثه فأنا لا أصدق إن والدتك تسببت في إنتحارها …”
انتفض يصيح :-
” لماذا لم تدافع عن نفسها إذا ..؟! لماذا لم تواجهه وتنفي ما قاله …؟! بلى هي فعلت .. فعلت يا حياة ولم تنكر .. فعلت جميع ما قاله وانا وحدي من دفعت ثمن أفعالها …”
” حسنا يا نديم .. حتى لو فعلت .. أعلم إنه لا يوجد مبرر لما فعلته ولكن ماذا ستفعل .. أنت دخلت في لعبة لا ذنب لك فيها … أتفهم مدى صعوبة ذلك ولكن ..”
أخذت نفسا وأضافت :-
” لا حل آخر إمامك سوى تقبل الأمر الواقع … سيكون صعبا جدا في البداية ولكن …”
سألها هازئا :-
” مالذي سأتقبله بالضبط يا حياة ..؟! حقيقة والدتي الصادمة ..؟؟ أم ما أصابني بسببها …؟! ما فعله عمار بي وحقده الذي ما زال موجودا نحوي …؟!”
ابتسم بنفس السخرية يضيف :-
” هل تعتقدين إن تقبلي لمًا عرفته هو الحل ..؟! هل تعتقدين إن عمار سيتركني وشأني ..؟! أنت واهمة اذا .. عمار لن يتركني أحيا بسلام مهما حدث .. هو سيبقى الكابوس الحي في حياتي كما قال لوالدتي …”
همست بصوت خائف :-
” مالذي سيفعله مثلا ..؟! نديم من فضلك … إبتعد عن طريقه .. طالما تدرك ذلك جيدا فلتبتعد عن طريقه أفضل لك …”
هتف بتعب :-
” حتى لو فعلت .. هو لن يتركني .. إفهميني يا حياة .. عمار لن يرتاح حتى يراني تعيسا ضائعا .. مدمرا و محطما بشكل نهائي .. إذا كنت تعتقدين إنه سيتركني وشأني فأنت واهمة .. هو لا يريد حتى أن يبقيني هكذا … لم يكتفي بتدمير مستقبلي وسمعتي … هو يستخسر بي حياتي الحالية .. يستخسر وجودك في حياتي وإستقراري المبدئي … ”
” وما الحل …؟! هل سيظل عمار يهدد حياتك وإستقرارك الى الابد ..؟!”
سألته بضياع ليرد وهو يشرد بعينيه بعيدا :-
” الحل هو نهاية حاسمة لأحدنا .. إما أنا أو هو .. فأنا لن أحيا بسلام طالما عمار على قيد الحياة …”
همست بصدق :-
” أنت تخيفني ..”
نظر لها فأضافت بخوف ظهر في عينيها :-
” أنت تخيفني حقا يا نديم … تخيفني عليك … ”
قال بصوت ثابت :-
” هذا الواقع يا حياة ..”
تنهد ثم نطق بتردد :-
” أنا آسف حقا .. آسف لإنني جعلتك جزءا من هذا الواقع … آسف لإنني أدخلتك حياتي بكل ما فيها من فوضى ومستقبل غير معلوم …. آسف حقا ..”
صمت لوهلة ثم أكمل :-
” الآن فقط شعرت بمدى أنانيتي وأنا أربطك بي .. والآن فقدت تفهمت موقفك وأنت ترفضين الحمل مني في بداية زواجها ..”
همست برفض :-
” نديم لا تفعل ..”
لكنه كان مصرا وهو يقول :-
” بل سأفعل .. سإعترف إنني تسببت بالأذى لك عندما عرضت عليك الزواج … تصرفت بأنانية للأسف الشديد … انا لست خائفا على نفسي يا حياة ولكنني خائفا عليك .. انا لا يمكنني تحمل آذيتك مهما حدث … لو عاد الزمن بي ما كنت لأعرض الزواج عليك يا حياة وما كنا لنصل الى هنا …”
وضعت كفها فوق فمه تخبره برجاء :-
” توقف من فضلك .. لا أريد سماع هذا الحديث منك …”
أكملت وهي ترمي نفسها داخل أحضانه :-
” انا لست نادمة على زواجي بك ولو عاد بي الزمن الى الوراء لكنت تزوجتك … انا أحبك كثيرا وسعيدة بزواجي منك كثيرا والأهم إنني أثق جيدا إن كل شيء سيء سينتهي يوما ما وحياتنا سوف تستقيم نحن الثلاثة .. انا وأنت وطفلنا القادم ..”
شدد من عناقها وهو يهمس بتوسل :-
” أتمنى ذلك .. يارب …”
…………………………………………….
بعد مرور اسبوعين …
وقفت آمام مرآتها تتأمل نفسها بصمت ..
كانت قد إنتهت من حمامها الدافئ لتوها وعليها أن تبدأ الآن في الإستعداد لحفل خطبتها الذي سيبدأ بعد سويعات قليلة …
تنهدت بصمت وهي تجذب مجفف الشعر لتبدأ بتجفيف خصلات شعرها المبللة …
إنتهت مما تفعله فإتجهت نحو فستانها وهي ما زالت ترتدي روب الإستحمام …
تأملت الفستان الموضوع فوق السرير بعناية للحظات …
فستان رقيق شديد النعومة من الشيفون الأزرق ذو تصميم بسيط حيث يبدأ من الأعلى بحمالتين رفيعتين مع طيتين تمتدان من النصف العلوي الفستان حيث تغطي نصف الكتف والجزء الذي يليه من الذراع بقليل …
ينتهي الجزء العلوي الملتصق بجسدها بنعومة حيث يبدأ الفستان بالإتساع قليلا حتى ينتهي عند مسافة قريبة من كاحلها …
لمست قماش الفستان الأزرق بأناملها تتأمل تصميمه الهادئ المحتشم فتتذكر كلمات من سيكون خطيبها قريبا جدا :-
” أريده محتشما يا ليلى .. لا أريده مكشوفا أو قصيرا للغاية …”
وقتها أجابته بحرج خفي :-
” انا لا أرتدي فساتين مكشوفة أساسا ..”
وهي كانت صادقة فهي لا تحب إرتداء الفساتين القصيرة للغاية او تلك التي تحتوي على فتحة صدر مبالغ فيها او ذات قصة مفتوحة بشكل سافر ..
هي تميل الى الفساتين المحتشمة عامة …
لا ترتدي فستانا فوق الركبة إلا في المناسبات الخاصة جدا وحتى الجزء العلوي من الفستان تميل لجعله مغلق بإستثناء بضعة مرات …
تذكرت إجابته خلف الهاتف والتي شعرت إنها مرفقة بإبتسامته المعتادة :-
” جيد .. أنا أثق بك وأعلم ذوقك … لاحظت ذلك في المرات التي رأيتك وبها ولكنني نبهتك من باب الإحتياط لإنني أغار ولن أتردد في منعك من الظهور بفستان الخطبة إذا وجدته مفتوحا قليلا او يظهر جزءا لا أريده أن يظهر من جسدك ..”
إحتقنت ملامحها بحرج وهي تردد كلمة غيور في دورها فتسائلت إلى أي درجة هو غيور …؟!
عادت تتأمل الفستان الناعم بشرود تفكر في هذه الخطبة التي تمت بسرعة كما أراد وتتذكر رغبته بعقد القران في حفل الخطبة وموافقتها …!!
كل شيء يسير بسرعة وهي بسبب إنشغالها طول الوقت في تحضيرات الخطبة لم تجد الفرصة للتفكير بكل ما يحدث …
هي حقا لا تعلم إذا كان ما يحدث معها شيء جيد أم سيء ولا يمكن أن تتوقع لكن ما تعرفه إنها ستصبح زوجة ذلك الرجل بعد يومين …؟!
سترتبط به رسميا ..
سترتدي خاتمه ..
ستحمل إسمه …
هي ستصبح زوجة … مجددا … للمرة الثانية مع الفارق الكبير بين المرتين …
أجفلت وهي ترى مريم تقتحم الغرفة مرددة :-
” مصففة الشعر وصلت وكذلك الفتاة التي ستزين وجهك …”
غمغمت ليلى بخفوت :-
” أجفلتني …”
” آسفة ..”
قالتها مريم بصدق قبل أن تضيف :-
” لكن تعجلي قليلا فلم يتبق سوى القليل ..”
أضافت وهي تتأمل شعر شقيقتها المجفف :-
” جيد إنك جففته ..”
أشارت ليلى نحوها بجدية :-
” دعي الفتاتين تأتيان كي يبدئان عملهما …”
هزت مريم رأسها بتفهم وغادرت مسرعة لتعود بعدها والفتاتان معها حيث بدأتا عملهما وقد إختارت ليلى ما تفضله من تسريحة لشعرها ومكياج لوجهها ..
مرت حوالي ساعتين عندما أعلنت المرأة إنتهاء عملها فنهضت ليلى نشكرها بينما تقدمت مريم التي كانت إنتهت فعليا من تجهيز شعرها وزينة وجهها فقالت وهي تتأمل ليلى بسعادة :-
” كل شيء رائع .. هيا إرتدي فستانك بسرعة ..”
قالت ليلى بدورها :-
” وأنت أيضا إرتدي فستانك ..”
ثم تحركت مسرعة وهي تحمل فستانها معها لتدخل فاتن تتسائل بإهتمام :-
” هل إنتهت ليلى من وضع زينتها يا مريم ..؟!”
أجابتها مريم بسرعة :-
” نعم و ستغير فستانها حالا …”
رمقتها فاتن بنظراتها مرددة :-
” وماذا عنك .. ؟! ألم ترتدي فستانك ..؟!”
هتفت مريم وهي تتحرك بسرعة خارج غرفة شقيقتها :-
” بالطبع سأفعل .. سأفعل حالا …”
شكرت فاتن الفتاتين وودعتهما عندما خرجت ليلى بفستانها أخيرا لتتأملها فاتن بسعادة وهي تردد :-
” ما شاءالله … حفظك الله يا ليلى .. تبدين رائعة ..”
ثم سارت نحوها وأخذت تدعو بالسعادة لها وأن يحفظها الله من أعين الحاسدين لتضحك ليلى مرغمة وهي تقول :-
” ما بالك يا ماما ..؟! كأنك ترينني جميلة لأول مرة …”
تمتمت فاتن بحنو :-
” بل أنت جميلة دائما وأبدا .. لكنني سعيدة جدا اليوم وأتمنى أن يعوضك الله عن السنين السابقة ويقدم لك الخير كله في هذه الزيجة ..”
ارتعشت ملامح ليلى لا اراديا فهمست وهي تكتم رغبة بالبكاء سيطرت عليها فجأة :-
” ان شاءالله يا ماما .. وانا ايضا اتمنى ذلك …”
ربتت فاتن على ذراعها تخبرها بصدق :-
” قلبي مرتاح كثيرا لهذه الزيجة يا ليلى .. بإذن الله لن يخيب حدسي أبدا وسيكون ظني في محله …”
ابتسمت ليلى برقة وهي تحتضنها بشكل خاص عندما صدح صوت مريم العالي وهي تخبرها :-
” إرتدي حذائك وضعي عطورك وغيرها مما تريدين كي ألتقط لك العديد من الصور …”
ابتعدت ليلى عن والدتها تخبرها بجدية :-
” هناك مصور الحفل سيلتقط العديد من الصور لنا …”
همست مريم معترضة :-
” هذا صور خاصة لنا ..”
ثم تقدمت نحويهما وفتحت الكاميرا قبل أن ترفعها قبالهما وهي تأمرهما :-
” إبتسما للكاميرا هيا ..”
ثم سارعت تلتقط الصور لثلاثتهما لتوثيق هذه اللحظة المميزة من حياة شقيقتها كما تتمنى ..
….:……………………………………..
في قصر آل نعمان …
كان كنان يجري اتصالا سريعا مع أحد منظمي الحفل يتأكد من شيء ما عندما دلف شقيقه ومعه زوج شقيقته الذي ردد بمرح :-
” العريس مشغول كالعادة ..”
أغلق كنان هاتفه وقال :-
” انا مشغول دائما وأبدا ..”
تقدم سيف نحوه يحتضنه بسعادة وهو يبارك له ثم تبعه ماجد زوج شقيقته عندما مازحه كنان قاصدا :-
” عقبالك ان شاءالله ..”
هتف ماجد متهكما :-
” إذا سمعت علياء ما قلته ستعلن تبرئها منك رسميا …”
” شقيقتي غيورة للغاية … نعلم ذلك ..”
قالها سيف مازحا ليهتف ماجد وهو يتنهد بتعب :-
” جدا جدا يا سيف …”
أكمل يشير الى كنان بخبث :-
” والآن جاء دورك .. ستودع حياة العزوبية أخيرا وتكتشف حياة الزوجية وما تحمله معها …”
ابتسم كنان مرددا بثقة :-
” وانا مستعد أتم الإستعداد لذلك ..”
رفع سيف حاجبه يتسائل :-
” لماذا أشعر إنك نادم يا ماجد ..؟!”
قال كنان وهو ينظر الى شقيقه بخفة :-
” وهل يجرؤ أن يفعل ..؟! أي أحمق ذلك الذي يندم على الزواج من علياء كمال نعمان يا سيف ..؟!”
هتف ماجد ساخرا :-
” من يجرؤ فعلا على التفوه بحرف واحد ولديها شقيقين مثلكما ..؟! ”
أكمل وهو يردد بصدق :-
” ثانيا أي ندم سينفع بعد أعوام من زواج نتج عنها صبيين وطفل ثالث قادم في الطريق ..”
قال سيف يغيظه :-
” انت من تعجلت الزواج يا ابن خالي …تزوجت وانت لم تتجاوز منتصف العشرينات حتى ..”
ردد ماجد وهو يضع يده فوق موطن قلبه :-
” الحب يا ابن عمتي .. كان يجب أن أتزوجها قبل أن تطير من يدي … ”
منحه سيف نظرة هازئة مرددا :-
” هنيئا لك بالحب يا ماجد بك ..”
ثم أشار وهو يتجه نحو باب الجناح :-
” سأخرج وأتفقد الأمور …”
ثم خرج من الجناح واتجه نحو الخادمة يتحدث معها قليلا قبل أن يخرج من القصر متوجها الى الحديقة الخلفية حيث المكان الذي إختاره كنان لإقامة الحفل به ..
سار نحو والده الذي وقف يستقبل المدعويين ومعه كلا من والدته وشقيقته ترحبان بهم عندما سأل والده بإهتمام :-
” هل وصلت عائلة الهاشمي …؟!”
أجابه والده نفيا :-
” كلا ، لم يصلوا بعد …”
أضاف يسأله بجدية :-
” هل سوف تسلم الفتاة لهم ..؟!”
تنهد سيف وقال :-
” إذًا وافقت … لن أسلمها لهم دون موافقتها …”
هتف كمال بجدية :-
” ما زالت لا أستوعب إن تلك الفتاة إبنة عائلة الهاشمي وإن عمها هو عابد الهاشمي نفسه الذي نعرفه …”
قال سيف بدوره :-
” ولا حتى أنا … من الجيد إنها تحدثت وأخبرتني عن إسم عائلتها وإلا كنت سأبقى حائرا في أمرها ..”
توقف عن حديثه وهو يرى مجموعة من الضيوف يتقدمون نحوهما ليسارع في إستقبالهما مع والده …
لحظات قليلة ودلف والدي ليلى ومعهما مريم حيث سارع كمال يستقبلهما بترحيب خاص ومعه سيف بعدما أشار الى والدته التي أتت تستقبلهم بدورها ومعها علياء شقيقة كنان ..
إطمئنت شريفة على وصول ليلى الى الجناح المخصص لها في القصر حيث ستبقى هناك حتى يأتي الموعد المحدد لظهورها جانب كنان …
قادت عائلة ليلى نحو الطاولة الخاصة بهم ومعها سيف الذي رحب بهم بحرارة قبل أن يتحرك جانب والدته التي أشارت له وهي تقبض على ذراعه :-
” ما رأيك في عالية يا سيف ..؟؟ تبدو رائعة اليوم …”
تطلع سيف نحو ابنة خالة بنظرات عابرة فيمط شفتيه مرددا :-
” عادية جدا ..”
هتفت شريفة بعدم تصديق :-
” من عادية يا هذا ..؟! عالية ابنة خالك … هل أنت أحول أم ضعيف البصر ..؟!”
هتف سيف ببرود :-
” كلاهما يا ماما .. إذا كان هذا يرضيك …”
ثم تحرك مسرعا يقف بجانب والده عندما وصل عائلة الهاشمي أخيرا حيث أتى كلا من عابد وزهرة ومعهما راجي و توليب..
رحب كمال بعابد الذي تجمعه علاقة عمل قديمة معه وتبادل كلاهما إبتسامات خاصة ونظرات ذات مغزى عندما رحب سيف بعابد أولا ثم زوجته وراجي الذي لم يره مسبقا فهو قليل التواجد في المناسبات العامة بسبب عمله وأخيرا توليب التي حيته برقة جذبت إنتباهه لا إراديا فبادلها تحيتها بإبتسامة جذابة …
تحرك سيف بعدها متجها الى القصر مخبرا والده إن الحفل على وشك أن يبدأ …
……………………………….
دلف كنان الى الجناح الذي توجد به ليلى ليجدها تجلس على الكرسي كالأميرة بذلك الفستان الرقيق وملامحها الناعمة شديدة الهدوء …
تنحنح وهو يتقدم نحوها لترفع عينيها العسليتين نحوه أخيرا فيشعر بقلبه ينبض بقوة ما إن تلاقت عينيه السوداوين بعينيها العسليتين الصافيتين ..
ابتسم بجاذبية لفتت إنتباهها وهو يتقدم نحوها حتى وقف أمامها ومد كفه إليها لتضع كفها الأبيض الصغير في كفه وتنهض من فوق كرسيها وهي تبتسم بتردد وخجل بديهي ..
همس بصوت مبحوح :-
” تبدين رائعة … مذهلة … ”
أضاف وعيناه تلمعان بقوة :-
” شمس ساطعة تصبو بنورها فوق الجميع فتضيء قلوبهم رغما عنهم …”
ارتجفت شفتيها وهي تهمس بنبرة مشتتة :-
” شكرا …”
أكمل بصدق :-
” أنا سعيد جدا يا ليلى .. أتمنى أن تكوني أنت كذلك ..”
ابتسمت بتوتر ليسألها بجدية :-
” هل مستعدة للخروج ..؟؟”
هزت رأسها بصمت ليتحرك بها خارج الجناح ومنه الى الحديقة الخارجية حيث إنطلقت المعزوفة الموسيقية الخاصة بهما ونهض الجميع لهما في إستقبالهما عندما توترت ليلى أكثر وهي تتأمل هذا الكم من الضيوف وأنظارهم المتجهة نحوها هي وكنان دونا عن الجميع …
وقفت جانبه وهي تشد من عزيمتها فحانت إلتفاتة منها نحوه لتجده يقف بثقة شديدة وإبتسامة واسعة مرتسمة على شفتيه فشدت قامتها دون أن تشعر وإتسعت إبتسامتها وكأنها إستمدت ثقتها منه أكثر وهي التي توترت اليوم بشكل غير مفهوم وجديد عليها …
نهض والدها من مكانه متجها نحو الشيخ الذي دلف الى المكان تبعه شقيق كنان وزوج شقيقته اللذين سيكونان شاهدين على العقد …
تقدمت والدتها بجانب شقيقتها قربهما وكذلك والدة كنان وشقيقته عندما بدأ الشيخ مراسيم عقد القران الذي أصر كنان أن يكون اليوم …
تمت مراسيم عقد القران ومنحت ليلى الشيخ موافقتها لتصدح المباركات من حولهما …
جذب كنان الخاتم الماسي واستدار نحوها لتقف هي قباله تنظر له بترقب عندما ابتسم وهو يضع الخاتم في إصبعها لتحمل هي الحلقة الفضية وتضعها في إصبعه فيبدأ الجميع بالتصفيق عندما أخفض كنان وجهه نحوها وطبع قبلة دافئة وبطيئة فوق جبينها لترفع بعدها وجهها نحوه فتلتقي عينيها بعينيه من جديد فتشعر بالتشتت من تلك النظرات شديدة الحميمية في عينيه …
جذبها بعدها يراقصها على الموسيقى الهادئة التي صدحت مجددا فإستسلمت له تشاركه الرقص ..
تأملت المكان حولها لا إراديا وهي تراقصه ..
حفل ضخم ..
خاتم خطبة ماسي رائع إنتقته بنفسها ..!!
ورجل ….
رجل لا تعرف عنه سوى القليل وينتظرها معه الكثير ..
ينتظرها عمر بأكمله ..
للمرة الثالثة تجد نفسها في الموقف ذاته ..
في المرة الأولى كانت سعيدة ..
أما الثانية فكانت في قمة تعاستها …
واليوم هي لا تدرك شيئا ولا تفهم مشاعرها …
هي فقط تتحرك كما ينبغي وتتفاعل كما هو مطلوب …
إنتهيا من الرقصة لتبتسم له برقة مجددا متجاهلة كافة أفكارها الآن …
أفكارها التي لا نهاية لها ..
بدأت تندمج في اجواء الحفل حيث تقدم البعض يبارك لهما ..
تعرفت على أفراد عائلة كنان تدريجيا حيث سارعوا يباركون لهما وقد حرص كنان على تعريفها بأفراد العائلة سواء من جهة والده او والدته ..
بدا الجميع لطيفا مرحبا وكانت ليلى تبتسم بصدق وهي تتلقى التهاني عندما تقدمت فتاة شديدة الجمال بجانب إمرأة تكبرها سنا وتشبهها كثيرا والتي من الواضح إنها والدتها حيث اتجهت الفتاة نحو كنان تقبله على وجنتيه بجرأة فاجئتها عندما ابتعد كنان عن الفتاة بملامح غير راضية وهو يعرفها :-
” مايسة يا ليلى … ووالدتها السيدة غيداء … ”
أومأت مايسة رأسها مرددة بتحية باردة :-
” اهلا ..”
قامت والدتها بتحيتها بعدما حيت كنان ثم إبتعدت مع ابنتها بعدها لتسأله ليلى بإهتمام :-
” هل قريبتك أم ..”
رد بجدية :-
” والدتها تكون صديقة والدتي المقربة .. ”
هزت رأسها بصمت عندما وجدت غالية تتقدم نحوها فإبتسمت لا إراديا بينما تأملها كنان بصمت رغم ضيقه من قدومها الذي لم يتوقعه ..
لكن ليلى فاجئته وهي تخبره إنها سترسل دعوة خاصة الى غالية ابن خالتها معللة إن علاقتها بغالية قوية وإنها لا دخل لها بما كان بينها وبين شقيقها فإضطر هو القبول مرغما رغم كونه يتمنى لو يقطع علاقتها بتلك العائلة فردا فردا ..
” مبارك حبيبتي .. ”
قالتها غالية وهي تحتضنها بسعادة حقيقة لتجيب ليلى :-
” شكرا يا غالية وعقبالك ان شاءالله …”
ثم اتجهت تحيي كنان وهي تبتسم له فبادلها كنان إبتسامتها وهو يرد تحيتها عندما تحركت غالية بعدها نحو الفعل فعاد كنان ينظر اليها بإعجاب وكأنه يراها للمرة الأولى فيشعر مجددا بشعور يجمع بين السعادة والراحة فليلى باتت له أخيرا .. زوجته على سنة الله ورسوله ..
………………………………………….
تقدم سيف نحو فادي وعائلته يرحب به مرددا :-
” عقبالك يا سيادة المقدم …”
ضحك فادي مرددا بدوره :-
” أنت أولا يا سيادة الرائد …”
انحنى سيف نحو والدة فادي يرحب بها فباركت له خطبة شقيقه ثم حيا لجين قبل أن يشير الى فادي متسائلا :-
” أين فراس ..؟! لماذا لم يأتي معك ..؟!”
ردت فادي وهو يهز كتفيه بلا مبالاة :-
” لا أعلم ..”
سأله سيف بحذر :-
” علاقتكما على ما يرام ، أليس كذلك ..؟!”
تنهد فادي يجيبك :-
” ليس تماما …”
هز سيف رأسه بتفهم عندما تقدمت شريفة نحوهما ترحب من جديد بوالدة فادي وشقيقته قبل أن تتجه نحو فادي تحييه من جديد وهي تخبره :-
” متى سنفرح بك يا فادي ..؟!”
أجاب فادي مبتسما :-
” ليس قبل سيف يا خالتي …”
هتفت شريفة بجدية :-
” أنت أكبر منه يا ولد ..”
ثم أضافت وهي تشير نحو إبنها بعدم رضا :-
” أم إنك ستسير على نهج سيف في فوائد العزوبية ..”
قال سيف بجدية :-
” إطمئني يا والدتي العزيزة .. هو لا يسير على نفس النهج لكنه ينتظر الفتاة المناسبة …”
رفعت شريفة حاجبيها تخبر فادي :-
” ومتى ستجدها يا فادي …؟!”
أكملت وهي تحرك بصرها في المكان حولها :-
” إنظر حولك .. المكان مليء بأجمل الفتيات وأفضلهن …”
مازحها فادي :-
” أنا أنظر بالفعل ولكنني لا أجد أيا منهن …”
منحته شريفة نظرة لائمة وهي تردد :-
” ألم أخبرك إنك ستصبح مثله ..”
ابتسم سيف ببرود لتهز شريفة رأسها بنفاد صبر مرددة وهي تتحرك بعيدا عنهما:-
” لا يوجد فائدة مهما حدث ..”
” ما بها والدتك يا سيف ..؟! متحاملة عليك كثيرا ..”
قالها فادي متهكما ليجيب سيف :-
” تريد تزويجي من ابنة شقيقها ..”
رفع فادي حاجبه مرددا بدهشة :-
” حقا ..؟! وانت لا تريد بالطبع ..”
هتف سيف بإمتعاض :-
” أنا لا أطيق ابنة خالي أساسا … أي زواج بالله عليك …”
أضاف بخفة :-
” كما إنني سعيد بعزوبيتي للغاية…”
تأمله فادي وهو يتأمل النساء حوله بإعجاب ليشير فادي نحوه :-
” سأذهب وأبارك لكنان …”
هز سيف رأسه بلا مبالاة قبل أن تقع عينيه عليها من جديد …
وحيدة عابد الهاشمي والتي رأها لأول مرة الليلة …
كانت جميلة ورقيقة ..
لفتت إنتباهه ونالت إعجابه ..
ابتسم بسخافة وهو يراها جالسة بجانب والديها وعلى ما يبدو إنها لا تنوي النهوض فزفر أنفاسه بيأس وتحرك بخيبة نحو طاولة عائلته بينما اتجه فادي يحيي كنان الذي إستقبله بسعادة مرحبا به عندما نظر بعدها نحو ليلى فتذكرها على الفور فهي نفسها الفتاة التي أتت أكثر من مرة عنده في مركز الشرطة …
تذكرته ليلى هي الأخرى فتجهمت ملامحها ليبتسم فادي ببرود وهو يبارك لها فردت هي تحيته بنفس البرود …
ابتعد بعدها عنهما عائدا الى طاولة عائلته عندما تفاجئ بوجودها أمامه …
تمتم مدهوشا بوجودها :-
” غالية ..!! ماذا تفعلين هنا ..؟!”
رفعت حاجبها تتسائل بخفة :-
” عفوا …”
حمحم بإحراج مرددا :-
” مرحبا أولا …”
أكمل يتسائل بإهتمام :-
” لم أتوقع رؤيتك هنا .. أنت قريبة العريس أم …”
قاطعته بهدوء :-
” بل العروس … العروس ابنة خالتي ..”
هتف مدهوشا من جديد وكأنه لا يكفي دهشته عندما رأى العروس وعرفها فورا متذكرا تلك الشقراء التي أتت مرتين الى مركز الشرطة بقضيتين مختلفين ليكتشف الآن إنها إبنة خالة غالية :-
” إبنة خالتها ..!! على ما يبدو اليوم سيكون اليوم العالمي للصدف …”
ثم توقف أخيرا عن الحديث منتبها لإطلالتها المهلكة فيظهر الإنبهار في عينيه ..
إنبهار إلتقطته هي فورا فشعرت بالإنتشاء الشديد لتمنحه إبتسامة خلابة أضائت وجهها الصبوح والذي بدا له كالبدر في ليلة العيد ..
سألها نبرة مبحوحة :-
” كيف حالك …؟!”
ردت وهي محتفظة بإبتسامتها :-
” بخير الحمد لله …”
حركت بصرها في المكان قبل أن تخبره :-
” عن إذنك .. سأعود الى طاولتي …”
هز رأسه بتفهم عندما وجد سيف يتقدم منه مرددا بخبث :-
” من تلك الفاتنة يا فادي ..؟!”
أكمل بسخرية :-
” على أساس إنك لم تجد أي واحدة مناسبة اليوم .. لكنك على ما يبدو وجدت القمر مخبئها خلف السماء المعتمة ..”
منحه فادي نظرة قاتمة ليتمادى سيف بعدم إدراك :-
” لكنها جميلة جدا بل فاتنة وتستحق ..”
” هذه غالية يا سيف …”
تجهمت ملامح سيف مرددا :-
” عفوا …!!”
هز فادي رأسه وهو يؤكد بصوت مقتضب :-
” نعم يا سيف .. هذه غالية التي أخبرتك عنها مسبقا ..”
إصطنع سيف الإبتسامة وهو يردد :-
” حفظها الله لعائلتها وبارك لك فيها ان شاءالله ..”
ثم تحرك سريعا مبتعدا عن فادي الذي بدا في أوج غضبه في تلك اللحظة …
……………………………….
تقدمت نحوه وهي تحمل العصير لكليهما …
ابتسمت له وهي تضع الصينية فوق الطاولة وتتجه لتجلس جانبه فوق السرير ثم جذبت احد القدحين ومدت يدها به نحوه ليأخذه نديم منها وهو يشكرها :-
” سلمت يداك حبيبتي …”
تأملت عمله على الحاسوب بصمت وهي ترتشف من قدحها عندما إنتهى من عمله وسارع يغلق حاسوبه لتسأله بإهتمام :-
” هل إنتهيت …؟!”
” نعم …”
قالها وهو يضع حاسوبه جانبا قبل أن يجذبها نحوه فتبتسم بسعادة داخل أحضانه عندما سألها :-
” غدا موعد الطبيبة … أليس كذلك ..؟!”
هزت رأسها تجيبه :-
” نعم ..”
أكملت بحماس :-
” سنذهب ونشتري بعض الأشياء الخاصة بالطفل غدا كما وعدتني ..”
ابتسم بدوره مرددا :-
” سنفعل ان شاءالله ..”
هتفت وهي ترفع بصرها نحوه بينما جسدها ما زال قابعا داخل أحضانه :-
” أحبك ..”
ابتسم مجددا وهو يخبرها بصدق :-
” وأنا أحبك …”
” حقا ..؟!”
سألتها مشاغبة ليسألها بمرح :-
” هل تشكين في ذلك ..؟!”
هزت رأسها نفيا بسرعة وهي تقول :-
” إطلاقا … أنت لا تكذب يا نديم ..”
عاد يعانقها عندما هتفت بجدية :-
” أريد سؤالك عن شيء ما لطالما أثار فضولي لمعرفته ..”
” شيء ماذا ..؟!”
سألها بدهشة لترفع وجهها نحوها من جديد وتنظر له بتفكير …
” متى أحببتني …؟!”
سألته بفضول أنثى تريد أن تكتشف متى تسرب عشقها الى قلبه …؟!!
صمت يفكر مليا ..
يتسائل بدوره …
متى أحبها ..؟! متى باتت تشكل له كل هذه الأهمية ..؟! متى باتت له كل شيء وبدونها هو لا شيء …؟!
لا يعلم حقا متى تحركت مشاعره نحوها ..
ربما عندما وقع لأول مرة في غرام إبتسامتها ولمعة عينيها التي آسرته كليا …!!
او ربما حينما آسرته كلماتها الدافئة والقوية في آن واحد وهي تخبره عن ضرورة التماسك والبدء من الجديد ..
حقا لا يعرف متى تحركت مشاعره نحوها ..؟!
متى وجد نفسه عاشقا لها ..؟!
هل أحبها من النظرة الأولى ..؟! بالتأكيد لا ..
هو يدرك جيدا إن مشاعره نحوها تسللت الى قلبه تدريجيا …
مشاعر غزته دون إدراك وعندما أدركها أخيرا وجدها إستحوذت على قلبه كليا دون فكاك …
هو لا يدرك متى بدأ يحبها ولا يهتم …
لكنه يدرك إنه يحبها … بحبها بطريقة هو نفسه لا يستوعبها …
يحبها بكل مسميات الحب المتعارف عليها …
يحبها بنضوج رجل أدرك إن روحه باتت مرتبطة بها …
هي الحياة التي يريد أن يحيا في الى الأبد ..
هي العشق الذي كان طوق نجاة له …
هي السعادة التي هزمت جفاف روحه وعذابها …
هي الحضن الذي لا يريد مغادرته نهائيا …
هو لا يحبها فقط … هو ينتمي إليها …
هي حياة …
هي حياته ..
” لا أعلم …”
قالها بصدق قبل أن يضيف :-
” ما أعلمه إنني أحبك أكثر من أي شيء .. هذا ما أدركه جيدا يا حياة …”
ابتسمت بسعادة فهتفت وقلبها ينتفض بقوة داخل أضلعها :-
” وأنا أعشقك ..”
هم بتقبيلها عندما سمعا صوت رنين جرس الباب فعقدت حياة حاجبيها تتسائل بدهشة :-
” من سيأتي الآن ..؟!”
نهض نديم من مكانه متجها الى الباب ليفتحها فينصدم بوجود الشرطة أمامه ..
عاد المشهد ذاته يتكرر أمام عينيه مع إختلاف المكان والزمان ..
سمع الشرطي يتسائل :-
” أنت نديم حسين الخولي ، أليس كذلك ..؟!”
هز رأسه بجمود ليهتف الشرطي به :-
” انت مطلوب القبض عليك ..”
ثم أشار الى أحد الموجودين يأمره :-
” خذوه هيا …”
فإستسلم نديم له دون حديث وكل شيء حوله أصبح معتما تماما والنجاة بدت هذه المرة بعيدة للغاية …

يجلس داخل سيارته وهو يبتسم بنشوة ..
لقد نجح مجددا في تسديد ضربة جديدة له ….
ضربة تخبره إنه ما زال هنا …
وإنه مستعد كليا له …
شغل سيارته و أدار مقودها متجها الى المكان المحدد بعدما أنهى ما أراده ….
وصل أخيرا بعد حوالي نصف ساعة الى المكان المحدد …
تأمل العمارة القديمة قليلا بشرود …
لطالما كان يأتي هنا لوحده او برفقة والدته قبل رحيلها …
تنهد بصمت وهو يحمل بضعة ملفات معه متجها الى داخل العمارة …
ما إن حط بقدميه داخل البناية حتى غزاه الحنين رغما عنه وبدأت الذكريات تنساب الى عقله دون هوادة …
ذكريات ماضي كان كل شيء به مختلفا بل هو نفسه كان مختلفا …!!
وقتها كان عمار الطفل الصغير ثم المراهق المتمرد ثم الشاب اليافع ثم لا شيء ..!!
صعد درجات السلم وهو ينفض الذكرى الغير مرغوبة حاليا عن عقله عندما وجد نفسه يقف أخيرا أمام الشقة فيتنهد بصوت مسموع هذه المرة وعاد الحنين الممزوج بالألم يغزو روحه …!!
ضغط على جرس الباب وإنتظر لثواني عندما فتحت الباب له فحبس أنفاسه داخل صدره ما إن رأها وعيناه تلتهم تفاصيلها كلها وهي التي بدت صورة حية لوالدته الراحلة تشبهها في كل شيء ..
لوت فمها بسخرية وقد قرأت أفكاره رغم مرور سنوات على آخر مرة رأته فيها لكنها تعرفه جيدا بل تحفظه عن ظهر قلب ..
تنحنح مسيطرا على مشاعره التي غلبته في لحظة غبية فتمتم بخفوت :-
” مرحبا …”
سألته ببرود مستفز :-
” مالذي جاء بك إلي يا عمار ..؟!”
أضافت بتهكم :-
” أي ريح سوداء ألقت بكِ عندي …؟!”
رد بنفس السخرية وقد إستعاد سخريته اللاذعة :-
” أعلم إن كلامك هذا من وراء قلبك .. بعد كل هذه السنوات أنت سعيدة لرؤيتي مجددا …”
أضاف وهو ينحني نحوها مبتسما بخفة :-
” أليس كذلك يا ريم ..؟!”
تراجعت الى الخلف تسأله مجددا بنبرة جافة :-
” ماذا تريد يا عمار ..؟!”
ابتسم وهو يقول :-
” أريد كل خير يا ريم ..”
همست ضاحكة بتهكم :-
” وهل يأتي خيرا منك يا عمار ..؟! ”
أضافت وهي تتأمل ملامحه الوسيمة بإهتمام :-
” قل ما لديك هيا …”
تنهد ثم قال :-
” أحتاج إليك يا ريم ..”
حل الصمت للحظات قبل أن يضيف بجدية :-
” هناك أمانة تخصني .. سأتركها عندك .. انت الوحيدة من أثق بها والوحيدة من تؤتمن عليها .. ”
مطت شفتيها مرددة بإزدراء :-
” تفضل وقل ما لديك …”
ثم فسحت له المجال ليدخل عندما تقدم الى داخل الشقة فأغلقت الباب خلفه وسارت نحوه تردد بمقت :-
” كنت أعلم إنني سأراك مجددا بعد كل هذه السنوات بكل آسف …”
جلس على الكنبة مسترخيا بينما عيناه تتأملان الشقة بملامح جامدة فجلست قباله تنظر إليه بوجوم …
أخيرا نظر إليها يتأملها بتلك البيجامة البيتية التي ترتديها فعاد يتأمل ملامحها وهي التي كلما كبرت إزدادت شبها بوالدته …!!
” أعلم جيدا إنكِ إشتقتِ إلي مهما أظهرت غير ذلك ..”
قالها بخفة لترفع حاجبها بترفع وهي تردد :-
” لا أشتاق لأمثالك يا عمار ..”
أكملت وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها تسأله :-
” ولا أفهم أي أمانة تلك التي ستضعها عندي وأي ثقة تمتلكها اتجاهي وانت تعرف موقفي منك جيدا ..”
رد ببساطة :-
” أيًا كان موقفك إتجاهي ، نحن نبقى أبناء خالة يعني بيننا صلة دم قوية جدا يا ريم ….”
أضاف عن قصد :-
” وأنا لم أنكر يوما تلك الصلة ولم أتهرب منها بل سعيت لتعزيزها عكسك …”
ردت بجمود :-
” ولا أنا فعلت لولا تصرفاتك الغبية والمشينة يا عمار ….”
هتف ببرود :-
” ليست مشكلتي إننا نختلف كليا في التفكير والأهداف …. ليست مشكلتي إنك تصرين على حذو طريق مظلم مغلف برداء المثالية الغبية … طريق لا حصاد فيه ….”
سألته بتهكم :-
“ماذا عن الطريق الذي سلكته يا عمار ..؟! هل حصدت منه شيئا سوى الكره والحقد والعداوات …؟!”
أضافت وهي تسترخي في جلستها :-
” هذا الطريق جعلك تفقد جميع من حولك … جعلك تخسر أقرب الناس إليك وأهمهم … وما النتيجة ..؟! النتيجة إنك تجلس هنا أمامي تطلب مني المساعدة رغم كل ما بيننا من قطيعة امتدت لسنوات وكأنك لا تملك عائلة ولا أخوة ولا أي أحد …”
تجهمت ملامحه مرددا :-
” سأتجاوز حديثك الآن لإنني ..”
قاطعته ببرود :-
” مضطر … لإنك مضطر يا عمار .. لإنه لا يوجد سواي … ”
ابتسمت مضيفة :-
” لإنك وحيد كما كنت دائما .. وحيد بإرادتك أنت … ”
قاطعها ببرود :-
” هل إنتهيت أم هناك المزيد ..؟!”
ردت بخفوت :-
” قل ما لديك يا عمار ..”
حمل الملفات من جانبه ووضعها على الطاولة أمامها لتنظر إليه ريم بإهتمام فيوضح لها :-
” هذه الملفات عبارة عن مستندات بجميع أملاكي دون إستثناء … جميع ما أملك ستجدينه هنا يا ريم حتى أموالي هنا وفي خارج البلاد …”
سألته بتردد :-
” وماذا سأفعل بها أنا ..؟!”
أجاب موضحا :-
” ستبقى معك حاليا حتى يأتي الوقت المناسب وأخذها منك وإن لم يحدث ..”
توقف لوهلة ثم قال :-
” ستذهبين الى محامي صديق لي … سيفتح لك وصيتي الموضوعة في آخر ملف لوحدها .. سيفتحها بوجودك أنت وشيرين زوجتي وجيلان ..”
هتفت بعدم إستيعاب :-
” مالذي تقوله يا عمار ..؟!”
رد بلا مبالاة :-
” انا لا أعلم ما ينتظرني يا ريم …. لذا أريد ترتيب كل شيء من باب الإحتياط …”
أضاف بجدية وهو يخرج ورقة من جيبه ويقدمها لها :-
” ستجدين في هذه الورقة رقم هاتف جيلان وعنوانها الحالي فهي تمكث مع عائلة والدها …”
قاطعته تسأله بقلق :-
” هي بخير ، أليس كذلك ..؟!”
أجابها بصوت متحشرج :-
” ليس تماما …”
همت بالسؤال مجددا عندما قاطعها :-
” إسمعيني حتى النهاية يا ريم ….”
أضاف بنفس الجدية :-
” الآن لن تتصرفي بأي شيء .. ”
أكمل بصوت متردد قليلا :-
” ربما ينتهي كل شيء على خير ولا أحتاج الى مساعدتك حينها ولكن إذا ما حدث شيء ما لي …”
تنهد ثم قال :-
” ستفعلين ما قلته قبل قليل وما سأقوله لك … حسنا …؟!”
توترت ملامحها بعدم رضا لكنها إضطرت أن تهز رأسها مرغمة في النهاية وتستمع لحديثه ..
………………………………………..
وقفت بعيدا تتأمل شقيقتها مع خطيبها بشرود وهي تتذكره رغما عنها ….
رغم كل شيء تعترف إنها ما زالت تحبه بل وتشتاقه ..
اللعنة عليه وهو الذي يعيش حياته بالطول والعرض منذ زواجه تاركا إياها محطمة تدعي الصمود وتترقب النهاية ..!!
قاومت دموع كادت أن تغزو مقلتيها وهي تشيح بوجهها بعيدا حيث رفعت بصرها نحو السماء المظلمة تتأملها بصمت …
عادت ببصرها نحو الحفل تتأمل شقيقتها المشغولة مع خطيبها والمدعوين فتدعو لها أن تسعد في حياتها معه ورغما عنها ما زالت تشعر بتأنيب الضمير اتجاهها وهي تتذكر ما تخفيه عنها ..!!
زفرت أنفاسها بتثاقل عندما شعرت بهاتفها يهتز داخل حقيبتها …
فتحت حقيبتها الصغيرة وأخرجت هاتفها لتتصنم مكانها وهي تتأمل الرقم الذي يتصل بها ….
هل يعلم بإن اليوم خطوبة ليلى فيتصل بها متعمدا …؟
أجابت عليه بترقب ليأتيها صوته الثقيل مرددا :-
” مبارك خطبة شقيقتك يا مريم …”
سألته بسرعة :-
” كيف عرفت …؟!”
رد ببساطة :-
“أنا أعرف كل شيء يا مريوم … ”
تجهمت ملامحها ورغما عنها تسائلت اذا ما كان يعلم بإتفاقها مع كنان أو رغبة كنان بالإنتقام منه ليقاطع أفكارها صوته وهو يردد بمكر :-
” لم أتوقع أبدا أن ترتبط شقيقتك بكنان نعمان … مفاجئة صادمة حقا …”
سألته بتحفز :-
” وما الصادم فيها …؟!”
رد ببرود :-
” الأمر برمته يبدو غريبا … متى وأين تعرفت شقيقتك على كنان ..؟! والأهم كيف وافقت ليلى عليه …؟!”
أكمل عن قصد :-
” ربما الأمر يتعلق بثراءه خاصة وأنتم حاليا تحتاجون لمن ينتشلكم من ديون الوالد …”
غمغمت بحدة :-
” لا تهذي يا عمار … ليست ليلى من تفعل هذا .. لو كانت تفكر بالأموال لأخذت الشيك الذي أرسلته بعد تطليقك لها بدلا من رميه في سلة المهملات :..”
أكملت بجمود :-
” أما عن تلك الديون فأنا مسؤولة عنها ….”
قاطعها متهكما :-
” ولكن شقيقتك من تسببت بهذه الديون ولست أنت …”
هتفت بصوت محتقن :-
” كلانا يعلم غايتك من وراء هذه الديون …..”
أضافت :-
” غايتك أنا يا عمار أم ستنكر ذلك …؟!”
أجاب بثقة :-
” كلا لن أنكرها … كنت وما زلت غايتي يا مريم ….”
نطقت بجموح :-
” لقد عرضت نفسي عليك … ماذا أفعل أيضا …؟!”
سألها بتسلية :-
” وهل ما زال عرضك قائما يا مريوم..؟!”
إحتقنت ملامحها كليا وهي تجيب بصوت مبحوح :-
” ما زال قائما يا عمار ….”
سمعت صوت تنهيدته الحارة وما تبعه من صمت امتد للحظات قبل أن ينطق بتروي :-
” سمعت إن أكرم تزوج …”
تشنجت ملامحها وهي تغمغم :-
” نعم ، تزوج منذ مدة ..”
كادت أن تضيف بسببك لكنها تراجعت وهي تدرك جيدا إنه يعلم ذلك مثلما تعلم هي ذلك جيدا ..
إنتظرت ما سيقوله بفضول وهي التي تتوق لقرب يتبعه هلاك عندما فاجئها مرددا :-
” تصبحين على خير يا مريوم …”
كتمت الشتيمة التي كانت ستطلقها عليه وهي تهم بالرد عندما وجدته يغلق الهاتف قبل أن يسمع ردها لتتأمل الهاتف بتجهم للحظات غير مستوعبة ما فعله وسبب اتصاله من الاساس ولكنها شعرت بإن هناك شيء ما خلف مكالمته تلك وقد بدا عمار مختلفا وهو يتحدث معها بشكل لم تفهمه …!!
……………………………………..
تقف في مركز الشرطة بملامح باكية تنتظر قدوم غالية التي إتصلت بها تخبرها بإختصار عما حدث بعدما عجزت عن الإتصال بسواها …
أغمضت عينيها تخفي دموعها محاولة التماسك قدر المستطاع وهي تتذكر إستسلامه لهم بل ورفضه لبقائها هنا بعدما طلب منها أن تتصل بالمحامي عن طريق غالية ثم تغادر حالا لكنها أبت أن تفعل …
لم تفهم بالضبط ما يحدث فجلست تنتظر قدوم غالية مع المحامي عندما وصلت أخيرا فإتجهت بسرعة نحوها تهمس بإنفعال :-
” الشرطة أخذت نديم …”
أضافت باكية :-
” لم أفهم شيئا … لم أفهم ما حدث … ”
” اهدئي يا حياة …”
قالتها غالية بتماسك عندما تحدث المحامي :-
” سأدخل وأتحدث مع الضابط …”
جذبت غالية حياة تحاول التخفيف عنها رغم الذعر الذي يملأ قلبها ….
خرج نديم مكبلا بالحديد لتتقدم كلتاهما نحوه فيهمس لحياة محاولا طمأنتها :-
” انا بخير … لا تقلقي ..”
ثم أشار لغالية :-
” خذيها معك يا غالية …”
هتف المحامي بجدية وهو يتابع رحيل نديم مع الشرطي :-
” هناك من بلغ عنه يتهمه بضربه هو ومجموعة من الشباب ….”
سألته غالية بعدم إستيعاب :-
” مالذي تقوله خالد بك ..؟! ”
هتف خالد يشرح لها :-
” لقد تعرض شاب إسمه عمران للضرب من قبل مجموعة من الشباب ليلة البارحة وتم نقله الى المشفى وعندما إستيقظ أخبر المحقق إن نديم هو وراء ما أصابه بعدما تشاجر معه وهدده قبل يومين …”
هتفت حياة فورا :-
” كذب .. نديم لا يفعل شيئا كهذا …”
قالت غالية بدورها :-
” نديم لا يفعل شيئا كهذا … انت تعرفه جيدا …”
هتف خالد بتروي :-
” أعلم ذلك … يجب أن تهدئا قليلا … غدا سيتم جلب ذلك الشاب وإكمال التحقيق مع نديم أيضا .. ”
أضاف :-
” سأذهب الآن وأتحدث مع الشاب فهو ما زال في المشفى وأفهم منه لماذا قال إنه نديم ومن أين يعرف نديم أساسا …”
هتفت غالية تخبره :-
” هناك من لفق هذه التهمة له …”
تمتم المحامي متأسفًا :-
” للأسف هذا واضح مستغلا وضع نديم كمجرم سابق والذي عزز من موقف الشاب وحديثه …”
قالت حياة بلهفة :-
” لكن هذا ظلم .. نديم لم يفعل شيئا كهذا … ”
سأل المحامي بتأني :-
” هل كان نديم معك ليلة أول البارحة يا هانم ..؟!”
أجابت حياة بجدية :-
” هو لا يخرج ليلا أساسا ..”
قال المحامي :-
” هل كان معك في تمام الساعة الثامنة ….؟!”
شردت حياة لوهلة قبل أن تجيب :-
” كلا ، ولكنه غادر ليجلب بعض الحاجيات للمنزل و …”
قال المحامي محاولا طمأنتها :-
” هذا ما قاله نديم ….”
سألته غالية بتجهم :-
” لماذا تسأل إذا ..؟! هل تعتقد إنه يكذب ..؟!”
قال المحامي بسرعة :-
” كلا يا هانم ولكن …”
توقف قليلا ثم قال بحذر :-
” ربما كان في مكان مختلف وإضطر أن يكذب ولكن هذا لا يعني إنه كان في موقع الحادث …”
أضاف مسترسلا :-
” حاولي أن تهدئي يا غالية هانم … غادري أنت والهانم مركز الشرطة حالا فلا داعي لوجودكما هنا …”
هتفت حياة بعدم تصديق :-
” هل سنترك نديم و …”
قاطعها المحامي بجدية :-
” نديم بك سيبقى في الحبس يا هانم مؤقتا …”
أضاف بجدية :-
” الأفضل أن تغادرا الآن وتأتيان غدا …”
هزت غالية رأسها بصمت ثم أشارت الى حياة :-
” هيا يا حياة لنغادر .. لا فائدة من وجودنا هنا كما قال خالد بك …”
نظرت لها حياة بعينين دامعتين فحاولت غالية الحفاظ على تماسكها وهي تخبرها :-
” لنغادر الى الفيلا … هيا ….”
إستسلمت حياة مرغمة وسارت معها دون نقاش بينما عقلها كان شاردا كليا فيما حدث والخوف سيطر عليها دون رحمة …
…………………………………………..
ما إن دلفت غالية مع حياة الى الفيلا حتى وجدتا صباح تتقدم نحوهما تسأل بخوف من قدوم حياة مع ابنتها :-
” ماذا حدث يا غالية ..؟؟ أين نديم ..؟! هل هو بخير ..؟!”
كتمت حياة دموعها قسرا محاولة التمسك أمامها بينما منحتها غالية نظرة جامدة وهي تشير الى حياة :-
” تعالي يا حياة … سوف تبيتين في غرفة نديم … حسنا …”
هزت حياة رأسها بصمت عندما قبضت صباح على ذراع حياة تسألها بعدما تجاهلتها ابنتها كالعادة منذ تلك الليلة :-
” هل نديم بخير يا حياة ..؟! هل أصابه مكروه ..؟!”
أجابت غالية عوضا عنها :-
” نديم في السجن .. لقد بلغ عنهم أحدهم يتهمه إنه ضربه وتسبب بدخوله المشفى .. لا داعي لإن نخمن من الفاعل لإنه معروف …”
شهقت صباح بعدم تصديق بينما همست غالية لحياة :-
” هيا يا حياة .. انت حامل ويجب أن ترتاحي …”
تحركت حياة معها عندما أدخلتها غالية غرفة نديم وهي تخبرها إنها ستجلب لها شيئا ترتديه لكن حياة رفضت معللة :-
” لا داعي لذلك … سأنام في ملابسي فهي مريحة وغدا صباحا سنذهب مباشرة الى مركز الشرطة …”
” ولكن …”
أوقفتها حياة بنبرة مرهقة :-
” لا أحتاج حقا لذلك .. أساسا سأخلد الى النوم فورا …”
سألتها غالية بإهتمام :-
” ألن تتناولي شيئا قبل النوم ..؟!”
أجابت حياة بخفوت :-
” لقد تناولت الطعام أساسا قبلما حدث …”
هزت غالية رأسها بصمت عندما أخبرتها حياة :-
” إرتاحي أنت أيضا يا غالية …”
غمغمت غالية بصوت مبحوح :-
” أنا بخير يا حياة ..”
ولكنها لم تكن بخير ابدا وحياة كانت تعلم …
تأملتها حياة بشفقة وهي التي تضطر للتماسك وإدعاء الثبات كعادتها عندما منحتها غالية إبتسامة كاذبة وهي تربت على وجهها تخبرها بحنو :-
” سيخرج غدا بإذن الله .. لا تقلقي …”
لم تستطع حياة منع نفسها من معانقتها ولم تعرف لماذا فعلت ذلك لكن ما تدركه جيدا إنها شعرت بالرغبة لدعم غالية وإخبارها بشكلٍ غير مباشر إنها معها دائما …
تشبثت غالية بها بسرعة وهي تكتم دموعها بقوة …
كانت تشعر برغبتها الشديدة في البكاء لكنها لا تستطيع أن تفعل ….
إبتعدت أخيرًا عن أحضان حياة وهي تبتسم لها بعينين دامعتين قبل أن تغادر الغرفة تاركة حياة لوحدها تتأمل غرفته بملامح محتقنة تنذر بالبكاء …
تقدمت نحو سريره وجلست عليه وأخذت تتحرك ببصرها في أرجاء الغرفة عندما سقطت عيناها على صوره في مراحل عمرية مختلفة موضوعة على تلك الطاولة الجانبية فنهضت من مكانها تتأمل الصور واحدة تلو الأخرى بتمعن حتى لمست صورة تخرجه بتلك الإبتسامة الواثقة المرتسمة على شفتيه فتساقطت دموعها بغزارة ….
مسحت دموعها بقوة بعدما أعادت الصورة الى مكانها ثم اتجهت الى السرير بتعب شديد لتتمدد فوقه وهي تجذب الغطاء عليها بينما دموعها ما زالت تبلل وجهها لتغمض عينيها محاولة الهرب الى النوم الذي تحتاجه في هذه اللحظة أكثر من أي شيء ..
……………………………………………..
غادرت غالية غرفة نديم متجهة الى غرفتها لتجد والدتها هناك في انتظارها ..
تقدمت صباح نحوها تسألها بلهفة :-
” ماذا سيحدث الآن يا غالية ..؟! كيف سينتهي الأمر ..؟! ماذا سيحدث مع شقيقك ..؟!”
ردت غالية بوجوم :-
” مالذي سيحدث مثلا ..؟! المحامي سيحاول التصرف …”
أكملت عن قصد وهي التي لم يعد بمقدروها التحمل والصمت أكثر :-
” كل شيء حدث وما زال يحدث بسببك .. أنتِ السبب في كل هذا ..! ”
” غالية …”
همست صباح بترجي لتهتف غالية بقسوة :-
” دمرت حياته بل حياتنا جميعا … انت سبب ما يحدث معنا … جميع ما يحدث هو نتيجة طبيعية لأفعالك السابقة … انت تسببت بموت المرأة المسكينة بل دمرت حياتها وحياة ولدها والآن نحن ندفع ثمن ذنوبك وأنانيتك … هنيئا لك بما جنته يداك يا ماما … اتمنى أن تكوني سعيدة بعدما فعلتيه لأجل رجل …! دمرت حياة الجميع بسبب أنانيتك ورغبتك برجل دون أن تفكري سوى بنفسك …”
” لا تفعلي يا غالية …”
قالتها صباح بصوت مبحوح ونظرات متوسلة لتهز غالية رأسها مرددة بجمود :-
” دمرت حياة نديم بالكامل .. نديم فقد كل شيء بسببك … لم يسلم أحد من تبعات شرك حتى ولدك الوحيد…”
” يكفي يا غالية .. يكفي …”
قالتها صباح بدموع حارة لتصيح غالية بتعب :-
” أنت من يكفي … كل مرة تجاهلت فيها الحقيقة مرغمة … حتى بعدما أخبرتني أنت بحقيقة علاقتك مع والدي .. تجاهلت ما عرفته مرغمة … حاولت أن أتغاضى عن جميع الحقائق التي عرفتها وما زلت أحاول لكنني لا أستطيع الإستمرار في هذا .. لا أستطيع خداع نفسي أكثر .. لا يمكنني التغاضي عن الحقائق أكثر …”
أخذت نفسا عميقا ثم قالت :-
” انت دمرت حياة نديم بنفسك … سامحيني لكنني لا يمكنني خداع نفسي وخداعك أكثر ..”
هزت صباح رأسها بتعب تردد :-
” أنا آسفة يا غالية … آسفة يا ابنتي .. انت معك كل الحق.. انا السبب .. انا سبب كل شيء ..”
هطلت دموع غالية فوق وجنتها بغزارة بينما تحركت صباح بضعف خارج غرفتها لتجلس غالية فوق سريرها باكية وهي تشعر بعدم قدرتها على تحمل المزيد …
……………………………………………………….
خرجت غالية بعد مدة من الزمن من الحمام وهي تجفف شعرها ..
شعرت بتحسن وضعها قليلا بعدما بكت لمدة لا تدركها فنهضت تأخذ حماما دافئا طويلا ..!!
وقفت أمام المرآة تتأمل وجهها شديد الاحمرار فابتسمت بتهكم رغما عنها وهي تحمل عطورها وتضع منها فوق جسدها كعادة ليلية ملازمة لها ….
جلست بعدها فوق سريرها بتعب عندما جذبت هاتفها تنظر اليه بتردد عندما حسمت أمرها واتصلت به ليأتيها صوته المرحب بها رغم دهشته :-
” أهلا غالية .. هل انت بخير ..؟؟”
تنحنحت تجيب بحرج :-
” اهلا فادي .. آسفة لإنني إتصلت بك في هذا الوقت المتأخر ولكن ..”
هتف فادي بجدية :-
” لا عليك .. أخبريني ماذا هناك ..؟؟”
أخذت نفسا عميقا ثم همست بتردد :-
” الشرطة أخذت نديم مساء اليوم ..”
سألها بإهتمام :-
” لماذا ..؟ا ماذا حدث ..؟!”
أجابته بصوت مبحوح :-
” هناك من قدم شكوى ضده …”
أخذت نفسا عميقا ثم سردت له ما حدث عندما هتف بجدية :-
” حسنا … سأتابع الأمر بنفسي … ”
ثم سألها عن إسم نديم الكامل ومركز الشرطة الذي ذهب إليه ليطمئنها مرددا :-
” لا تقلقي يا غالية .. سأرى الأمر بنفسي …”
غمغمت بصوت خافت :-
” أشكرك حقا يا فادي …. ”
أضافت بخجل :-
” أنا لم أستطع منع نفسي من طلب مساعدتك بسبب شدة قلقي … انت تعرف وضع نديم السابق … آسفة حقا على إزعاجك …”
قاطعها فادي بنبرة ودودة :-
” لا تفعلي يا غالية .. الأمر بسيط بإذن الله .. على الرحب والسعة بك في أي وقت ..”
شكرته مجددا وودعته وهي تدعو داخلها أن ينتهي الموضوع على خير …
……………………………………………..
في صباح اليوم التالي …
خرجت حياة مع غالية متجهين الى مركز الشرطة عندما وجدتا المحامي هناك ينهي اجراءات خروج نديم دون أن تفهم أيا منهما ما حدث ….
وقفت غالية بجانب حياة تنتظر خروج شقيقها بينما في القرب منهما كان يقف فادي يتحدث مع المحامي عندما خرج نديم فاستقبله خالد مرحبا به :-
” الحمد لله على سلامتك نديم بك …”
سأله نديم وهو ينظر الى فادي بتعجب :-
” ماذا حدث يا خالد ..؟!”
هتف خالد يخبره :-
” لقد تبين إن هناك خطأ … الشاب أخطأ في المعلومات التي ذكرها وعندما رأك أخبرهم إنك لست نفس الشخص الذي تشاجر معه وهدده …”
نقل نديم بصره نحو فادي يسأله :-
” أنت شقيق فراس خليل ، أليس كذلك ..؟!”
هتف فادي معرفا عن نفسه :-
” فادي خليل .. مقدم في الداخلية ..”
هتف خالد مضيفا :-
” سيادة المقدم ساعدنا يا بك … سهل علينا الكثير ….”
هز نديم رأسه يشكره :-
” أشكرك سيادة المقدم .. ”
أضاف بجدية :-
” مع إنني لا أفهم حتى الآن ما يحدث .. البارحة تم القبض علي في تهمة لا أعرف عنها شيئا واليوم خرجت مباشرة …”
أشار له فادي مرددا يخبره بما فهمه مما حدث حيث هتف بجدية :-
” بلاغ كاذب …”
همس نديم مدهوشا :-
” كيف ..؟!”
شرح فادي بنبرته العميقة :-
” هناك من تعمد زج إسمك في هذه الحادثة … ربما تهديد غير مباشر او وعيد لشيء قادم …”
تجهمت ملامح نديم بصمت وهو يراجع ما سمعه ..
الأمر كله مجرد لعبة ..
تهديد بل وعيد كما قال فادي …
عمار يتصرف بطريقة تشبهه …
يتصرف بمكر يناسبه …
هو يبعث له رسالة غير مباشرة أن ينتبه لما هو قادم …
” شكوكي كانت في محلها إذا …”
قالها نديم فوجد خالد ينظر نحوه بأسف قبل أن يهتف بجدية :-
” المهم إنك بخير … حمد لله على سلامتك …”
أضاف بجدية :-
” إسمح لي نديم بك .. ما زال هناك إجرائات سأنتهي منها ثم أغادر الى مكتبي …”
هز نديم رأسه بتفهم وشكره قبل أن يسمع فادي يخبره :-
” اتمنى ألا تفهم كلامي بشكل خاطئ أو تعتبر تدخلا ولكن كن حذرا فيما بعد فهناك من يترصد لك وهذا واضح جدا وما يساعده في ذلك هو قضيتك السابقة …”
هتف نديم بجمود :-
” أعرف ذلك سيادة المقدم مثلما أعرف هوية الشخص المتسبب بكل هذا ..”
أضاف متسائلا :-
” ولكن يهمني أن أعرف سبب وجودك هنا .. ”
أضاف بتجهم :-
” لماذا غالية طلبت منك ذلك ..؟! ”
هتف فادي بهدوء :-
” في الحقيقة انا وغالية هانم تجمعنا معرفة سابقة كما تعلم وهي طلبت مساعدتي ..: ”
نظر له نديم بعدم رضا وهم بالتحدث عندما أشار فادي خلفه :-
” الآنسة غالية وزوجتك هنا …”
التفت نديم الى الخلف بسرعة لتقترب غالية نحوه تعانقه بينما وقفت حياة خلفها تنظر له بلهفة …
ابتعدت نديم عنها وهو يربت فوق شعرها مرددا :-
” انا بخير غاليتي .. اطمئني ..”
ابتسمت غالية له بعينين دامعتين عندما التفت عيناها بعيني فادي الذي رحب بها بهزة من رأسه بينما احتضن نديم زوجته التي تعلقت به بلهفة شديدة وهي تردد :-
” الحمد لله على سلامتك .. خفت عليك كثيرا …”
همس نديم وهو يربت على ظهرها :-
” انا بخير حبيبتي .. اطمئني …”
ثم ابتعد عنها يشير الى غالية بتردد :-
” هل ماما بخير ..؟!”
هزت غالية رأسها مرددة بخفوت :-
” نعم بخير .. اطمئن …”
أضافت وهي تنظر الى فادي :-
” شكرا حقا سيادة المقدم … ”
هتف فادي بدوره :-
” على الرحب والسعة آنسة غالية ..”
قال نديم بدوره وهو يرمق شقيقته بنظراته :-
” أشكرك حقا يا باشا … وأعتذر عما تسببناه لك من إزعاج …”
ابتسم فادي قائلا بود :-
” صدقني لا داعي للشكر .. ومتى ما إحتجت أي شيء فأنا موجود ..”
أضاف بعدها مرددا :-
” والآن إسمحوا لي فأنا يجب أن أغادر ..”
ودعه نديم وكذلك غالية عندما تلاقت بعدها نظراتها بنظرات شقيقها لتجد التساؤل والشك صريحا في عينيه ..
شعرت بالتردد فيما ستقوله لكن حياة أنقذتها وهي تخبر نديم :-
” هيا نغادر فورا أنت تحتاج الى الراحة يا نديم …”
همست غالية بتردد :-
” ألن تأتي الى الفيلا وترى ماما ..؟!”
جمدت ملامحه كليا وهو يجيب :-
” الأفضل ألا أفعل الآن تحديدا يا غالية …”
ابتسمت غالية بارتباك وهي تربت على ذراعه بمؤازرة قبل أن يخرج الثلاثة سويا حيث أوصلتهما غالية الى شقتهما ثم غادرت عائدة الى منزلها عندما وجدت الخادمة تخبرها إن والدتها لم تنزل من غرفتها حتى هذه اللحظة …
طلبت منها غالية أن تتفقدها بينما ستذهب هي لتغيير ملابسها حيث صعدت الى غرفتها وهمت بخلع قميصها عندما انتفضت من مكانها على صوت صراخ الخادمة المفزع بإسم والدتها ..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية حبيسة قلبه المظلم)

اترك رد

error: Content is protected !!